التعايش الممكن والتقريب المستحيل

التعايش الممكن والتقريب المستحيل

 

د.أحمد خيري العمري

العرب القطرية

لا نذيع سراً إذا قلنا: إن الناس تجاوزت “عدم التعويل” على مؤتمرات الحوار والتقريب بين المذاهب، لتصل إلى حد سوء الظن بها، وبالمتحدثين فيها، والداعين إلى انعقادها، بل حتى الحاضرين فيها..

 

 

 

 

سوء الظن هذا ليس ناتجاً فقط عن تراكم تاريخي من التجارب الفاشلة، بل هو يتجاوز ذلك إلى تصور سائد أن المتحدثين في منابر التقريب أنفسهم غير مؤمنين بما يقولون، وإنهم إنما يقولون ما يقولون فقط من أجل الظهور بمظهر تمليه ظروف معينة. فمعظم ما يطرح من خطب على تلك المنابر، يعده المتلقون، الذين يفترض أن الخطاب موجه إليهم، من قبيل تقبيل اللحى، في انتظار فرصة سانحة لنتف اللحى والقضاء عليها.

 

 

نادراً ما تجد أحد يصدق أن المتحدثين على هذه المنابر يتحدثون بالمنطق التقريبي نفسه في مجالسهم الخاصة وأمام مقربيهم. والأمر لا يخص فقط الطرف الذي مارس تاريخياً إبطان غير ما يظهر في القول، وعد ذلك جزءاً أساسياً من عقيدته، فيما يعرف بالتقية (عند الشيعة)، فالطرف الآخر (السني، أو على الأقل الجزء السني من عملية التقريب) صار يفعل ذلك أيضاً وإن لم يدخل ذلك في عقيدته وفقهه.

هل المشكلة في سوء ظن مبالغ به من قبل الجمهور الذي ركب وعيه – ولا وعيه! – بطريقة سلبية تسيء الظن بأي عمل إيجابي؟ أم إن المشكلة أعمق من ذلك، وتصل إلى التقريب نفسه؟.. هل هو أمر إيجابي، أم إنه محض تغطية سلبية يحاول من يحاول عبرها أن يعمي أبصارنا عن مشاكلنا الحقيقة وجذورها وأسبابها وأعراضها؟ هل التقريب يحاول أن يوجه جهودنا إلى حيث يجب أن تكون؟ أم إنه يشتتها ويضيعها في مؤتمرات (أكل وشرب وشم هوا) وبيانات ختامية تصور أن على الأرض السلام وفي الناس المسرة، وأن خلاف أربعة عشر قرناً لم يكن سوى اختلاف عابر وسطحي في وجهات النظر ومجرد خلاف في الاجتهاد؟..

بعض أدبيات “التقريب” تتنافس في السذاجة بطريقة غريبة جداً، هل يمكن أن نصدق أن الحل يكمن في إيراد شجرة نسب تصور المصاهرات بين أكابر الصحابة وأهل البيت ؟ علماً أن الطرف المعني بالموضوع له تفسير معين لهذه الزيجات لن يناسب مزاج التقريبيين واتجاهاتهم، أو إيراد قائمة بأسماء معينة (من نوع أبي بكر وعمر وعثمان) في أولاد علي والحسين، كما لو أن هذه الأسماء كانت نادرة جداً وقتها، هذه التفاصيل الصغيرة، حتى لو صحت، فإنها لن تلغي حقيقة وجود خلافات في فترة مبكرة ومؤسسة من تاريخ الأمة. إن معاركَ وخلافاتٍ شكلت أركاناً وزوايا داخل العقل الجمعي لا يمكن أن تمحى بالقول: إن فلاناً تزوج من فلانة، أو إنه أطلق اسماً معيناً على ابنه.

بالمنطق السطحي نفسه، فإن شقة الخلاف الموجودة بين الطرفين، والتي تكاد تمس رؤية كل طرف للعالم ولدوره في هذا العالم، هي أبعد من أن تحذف، أو تختصر لتكون مثل “المسافة الموجودة بين المذاهب الأربعة” – كما يدعي البعض – أو أن يكون” مذهباً خامساً” كما يقول بعض آخر، على الرغم من أن الأمر أعمق من ذلك وهو لا يمس الأصول فحسب، بل يخترقها اختراقاً، فكل أصل من أصول الفقه يختلف في اتجاهه ومعناه بين الفريقين، ومن ثم في رؤية كل طرف للعالم ولدوره في هذا العالم. أي (تجديد) لهذه الرؤية سيكون محكوماً بهذه الأصول الأساسية، وأي تجديد لهذه الأصول سيكون محكوماً بمنظومة داخلية لن تجعله “أقرب” إلى الطرف الأقرب بالضرورة، بل ستجعله مختلفاً فحسب.

وهكذا فإن أية حركة تقريب، لو افترضنا نجاحها، وجدية أصحابها، لن تقرب بين المذاهب فعلاً، بقدر ما ستنتج مذهباً جديداً بأصول ومنطلقات مختلفة.. وغالباً ما تدفع سطحية الطرح في أدبيات التقريب، مناوئي التقريب إلى نشر الغسيل القذر ونكشه من خزائن التراث ودهاليزه العامرة.. أي إن الناتج من هذا لا يكون “عدم التقريب” فحسب، بل المزيد من التباعد.

