رسائل اقتصادية للأسرة

رسائل اقتصادية للأسرة
إعداد
د. زيد بن محمد الرماني
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عبده المصطفى.
أما بعـد:
لقد جعل الله سبحانه المال سبباً لحفظ البدن وحفظه سبباً لحفظ النفس، وهو سبب عمارة الدنيا والآخرة. وبالمال قوام العبادات والطاعات، وبه قام سوق الحجّ والجهاد، وبه حصل الإنفاق الواجب والمستحب، وبه يتوصل إلى النكاح، وبه حصلت قربات العتق والوقوف وبناء المساجد.
وللأسف، فقد انتشر فهم خاطيء عند بعض الناس مفاده أن الاشتغال بطلب المعاش والعمل في صنعة أو مهنة أو حرفة يمنع الوصول إلى مراتب العلماء، وأن العالم لا يبلغ هذه المنزلة إلا بالتفرغ الكامل، والبُعد عن طلب المعاش والاحتراف، وأن الـجمع بين العلم والـحرفة صعب الـمنال.
بَيْدَ أنه لابد أن نعلم أن الحاجة إلى المال في زماننا أصبح أمراً مهماً لا يستغني عنه أي طالب علم.
فطالب العلم يحتاج إلى مال قارون وعمر نوح وصبر أيوب، مال قارون لشراء الكتب والذهاب إلى مجالس العلماء البعيدة والاستغناء عن المسألة وسؤال الناس، ويحتاج إلى عمر نوح لقراءة تلك الكتب، وكذا يحتاج إلى صبر أيوب، إذ قراءة الكتب ومجالسة العلماء تحتاج إلى صبر، وجهاد، صبر على طلب العلم ومجاهدة النفس والهوى والشيطان.
ولا عجب، فقد كان الأنبياء عليهم السلام أصحاب حرف ومهن، فهذا نوح عليه السلام كان يعمل في النجارة وصناعة السفن،       [ هود: 37 ]. وموسى عليه السلام كان يعمل أجيراً:              [ القصص: 26 ].
وداود عليـه السلام عمل في الحـدادة وصناعة الحديد    •      [ الأنبياء: 80 ]. وكان عليه السلام يأكل من عمل يده، يقول رسولنا : ((كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده)) [ رواه البخاري ].
وعمل زكريا عليه السلام في النجارة والخشب، يقول عليه الصلاة والسلام ((كان زكريا عليه السلام نجاراً)) [ رواه مسلم ].
وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان داود زراداً، وكان آدم حراثاً وكان نوح نجاراً وكان إدريس خياطاً وكان موسى راعياً عليهم السلام.
وقد عمل رسول الله  في رعي الغنم فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله  ((ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم)) فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله. قال: وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط. ومارس رسولنا عليه الصلاة والسلام التجارة مضاربة بأموال خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها - قبل البعثة.
ثم إن الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار كانوا يعملون في أمر معاشهم وكانوا أصحاب مهن وحرف.
وقد احترف كثير من الصحابة رضوان الله عليهم التجارة برًّا وبحراً، وكان منهم اللحّام والجزّار والبزّاز والحدّاد والخيّاط والنسّاج والنجّار والحجّام.
فلم يكن صحابة رسول الله – عليه الصلاة والسلام – بطّالين، بل كانوا يسعون في طلب المعاش والتكسب فيه، وعملوا في المهن والحرف على اختلاف أنواعها وأشكالها.
وعلى هذا النهج سار جمع غفير من علمائنا وفقهائنا وأدبائنا من سلف هذه الأمة، إذ كانوا أصحاب حرف ومهن، وكانوا مع علمهم وزهدهم وتقواهم، يسعون في هذه الدنيا سعياً وراء عيشهم ورزقهم وقوت عيالهم.
انطلاقاً من قوله تعالى:               [ القصص: 77 ].
وقوله عز وجل:              [ الملك : 15 ].
وقد حاول الأستاذ عبد الباسط بن يوسف الغريب في كتابه اللطيف (الطرفة فيمن نسب من العلماء إلى مهنة أو حرفة) حاول استقراء المهن والحرف ومَنْ نسب إليها، وقد بذل جهداً طيباً وحصراً بديعاً.
فأورد – ضمن ما أورد – من مهن العلماء وحرفهم: الخشاب، والحداد، والصواف، والبقال، والبصال، والقفال، والجمال، والبناء....
بل لقد أورد قرابة أربعمائة حرفة ومهنة، وقرابة ألف وخمسمائة عالم وأديب وفقيه، إنه بحق مرجع مهم وسفر رائع.
وفيما يلي نستعرض بعضاً من المهن والحرف ومَنْ نُسب إليها، على النحو التالي:
(1) الآجري، نسبة إلى عمل الآجر وبيعه ومن العلماء المشهورين: أبو بكر محمد بن خالد الآجري.
(2) الأدمي، نسبة إلى من يبيع الأدم، ومن العلماء المشهورين: الشيخ أبو الحسين أحمد بن عثمان الأدمي.
(3) الإسكافي، نسبة إلى من يعمل اللواك والشمشكات ومن العلماء: أحمد بن محمد بن هانيء الإسكافي.
(4) الأنماطي، نسبة إلى بيع الأنماط وهي الفُرش التي تبسط، ومن العلماء: أبو بكر محمد بن إبراهيم الأنماطي.
(5) الباقلاني، نسبة إلى الباقــلا وبيعه، ومن العلمــاء: أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني.
(6) البزاز، نســبة إلى بيع البزّ والثيــاب، ومن العلماء: أبو بكر محمد بن عبد الله البزاز.
(7) البصال، نسبة لبيع البصل، ومن العلماء: الفقيه محمد بن أحمد المعروف بالبصال.
(8) البطيخي: نسبة إلى البطيـــخ وبيعه، ومن العلماء: أبو إسماعيل محمد بن صالح الواسطي البطيخي.
(9) البياع، نسبة إلى البياعة ومن يتوسط بين المتبايعين، ومن العلماء: عروة بن شيبم بن البياع.
(10) التاجر, نسبة إلى التجارة، ومن المشهورين بذلك: أبو بكر محمد الأصبهاني التاجر، راوية الطبراني.
(11) التوحيدي، نسبة إلى بيع التوحيد وهو نوع من التمور، ومن المشهورين بذلك: أبو حيان التوحيدي.
(12) الثقاب، نسبة إلى من يثقب حب اللؤلؤ، واشتهر بذلك: أبو حمدون الثقاب.
(13) الجزار، نسبة إلى الجزارة وهي نحر الإبل، واشتهر بذلك: يحيى بن الجزار المعدني.
(14) الجصّاص، نسبة إلى العمل بالجبص وتبييض الجدران، واشتهر بذلك: شيخ الزهاد أبو محمد طاهر بن حسن الجصاص.
(15) الجوزي، نسبة إلى الجوز وبيعه، واشتهر بذلك: أبو اسحاق إبراهيم بن موسى الجوزي.
(16) الحاسب، نسبة إلى من يعرف الحساب، واشتهر بذلك: أبو علي الحسن محمد الحاسب.
(17) الحداد، نسبة إلى الحدادة، واشتهر بذلك: أبو محمد الحداد الحسن بن أحمد.
(18) الرُّماني، نسبة إلى الرُّمان وبيعه، واشتهر بذلك: أبوبكر محمد بن إبراهيم الرُّماني.
(19) القطعي، نسبة إلى بيع قطع الثياب، واشتهر بذلك: أبو عبد الله الحسين بن محمد القطعي.
(20) النجار، نسبة إلى النجارة، واشتهر بذلك الشيخ المسند أبو علي ضياء بن أحمد النجار.
وهناك: الأبنوسي، البربهاري، التبان، الجيلاني، الحصري، الخراز، الدلاَّل، الذهبي، الزجاج، السّقا، الصابوني، الضراب، الطحان، العطار، الغراء، القطان، الكسائي، اللؤلؤي، الماوردي، النقّاش، الوراق، الياقوتي.
ولأن القائمة تطول وتطول، فإننا نكتفي بهذا القدر، لنقرر حقيقة عدم انفصال طلب المعاش عن طلب العلم، ولنبين القدوة في ذلك من سير الأنبياء والصالحين والسلف المبارك.
اهتداء بقوله عز وجل:          [ الجمعة: 10 ]. صدق الله العظيم.



أبعاد اقتصادية أسرية

البعد الاقتصادي للإسراف في المهور وتكاليف الزواج:
وتبرز أهم مظاهره فما يلي:
أولاً : المبالغة في المهور المتمثلة في الشروط المالية الثقيلة، التي جعلت من العروس سلعة تجارية وميداناً للتفاخر والمزايدات.
ثانياً: المبالغة في بطاقات الزواج وكروت الأعراس خاصة إذا علمنا أن تكلفة الواحدة منها قد تصل إلى عشرة ريالات في المتوسط.
ثالثاً: المبالغة في الهدايا، هدايا الخطبة وهدايا صباحية العرس وهدايا أم الزوجة...
إن المبالغة في المهور مصيبة أكثرت من العوانس والعزاب، إذ هي حجر عثرة في طريق الزواج وجمع الرؤوس في الحلال.
كما تجرّ المبالغة في المهور الأقساط والديون على الزوج وأهله، وتوقعه في مزيد من الاستدانة لشهور طويلة.
وإذا كانت المغالاة في المهور قبل الزواج سبباً لإعراض كثير من الرجال والشباب عن الزواج، فإنها بعد الزواج ربما تكون سبباً للمشاكل والشقاق والخلافات الزوجية، وربما جرّت إلى الطلاق ومشاكل الانفصال، وتكون النهاية المؤسفة تشرد وتفكك وانهيار اجتماعي وأخلاقي.
ومما يؤسف له، أن لا مقارنة بين ما كان عليه سلفنا الصالح من تيسير للمؤونة وقلة الكلفة والمساعدة المالية والمعنوية، وما نحن عليه اليوم من إسراف وتبذير ومغالاة وتفنن في النفقات والمصروفات والأقساط والديون.
بَيْدَ أن ما ينبغي التأكيد عليه إرشاد النبي  من أن خير النســاء والزوجــات وأعظمهن بركـة أيسرهن مؤنـة وكلفـة ومهـراً.

البُعد الاقتصادي للإسراف في حفلات الزفاف:
ويتجلى ذلك في المظاهر التالية:
أولاً: إقامة الأفراح في الفنادق والصالات الخاصة رغم غلاء الأسعار، بَيْدَ أن الإقدام على الاستئجار في تزايد، حتى أصبحت صالات الأفراح والفنادق ميداناً للسرف والبطر والمباهاة.
ثانياً : المبالغة في لباس العروس وطرحتها وما يسمى بالتشريعة، حيث تنفق الأموال الطائلة في أمور كمالية ترفية غير ضرورية.
ثالثاً: التنويع في الأطعمة في مناسبات الزفاف فقد يصل هذا التنويع إلى أكثر من خمسة وعشرين نوعاً من الأطعمة المالحة وخمسة من الحلويات وثمانية من الفاكهة وخمسة من العصيرات الطازجة، إضافة إلى القهوة والشاي قبل الطعام وبعده، والمائدة المفتوحة والصياني الدوارة.
رابعاً : مآل كثير من الأطعمة والأشربة القمامة، فهناك تلال من هذه القمامة، تتزايد يوماً بعد يوم، وعرساً بعد آخر.
ومازلنا نجد عند أغلب الأسر حتى ذات الدخل المحدود تصرفات لا مبرّر لها سوى العادات والهوى والتقليد والمباهاة، احتفالات مكلفة وملابس غالية الثمن!!
البُعد الاقتصادي للفحص الطبي قبل الزواج :
إنَّ فحص ما قبل الزواج مطلوب شرعاً وعقلاً لكل من العريس والعروس والأسرة المستقبلية، من أجل الاكتشاف المبكر لأي موانع أو أسباب أو أمراض أو مؤشرات يمكن أن تحدث مشاكل صحية بالنسبة لأحد الزوجين أو للأولاد مستقبلاً.

ويتجلى البُعد الاقتصادي لظاهرة الفحص الطبي فيما يلي:
أولاً : تقليص النفقات العلاجية، حيث إن اكتشاف المرض أو العارض الصحي أو مشاكل فصائل الدم أو غير ذلك، لأحد العروسين مبكراً، يُسهّل بإذن الله تعالى معرفة الداء ووصف الدواء المناسب، بدلاً من مشاكل صحية مزعجة قد تضطر الأسرة إلى نفقات علاجية باهظة الثمن، كان بالإمكان تجنبها لو كان الفحص الطبي مبكراً.
ثانياً : تحسين مستوى الصحة الإنتاجية، فكلما كان الزوجان في صحة وعافية، دون مشاكل صحية، كانت إنتاجيتهما وفاعليتهما أكـثـر، وكـانا أقدر على العطاء والعمل.
ثالثاً : الدافعية الإيجابية للعمل، فالجسم السليم أساس العمل السليم وصحة الجسم من أوضح عوامل الدافعية الإيجابية على العمل.
ومما ينبغي التأكيد عليه، أن الفحص الطبي ينبغي أن يستمر أيضاً حتى بعد الزواج وإنجاب الأولاد، للإطمئنان النفسي والصحي ولاكتشاف أي عارض أو مشاكل صحية محتملة لتشخيصها مبكراً، ووصف علاجها الناجع قبل استفحال المشاكل.
البُعد الاقتصادي للأعراس الجماعية:
ظاهرة العرس أو الأعراس الاجتماعية أو الجماعية لأكثر من شخصين ، خمسة أو عشرة أو عشرين أو أربعين... وهكذا، ظاهرة ملفتة للنظر في هذا الزمن.
فبالإضافة إلى كونها ظاهرة مستحدثة وحديثة النشأة والظهور على مسرح المجتمع الحديث، فإن هناك ضغوطاً وظروفاً دعت إلى انتشارها.
ويتجلى البُعد الاقتصادي لهذه الظاهرة فيما يلي:
أولاً : تقليل النفقات المتصلة بالعرس، من حيث صالات الأفراح ووليمة العرس والتكاليف الأخرى المرتبطة بالعرس.
ثانياً : المساعدة في التكاليف، حيث يتحمل العريس قدراً محدوداً من التكاليف، وربما لا يتحمل شيئاً من ذلك، خاصة أن بعض الموسرين والجهات الخيرية أحياناً يتكفلّون بجميع التكاليف لهذه الأعراس مساعدة للشباب الراغب في الزواج.
ثالثاً : إدخار بعض الأموال للحياة الزوجية المستقبلية، إذ إن ما يدخره العريس من أموال كان سينفقها على حفلة عرسه ووليمة زواجه قد تساعده مستقبلاً في توفير مبالغ احتياطية لميزانية الأسرة، ومجابهة أعباء الحياة الزوجية ومتطلباتها المتجددة.
ومما ينبغي التأكيد عليه الحرص على عدم المبالغة في تكاليف ونفقات هذه الأعراس مع الحرص على اتباع الهدى النبوي في إعلان الزواج والفرح بالعروسين في الحدود الشرعية وضمن الضوابط الأخلاقية.


نصائح اقتصادية للزوجين

لقد عُني الإسلام بالزواج عناية خاصة تفوق عنايته بأية علاقة إنسانية أخرى، ويبدو ذلك في كل ما عرض له الإسلام من مسائل الأسرة، ابتداء بالخطبة وانتهاء بالطلاق عند الضرورة.
ولما كان الزواج أساس بناء الأسرة، ولا يمكن أن تقوم أسرة بدون زواج شرعي، وجب أن يقوم الزواج على الرغبة والاختيار والرضا المشترك.
ومن ثم، فلا عجب أن أجمع علماء الاجتماع على أن الأسرة عماد المجتمع وأنها إذا قامت على أسس ودعائم قوية استقرت أحوال المجتمع وتوطدت أركانه، فإذا وهنت قواعد الأسرة، ولم يتحقق لها أسباب القوة على اختلاف أشكالها، اضطربت حياة المجتمع واختلّ توازنه.
لقد تحفظ الاقتصاديون حوالي قرنين من الزمن عن الكلام عن الأسرة أو في شؤونها وتركوا تلك المهمة لعلماء الاجتماع والمحللين النفسيين.
أما اليوم، فقد أثبت غير واحد من الاقتصاديين المعاصرين أن الزواج بمثابة عقد لتوزيع العمل، فكل من الزوجين يتخصص في مجال معين. وطبقاً للعادات والتقاليد الاجتماعية، فإن الزوج هو الذي يعمل في الخارج وتبقى الزوجة في المنزل للقيام بالأعمال المنزلية وممارسة الأمومة. حيث يحقق التخصص أفضل تنظيم لموارد الأزواج وأقصى قدر من الرفاهية.
وبعد، فإن أهم ما ينبغي توجيهه للزوجين من نصائح اقتصادية، وهما في مقتبل حياتها الزوجية، ما يلي:
أولاً : الاقتصاد: إن على الزوجة الواعية أن تكون أول من يحافظ على ميزانية الأسرة وتحاول الاقتصاد في المصروفات والاعتدال في النفقات.
فقد جاءت مناهٍ شرعية وتحذيرات إلهية من الإسراف والتبذير، يقول سبحانه:          [ الأنعام: 141 ]. ويقول تعالى:    •  •   •   [ الإسراء: 26، 27 ].
ومن المعروف شرعاً وعرفاً وعقلاً وواقعاً أن الوقاية خير من العلاج.
ثم إن مبدأ الرشادة الاقتصادية يستلزم الاعتدال في الأكل والشرب واللباس والسكن والنقل والأثاث وتكاليف الزواج والمهور.
ثانياً : تيسير المهور وتكاليف الزواج: ذلك لأن المبالغة في المهور المتمثلة في الشروط الثقيلة، جعلت من العروس سلعة تجارية وميداناً للتفاخر والمزايدات.
كما ينبغي الحذر من المبالغة في بطاقات الزواج وكروت الأعراس، خاصة إذا علمنا أن تكلفة الواحدة منها قد تصل إلى عشرة ريالات في المتوسط.
إن المبالغة في المهور مصيبة أكثرت من العوانس والعُزّاب.
كما تجرّ المبالغة في المهور الأقساط والديون على الزوج وأهله وتوقعه في مزيد من الاستدانة بشهور طويلة. رغم أن الهدى النبوي أكّد على أن خير النساء والزوجات وأعظمهن بركة أيسرهن مؤنة وتكلفة ومهراً.
وإذا كانت المغالاة في المهور قبل الزواج سبباً لإعراض كثير من الرجال والشباب عن الزواج، فإنها بعد الزواج ربما تكون سبباً للمشاكل والشقاق والخلافات الزوجية وربما جرّت إلى الطلاق ومشاكل الانفصال.
ثالثاُ: تجنب الإسراف في حفلات الزفاف: بإقامة الأفراح في البيوت أو صالات الأفراح المناسبة، دون اللجوء إلى الفنادق والصالات غالية الثمن، فقد أصبحت – للأسف – صالات الأفراح والفنادق ميداناً للسرف والبطر والمباهاة.
كما ينبغي الحذر من المبالغة في لباس العروس، فلا تنفق الأموال الطائلة في أمور كمالية ترفية غير ضرورية.
كذا ينبغي الحذر من المبالغة في تنويع الأطعمة في مناسبات الزفاف، ذلك لأن مآل كثير منها القمامة للأسف، فهناك تلال من هذه القمامة تتزايد يوماً بعد يوم وعرساً بعد آخر.
وما ذلك إلا لتلبية دواعي الاستعراض الاجتماعي وحب التقليد والمحاكاة والظهور الاجتماعي.
وما زلنا نجد عند بعض الأسر، حتى ذات الدخل المحدود تصرفات لا مبرر لها سوى العادات والهوى والتقليد، احتفالات مكلفة وملابس غالية الأثمان وبنود استهلاكية تثقل كاهل الزوجين والأسرة المستقبلية.
ونسينا أو تناسينا أن الإسلام لم يشرع في نفقات عقد الزواج سوى المهر المعقول للمرأة والوليمة المناسبة للعرس وإكرام الضيوف بما يناسب الحال. فلا حاجة بنا إلى موائد مفتوحة وصواني دوارة.
رابعاً : الحذر من حمّى الشراء والتسوق: إن أخطر ما يمر على الزوجين ما يُعرف بحمّى الشراء والتسوق والاستجابة للاستهلاك المظهري والمبالغة في الأزياء والموضات والانسياق وراء الدعايات والإعلانات الخادعة، دون تحكيم دقيق للعقل وتقدير للعواقب والنتائج.
لذا، ينبغي تجنب الشراء العاطفي، من خلال وضع خطة للأشياء المطلوبة قبل القيام بعملية التسوق.
فكثيراً ما يكون لدى أحد الزوجين العديد من الأعمال التي تحتاج إلى إنجاز في وقت محدد، أو يحتاج إلى القيام بعمل لم يسبق له القيام به فيما مضى.
في هذه الحالات وغيرها يكون التخطيط هو الحل إذ تحدد الخطوات الواجب اتباعها للوصول إلى هدف معين ويحدد الوقت المطلوب لإنجاز هذه الخطوات، وعن طريقه يمكن تصور العقبات التي قد تصادف الزوجين والهدف الذي يريدان الوصول إليه.
خامساً : ميزانية رشيدة للأسرة: إن الزوجة الرشيدة هي التي تلعب دوراً فريداً في إسعاد زوجها وذلك بإدارتها الحكيمة لشؤون المنزل وتدبير مصروفاته وصحة أفراده. فالمنزل هو المكان الذي يسعد فيه جميع أفراد الأسرة.
ومن العوامل المساعدة على توفير السعادة في الأسرة الناحية المادية، من حيث تقدير دخل الأسرة وتنظيم ميزانيتها بحيث توفر جميع حاجات ومتطلبات الأسرة للمحافظة على صحة الأفراد وتأمين الملبس والمسكن المريح.
ويا ليت لو اهتم الزوجان بتخصيص مبالغ مالية للتوفير والادخار لوقت الحاجة والطواريء المفاجئة.
هنا، فإني أرى لزاماً عليّ إلى جانب تلك النصائح أن أشير لمجموعة من التوجيهات العامة التي تعتبر رائد الحياة الاقتصادية الأسرية الهانئة، ومن ذلك:
(1) ضرورة تقدير الزوجة لما يبذله زوجها من جهود وعمل لقاء الحصول على الأموال اللازمة والتي ينفق أجزاء منها على شراء الاحتياجات والسلع الضرورية للأسرة.
(2) أهمية معرفة أن المعيشة الهانئة والسعيدة وسعة العيش قد لا يدوم ذلك كله، وقد تمر بالأسرة أيام صعبة يحتاجون معها إلى كل ما أنفق دون حساب.
(3) ضرورة توفير مبالغ كافية لتنشئة الأطفال وتحقيق الحياة الكريمة لهم، مصداقاً لوصية رسول الله : (لئن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس...).
(4) ينبغي التخلص من القيم الاستهلاكية السيئة الضارة، حتى لا يتسبب الاستهلاك الترفي في وجود الفقر وسط الرخاء.
(5) حبذا أن نكبح انفعالاتنا المتعلقة بالكميات المطلوبة ومستوى الاستهلاك.
(6) من الضروري أن تقوم وسائل الإعلام ووكالات الدعاية والإعلان بدورهم في تنمية الوعي الاقتصادي والاستهلاكي لدى أفراد المجتمع... وقد آن أوان ذلك...
ثم إن الزوجة الواعية هي تلك التي توزع ميزانية الأسرة على الأبواب اللازمة للإنفاق.
إن هذا يستدعي ضرورة وضع ميزانية محكمة رشيدة للأسرة تضبط النفقات وتحدد الإيرادات وأوجه الصرف مع المراقبة الدقيقة لهذه الميزانية.
سادساً : الوعي بأهمية اقتصاديات الأسرة: إن دراية الزوجين باقتصاديات الأسرة ومواردها البشرية والمالية والتخطيط السليم للإنفاق يؤثر بدوره على الاقتصاد الوطني. ذلك لأن الاقتصاد المنزلي ضروري لمواجهة أعباء الحياة، نتيجة زيادة أسعار السلع المختلفة والخدمات، الأمر الذي يتطلب الانتفاع بالموارد المتاحة.
ومما لا شك فيه أن الأسرة التي تهتم بتخطيط أسلوب حياتها، سوف تحقق أهدافها.
لذا ينبغي مراعاة إمكانات الأسرة واتباع نظام الإنفاق السليم من حيث عدم زيادة مقدار المنفق على الدخل وتوزيع الدخل – قدر الإمكان – على أبواب الإنفاق.
يقول تعالى:           •    [ الفرقان : 67 ].

الجوانب الاقتصادية للحجاب

لقد أصبح الحجاب موضوعاً من الموضوعات التي تأخذ حيزاً كبيراً في الندوات والمقالات والكتب وحتى في أجهزة الإعلام والقنوات الفضائية.
وينبغي أن نعلم أن موضوع الحجاب الذي كثر الجدل حوله ورد كمصطلح قرآني بتعبير (الجلباب) على حد قول شهرزاد العربي في كتابها: (البُعد السياسي للحجاب).
ومن المعلوم أن آيات الحجاب قد وردت في سورتين من القرآن الكريم وهما سورتا الأحزاب والنور.
ومن ذلك، ما جاء في ســـورة الأحـــزاب، قولــه تعــــالى:   •  •         •             [ الأحزاب: 59 ].
ففي الآية أمرٌ من الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة، إذا خرجن لحاجتهن أن يغطين أجسامهن ورؤوسهن وجيوبهن – وهي فتحة الصدر من الثوب – بجلباب كاسٍ، يسترهن من الفساق.
إن الحجاب ليس مجالاً للاختيار، فمن خلال الآيات الخاصة بالحجاب يتضح أنه لم يكن قصراً على طائفة أو جماعة خاصة في المجتمع، وإنما الجميع مطالبون به على اعتبار أن الآيات تخاطب كل أفراد المجتمع الإسلامي.
والغريب أن هناك بعض نساء الأمة الإسلامية أصبحن يحاولن تطوير الحجاب حتى يتطابق مع العصر، وفي محاولة التطابق هذه ذهبن إلى اتخاذ أشكال جديدة للحجاب، هي في الغالب تبرز مفاتن المرأة وتذهب بها نحو إهدار قيمتها وكرامتها.
وبهذا تحول السلوك الاجتماعي من سلوك مرتبط بدين الأمة وتاريخها إلى سلوك مستورد من الآخرين الذين عجزوا عن حل مشكلاتهم الخاصة وأزماتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
إن الزيّ أحد سمات الثقافة، ومن ثم اعتُبر اللباس أحد السمات الثقافية لدى شعوب العالم كافة، ويتميز كل شعب وأمة على هذا الأساس في لباسها عن الآخرين.
وفي المقابل، فإن السفور يمثّل أحد العوامل التي تجرّ المجتمعات نحو الـهاوية، فهو بمثابة المعول الذي يضرب به حجر الأساس لهذه الأمة، من أجل تجريدها من إيمانها وقيمها.
إنّ كثيراً من الأوروبيات والأمريكيات والداعيات إلى الحضارة الزائفة وهن كثيرات في الوطن العربي، يذهبن إلى الإدعاء بأن المرأة الأوروبية والأمريكية يملكن قدراً من الحرية لا تملكه المرأة المسلمة.
وللأسف فقد ذهب إلى هذا الرأي كاتبات عربيات مسلمات، ناسيات أو متناسيات أن التاريخ يشهد بأن المرأة المسلمة أكثر حرية وأكثر عزة، وأن المرأة الكافرة كانت تملك كأي متاع، وكانت جسداً يباع ويشترى.
إن تميّزنا عن الآخرين أمر ضروري من عدة نواح، لعل أهمها الناحية العقائدية، ذلك لأن النساء يختلفن عن الرجال في اللباس وغيره من الناحية الشرعية. وإذا تأملنا الحجاب باعتباره فرضاً، نجده غير محدد من ناحية اللون أو نوع القماش، إذ المهم فيه هو الستر وتغطية الوجه والمحافظة على الآداب والعلاقات الاجتماعية.
إن الحجاب له أبعاد دينية وثقافية وحضارية وسياسية واقتصادية واجتماعية.
ومن الناحية الاقتصادية يمكن إبراز الجوانب الاقتصادية للحجاب في النقاط التالية:
(1) الحجاب بين الحاجة والمنفعة:
من الناحية الاقتصادية تظهر منفعة الحجاب في مدى إشباعه للحاجة النفسية الإيمانية المتمثلة في إطاعة أوامر الله والسعي إلى سيادة التوحيد في الأرض، ثم يأتي بعد ذلك التميز الخاص بالمرأة المؤمنة عن غيرها من نساء العالم. ومن ناحية أخرى تتجلى منفعة الحجاب الاقتصادية للمجتمع في عدم التكاليف، وتبذير ميــزانية الدولة الـمسلمة في متاهـات الاستعراض وفنون الموضات وهوس التسوق وإدمان الشراء والاستهلاك الذي نراه اليـــوم.
(2) الحجاب بين الربح والكساد :
لنفترض أن نسبة كبيرة من النساء قد اتخذن من الحجاب اللباس الأساسي لهن، استجابة لأمر الله تعالى فما يحدث بعد ذلك؟! ينتج عن هذا ربح اقتصادي لهذه المجتمعات، إذ يقل استيراد الأزياء والموضات العالمية، وبهذا نحافظ على العملة الصعبة التي هي مشكلة معظم الدول الإسلامية التي حباها الله بخيرات عظيمة، وبجانب هذا تقل تبعاً لذلك مواد الزينة ووسائلها الخاصة بالمرأة، وتتحول إلى الاستعمال المنزلي فقط.
وجميع هذه الحالات تشكل ربحاً اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا للمجتمع الإسلامي.
(3) الحجاب بين البطالة والعمل :
إن التزام المرأة المسلمة بدينها، بارتدائها الحجاب يؤدي إلى زيادة الإنتاج؛ لأن أغلبية المتحجبات ملتزمات وهذا يقيم حدوداً لا يسمح بتجاوزها، فينهمك نتيجة لذلك كلٌّ في عمله.
أما إذا تبرجت المرأة وسفرت وتزينت بألوان الزينة والتجمل، فإن جلّ إداراتنا ومستشفياتنا وجامعاتنا ستصبح أماكن للمواعيد الغرامية، فينشغل الناس بعيداً عن أعمالهم، ومن ثم يضيع الإنتاج وتنتشر البطالة في أوساط أفراد المجتمع.
(4) الحجاب بين الاعتدال والتبذير:
إن شراء اللباس في كل وقت وإنهاك ميزانية الأسرة في متطلبات المرأة العصرية يؤدي بالضرورة إلى سلوك الإسراف وسبل التبذير.
والمتحجبات لا يذهبن إلى السينما والمسارح ولا ينفقن نقودهن في شراء مجلات الموضة والمساحيق ويبتعدن عن كل سلوك يقربهن من معصية الله والسقوط في براثن التبذير وكفر النعمة، وينتهجن خُلق الاعتدال والتوسط في معيشتهن.
ختاماً نقول إن مسألة الحجاب قضية أساسية للمرأة المسلمة؛ لأنها إحدى الخطوات الأساسية للسير نحو النقاء والطهارة والالتزام.

أكلما اشتهيت شيئاً اشتريته

ذات يوم أوقف الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه عبد الله (وقيل جابر بن عبد الله) رضي الله عنهم وسأله: إلى أين أنت ذاهب. فقال عبد الله: للسوق. فقال الفاروق له: لماذا؟! فأجاب: لأشتري لحماً، وبرّر ذلك الشراء، بأنه اشتهى لحماً، فخرج للسوق ليشتري بعضاً منه، فقال له الفاروق: أكلما اشتهيت شيئاً اشتريته؟
إنها حكمة اقتصادية خالدة، وقاعدة استهلاكية رشيدة. خاصة ونحن نشهد في أيامنا هذه سباقاً محموماً يترافق معه أساليب تسويقية جديدة، وأساليب إعلانية مثيرة، ووسائل إعلامية جذابة، ودعايات كثيفة من أجل الشراء والمزيد منه.
وقد تبين من خلال تحقيقات عديدة أن شريحة واسعة من الناس تشتري ما لا تحتاج، وتستهلك من المنتجات والسلع أكثر من اللازم.
يقول وليام بنّ: إن ما ننفقه على أغراض الزينة الزائفة يكفي لكساء جميع العراة في العالم.
وهكذا أصبحت حياتنا المترفة تملأ البطون بما لذّ وطاب وتغذي الأرواح بأشياء فارغة وفاسدة. فكم هو سخف الإنسان الذي يتظاهر دوماً بالذكاء والمعرفة.
ويقول سمايل : إن الحياة السهلة المترفة لا تدرب الرجال على بذل الجهد أو مواجهة الصعاب ولا توقظ فيهم تلك المقدرة اللازمة للجهد الفعال في الحياة.
إن بعض الرجال يعتبر اهتمام النساء الزائد بالموضات وبضرورة التجاوب معها بأنه انعكاس لعدم تحليهن بقدر كاف من المعقولية في التفكير.
يقول علي غلوم : الشائع بيننا أن المرأة أكثر إسرافاً من الرجل، سواء في ملبسها أو إنفاقها، ولكن هناك من الرجال من هم أكثر إسرافاً في أموالهم وسلوكهم ومقتنياتهم،فالأمر نسبي ويرتبط بحجم ما يتوفر لدى الفرد من مغريات نحو الإسراف.
وتقول صباح المالكي: -في معرض حـديثها عن الإسراف -: من أسباب الإسراف حاجة المرأة لتملك بعض الأشياء التي ترى أنها في حاجة إليها لتجميل منزلها، أو لإضفاء البهجة على الأسرة والأبناء بوجه خاص من ألعاب وملابس واحتياجات.
وتؤدي الأنانية والنفعية الشخصية في كثير من الأسر والمجتمعات إلى الإسراف في استغلال مصادر الدخل.
ومن ثم ظهر على الساحة هوس تسوّقي غريب، وإدمان شرائي كبير، وحمّى استهلاكية عجيبة، يؤجج ذلك كله إعلانات مثيرة ودعايات جذابة ومسابقات مغرية وحوافز مشجعة.
وأكثر الإعلانات أثراً هي تلك التي يمكن إعادتها بصيغات متعددة، وفي أماكن رؤيتها من قبل أعداد كبيرة من الناس كبرامج التلفزيون المحببة للمشاهدين والصحف والأسواق المركزية.
تقول فوزية خليل – في معرض مشاركتها في تحقيق حول (هوس التسوق عند المرأة ) : إن هوس التسوق عادة ما يكون انفعاليًّا، ويمثل عند المرأة طريقة تعويض عن معاناة عاطفية، أو نتيجة حرمان أو قلق أو تعاسة زوجية أو قلة حنان، وقد يكون هذا الهوس التسوقي عند النساء أكثر شيوعاً.
وفي التحقيق نفسه تقول بدرية المطيري: هناك من النساء من يشترين أغراضاً ليست ضرورية ولا في حدود إمكانياتهن، ويدفعن بالرجال إلى دفع الكثير من أجل إرضاء رغباتهن الجنونية.
ومن أهم نتائج تحقيق أُجري حول (الإعلانات التجارية والإسراف) : الإعلانات تدفع المرأة للشراء والمزيد منه. كما أن المرأة تشتري السلعة عادة على سبيل التجريب نتيجة الإعلان عنها، والمسابقات العديدة تغري الأطفال بالشراء بكثافة. ووصل التحقيق إلى نتيجة مهمة: الإعلانات التجارية مسؤولة إلى حد كبير في دفع الناس إلى الإسراف وخاصة المرأة، جرياً وراء التفاخر والمباهاة أو حبًّا للاستطلاع أو رغبة في التقليد.
إن عادة التقليد بين الناس لا تقتصر على قطر من الأقطار أو جنس من الأجناس، بل إنها عادة عالمية يصعب تغييرها.
ثم إن النفس البشرية نفس لا تشبع، وفي الوقت نفسه لا تقنع، فهي طلعة لكل نوع، متشوفة لكل شكل، فضولية لكل لون.
نعوذ الله من عين لا تدمع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تقنع، ومن بطن لا يشبع، ومن دعاء لا يستجاب له.
فالتخمة،السُّمنة، السرف، التبذير، الترف، التبديد، الاستنزاف، تلال النفايات والقمامة، الثنائيات الاجتماعية، الترهل، اللامبالاة، كفر النعمة... ما هذه إلا بعض آثار، لا شك أنها تتولد من السلوك الشرائي غير المنضبط، ومن الإدمان الاستهلاكي غير المتزن، ومن الإنفاق البذخي غير الرشيد.
إن صناديق القمامة تشهد أكياساً من الزبالة وألواناً من النفايات المنزلية أشبه بالتلال نتيجة الاستهلاك المنزلي الشره، وصدق من قال: إن الاستهلاك هو طوفان التلوث القادم.
فإذا أضفنا إلى ما سبق شيوع أخلاقيات الأنا والحسد والجشع والمباهاة والتقليد وكسر قلوب الفقراء والمساكين والمحتاجين واختلال الميزانيات الأسرية والاستدانة... فإن هذا كله يستلزم أن نقف في وجه الوحش الاستهلاكي والغول الشرائي والإدمان الإنفاقي والهوس التسوقي من أجل أن نغلق وبشكل نهائي الملف الأسود للاستهلاك في كل بيت، وعند كل أسرة، وداخل كل مجتمع، وفي أيّ دولة.
إننا لو جمعنا كل ما ينفق على الأمور التافهة في صندوق موحد، ثم أنفق هذا على إزالة أسباب المأساة من حياة الكثيرين؛ لصلحت الأرض وطاب العيش فيها.
وإذا تمثلت أعمالنا بالتدبير وحسن التصرف فإننا نستطيع التخلص من النقيضين وهما الإفراط في الإنفاق والاستهلاك، وحالات العوز والفقر، إذ يمكن للأول سدّ حاجات الثاني، بحيث يقترب النقيضان إلى معدل معقول.
إننا نرحّب بالمعلومات الجيدة التي يجري تفسيرها بتعقل ولكننا لا نريد من أطبائنا الاقتصاديين إخفاء الحقائق عن المريض.
أيها المستهلك اسع لأن تكون سعيداً لا ثريًّا، ففي السعادة قناعة لا يوفرها الثراء. وإن أردت السعادة وجّه اهتمامك إلى قضاء حاجاتك الأساسية ولا تكترث بما هو زائد عنها، ولتكن حاجاتك قليلة، واقضها بنفسك.
في الختام أقول: هل ما زلنا مصرّين على أن نشتري كل ما نشتهي. إذا كانت الإجابة بـ (نعم) فمن ثم، علينا أن نواجه مستقبلاً مـخيفاً وغـــولاً خطيراً ونهاية سيئة. وإن كانت الإجابــة بـ (لا) فمن ثم، علينا أن نصحح أوضاعنا ونُقوِّم استهلاكنا ونُرشِّد إنفاقنا، لنكون أفراداً صالحين ولنبني مجتمعاً متماسكاً، ولنحافظ على هوية أمتنا الإسلامية.

وقفات مع التقسيط

الوقفة الأولى : مفهوم التقسيط:
التقسيط لغة مأخوذة من القِسْط بكسر القاف وسكون السين، وهو الحصة والنصيب وجمعه أقساط. والقسُط:الدفعة وهو قسم من عدة أقسام أو أجزاء.
والقُسْط : - بضم القاف وسكون السين – هو الجَوْر، مثل أن يأخذ إنسان قسط غيره.
والإقساط : العدل في القسمة والحكم والتسوية بين الخصوم وفي الأنصباء. ولذلك سُمِّي المكيال قِسْطاً، والنصيب قِسْطاً،والميزان قِسْطاطاً.
يقول تعالى: - في شأن الأمر بالعدل في القسمة والحكم -        •     [ المائدة: 42 ].
ويقول عز وجل – في حق الجائرين: •   •    [ الجن : 15 ].
يقول الأنباري – رحمه الله - : ومن الأضداد أن يقال قسط الرجل إذا عدل، وقسط إذا جار، والجَور أغلب على قسط.
أما تقسيط الدَّين – فهو – جعله أجزاء معلومة.
ولا يخفى ما بين لفظ التقسيط والدَّين والأجل والائتمان من تناسب وعلاقة وتشابه وروابط.
الوقفة الثانية : التقسيط عند الفقهاء:
التقسيط في الاصطلاح الفقهي يعني تقسيم الدَّين على حصص أو مقادير لتدفع منجمة معلومة في آجال معلومة محددة.
وقد جاء في المجلة العدلية : تقسيط الدَّين: تأجيل أداء الدَّين مفرقاً إلى أوقات متعددة معينة.
وبيع التقسيط هو لون من ألوان بيع النسيئة. فهو بيع يُتفق فيه على تعجيل المبيع وتأجيل الثمن كله أو بعضه على أقساط معلومة لآجال معلومة.
وهذه الآجال قد تكون منتظمة المدة في كل شهر – مثلاً – قسط أو في كل سنة أو غير ذلك.
كما أنها قد تكون متساوية المقدار أو متزايدة أو متناقصة حسب الاتفاق بين الطرفين (البائع والمشتري).
الوقفة الثالثة : التقسيط عند الاقتصاديين :
يذكر بعض الاقتصاديين أن لبيع التقسيط فائدة لكل من البائع والمشتري، فالبائع يزيد من مبيعاته، ويعدِّد من أساليبه التسويقية فيبيع نقداً، وتقسيطاً، ويستفيد في حال التقسيط من زيادة الثمن لأجل التقسيط.
والمشتري يستطيع الحصول على السلعة والاستمتاع باستهلاكها أو استعمالها، فهو يشتري بالتقسيط، فيتعجّل السلعة ويسدّد ثمنها نجوماً أي على شكل أقساط.

