التعصب الخفي

التعصب الخفي

ماهر القرشي

 

قبل الدخول في دهاليز التعصب الخفي وأسراره، من المهم التفريق النظري بين التعصب المحمود والتعصب المذموم من حيث الأصل، ووضْع حد فاصل بينهما؛ يسهل علينا مهمة اكتشاف التعصب الخفي وإخراجه من حيث يختبئ.

التعصب المحمود هو التعصب للحق أولاً ولأتباع الحق ثانيًا، وقد بين الله تعالى هذا الترتيب في كتابه: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالذِينَ آمَنُوا فَإِن حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] فقدم ولايته -سبحانه- وولاية رسوله -عليه الصلاة والسلام- على ولاية المؤمنين في الآية الكريمة تنبيهًا على ضابط التعصب المحمود في الشريعة الذي يبدأ من الحق وإليه يعود. وفي صحيح مسلم: "لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدينُ قَائِمًا، يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتى تَقُومَ الساعَةُ"، وفيه دليل على أن ثمة تعصبًا محمودًا في الشرع. أما التعصب المذموم فهو التعصب للآراء والأهواء المذمومة في الشرع؛ ومن ذلك التعصب للآباء والأجداد: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمةٍ وَإِنا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، وفي صحيح مسلم: "مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِميةٍ، يَدْعُو عَصَبِيةً، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيةً، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيةٌ".

إلى هنا يبدو الأمر واضحًا؛ ولكنه قد يكون أقل وضوحًا مع "التعصب الخفي" الذي يشبه -إلى حد ما- دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء؛ إذ هو التعصب لطائفة الحق أكثر من التعصب للحق نفسه، بحيث تكون الأدلة الشرعية لدى الفرد ليست الشرط الوحيد لمعرفة الحق وقبوله، فثمة شرط آخر لقبول الحق والاطمئنان إليه وهو موافقته لخيار من ينتمي إليهم فكريا. والذي يبرز هذه الظاهرة ويزيدها وضوحًا: انتظام خيارات الفرد بشقيها الفقهية والفكرية في خط واحد، يستحيل معه تفسير كل هذه الخيارات المتوافقة بأنها نابعة من النظر الشرعي المحض. ولست أعني هنا الحق البين أو مواضع الإجماع، ولكني أعني تحديدًا المواضع التي دون ذلك، والتي يجد فيها التعصب الخفي ملاذه الأخير ليختبئ تحت أثواب الصالحين.. وهو وإن كان سبب خفائه تمظهره بالتجرد للحق والدفاع عنه، غير أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن نفسر به هذه الملاحظة أن هذا الخط الواحد من الاختيارات الشرعية والفكرية الذي يجمع بين الفرد والتيار بصورة منتظمة، ليس النظر الشرعي وحده، وإن كان النظر الشرعي هو اللغة الظاهرة لتبرير ذلك الاختيار الشرعي، ولكنْ ثمة عامل آخر يفسر هذا الانتظام الفكري اللافت، وهو ضغط الاتجاه الفكري على خيار الفرد.

قد يكون التعصب الخفي واضحًا لدى الكثير؛ وذلك إذا توقفنا عند حدود النظرية والمفهوم، ولكنه لن يكون -ربما- بنفس درجة الوضوح لدى البعض الآخر عند الغوص في أعماق التطبيقات والممارسات.

أصل التعصب لأتباع الحق صحيح، ولكن الإشكال حين يكون التعصب لأتباع الحق أكثر فعالية ونشاطًا من التعصب للحق ذاته. وقد سمى الله تعالى العلماء الذين يُطاعون دون بصيرة وهدًى أربابًا من دون الله، كما عند الترمذي وغيره وحسنه الألباني عَنْ عَدِي بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النبِي -صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ- وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: "يَا عَدِي، اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ"، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة: 31]، قَالَ: "أَمَا إِنهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلوهُ، وَإِذَا حَرمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرمُوهُ".

ههنا مسألة مهمة: هل ثمة فرق بين طائفة الحق وبين الحق نفسه؟ قد يغيب عن البعض أن طائفة الحق قد تخطئ، في حين أن الحق يبقى حقا في كل الظروف، بمعنى أن الحق لا يساوي طائفة الحق إلا في حالة واحدة فقط وهي حالة الإجماع؛ وما وراء ذلك فحالهم دائر بين الصواب والخطأ والأجر والأجرين دون القطع بعين الصواب وعين الخطأ من ذلك، وإن كانت حالة الصواب هي الغالبة على أحوالهم. ولكن -مع ذلك- هل يكفي للتعرف على الحق: البحث عن أهله فقط أم لا بد مع ذلك من معرفة أدوات البحث عنه؟ أعرف أن هذا سؤال أصولي قديم يرتبط بباب التقليد وشروطه؛ ولكنني ههنا أقصد أول ما أقصد أولئك الذين يبحثون عن أدوات العلم وطرق تحصيله، ومع ذلك تجد الواحد منهم يفشل - عمليا- عند أول نازلة فقهية، حين يقيس الصواب والخطأ في تلك النازلة على ميزان من ينتسب إليهم ويتعصب لهم، وإن كان لا يفشل بذات الدرجة من الناحية التنظيرية العلمية!.

  

المصدر: نوافذ/الإسلام اليوم.

الأكثر مشاركة في الفيس بوك