تعلمت من زوجتي دروسا في التخطيط والإدارة!!
تعلمت من زوجتي دروسا في التخطيط والإدارة!!
قالت لي بعفوية الحديث بين المرأة وزوجها البعيد عن الرسميات: ضيعت نص عمرك تتعلم إدارة، أقدر اشرح لك الموضوع بنص ساعة، بس لو تتنازل وتسمعني يا.. صاحب الإدارة والتخطيط الاستراتيجي.
ضحكت وقهقهت من قلبي.. وقررت أن أثبت عجزها وأن ألقنها درسًا حال فشلها؛ لأنزل عليها العقوبة المناسبة إذا عجزت، فأضمرت في نفسي أمرين:
الأول: أعطيها الوقت الكافي لتقول ما تشاء.
والثاني: أسمع باهتمام لما عندها؛ لأكتشف الأخطاء قبل أن أفكر بالانتقام من تحديها المُر.
قالت: إذا جمعت لي الناس -على عادتك- وتريد لهم ضيافة غداء تعرف كيف أخطط يا.. يا مدير.
قلت: هاتي.. الله يصبرني.
قالت: أسالك قبل الموعد بوقت كاف ولا لا؟ مش تجي في نفس اللحظة وتريد غداء، سأرفض طلبك وأرفض استقبال ضيوفك، وأقول لك غديهم أنت في السوق.. صح؟
قلت: صح..
حينها أطرقت مفكرًا.. لقد تذكرت مبدأ من أهم مبادئ التخطيط، وهو أنه يجب أن يبدأ قبل العمل (وجوبًا إداريًا)، ولا يصح التخطيط أثناء العمل أو قبله بوقت قصير وغير كاف، كل ذلك من أجل الاستعداد اللازم لتنفيذ الهدف على أكمل وجه.
قالت: مالك مدوخ.. ايش فيك، كلامي صح قلت، وأنا بين مغالبة الضحك ومحاولة كبت الغضب.. صح.
قالت: أسالك عن عدد الضيوف، واقترح عليك نوع الغداء، ومستوى الطبخ ومكان الوليمة.. صح؟
قلت: فعلًا صح..
وتذكرت حينها أهداف التخطيط، وأنه لا توجد خطة صغيرة ولا كبير إلا بهدف أو أهداف صغيرة أو كبيرة، ولا توجد البتة خطة بدون هدف؛ لأن الهدف غاية والخطة وسيلة للوصول إليه، فلا يمكن الانشغال بالوسيلة إذا غاب الهدف، ويجب أن تكون تلك الأهداف واضحة محددة واقعية قابلة للقياس محددة بزمن له بداية ونهاية، يعني smart.
نظرت مستغربة من صمتي الطويل وبماذا أفكر..
ثم واصلت:
- اطلب منك توفير الطلبات كاملة
- اطلب منك احتياطي زيادة في كمية الطلبات.
- اطلب منك تجهز المبلغ المطلوب لتوفير الطلبات.
- اطلب منك إحضار لي ثنتين من خواتي من بيت الوالد يساعدوني بجانب أولادي.
- اطلب وصول الحاجات في الوقت المحدد بالضبط.
صح.. ولا لا؟
قلت بإعجاب: صح والله صح.
تذكرت حينها الموارد المالية والمادية والبشرية الواجب توفيرها من أجل التنفيذ الخطة وتحقيق الهدف.
وتذكرت الخطة البديلة (الاحتياط) لمواجهة الطوارئ في الخطة الأساسية.
قالت: عند توفر الطلبات ووصول الأخوات ابدأ بأموري كالتالي:
- نخطط سويًا بسرعة ما نعمل، ونحدد طريقة ترتيب السفرة ونوع الطعام وطريقة التقديم.
- نحدد متى ينتهي العمل تماما والتي ستكون قبل اللحظة التي يأتي فيها الضيوف بوقت مناسب.
- أوزع الشغل عليهن واحدة تنظف وتبخر المكان.
الثانية تساعدني في طبخ الطعام.
- الأولاد يحضرون الطلبات الناقصة ويساعدونا في وقت التقديم.
- التأكد من جاهزية كل شيء.
- الانطلاق نحو العمل.
قلت: نعم.. صدقتِ..
- وتذكرت القاعدة الذهبية، "ابدأ وعينك في النهاية" من قواعد الإدارة، وربما وضوح الرؤية إن جاز التعبير، والمعنى ارسم أولا كيف تتصور نهاية العمل بتفاصيله الدقيقة، وبناء على ذلك ارسم خطتك التنفيذية، فإن قدر الوضوح والدقة في تصورك لهدفك، يساعد كثيرًا في الوصول إليه.
- وتذكرت معنى الخطة التنفيذية (التشغيلية).
قالت: في الوقت المحدد يبدأ العمل وفي الوقت المحدد لنهايته (يجب) أن ينتهي.
قالت: فإذا انتهى العمل، وجاء الضيوف نبدأ بالمرحلة التالية وهي الغداء وكل ما خططنا له بكل حذافيره، ونمنع الاجتهاد من أي طرف (خاصة أنت لابد أن تترك اجتهاداتك جانبا) حتى لا تتلخبط الأمور.. صح ولا عندك اعتراض.
الآن فعلًا أيقنت أني أمام عقلية رغم بساطتها، لكنها تضع خطة عمل بسيطة وسليمة للغاية.
وأدركت أن المرأة هي المدير التنفيذي في (مؤسسة) المنزل، وأنا.. الرئيس.
فكما يجب عليها طاعتي في تنفيذ رؤيتي ورغباتي... ومن غير نقاش (إلا أحيانًا)، وذلك خوفًا أن تعيقني عن غايات وأهداف بعيدة أنا أفكر فيها، وهي لا تدركها، فمنعا من حدوث ذلك واستباقًا للأحداث، وقطعا للطريق عليها، اضطر لأن أكلفها بالتنفيذ، من غير نقاش، وأمارس معها دكتاتورية (منزلية مبسطة ومؤقتة) لكنها مبررة ولي عذري فيها، فليس كل دكتاتورية مرفوضة، بل قد تجب خصوصا وقت الأزمات والطوارئ.
قالت بضيق: يا ليتني أعرف أين يشرد ذهنك عني.. هل هذا وقت تفكر فيه (بغيري).
فانفجرت ضاحكًا.. وقلت لها: (أنت فين وأنا فين) يا لله واصلي الشرح يا سيادة المديرة (أقصد مديرة البيت والمطبخ) انتن هكذا معاشر النساء.
قالت: فإذا تغدا الضيوف وانصرفوا، نبدأ في التجهيز للمرحلة الأخيرة من العمل، وهي إعادة الأوضاع في المطبخ إلى ما كانت عليه كالتالي:
- نحدد العمل
- نوزعه بيننا
- نحدد زمن البداية وزمن النهاية.
فتذكرت مراحل العمل، وان المرحلة التالية، يجب ألا تبدأ إلا بعد الانتهاء من المرحلة الأولى، فأي تداخل بينها قدر يربك ويخرب أكثر من أن يصلح.
وإن شئت قل: مداخلات المرحلة الثانية هي مخرجات المرحلة الأولى، ومداخلات المرحلة الثالثة هي مخرجات المرحلة الثانية.. وهكذا.
قالت: هذا يا سيدي المدير كل ما في الأمر.
ثم قلت لها رائع فعلًا.. قلتها مع إعجابي بلفظة سيدي؛ لأنها تهاجمني من أول الكلام وتزعم أن لديها علما غزيرا تتطاول علي به.
طبعًا لا أخفيكم، في هذه اللحظة انبسطت غاية الانبساط من البساطة في التفكير والتلقائية في الطرح والوضوح في الأهداف والإجراءات والمراحل والإمكانيات... شيء عجيب فعلًا.
وتساءلت هل نستطيع أن ندير مؤسساتنا بهذه البساطة؟
أم ترى هل نضطر إلى أخذ دورات قصيرة في فن بساطة الإدارة المطابخ عند نساءنا في البيوت؟
قلت لها: مذكرًا لا معاتبًا؛ لأني أحسب أنها أنهت كل ما يجب عليها من أساسيات التخطيط.
قلت لها: لقد نسيت شيئًا مهمًا، وهو أهم شيء تركزين عليه بعد كل وليمة.
قالت: وما هو؟
قلت: حاولي تعرفين.
ففكرت قليلًا ثم قالت ضاحكة.. غديت ضيوفك وروحوا.. والسلام.. بقي ترضى أنت، وهو أهم شي عندي.
قلت: يا مديرة المطابخ.. وربة البيت السعيد.. بعد كل وليمة تسأليني بالتفصيل عن مستوى الغداء وهل أعجبهم.. وكم التكاليف.. هل نفس الذي حددنا أم لا.. صح؟.
قالت: أوووه.. والله صح... كيف نسيت مع أنها أمتع لحظة عندي؛ لأني اشعر بالإنجاز وتحقيق الهدف، وبصراحة مادام تكلمت.. أنا دائما افتح معك الموضوع؛ لأني أريد أن أسمع منك اكبر قدر من كلمات الثناء والإعجاب عن طبخي وعن طاعتي لك وإكرامي لضيوفك، وعن حسن تدبيري.
وأنا أعتب عليك بصراحة.. بصراحة أنك تنسى تقول لي هذا الكلام على بساطته وعظيم أثره عندي.
حينها، استشعرت أمورا مهمة في علم الإدارة منها:
- ضرورة تقييم العمل بعد الإنجاز ومقارنة المداخلات بالمخرجات وقياس الانحراف، وهل حقق الهدف ومستوى التحقيق وهل يبرر المصروف عليه من التعب والمال.
- عامل التحفيز مهم.. مهم للغاية؛ لأنه من المبادئ الإدارية التي تجعل العامل يتفانى في تقديم الخدمة وينفذ الأوامر القادمة بكل حماس.
- وللعلم هذا العامل (التحفيز) ينساه الكثير من المديرين (كما نسيته أنا، غفلة لا تعمدًا) ويهتمون بإنجاز الأعمال على حساب العاملين، فهل تحتاج أن يذكروك أو يعاتبوك، كما فعلت معي زوجتي.
قلت لها: بقي أمر واحد فقط وأخير.
قالت: لحظة ذكرتني بأمر مهم... تأكد إني لن اسمع لك أي أمر برغبة تامة، إلا إذ رضيت عن جهدي وعبرت لي عن ذلك، وإلا فاني سأطيعك لعظيم حقك علي، لكنها طاعة جافة، منزوعة الرغبة والإبداع والتفنن والابتكار في طرق رضاك، لقد قتلت كل هذا بيديك، بسبب بخلك بمجرد كلام، فلا تلمني حينها، ووجه اللوم إلى نفسك وأسلوبك الخشن في إدارة شئون المنزل.
قلت: الأمر الأخير.. هل كنت تلاحظين أني كل مرة يأتينا الضيوف أو حينما أكلفك بأي مهمة أخرى، كنت دائما أمر عليك قبل انتهاء العمل بساعة على الأقل، لا تأكد أن كل شي على ما يرام.
قالت: نعم وما العجب في ذلك... كنت أحيانا أحب هذه الزيارة، وأحيانا أتضايق منها.
أحبها لأني اشعر بالدعم والثقة، وأنك معي إذا حصل خلل أو خطأ أو نقص ما، وأتضايق خوفا من النقد إذا لاحظت خطأ ما.
حينها تذكرت ما يسمى بالرقابة الإدارية (أثناء العمل) وأن أشهر أنواع الرقابة صنفان، أثناء العمل وبعد العمل، فإما ما يكون منها أثناء العمل، فانه يعطي فرصة سانحة لتفادي الأخطاء الصغيرة وربما الجسيمة، ويوفر من المال والجهد الشيء الكثير.
وأما رقابة بعد العمل فهي تقييميه لن تتفادى الأخطاء الماضية، لكنها تكسب منها العبر لتفاديها في المرات اللاحقة.
لاحظت أن كثير من المدراء يهملون النوع الأول من الرقابة، فيستفحل الخطأ وهم مشغولون عنه بأمور أخرى، فلا تسل كم تتحمل المؤسسات من الأخطاء الرقابية القاتلة.
وفي الأخير:
وبعد هذا الحوار الساخن، أدركت أن كل الناس يفهمون الإدارة بطرقهم الخاصة، كأنها فطرة الله التي فطر الناس عليها. فيستطيع الناس امتلاك الحد الذي يستطيعون به تسيير أمور حياتهم، رحمة من الله وفضل حتى لا يضطرون لأخذ (كورسات) مخففة أو مكثفة في الإدارة من أجل ذلك.
وما عملته الإدارة الحديثة هو تأصيل هذا العلم الفطري، وتطويره أكثر وجعله ذي كفاءة وفعالية أكبر وأن يكون مناسبا لمواجهة تحديات العصر وإدارة المنشآت الصغيرة والكبيرة وحتى المنظمات عابرات القارات، وحكومات الدول ما صغر منها وما كبر، والتنظيمات المعقدة ما ظهر منها وما بطن.
ملاحظة مهمة:
هذا الحوار افتراضي من خيال الكاتب ولم يحصل البتة.. ويهدف للوصول إلى شرح المعاني البسيطة في التخطيط والإدارة.. فإن شاء الله وصلت الفكرة.