الوقفة الرابعة : تنبيهات مهمة :
ينبغي التنبه إلى حقيقة مهمة هي أن البيع بالتقسيط هو بيعٌ بالدَّيْن، ولا ينبغي التوسع في الاستدانة.
إن الاستدانة فيها – في حال الشراء بالتقسيط – زيادة في مقابل الأجل، إضافة إلى أن حجم الدَّيْن يفترض ألا يتجاوز قدرة المدين على السداد.
ومن المعلوم، أن الديون ظاهرة انتشرت في عدد كبير من البيوت وبين أوساط الشباب خاصة لأغراض الزواج أو السكن أو شراء أرض أو شراء سيارة أو السفر أو المتعة أو الترفيه.
وقد تكاثرت الديون بشكل ملفت للنظر، بل وصل الأمر إلى أن عجز كثير من الناس عن الوفاء بتلك الديون.
من ثم، انتهى ببعضهم الأمر إلى السجون، أو لجنة تبيع الممتلكات لتعيد للدائنين أموالهم وحقوقهم.
الوقفة الخامسة : وصايا ونصائح :
من أجل توعية الناس وتذكيرهم بخطورة التقسيط والائتمان والديون، فينبغي أن نسوق إليهم بعض الوصايا والنصائح سواء للباعة أوالمشترين.
(1) أخي تذكر التنفير الشديد من الاستدانة بنص القرآن الكريم والسُنَّة النبوية المطهرة.
(2) أخي لا تلجأ إلى الاقتراض إلاّ إذا كنت مضطرًّا وفي حدود ضيقة.
(3) أخي أصدق العزم في رد المبالغ المستدانة عند تيسّر ذلك، دون تأخر.
(4) أخي اعلم أن الدَّيْن همٌّ بالليل مذلة بالنهار، وشغل للقلب والخاطر.
(5) أخي انتبه لمساويء البطاقات الائتمانية، والحذر من الاستغراق في الديون والإسراف في المصاريف.
(6) أخي ابتعد قدر الإمكان عن التقسيط والديون، لأن التقسيط بداية للانزلاق في أتون الديون.
وصدق مَنْ قال : الدَّيْنُ يـهدم الدِّيْنَ..

  

مــواعـــظ للفـقــــراء

هذه طائفة من المواعظ التي تُوجه للفقراء، وردت أصولها في الكتاب والسُنَّة وفي أقوال السلف الصالح.
(1) لا تحسدوا ولا تحقدوا :
من الأمور الملفتة للنظر أن الحسد لا يكون إلا في أمور تتعلق بالدنيا!! لذلك لن نجد – إلا ما ندر – أحداً يحسد صوّام النهار قوّام الليل إنما الحسد لمن جمع الأموال وملك العقارات والسيارات.
ومن المعلوم أن تمني زوال نعمة المحسود، فيه اعتراض على مقسم الأرزاق سبحانه وتعالى.
ألا قل لمن كان لي حاسداً

أتدري على مَنْ أسأت الأدب؟

أسأت على الله في فعله

لأنك لم ترض لي ما وهب

فجازاك عني بأن زادني

وسدّ عليك وجوه الطلب
وما
وما أجمل قول رسول الله : دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم) [ رواه الترمذي ].
وقد ورد عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قولـه: ما من أحد عنده نعمة إلا وجدت له حاسداً، ولو كان المرء أقوم من القدح لوجدت له غامزاً، وما ضرت كلمة لم يكن لها خواطب.
وقال أبو حاتم رحمه الله: على العاقل مجانبة الحسد على الأحوال كلها، فإن أهون خصال الحسد هو ترك الرضا بالقضاء.
وبئس الشعار للمرء الحسد؛ لأنه يورث الكمد ويورث الحزن، وهو الإشفاء له، والحاسد إذا رأى بأخيه نعمة بُهت، وإن رأى به عثرة شمت، ودليل ما في قلبه كمين على وجهه مبين، وما رأيت حاسداً سالم أحداً.

(2) لا تتسولّوا :
ذلك لأن المسألة فيها التشنيع الكبير، فهي تؤدي إلى الذل وإهدار الكرامة، وقد جاء التحذير على لسان رسولنا عليه الصلاة والسلام كما في البخاري ومسلم: (لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يلقى الله وليس في وجهه مُزعة لحم!!).
إذن: إذا تنزلت بالفقير فاقة ما، فماذا يفعل؟! استثنى رسولنا  ذم المسألة في بعض المواقف، كما في رواية الترمذي عن حبشي بن جنادة قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع يقول وهو واقف بعرفة، وأتاه أعرابي فأخذ بطرف ردائه، فسأله فيه، فأعطاه إياه، وذهب به، فعند ذلك حُرِّمت المسألة، فقال رسول الهدى: (إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرّة سوّي، لا تحل إلا لذي فقر مدقع، أو غرم مفجع أو دم موجع...).
لا تسألنّ إلى صديق حاجة

فيحول عنك كما الزمان يحولُ

واستغن بالشيء القليل فإنه

ما صان عرضك لا يقال قليلُ

من عفّ خفّ على الصديق لقاؤه

وأخو الحوائج وجهه مملولُ

وأخوك من وفّرت ما في كفّه

ومتى علقت به فأنت ثقيلُ

ورد عن ابن حبان البستي رحمه الله في التحذير من مغبة الوقوع في شراك المسألة، قولـه: لو لم يكن في السؤال وإبدائه خصلة تذم إلا وجود التذلل في النفس عند الاهتمام بالسؤال لكان الواجب على العاقل أن لو اضطره الأمر إلى أن يستف الرمل ويمصّ النوى أن لا يتعرض للسؤال أبداً ما وجد إليه سبيلاً، فأما من دفعه الوقت إلى ذلك فسأل من يعلم أنه يقضي حاجته أو ذا سلطان، لم يُحرج في فعله ذلك كما لم يحرج في القبول إذا أعطي من غير مسألة، ومن استغنى بالله أغناه الله، ومن تعزز بالله لم يفقره.
(3) اصبروا على قلّة الحال:
يقول سبحانه:         [ البقرة : 153 ]، ويقول عز وجل:      [ آل عمران: 146 ].
وهكذا أيها الفقراء – فالصبر فيه الفوائد العظيمة وقد لخصها رسول الهدى بقولـه: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) [ رواه مسلم ].
يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في ذلك كلاماً رائعاً: الصبر في البلاء بملاحظة الجزاء وانتظار الفرج، وتهوين البليّة بعدِّ أيادي المنّ وبذكر سوالف النعم هذه ثلاثة أشياء تبعث المتلبس بها على الصبر في البلاء.
نعم – أيها الفقراء – لستم أنتم وحدكم الذين ابتليتم بهذه المشكلة، فقد ابتلي قبلكم أشرف الخلق محمد  .
فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: ما أشبع النبي  أهله ثلاثة أيام تباعاً من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا!!
وعلى هذا الـهدي النبوي سار الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام وآل البيت الأطهار ثم التابعون ومن جاؤوا من بعدهم، إن وجدوا الأكل أكلوا، وإن لم يجدوه صبروا ناظرين إلى ما عند الله من حسن جزاء الصبر.
وما أجمل قول القائل في ذلك:
قلت للفقر: أين أنت مقيمُ؟

قال لي في عمائم الفقهاء!!