مع كل هذا، وعلى الرغم من إيماني بعدم جدوى وجدية محاولات “التقريب”، إلا أني في الوقت نفسه أؤمن بإمكانية، بل بحقيقة وجود “التعايش” بين المذهبين، وبأن هذا التعايش، والتنظير له، وتأصيله، أهم وأجدى، من التقريب المزعوم.

ما الفرق؟ الفرق كبير، فاستراتيجية التقريب تهدف – على الأقل كما يقول مروِّجوها – إلى إزالة الفروق التاريخية، وتوحيد الأمة، وهو هدف قد يكون نبيلاً، لكنه لن يتحقق، وبالتأكيد لن يتحقق بهذا الأسلوب السطحي.

أما “التعايش” فهدفه أكثر وضوحاً وواقعية، وهو لا يزيف الحقائق، ولا يغطي الاختلافات التاريخية بعبارات إنشائية مطاطة، ولا يلغي وقائع التاريخ وانكساراته بشعارات التوفيق الملفق، التعايش يقر حقيقة الاختلاف ووجوده، وينطلق منها، إنه يصرح أننا مختلفون، ولا يحاول أن يزيف “وحدة” لا وجود لها – على كافة الأصعدة العقائدية والفقهية- لكنه في الوقت نفسه، يقرر أن هذه الاختلافات يجب ألا “تكسر” قاعدة العيش المشترك.

وإذا كان “التقريب” مستحيلاً ويشبه أسطورة من أساطير الأولين، مثل “خرافة الخل الوفي!” فإن التعايش حقيقة عاشتها شعوبنا على الصعيد الاجتماعي، على الأقل في المدن الكبرى التي اختلط فيها المذهبان الرئيسيان، وخصوصاً في الطبقة الوسطى التي أتقنت التعايش أكثر بكثير مما يتحدث خطباء التقريب، الناس عبروا عن تعايشهم بلا خطابات، إنهم يذهبون إلى البائع الفلاني حتى لو كانت عقيدته “في الصحابة” فاسدة، من أجل بشاشته وحسن أخلاقه وأمانته، وهم لن يوافقوه على معتقده، لكنهم سيمارسون غض النظر عن الأمر برمته، يتعايشون معه، كذلك فهم يذهبون إلى طبيب الطائفة الأخرى، من أجل مهارته وأمانته، حتى لو كانوا يعتقدون أنه سيذهب حتماً إلى جهنم.. وقد يدعون له الله أن ينقذه منها فقط من أجل حسن معاملته لهم! ذلك يحدث دوماً، ربما دون تنظير، ودون تدخل من رجال الدين.

“التعايش” ممكن لأنه يناسب فطرة الإنسان: فطرة الاختلاف والتعايش مع الاختلاف. حدود التعايش قائمة وموجودة، وهي تمد وتجزر من وقت لآخر ومن شخص لآخر، تحفظ الهوية لكن دون أن تلغي إمكانية العيش مع الهوية الأخرى.

إذا كان التعايش حقيقة عريقة إذن، فلماذا ينهار بين الحين والآخر كما يحدث في غير مكان حالياً؟

غالباً يذهب التعايش ضحية استثمار الاختلافات الموجودة، وبالذات تسييسها، من قبل بعض الأطراف، التي لا رصيد لها غير هذه الخلافات بالذات، وليس لها مشروع خارج عن تفاصيل الخلاف، وتعمد على “خندقة” الناس حولها اعتماداً على هذا الرصيد وحده، والهدف طبعاً لن يتجاوز مكاسب المال أو السلطة أو الاثنين معاً.

لكن لماذا يكون التعايش هشاً هكذا.. إذا كان حقيقياً هكذا؟ ربما لأنه، من حيث أرى الأمور، لم يتحول إلى “ثقافة”، كان سلوكاً اجتماعياً لم يجد فرصة التأصيل والتأهيل والشرعنة، عبر إعداد أدواته وخلفيته الشرعية التي تحول السلوك “التلقائي” إلى عملية واعية محصنة بتلك الأدوات وجاهزة للصمود عندما تعصف بالمجتمع أزمة تهدد الانسجام الموجود بين مكوناته.

والذي يحدث عندنا للأسف هو العكس بالضبط، يذهب التعايش اللاواعي التلقائي ضحية إفراط وتفريط: الإفراط الذي تمارسه بعض الفئات لتحصل على مكاسبها على حساب التعايش، والتفريط الذي يمارسه التقريبيون وسطحية رؤيتهم..

إذا كان هناك من جهد يجب أن يبذله المفكرون، فهو نحو التعايش الذي لا يزيف ولا يخفي الاختلافات ولا يضيع “الحدود”، ولكنه يؤصل لإمكانية العيش المشترك..

إنه أن تؤمن أن جار عمرك، هو جارك في الدنيا هنا، وأن تحسن جيرته ويحسن جيرتك..

أما أن يكون جارك في الآخرة أيضاً، فهذا أمر ليس من شأنك ولا من شأنه أيضاً، إنه من شأن ذاك الذي يعلم ما في الصدور فحسب..

المصدر: http://www.quran4nahda.com/?p=201

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك