كُفَّ عن التذمر، و ابدأ بالثورة
كُفَّ عن التذمر، وابدأ بالثورة
د.أحمد خيري العمري
كنت مارّا بسرعة في الحي الصيني في واشنطون عندما استوقفني منشور يوزعه أحد الشباب أمام إحدى قاعات السـينما، المنشور كتب عليه :”كف عن التذمر ، و ابـدأ بالثــورة!” Stop bitching and start revolution!”” و الـ bitching في لغة الشارع وفي هذا السياق تعني المشاكسة، المناكفة، والتذمر أكثر مما تفيد المعنى الآخر، الأكثر شهرة لهذه الكلمة في عالمنا العربي بسبب سيطرة المعنى البذئ عبر الأفلام الامريكية..
رجعت إلى الشاب وسألته عن المنشور، بدا سعيدا جدا بالاهتمام وكان من الواضح أن ذلك نادر جدا معه، كان شابا لعله في أوائل العشرينات من عمره، يشبه كل الشباب في عمره في العالم لولا القرط الذي في أذنه اليسرى ( كان ذلك يعني في السابق أن الشخص المعني شاذ جنسيا ولكن الآن اختلطت الأمور بشكل يصعب تحديد ذلك!)..
تحدث عن المنشور بحماس تشم منه رائحة الصدق، ولكن للأسف لا يمكن إلا أن تشم رائحة أشياء أخرى أيضا..
قال إنه ينتمي لمجموعة تدعو للثورة ضد النظام العالمي الذي يستعبد النوع الإنســاني كله ويشن الحروب من أجل حصد المزيد من الأرباح..
ما كان يمكن لأحد أن يكون أكثر موافقة له مني… ولكني سألته من أنتم بالضبط ؟ ماذا تفعلون من أجل الثورة؟
التمع القرط في أذنه وهو يقول إنه فنان من مجموعة من الفنانين في مختلف المجالات، يستخدمون فنهم في تحريض الناس على الثورة ضد النظام العالمي الذي يرزحون تحت أغلاله..
حسناً جداً، إنه الفن من أجل الثورة إذن! و لكن ماذا بعد؟ ما هي هذه الثورة؟ فهمنا أنها ضد النظام “الرأسمالي” القائم ( لم يستخدم هذه الكلمة ربما لكي لا يصنف أنه يساري لكن كان يحوم حول معانيها) ولكن ما البديل الذي يطرحونه؟ ما هي وسائل هذه الثورة وما أهدافها أصلا؟
هنا بدا أقرب الى الارتباك منه الى الحماس، و بدا كما لو أنه لم يحفظ الدرس جيدا أو لم يفهمه، تحدث شيئا عن توازن الإنسان مع البيئة، و عن “الناس يمشون في الشوارع كما لو أنهم خرجوا للتو من فلم سينمائي جميل”، وعن السلام والأخوّة بين البشر.. كان من الواضح “أنهم” لم يقولوا له ما يجب أن يقول أو يفعل عندما تحدث الثورة.. وأن السؤال ربما لم يخطر في باله.. إنها ثورة والسلام !
لاحقا ، عندما تصفَّحت المجلة التي باعني إياها اكتشفت “أنهم” هم أيضا لا يعرفون ماذا سيفعلون ربما لأنه لا يوجد هناك شيء لفعله! حتى إن المؤسسين للمجموعة ( وواحد منهم له مؤلفات وطلّة بوهيمية كما يجدر بمفكر حر أن يملك!) لا يقترحون البدائل، هناك حديث عن “توازن الإنسان مع البيئة” واستهلاك أقل للطاقة ، وحديث عن الفن الذي ينتجونه (فن إلكتروني بعيد تماما عن سائغتنا وتذوقنا) ولكن لم تحقق المجموعة شيئا غير مزرعة جماعية في واحدة من الولايات الجنوبية، ومن مقترحاتهم العملية السماح للأطفال بالمشاركة في التصويت للانتخابات ( لِم لا؟ هل سـيكون الأمر أسوأ! كما لو أن البالغين بالغون حـقا ويمتلكون قرارهم بمعزل عن عملية غسيل الدماغ الجماعية التي يقوم بها الإعلام!)
لا شك عندي أن بعض هؤلاء الشباب جادون في ثورتهم وفي تمردهم على مجتمعهم لكن لا شك عندي أيضا أنهم بعيدون جدا ليس عن تحقيق أهدافهم فحسب و لكن عن عن كل الوسائل التي تحقق لهم ذلك.. إنهم لا يمتلكون حتى القدرة على قيادة إضراب عن العمل للضغط على المؤسسات القائمة، لسبب بسيط جدا: أنهم في أغلبهم عاطلون أصلا عن العمل!!
إنهم لا يريدون سوى “الثورة “!! لكن ماذا بعد؟ ماذا بعد أن نثور ونحطم الأغلال التي تشدنا الى “النظام القائم”؟ ما البديل؟ هل سنعيش في اللانظام؟ هل ستنظم الأمور نفسها بنفسها؟ هل هي الفوضى الخلاقة مجددا؟!..
أليس عدم وجود البديل سببا أساسيا في فشل ثورات من هذا النوع ؟ بل ألا يمنح ذلك قوة إضافية للمؤسسات القائمة لأنها ستبدو على الأقل متماسكة وواقعية رغم ثغراتها وعيوبها.. بينما ستبدو تلك الدعوات إلى الثورة مراهقة فكرية لا أكثر ولا أقل..
هذه الحركات الثورية التي تنتشر بين بعض الفئات (خاصة الشباب) ليست ظاهرة حديثة، بل يمكن القول إنها نشأت وتطورت مع تطور المجتمع الغربي على النحو الرأسمالي خاصة في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية ، ولكن هذه الحركات كانت تذوب دوماً داخل التيار الاجتماعي العام وتمكنت المؤسسات القائمة ليس من القضاء عليها فحسب بل تجنيدها أحيانا ضد أخطار أكثر جدية ( مثل الشيوعية أبّان مدها ) أو استغلالها لحصد المزيد من الأرباح.. وهكذا كانت ثورة الهيبيين في الستينات أوضح مثال.. فقد كانت الحركة الهيبية في جوهرها تمردا ضد نمط الحياة الرأسمالية ( وامتصت بذاك جزءا كبيرا من الزخم المعادي للرأسمالية الذي كان يمكن أن يدعم الشيوعية)، لكن هذا التمرد لم ينتج غير حياة تمرغت في أوحال المخدرات وعقاقير الهلوسة والجنس ( بالإضافة الى سمتين أكثر وضوحا: الشعر الطويل وعدم الاغتسال !).. وهكذا كان البديل الهيبي عابرا مثل فقاعة وسرعان ما تمكنت المؤسسات من احتوائه داخل أجنحتها بل والاستفادة من رموزه الفنية (فريق الخنافس – البيتلز – مثلا الذي بدأ ممثلا لثورة الشباب ثم سرعان ما صار أعضاؤه جزءا من النخبة الرأسمالية التي حققت أعلى الأرباح من الأسطوانات على أيدي هذا الفريق)..
وسرعان ما تحول الجيل الشاب الجديد من هيبية الستينات، إلى موظفين في ذات المؤسسات التي ثار عليها الجيل السابق لهم ( والتعبير السائد هو أنهم تحولوا من hippies الى yuppies وهي الكلمة المضادة الساخرة المؤلفة من الأحرف الأولى من young urban professionals أي “موظفين شباب في المدينة” بعدما قدّم الهيبيون أنفسهم كمتمردين في العراء بين الاشجار و الحشائش.. ) واليوم صار الهيبيون مجرد ذكرى لظاهرة فنية أنتجت أغاني دخلت الأرشيف و نمطاً من الملابس لم يعد يرتديها أحد..
لكن حذار! فهذا ليس مصير الهيبيين وحدهم! بل هو مصير أي حركة ثورية تركز على فكرة التمرد، و على شعارات التمرد، وعلى الترويج للتمرد والهدم عبر أفضل الأساليب (= الفن) أكثر مما تركز على ما تريد بناءه بعد الهدم ..
أي حركة “تنادي بالتغيير” لن تكون أكثر من مجرد شعار يخدم المؤسسات القائمة ما لم ترتبط هذه الحركة بمشروع فكري متكامل يحاول أن يقدم البديل أو يرسم ملامحه.. بدلا من أن يتغنى بالشعارات الفضفاضة ويهجو ما هو قائم ..
قد تكون بعض شعارات التغيير والثورة جميلة وبرّاقة ومبدعة.. لكن ذلك كله لا يكفي “لصنع التغيير”على الإطلاق..
ويجب أن يذكرنا الأمر بشيء آخر.. قد يكون مبدعا وجميلا، لكنه كان يهيم على وجهه بين الوديان، دون أن يحاول تعبيد الدرب للخروج من متاهة الوديان..
“وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ *وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا……”
الشعراء 224-227
ربما كانت الآية في سياق نزولها التاريخي تتحدث عن حركة الصـعاليك في الجاهليــة، وثوارها الشعراء الذين لم تكن حركتهم أكثر من” صعلكة ” ثورية أنتجت شعرا جميلا لا أكثر ولا أقل..
لكن أليس هذا التوصيف صالحاً لكل زمان ومكان؟؟ ألم تكن الكثير من الحركات الثورية مجرد حركات “صعلكة” لم يبق منها سوى الفن الذي أنتجته ( الهيبية ، الوجودية ..الخ)..
ومرة أخرى حذار! فبعض الحركات الإسلامية قد تسقط في نفس الفخ الشهي، فخ الشعارات الجميلة المفرغة من المضمون والعمق و التخطيط للتحقيق..
يمكن بسهولة أن أقول للشاب ذي القرط اللامع في الحي الصيني: إن “الإسلام هو الحل” لانه الحل فعلا لمشاكله ومشاكلي ومشاكل النوع الإنساني ككل، لكن ذلك يجب أن يرتبط بمشروع فكري واقعي متكامل.. وليس بمجرد الشعارات والأناشيد.. ليس بمجرد الدعوة الى تحطيم ما هو قائم..فذلك نذير بالفشل و الذوبان فيما هو سائد..
بعض الحركات الأخرى، المحسوبة أيضا على التيار الإسلامي”التجديدي”، بذلت جهودها في تفكيك ما هو قائم و سائد من مفاهيم، دون أن تبذل جهوداً مماثلة في تركيب مفاهيم بديلة وتأصيلها بربطها بالنص الديني.. وهذا مرة أخرى نذير مبكر بالفشل الحتمي.. ولن يصب إلا في خدمة المفاهيم السائدة بطريقة أو بأخرى.. بل إنه سيزيد من قوة المؤسسات القائمة وحصانتها لأن كل”فشل” لن يكون مجرد فشل للثورة، بل سيكون نجاحا لهذه المؤسـسات ولرصيدها المتراكم..
أي حركة تركز على الشعارات أكثر مما تركز على المضمون، و تصب جهودها في الهدم بمعزل عن البناء، لن تكون أكثر من صعلكة شعرية فنية في أحسن أحوالها، أو مجرد مشاكسة، مناكفة.. تذمر.. لكنها ليست الثورة، وبالتاكيد ليست النهضة..
وللتوضيح فقط ولكي يطمئن الرقيب الذي صار يسكن أقلامنا : الثورة التي أتحدث عنها لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بما يفهمه هو من الثورة.. أي بالانقلابات العسكرية وبالبيان رقم واحد المعتاد..
ولكن لا داعي للشرح له لأنه لن يفهم بكل الأحوال… فليطمئن فقط أنها ليست خطة انقلابية!
..أنها الثورة !
وسيفهم عندما تحدث!