إن بيني وبينهم لإخاءٌ

وعزيز عليّ ترك الإخاء

ويشير آخر إلى التلازم بين الفقر والفقيه فيقول:
إن الفقيه هو الفقير وإنما

راء الفقير تجمعت أطرافها

(4) ازهدوا واقنعوا وكونوا أغنياء بما عند الله:
حينما يتحدث الإنسان عن هذه النصيحة اليوم وقد غرق الناس إلى الآذان والأذقان بالدنيا وملذاتها وراحوا يلهثون ليلاً ونهاراً للحصول على متعها وشهواتها يبدو الحديث كأنه من عالم آخر. كأنه من الأساطير.
لكن لابد من سوق عددٍ من الأمثلة الحيّة التي تجسّد هذه الخصلة لتكون دليل عملٍ لنا:
روى الإمام أحمد بسنده الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دخلت على رسول الله  وهو على حصير، قال:فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وإذا – إهاب - معلق، فابتدرت – ذرفت – عيناي، فقال: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟! فقال: يا نبي الله، ومالي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفتوه، وهذه خزانتك. قال: يا ابن الخطاب: (أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا).
وروى الإمام أحمد في مسنده أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على ابنه عبد الله وعنده لحم، فقال ما هذا اللحم يا عبد الله؟! قال: اشتهيته، فقال عمر: أكلما اشتهيت شيئاً أكلته؟ كفى بالمرء سرفاً أن يأكل كل ما اشتهاه!!
إن الزهد والقناعة لا تعني ترك الدنيا،إنـما ترك جعلها غاية وجعلها وسيلة لرضوان الله والاستغناء بما عند الله تعالى.
(5) اعملوا ولا تكاسلوا:
أخرج البخاري عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده).
وهكذا فكل الأنبياء كان لهم الفخر أن عملوا وتعبوا وأكلوا من كسب أيديهم: فنوح كان نجاراً، وإدريس كان خياطاً، وإبراهيم كان بزازاً، وداود كان يصنع دروع الحديد، وسليمان كان يصنع المكاتل، وعيسى كان يأكل من غزل أمه، ومحمد كان يرعى الغنم عليه صلوات الله وسلامه.
وهكذا سار سلف هذه الأمة على هذا النهج: فهذا أبوبكر كان بزازاً، وعمر كان يعمل الأدم، وعثمان كان تاجراً، وعلي كان يكسب، على ما روي أنه أجّر نفسه غير مرة رضوان الله عليهم.
وبعد، فإن هناك نصائح أخرى للفقراء يطول الحديث لذكرها مثل: الاقتصاد المعقول، وعدم الاهتمام الزائد بالتزين وذم الحرص والطمع، وحسن الظن بالله تعالى، وتقديم الحمد والشكر للمنعم، والورع عن كل حرام....

وصـــايا للأغنيــاء

هذه طائفة من المواعظ والوصايا التي توجه للأغنياء ومن ذلك:

(1) لا تكنزوا المال في صناديقكم:
يقول تعالى في معرض ذمّ الذين يكنزون المال:                   •                 [ التوبة: 34 ، 35 ].
هذه هي نظرة الإسلام للمال: أن يبقى في يد الناس يدور من هنا إلى هناك؛ ليعود بالنفع على الجميع، أما إذا كنز في الصناديق والبنوك... عندها حُجب عن منفعة الآخرين، ونال كانزه الإثم الكبير وارتكب المعصية الشديدة.

(2) اتركوا الحرام :
ذلك لأن أكل الحرام بصوره المتعددة والمتنوعة يؤدي إلى نتائج وخيمة.
لذلك، كانت رابعة العدوية تقول لأبيها ذات يوم: يا أبْه لست أجعلك في حل من حرام تطعمنيه، فقال لها: أرأيت إن لم أجد إلا حراماً؟! قالت: نصبر على الجوع في الدنيا خير من أن نصبر على النار في الآخرة.
قيل لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كيف تُستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله  ؟! قال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيئها، ومن أين خرجت.

(3) لا تسرفوا ولا تبذروا :
فالإسلام لا يذم المال لذاته، إنما يذم سوء استعمال هذا المال من تبذير وإسراف، إنما المال وسيلة لا غاية، وسيلة لتحريك عجلة الحياة، وتأمين الحاجات للإنسان، لذلك جاء الذم في كتـــــاب الله تعالى بصيغ متعــــددة، من ذلك قولــه تعالى:    •  •   •   [ الإسراء: 26 ، 27 ]، وقال عز وجل :          [ الأنعام: 141 ].

(4) تبرعوا، تصدقوا، أحسنوا، أدّوا الزكاة :
إذ لا يهدف الإسلام من وراء ذلك أن يأخذ الأموال من الأغنياء ليدعها في أيدي الفقراء، إنما يهدف إلى التعاون والمساعدة حتى تشيع الأخلاق الفاضلة من رحمة وتعاون وأخوة وإيثار ومساواة. قال رسول الهدى: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) [ متفق عليه ].

(5) لا تحتكروا:
فللاحتكار صور متعددة، لكن جميعها يدخل تحت تعريف أبي حنيفة رحمه الله:الاحتكار هو كل ما أضرّ الناس حبسه. وقد ورد في تحريمه أحاديث كثيرة فعن رسول الهدى: (لا يحتكر إلا خاطيء)، وقولـه: (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون) وقولـه: (من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطيء).

(6) كونوا كرماء أسخياء :
علّق ابن تيمية رحمه الله على قوله تعالى:                          [ الحشر: 9 ]، فقال رحمه الله: الشح أصل البخل وأصل الحسد، وهو ضيق النفس وعدم إرادتها وكراهتها للخير على الآخرين، فيتولد من ذلك امتناعه من النفع وهو البخل، إضرار المنعم عليه وهو الظلم، وإن كان في الأقارب كان قطيعة.
وقد سطّر الرعيل الأول لهذه الأمة صفحات ناصعة مشرقة من الكرم والجود والسخاء والإيثار.
حبذا لو تأسّى بها أغنياء المسلمين اليوم فأعطوا الفقراء وأكرموهم وجادوا عليهم ليكون الله تعالى خير معوّض لهم وخير حافظ لأموالهم.
يقول رسولنا عليه الصلاة والسلام: (السخيّ قريب من الله قريب من الناس، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس ولسخيّ جاهل أحب إلى الله من بخيل عابد) [ رواه ابن حبان ].

(7) جاهدوا بأموالك في سبيل الله :
إذ لا ينحصر الجهاد في سبيل الله في الخروج للغزو والتحام السيوف مع الرقاب... إنما هناك جهاد آخر هو الجهاد بالمال.
لذلك بادروا أيها الأغنياء، واستغلوا هذه الأموال التي وضعها الله بين أيديكم ليمتحنكم ثم يحاسبكم عليها... جاهدوا فيها، أنفقوا منها على فقراء الله وفي سبيل الله.
(8) لا ترابــوا :
فالحديث عن الربا طويل متشعب ألّف فيه العلماء كُتباً ومجلدات.
وقد جاء التشديد والتنفير والتحذير منه في أكثر من آية وحديث، ومن ذلك، قوله تعالى:           •     [ البقرة : 276 ]. وقــولـه تعالى:          [ البقرة : 279 ].
إن الربا ممحقة للمال، وإن تراكم بين أيدي الناس؛ لأن انحصاره في أيدي هؤلاء القلة من المرابين والمكتنزين له، يعدم أو يوقف تداوله بين الناس، كما أنه لا يعود بالنفع عليهم، ولا يستفيد منه أولئك المرابون؛ لأنهم يحرصون على جمعه وعدم التصرف فيه ليزداد عندهم ويتكاثر، فتحل الضائقة بالجميع خلافاً للصدقات على اختلاف أنواعها، فإنها لا تتحقق إلا بالإنفاق وبذل المال.

(9) آثروا الفقراء على أنفسكم :
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: الإيثار شيء عظيم لا يستطيع أي إنسان فعله، إذ إن النفس لتجنح نحو الشح والبخل وحب المال، فإن استطاع الإنسان التغلب عليها وأنفق، بل آثر غيره كان رجلاً عظيماً.
إذ ليس هناك من لعنة تمحق الفضائل وتحرق أعمال الخير وتشعل الحروب بين الناس أكثر من لعنة الأنانية.
وقــــد جــــاء في القـــــرآن الـمدح لأهل الإيثار، كما في قـوله تعالــى:          [ الحشر : 9 ].

(10) تعلّموا : أين هي الصفقة الرابحة؟!
فالأغنياء والتجار يبحثون ضمن الإعلانات وفي الأسواق وفي التصدير والاستيراد عن الصفقات التجارية الرابحة.
يقول تعالى:  •      •   •  [ التوبة : 111 ].
الصفقة الرابحة، إذن أن تستخدم المال الذي وهبه الله تعالى إياك واستخلفك عليه وجعله مادة ابتلاء، وامتحاناً لك، أن تستخدمه في سبيل الله جهاداً، وأن تستخدمه للإنفاق على الفقراء والمساكين وطلاب العلم والأرامل واليتامى والأيامى والمحتاجين.
كل هذه الوصايا والمواعظ الموجهة إلى الأغنياء كي لا تطغى الماديات بألوانها وزخارفها فتجرفهم إلى مستنقعات الدنيا، وحين تتمكن هذه الماديات من القلب يحبها ويعيشها وينسى وقتئذٍ المنعم الحقيقي، والمتفضل الحقيقي جل وعلا، ويبتعد عن كل وعظ ونصيحة، فيقسو قلبه ويمرض بمرضٍ خطير ألا وهو جفاف النفس والروح...
  

خـــاتــمــــــــــة

سُئل أعرابي – كما في الإمتاع والمؤانسة – عن حدّ الشبع؟!
قال : أما عندكم يا حاضرة فلا أدري، وأما عندنا في البادية: فما وجدت العين، وامتدت إليه اليد، ودار عليه الضِّرس، وأساغه الحلق، وانتفخ به البطن،واستدارت عليه الحوايا، واستغاثت منه المعدة، وتقوست منه الأضلاع، والتوت عليه المصارين، وخيف منه الموت!!
وقد أحسن شمس الدين محمد بن طولون الصالحي رحمه الله في كتابه: (دلالة الشكل على كمية الأكل) عندما بيّن حكم الإسلام في الأكل فوق الشبع.
حيث أكّد رحمه الله أن الأكل فوق الشبع يحرم، إلا إذا قصد التقوّي على صوم الغد، أو لئلا يستحي الضيف. كما لا تجوز الرياضة بتقليل الأكل حتى يضعف عن أداء العبادات، ومن فعل ذلك أثم.
وفي كتاب (الاكتساب في الرزق المستطاب) لمحمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تفصيل وبيان حيث يقول ابن الحسن رحمه الله: ثم السرف في الطعام أنواع، فمن ذلك الأكل فوق الشبع؛ لقولـه عليه الصلاة والسلام: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطن، فإن كان لابد فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس)، وقال عليه الصلاة والسلام: (يكفي ابن آدم لقيمات يقمن صُلبه) ولا منفعة في الأكل فوق الشبع، بل فيه مضرّة، فيكون ذلك بمنزلة إلقاء الطعام في مزبلة أو شرًّا منه ولأن ما يزيد على مقدار حاجته من الطعام فيه حق غيره، فهو في تناوله جانٍ على حق الآخرين، وذلك حرام.
ولأن الأكل فوق الشبع ربما يمرضه، فيكون ذلك كجراحته نفسه. إلا أن بعض المتأخرين رحمهم الله استثنى من ذلك حالة إذا كان له غرض صحيح إلى الأكل فوق الشبع، فحينئذ لا بأس بذلك، بأن يأتيه ضيف بعد تناوله مقدار حاجته فيأكل مع ضيفه لئلا يخجل، وكذا إذا أراد أن يصوم من الغد، فلا بأس بأن يتناول بالليل فوق الشبع ليتقوى على الصوم بالنهار.
ولذا قال النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم: وما جاء في كراهة الشبع فمحمول على المداومة عليه؛ لأنه يقسي القلب، ويُنسي أمر المحتاجين.
ومن باب الطرافة واللطافة أورد ابن طولون في كتابه أخبارًّا نادرة عمن عُرف بالشراهة في الأكل، زيادة على طاقة البشر المعهودة وأتبع ذلك بذكر الأسباب الطبية والطبيعية التي تؤدي إلى ذلك ومضارها، ثم نبّه ووعظ وأورد آداباً إسلامية عند إقبال الطعام والانتهاء منه.
وأجمل ما في كتاب ابن طولون ما أورده عن مذاهب الناس في الأكل، حيث جعلها في عشرين قسماً، بعضها صحيح واقع، وبعضها تاريخي لم يعد له وجود، وبعضها غريب. قال ابن طولون رحمه الله: قال شيخنا أبو المحاسن ابن المبرد الحنبلي: قد اختلف الناس في حد الأكل على مذاهب: جدية وهزلية. ومن ذلك:
المذهب الأول : الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقيمات يقيم بها الصلب).
المذهب الثاني : الشبع حتى تكتفي النفس ولا يقدر على الزيادة.
المذهب الثالث : مذهب الرؤساء والأكابر.
المذهب الرابع: مذهب الأمراء والأجناد.
المذهب الخامس : مذهب الفقهاء.
المذهب السادس: مذهب الصوفية.
المذهب السابع: مذهب الفقراء.
المذهب الثامن: مذهب المغاربة.
المذهب التاسع: مذهب العوام.
المذهب العاشر: مذهب البخل.
المذهب الحادي عشر: مذهب الطفيليين.
المذهب الثاني عشر: مذهب الأعراب.
المذهب الثالث عشر: مذهب المنتجعين.
المذهب الرابع عشر: مذهب الحشائين.
المذهب الخامس عشر: مذهب المشّائين.
المذهب السادس عشر: مذهب الشّرهين.
المذهب السابع عشر: مذهب المسرفين.
المذهب الثامن عشر: مذهب البطرين.
المذهب التاسع عشر: مذهب اليساريين.
المذهب العشرون: مذهب الجزّارين.
جاء في كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، قيل لبعضهم ما حدُّ الشبع؟ قال أن يُحشى حتى يخشى. وقيل لآخر: ما حدّ الشبع؟ قال: أن تأكل حتى تدنو من الموت.
وفي بهجة المجالس لابن عبد البر القرطبي رحمه الله: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب يوماً. فقال: إياكم والبطنة فإنه مكسلة عن الصلاة، مؤذية للجسم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أبعد عن الأشر، وأصح للبدن، وأقوى على العبادة. وإن امرءاً لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
وتجدر الإشارة إلى أن الأكل الكثير يكون من أمور:
1- احتراق وشدة حرارة مزاج.
2- صحة معدة وحسن هضم.
3- اتساع المحل وموضع الغذاء.
4- ترك التسمية على الطعام والشراب.
5- تقدم جوع، فإن من تجوّع يأكل.
6- تقدم مرض، فإنه يحصل للبدن فيه خلو من الأكل، فإن عوفي أكل.
7- كفر ونفاق، كما صح الحديث عن رسول الله : (المؤمن يأكـل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) [ صحيح البخاري ].
ولا شك أن كثرة الأكل تورث التخم والريح الغليظة في البدن، لا سيما في المعدة والأعضاء الباطنة، وتورث السُّدد وتحدث السِّمن والترهل وكثرة البلغم والكسل والنوم والبلادة.
وقد ورد عن لقمان الحكيم قوله لابنه : يا بني، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة.
وقديماً قيل: من أكل كثيراً شرب كثيراً، ومن شرب كثيراً نام كثيراً، ومن نام كثيراً فاته خيرٌ كثير.
وما أحرى كل مسلم ومسلمة أن يتبع هدي رسول الله  الذي أمرنا بالتسمية قبل الأكل والأكل باليمين والأكل مما يلي الآكل ولعق الأصابع للبركة والأكل بثلاث أصابع ولعق القصعة وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح الأذى عنها وأن يكون الأكل أثلاثاً ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للتنفس. كما صح عن رسول الله : (فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه).
وقد قال بعض الأطباء: إن الناس لو عملوا بهذا الحديث لم يسقم أحد!!.
قيل لأحد الأكالين : ما هو حد الشبع عندك؟! فأجاب: أن آكل حتى أبدو مدوّراً كالكرة، بحيث يمتليء جميع جوانبي، حتى يكون بالإمكان أن أتدحرج في أية وضعية كنت، على الظهر، أو البطن أو الجنب!!.
أين حال هذا الأكول من هدي رسول الله  القدوة الصالحة والأسوة الحسنة، وصدق سبحانه القائل:          [ الأحزاب: 21 ].
هذه بعض الرسائل الاقتصادية المهمة أبعثها إلى إخواني عبر بريد الأخوة معبقة بالـحُب والـمـودة فيها النُصح والإرشاد والتنبيه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالـمين.

أخوكـــم
د. زيد بن محمد الرماني
عضو هيئة التدريس
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

الحوار الداخلي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك