التصور الإسلامي للعلاقة مع الآخر

 

التصور الإسلامي للعلاقة مع الآخر

اولا- مقدمات:

1- العلاقة مع الآخر : المفهوم و الأهمية

          يدخل ضمن مصاديق الاخر كل ما هو غير الذات المعنية. و الذات (المعنية) يمكن ان تكون هي الذات الالهية او ذات أي مما في هذا الوجود من الكون، حيا كان ام جمادا و ماديا كان ام معنويا، و الانسان و منتجاته سواء المادية او المعنوية بما فيها الثقافة. و كل ذات هي اخر  بالنسبة لغيرها سواء كانت بينهما علاقة ام لم تكن. و يتضح بذلك ان ثنائية الذات- الاخر هي، في مفهومها العام ، ثنائية تستغرق الوجود كله أي ان الوجود كله يمكن تقسيمه الى ذات واخر.

و العلاقة مع الاخر ترمز الى وضع التفاعل بين ذات ما و الاخر. و باستثناء الذات الالهية لا تستطيع أي ذات اخرى ان تستغني عن هذه العلاقة كليا وذلك لسبب بديهي بسيط هو انه ما من ذات في هذا الوجود، عدا الذات الالهية، تقوم بذاتها مما يعني انها بالضرورة  في حاجة الى اخر بينما لا يمكنها الوصول الى حاجتها هذه دون الدخول في علاقة مع الاخر الذي تحتاج اليه. اذن الحاجة هي اساس العلاقة بين الذات و الاخر، أي سبب قيامها و استمرارها، حيث ان تلك الحاجة و الرغبة في اشباعها او استيفاءها هي ما يدفع الذات للدخول في علاقة مع الاخر  لانه بدون مثل هذه العلاقة يتعذر عليها   استيفاء او اشباع  تلك الحاجة. و لايقتصر المعني بالحاجة هنا على ما جرى العرف على اعتباره حاجة مما تفتقر اليه الذات او تجد رغبة او دافعا لتملكه او استهلاكه او استعماله بل يتسع ليشمل ايضا كل ما يفيد الذات او ترغب في ان تعطيه للاخر، فكما تحتاج ان تأخذ( من الاخر) تحتاج الذات احيانا ان تعطي( للاخر). و الحاجة منها ما هو وجودي (ضروري) لا يمكن الاستغناء عنه و منها ما هو غير ضروري او -  بلغة فقهاء الاصول- تحسيني او تكميلي يمكن الاستغناء عنه.  

و لان ، كما اتضح، حاجة الذات الى الاخر هي،  في حدها الادني، حاجة وجودية أي يتوقف عليها وجود الذات فكذا علاقة الذات مع الاخر هي، في حدها الادني، علاقة وجودية أي يتوقف عليها وجود الذات. و الواقع ان الوجود كله هو عبارة عن وحدات بينها علاقات تتوقف عليها وجود تلك الوحدات. و يتعذر تصور استمرار الوجود على ما هو عليه  لو حدث انفراط في ما بين وحداته من علاقات وجودية ( تخيل، مثلا، انفراط العلاقة بين الكواكب و الاجرام) . و من هنا يصح القول انه كلما استقامت العلاقات بين وحدات هذا الوجود ( الطبيعي و الاجتماعي)، والتي هي اساسا مجموعة علاقات بين ذوات و اٌخر، كلما استقامت امور و احوال الوجود عامة و المجتمع البشري خاصة و كلما اختلت نلك العلاقات كلما  اختلت امور و احوال الوجود عامة و المجتمع البشري خاصة.

          و وفقا لما تمهد من المفهوم الواسع للذات و الاخر، يتضح انه  يمكن لاي مما في هذا الوجود ان يمثل طرفا من  اطراف العلاقة مع الاخر او علاقة الذات- الاخر  مما يعني ان اطراف العلاقة مع الاخر تتعدد بقدر تعدد اطراف او وحدات هذا الوجود. على انه  يمكن التمييز عموما بين نوعين من العلاقة مع الاخر  بناء على نوع او هوية اطرافها  حيث يمكن تقسيم هذه الاطراف تقسيما ثنائيا  الى نوعين هما الطرف البشري أي الانسان و الطرف غير البشري و يشمل كل طرف عدا الانسان. و عليه فان العلاقة مع الاخر يمكن ان تكون اما علافة بشرية حيث يمثل احد او كلا طرفيها  انسان و اما علاقة غير بشرية أي ليس من بين اطرافها الانسان.

و ما يعنينا هنا من العلاقة مع الاخر هو ما كان منها في اطار العلاقات البشرية أي ما كان بعض او كل اطرافها من البشر لانها هي العلاقة التي يشكلها الانسان بحيث تقع عليه مسئولية اختلالها او فسادها و يعود اليه فضل استقامتها. و من بين العلاقات مع الاخر التي تقوم بين اطراف بعضها او كلها من البشر تعنينا هنا اكثر العلاقات مع الاخر  التي تقوم بين اطراف بعضها او كلها من الذات الاسلامية.

والمعني بالذات الاسلامية هنا هو الذات التي تنتمي الى او تتبنى- بغض النظر عن درجة الالتزام الفعلي- المنهج الاسلامي  في علاقاتها مع الاخر . و يصدق ذلك، في عالم الشهود، على الذات الانسانية المسلمة و مؤسساتها كالمجتمع و الدولة و نشاطاتها او نتاجاتها  كالاقتصاد و الثقافة . اما الاخر الذي تقيم او تدخل الذات الاسلامية معه في علاقة فليس بالضرورة، و ان كان يمكن، ان تكون ذاتا اسلامية اخرى بل يشمل كل اخر بشري او غير بشري. و هكذا فان علاقة الذات الاسلامية  مع الاخر تشمل كل علاقة يقيمها الفرد المسلم او مؤسساته، كالمجتمع و الدولة، او نشاطاته و نتاجاته كالاقتصاد و الثقافة مع أي اخر  بشري او غير بشري و مادي  او معنوي  و مسلم او غير مسلم . و مع ان  الواضح ان علاقة الذات الاسلامية مع الاخر تتضمن علاقات بين اطراف غير بشرية، كالثقافة الاسلامية مع ثقافة غير اسلامية، الا انه يظل الانسان العنصر المشترك والاساسي في كل علاقات الذات الاسلامية مع الاخر لانه يبقى الوسيط الدي تتفاعل من خلاله كل الذوات الاسلامية غير البشرية. و على  سبيل المثال فان الدولة الاسلامية يتعذر عليها ان تتفاعل مع دولة غير الاسلامية او دولة اسلامية اخرى الا من خلال توسط العنصر البشري.

و  بالمفهوم المذكور انفا، تعد علاقة الذات الاسلامية مع الاخر بعض العلاقة مع الاخر عموما حيث انها لا تشمل علاقات الذوات غير الانسانية مع الاخر  كعلاقات المخلوقات الطبيعية مع بعضها البعض كما لا تشمل علاقات الذوات الانسانية التي ليس بين اطرافها ذات انسانية اسلامية.

و اهمية علاقة الذات الاسلامية مع الاخر لا تنفصل عن ما تقدم عن اهمية العلاقة مع الاخر عموما لان الذات الاسلامية مثلها مثل أي ذات اخرى لا تقوم بنفسها. و تكتسب علاقة الذات الاسلامية مع الاخر اهمية خاصة لكونها تشهد حاليا اختلالات خطيرة  يعزوها البعض الى الذات الاسلامية  و تصورها للعلاقة مع الاخر بينما هي تزعم ان تصورها للعلاقة مع الاخر هو الافضل.

 

2- مصدر التصور الاسلامي للعلاقة مع الآخر:

          ليس هناك خلاف في ان  المصدر الذي يتعين ان يُستقى منه التصور الاسلامي عموما، أي سواء في ما يتعلق بالعلاقة مع الاخر  او أي شأن غيره، هو كلام الله . و تتعدد و تتباين تعريفات "الكلام" الواردة في المعاجم اللغوية الا ان التأمل في السواد الغالب من تلك التعريفات يسمح باستنتاج تعريف ( وظيفي) يعكس روح و مضامين و ربما، احيانا، منطوق تلك التعريفات، و مفاد هذا التعريف هوان "الكلام هو  ما يفيد معنى ما". و ما يمكن ان يفيد معنى ما ليس هو، كما يتبادر للذهن عادة، القول فقط  اذ ان الفعل ايضا قد يفيد معنى ما. و الفعل المفيد للمعنى يمكن ان يكون سكونا له معنى، كالسكوت او الصمت المعبر، و يمكن ان يكون حركة تتخذ اما شكل الاشارة، كالاشارات الرمزية المتفق على معان لها، و اما شكل العمل او الخلق المعبر. و الواقع ان القول نفسه هو- عند التحقيق-  فعل ( فعل اللسان) له معنى.  و الاسلام كما يعتبر القول مفيدا للمعنى يعتبر الفعل ايضا مفيد للمعنى و مما يؤكد ذلك من النصوص مثل قوله تعالى( اعملوا آل داوود شكرا) و من الاحكام مثل اعتبار افعال الرسول (ص) حجة لانه لو لم تكن لها معاني لما صلحت ان تكون حجة.

و اذا ترجح ان الكلام هو ما يفيد معنى ما و ان كلا من القول و الفعل يفيدان المعنى لا يبدو ان هناك مبررا لرفض كون الفعل ، كما القول ، كلام . و اذا تقرر ان الفعل ايضا كلام تبين ان كلام الله ليس هو- كما يفيد الفهم السائد- قوله فقط و انما هو قوله وفعله. و قول الله هو كلامه المقول او الملفوظ أي القرآن  بينما فعله هو كلامه المفعول اوالمجسد أي الوجود. و كما ان التأمل في القران يكشف لنا احكام الله و تعليماته فكذا التأمل في الوجود، بشقيه الطبيعي و الاجتماعي، يكشف لنا احكام الله  وسننه و تعليماته و هو ما يوضح لنا مغزى ما يتضمنه القران من ايات متكررة تأمر بالنظر و التدبر في الوجود و كذا مغزى اطلاق النصوص الدينية احيانا اسم او وصف الكلمة على بعض الوجود المجسد كالرسل.

و القول بان كلام الله يشمل قوله و فعله لا يستلزم القول باستواء قول الله و فعله من حيث و ضوح الدلالة او المعنى  للبشر فالبشر عادة اقرب لتبين مدلول الكلام المقول منهم لتبين مدلول الكلام المفعول او المجسد، و لا شك ان  اختلاف وضوح الدلالة يستلزم ترتيبا يقدم القول على الفعل . بيد ان ذلك لا يقدح في كلامية فعل الله اذ ان حتى اقوال الله المتضمنه في  كلامه المقول لا تستوي من حيث وضوح دلالاتها للبشر اذ منها المحكمات و المتشابهات و منها- وفقا للاصطلاح الفقهي- الظاهر و النص و الخفي و المشكل و..الخ. و كما يتفاوت وضوح دلالات اقوال الله في ما بينها يتفاوت كذلك وضوح دلالات افعال الله حيث ان دلالة السنة النبوية الصحيحة اوضح عموما من دلالات الوجود الطبيعي و دلالات الوجود الطبيعي اوضح عموما من دلالات الوجود الاجتماعي. و كما انه ليس من كلام الله المقول  قول البشر فكذلك ليس من كلام المفعول/ المجسد فعل الانسان  أي ان قول و فعل الانسان و ان كانا جزءا من الوجود فانهما ليسا من كلام الله لكونهما يصدران عن ارادة الانسان الذي ميزه الله بحرية القول و الفعل.   

و نخلص مما تمهد الى ان مصدر التصور الاسلامي للعلاقة مع الاخر ، و هو كلام الله، يتمثل في قول الله أي القران و فعل الله أي الوجود الطبيعي و الاجتماعي   ويشمل السنة التي اوحى الله بها الى رسوله  و العقل الذي منحه الله الانسان. 

 

ثانيا- الملامح  والاصول العامة العامة للعلاقة مع الاخر في التصور الاسلامي:

         

يفيد التصور الاسلامي للعلاقة مع الاخر ان هناك ملامح عامة تشترك فيها كل اشكال و انواع العلاقة مع الاخر و بغض النظر عن اطرافها بينما هناك قواعد و اصول عامة تخص كل نوع من انواع العلاقة مع الاخر . و نكتفي هنا بالاشارة الى بعض الملامح العامة لعموم العلاقة مع الاخر لننتقل منها الى التركيز على الاصول العامة لعلاقة الذات الاسلامية مع الاخر:

 

1- الملامح العامة للعلاقة مع الاخر:

          مهما تعددت تعينات او مصاديق الذات و الاخر على النحو المشار اليه سابقا و تعددت معها صور و اشكال العلاقة مع الاخر تبقى هناك من منظور التصور الاسلامي ملامح عامة او قواسم مشتركة تصدق على كل علاقة مع الاخر بغض النظر عن طبيعة او ماهية طرفيها او اطرافها. و لا يسع المقام تتبع كل تلك القواسم او الملامح  المشتركة بيد ان ضرورة التوضيح بامثلة تتطلب ان نشير و لو الى  ملمحين فقط:

-         علاقات موجهة: التسليم – كما يقتضي التصور الاسلامي- بان الله قد خلق هذا الوجود ليس عبثا و انما لهدف او مقصد معين يستلزم التسليم بان الوجود كله موجه الى هدف او مقصد معين. و يتعذر تصور ان يكون الوجود كله موجها دون التسليم بان علاقات  بعضه ببعض ، أي علاقات ذواته مع اخره، ايضا موجهة لذات الهدف او المقصد.

-         علاقات مقدرة: و نعني بها ان علاقات الذوات مع الاخر ، أي العلاقة مع الاخر بمختلف صورها و اشكالها، هي علاقات مقننة أي تخضع عموما لقوانين و سنن معينة. و قد حقق الانسان تقدما ملحوظا في اكتشاف بعض  قوانين العلاقة مع الاخر في المجال المادي الفيزيائي و الكيميائي و الى حد ما البيولوجي بينما ما زال كسب الانسان في اكتشاف سنن العلاقة مع الاخر في المجال الاجتماعي محدودا

 

2  - اصول علاقة الذات الاسلامية مع الاخر:

يقيم الاسلام تصوره لعلاقة الذات الاسلامية- بالمفهوم الموضح سابقا-  مع الاخر  على مجموعة من الاسس و الضوابط و الموجهات العامة و التي منها:

 

 

أ- الاسس و المرتكزات:

 -  iالتنوع- الوحدة:

يؤكد الاسلام على حقيقة او واقع التنوع  ليس الحيوي فقط و انما ايضا البشري ( يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر و انثى و جعلناكم شعوبا و قبائل) و الثقافي( و اختلاف السنتكم) و الديني ( و لا يزالون مختلفين). و يبنى الاسلام على هذا التنوع الواقعي و يدعمه شرعا بسن الحق في التنوع و الاختلاف كمبدأ عام دينيا ( لكم دينكم و لي دين) و ( لا اكراه في الدين ) و قانونيا ( لكل جعلنا منكم شرعة ) و سياسيا( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم) و ثقافيا( و ما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه) .

و اقرار مبدأ  التنوع على النحو المشار اليه له انعكاساته على علاقة الذات الاسلامية مع الاخر حيث ان هذا المبدأ يقتضي من الذات الاسلامية، و يشجعها على، اقرار و احترام حق الاخر في الاختلاف عنها دينيا و ثقافيا و سياسيا و قانونيا و...الخ    

    على ان التنوع و الاختلاف ليس الا مظهرا  او ملمحا واحدا من ملامح الواقع وان الاقتصار او التركيز عليه فقط فوق انه لا يخلو من تشويه لحقيقة الواقع ينطوى على خطورة تضخيم الشعور بالاختلاف و ما قد يترتب عليه عادة من ضعف الحافز الذاتي نحو الاقتراب من الاخر و الدخول في علاقة معه. و لذلك فان الاسلام بقدر ما يؤكد على التنوع يؤكد ايضا على و حدة الانسانية ضمن تأكيده على وحدة الكون كله بهدف – بالطبع ضمن مقاصد اخرى- تشجيع العلاقة مع الاخر عموما. و لعل من اهم  ابعاد و مظاهر الوحدة الانسانية التي ينبه الاسلام اليها البشر:

   

-         وحدة الاصل/ المنشأ: بقدر ما يؤكد الاسلام على التنوع البشري البيولوجي و الاثني يؤكد ايضا على ان البشر كلهم صدروا عن اصل واحد و ينتمون جميعا الى نفس الابوين.

-         وحدة البنية: يؤكد الاسلام ان افراد البشر، و ان تعددوا و تباينوا، فانهم جميعا مخلوقون من ذات العنصرين ، الطين و الروح، و  تتوافر بنياتهم الجسدية و الفسيولوجية  و النفسية و العقلية و الروحية على قواسم مشتركة تمثل وحدة البنية الانسانية.

-         وحدة المهمة:  لقد هيأ الله البشر اجمعين تكوينا للقيام بمهمة معينة  هي مهمة الخلافة في الارض و هي مهمة ملازمة لكل انسان، مؤمنا كان ام كافرا و صغيرا كان ام كبيرا، و تندرج ضمنها نشاطاته و علاقاته مع الاخر  مهما تعددت وتباينت  مظاهر و اشكال و اهداف تلك النشاطات و العلاقات.

-         وحدة البيئة: صحيح ان البشر يعيشون  في بيئات متباينة نوعا ما و لكن – اولا- مهما تباينت هذه البيئات فانها تظل مترابطة مع بعضها البعض  تأثيرا و تأثرا و – ثانيا- ان هذه البيئات يقدر ما  تتباين من جوانب عدة فانها في نفس الوقت تتماثل في جوانب اخرى عدة توحد بينها. و من الواضح انه مع تقدم العلم وتطور الوعي البشري بدأ يتعمق اكثر وعي الناس بوحدة بيئتهم. 

-         و حدة المصير: يذكر الاسلام البشر بانهم جميعا يواجهون ذات المصير و هو العودة الى الله و المثول امامه في نهاية المطاف افرادا.

   و من المؤكد ان من شأن تعمق وعي الناس بوحدة منشأهم و مصيرهم و باشتراكهم في ما بين ذلكما- المنشأ والمصير- في البنية و المهمة و البيئة أي  المسكن  وغير ذلك من ملامح وحدة الانسانية ان يدعم روح التقارب و التفاعل بينهم على نحو ليس فقط يعزز و يقوى علاقة الذات الانسانية مع الاخر و انما يساهم ايضا في توجيهها الوجهة السليمة.

 -  iiالمساواة- التفاضل:

 ان تضخم الشعور بالتنوع و الاختلاف يمكن ان يؤدي الى ليس فقط – كما سبقت الاشارة- العزوف عن التواصل مع الاخر و انما ايضا، احيانا، الى ظهور و تنامي النزوع الى التمييز بين البشر على اسس غير سليمة او مبررة كاللون او العرق او الطبقة، و التفضيل بين مؤسساتهم( كالدول) على اسس غالبا ما يساء توظيفها كالقوة او المال او الحجم، و تضخيم الذات الثقافية او الدينية او الحضارية او السياسية.

و لا يخفى ما في مثل هذا التمييز و التفضيل و تضخيم الذات من اثار سلبية على العلاقة مع الاخر. و تاريخيا، افرزت مثل هذه السلوكيات غير السوية دعاوى كثيرة اسهمت في دفع العلاقة مع الاخر نحو انحرافات  كلفت البشرية كثيرا  كدعاوى الحق في الملك و الحق في الاستعباد و الاسترقاق و الحق في الاستعمار و الاحتلال و الحق في فرض الدين الخاص و دعاوى الفرقة الناجية و – مؤخرا-  دعاوى التفوق الثقافي و الحضاري و مقولات الثقافة الخاتمة و …الخ.

و كما سبق التوضيح،  اقدم الاسلام على معالجة ما قد ينشأ عن تضخم الشعور بالاختلاف من ضعف التواصل مع الاخر  بالتأكيد المتوازن على مختلف ملامح  الوحدة الانسانية. و  دفعا لاستغلال واقع التنوع البشري و الثقافي و الديني في تبرير نزعات التمييز و التفضيل و مساوئها المشار اليها انفا حرص الاسلام على تأكيد المساواة ليس بين البشر فقط ( الناس سواسية) و انما ايضا بين ثقافاتهم و كياناتهم و اديانهم ( ان الذين  امنوا  والذين   ) و منع التفاضل و التفاخر العرقي ( لافضل لعربي على اعجمي) و الديني  ( ليس بامانيكم و لا اماني اهل الكتاب ) و ( لا تزكوا انفسكم).

بيد انه، كما ان التنوع قد يساء فهمه و استغلاله فكذلك المساواة عرضة لان يساء فهمها. فقد  يتوهم البعض بان – مثلا-  المساواة بين البشر تعني تساوي سلوكياتهم و افعالهم او تساوي قدراتهم و مؤهلاتهم او تساوي حاجاتهم و عطاءاتهم و ان المساواة بين  الثقافات تعني تساوي مضامينها او حظها من التقدم و العقلانية او ان المساواة بين الاديان تعني تساوي شرائعها او استواء قبولها عند الله . و لايخفى ما قد يترتب على مثل هذا الخلط في فهم المساواة او الافراط في ادعائها او افتراضها حيث لا يتعين افتراضها من اثار سلبية على العلاقة مع الاخر.  فقد يوهم مثل هذا الخلط بانه يستوي ان يكون الاخر مجرما او محسنا و مسالما او محاربا كما يستوي ان تكون العلاقة مع الاخر علاقة عدائية او ودية و قائمة او منقطعة و انه لا داعي لتطوير ثقافة الذات او حسن اختيار الدين طالما تتساوى الثقافات و الاديان.

و حتى لا يختلط مبدأ المساواة باوهام او دعاوي التساوي فتتعثر الحياة و تتأثُر سلبا العلاقة مع الاخر يؤكد الاسلام ان التفاضل واقع بين البشر بتقدير من الله لمقاصد محددة ربما كان منها مقصد ضمان انتظام الحياة و تحقيق  الابتلاء ولكنه يبين في نفس الوقت ان هذا التفاضل  تفاضل غير مكسوب و بالتالي فهو غير معتبر في حد ذاته أي لا يكسب صاحبه الفضل تلقائيا.  و مما يبين  ذلك كون الله يفيد في موضع انه فضل البشركلهم- تفضيلا غير مكسوب-  على كثير من خلقه بما فيهم، تقديرا، البهائم و لكنه في موضع اخر يفيد ان من البشر من يسقطون بانفسهم  الى مرتبة تقل عن مرتبة البهائم. اما التفاضل المعتبر فهو التفاضل المكسوب أي التفاضل الذي يحققه الانسان بنفسه في الخير و التقوى و سائر القيم الفاضلة التي  دعاهم الله الى التفاضل فيها ( فاستبقوا الخيرات) و ( سارعوا الى مغفرة من ر بكم ) و ( ان اكرمكم عندالله اتقاكم ). و هكذا نجد الاسلام يوظف التفاضل المعتبر ( المكسوب) لدعم مبدأ المساواة  لا الاخلال به و لتوجيه العلاقة مع الاخر الوجهة الحسنى لا الوجهة السوأى.

 

ب -  الضوابط:

          ان الاسس و المرتكزات السليمة و ان كانت تكفل قاعدة سوية لعلاقة الذات مع الاخر  الا  انها تفتقر الى ما تتوافر للضوابط القانونية / الشرعية من الالزام القانوني الصريح والمشفوع  بالعقاب على الفشل في  الالتزام . و من هنا كان حرص الاسلام على سن مجموعة من الضوابط  القانونية الملزمة و التي تهدف الى حماية الاخر والعلاقة معه. و من تلك الضوابط ( الجروح قصاص ) و ( السارق و السارقة فاقطعوا ايديهما) و( الذين يرمون المحصنات ) و ...الخ

          و صحيح ان النظم الاخرى ايضا تسن ضوابط لحماية الاخر والعلاقة معه بيد ان الضوابط التي يسنها الاسلام  تتميز عن غيرها في :

-                                 ان الضوابط الشرعية ليست مجرد موانع خارجية لا يتردد الكثير في انتهاكها متى ما ضمن الافلات من المحاسبة البشرية . فكون الضوابط الشرعية تحرسها، بالاضافة الى المحاسبة البشرية، المحاسبة الالهية التي يستحيل الافلات منها  تحول تلك الضوابط الى روادع ذاتية اكثر فعالية من الموانع الخارجية و بالتالي اكثر تأمينا للاخر و العلاقة معه.

-                                 تتسع الضوابط الشرعية لاوجه من الاعتداءات على الاخر غالبا ما لا تشملها  الضوابط الوضعية اما لانها لا تعتبرها اعتداء  و اما  لعجزها عن ضبطها و المعاقبة عليها و من تلك الاعتداءات  حسد الاخر و اغتيابه و انتهاك حقوق الله.

-                                 ان الضوابط الوضعية / البشرية وان كانت تلزم الذات بالانتهاء عن الاعتداء على الاخر او ظلمه الا انها غالبا ما تقصر عن الزام الذات، باستثناء الذات ( السلطات) الحاكمة و احيانا حالات خاصة، بالدفاع عن الاخر و رد الاعتداء عليه او ظلمه من الغير و معاقبتها اذا ما تهاونت في ذلك. و في المقابل توجب الضوابط الشرعية على الذات، سواء كانت في موقع السلطة او خارجها، دفع أي اعتداء على الاخر من الغير تحت طائلة العقاب الالهي في حالة التهاون. 

 

ج -  الموجهات:

          من شأن الالتزام باسس و مرتكزات و ضوابط العلاقة مع الاخر كما حددها الاسلام ان يجنب تلك العلاقة مساوئ الانتهاك و سوء التوظيف و يعزز سلامة الاخر و يؤمن له العدل القانوني، بيد انها لا تكفل تفعيل تلك العلاقة و انمائها و تعظيم مكاسبها و لا تكفي لدفعها عن الانحراف الى مزالق الخمود و السلبية و الانكماش. و لمعالجة هذا الجانب يعمد الاسلام الى رفد تلك الاسس و الضوابط بمجموعة من التوجيهات التي من شأن حسن اتباعها تحقيق تنشيط و تعزيز و انماء علاقة الذات مع الاخر  و توجيهها نحو تعظيم مكاسب اطرافها منها. و التوجيهات التفصيلية بهذا الخصوص عديدة و لكن ما يعنينا هنا من تلك التوجيهات ليس فصولها و فروعها و انما اصولها وكلياتها الجامعة و التي تأتي في مقدمتها:

  -  iالتعارف:

          يوجه الاسلام الذات الى التعارف مع الاخر ( ياايها الناس انا من خلقناكم من ذكر و انثى وجعلناكم شعوبا و قبائل  لتعارفوا ). و يرد لفظ تعارفوا هنا بصيغة الامر و ليس بصيغة المضارع  لان اللام هنا لام امر و ليس – كما يظن البعض خطأ- لام تعليل . و المعنى المتبادر للتعارف هو ان يتعرف كل طرف على الاخر ليس فقط على مستوى الملامح الشكلية و انما ايضا على مستوى الملامح و المكونات الشخصية و التي تشمل المعتقدات و الثقافة و العادت و طرق التفكير و المقدرات و الامكانيات المعنوية و المادية. و من شأن هكذا تعارف ان :

-                                 يحول دون تراكم او استمرار تراكم المفاهيم و التصورات الخاطئة عن الاخر و التي تعد احدى اهم اسباب العزوف عن اقامة العلاقة مع الاخر  و افسادها اذا كانت قائمة، و في الحديث ( ما تناكر منها اختلف)

-                                 تنوير طرفي التعارف – الذات و الاخر- بفرص و امكانات التعاون و الاستفادة من بعضهما البعض

-                                 اتاحة الظروف المناسبة لاطرافها للتواد و التحاب و التآلف و في الحديث ( ما تعارف منها ائتلف)

   و يتضح  مما سبق  ان التعارف يعد  عاملا مهما و ربما شرطا اساسيا ليس فقط لتوثيق العلاقة مع الاخر  و تجنيبها مساوئ سوء المفاهيم و التصورات و انما ايضا حتى  لقيامها و نشأتها.

   و مع اهمية التعارف بمعناه السائد المشار اليه اعلاه و الذي تكاد تقتصر عليه مراجع التفسير و المؤلفات الفكرية التي وقفت عليها الا انه يغلب في الظن ان للتعارف فى الاستخدام الشرعي معنى اوسع يزيد و يضاعف من اهميته. فالتعارف في الاستخدام الشرعي- في ما يبدو لنا -  تتجاوز دلالته معناه السائد المحدود لتتسع لمعنى حفظ و واحترام طرفي التعارف لحقوق الاخر  و التجاوب مع احتياجاته. و ربما كان من اوضح النصوص الشرعية على المعنى الواسع  المشار اليه ما جاء في الحديث ( اعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة)  فالمقصود بامر اعرف الله في الخير هنا ليس هو المعرفة النظرية فحسب- فالمعرفة من دون عمل غير معتبرة عندالله-  وانما، كما يؤكد الفقهاء، حفظ  حقوق الله أي الالتزام بايفائها عمليا و عدم انتهاكها. و من الواضح ان اقتران الامر  هنا  بحالة الخير سببه ان الانسان عادة  ما يكون اقرب الى الغفلة عن حقوق الله و انتهاكها عندما يكون في حالة يسر منه في حالة العسر. و بالمثل فان المعني بمعرفة الله جل جلاله  للانسان ليس هو المعرفة النظرية و انما  الاستجابة العملية  لرغبته او دعوته للخروج من الشدة او عدم التعرض لها، واذا ما كانت هذه الشدة نتيجة انتهاك حقوقه فان المعرفة ستعني حماية و حفظ تلك الحقوق . و لاتخلوا آثار الصحابة من استخدام مشتقات لفظ عرف بمعنى اقرب للمعنى الشرعي المشار اليه و من ذلك قول عمر ( اوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الاولين ان يعرف لهم حقهم)

     و حقوق الاخر التي تأمر الاية  باحترامها  و حفظها تشمل كل حقوقه بما فيها حقوقه الطارئة أي الناشئة عن تعامل ما كالاقراض او الرهن  او تعرضه لاجراء ما  كالاعتداء بالضرب و كذا – من باب اولى- حقوقه الثابتة له لمجرد كونه انسانا وهى ما جرى العرف على تسميتها باسم حقوق الانسان. و لعل في اختتام جل جلاله للاية المعنية بقوله ( ان اكرمكم عندالله اتقاكم) ما يفيد – اذا ما اخذنا في الاعتبار سياق الاية بمعناها الواسع- ان اتقاء انتهاك حقوق الاخر بما فيها حقوقه الانسانية هو معيار، او احد معايير، تفاضل البشر عندالله. و حيث ان حفظ حقوق الاخر هو اكرام له ربما جاز القول - والله اعلم- ان هذه الخاتمة تعني ان اكثركم اكراما للاخر بحفظ حقوقه هو اتقاكم لله او عنده.

     و لا يسع المقام، و ان كان يقتضيه، للحديث عن  حقوق الانسان التي يكفلها الاسلام للاخر و يوجب مراعاتها في العلاقة معه سواء كان هذا الاخر مسلما او غير مسلم ، وصديقا كان او عدوا، و ذكرا كان او انثى. و قد سبق لنا تناول هذه الحقوق في دراستنا المعنونة( اصول حقوق الانسان- منظور اسلامي)

     ومن الواضح انه وفقا للمعنى الواسع الذي ارتأيناه  للتعارف لا تعد الاية الواردة سابقا  مجرد امر غير ملزم بالتعارف النظري الضروري لاقامة و توثيق العلاقة مع الاخر  و انما امرا ملزما بتأسيس و بناء تلك العلاقة على اساس احترام و حفظ حقوق الاخر بما فيها حقوقه الانسانية و لا يخفى ما في ذلك من ضمان لاستقامة العلاقة مع الاخر وخلوها من مختلف ما سبقت اليه الاشارة من اشكال الخلل و الانحراف مما يؤمن اضطراد نموها و ازدهارها.

  -  iiالتداعي الى السواء:

          و اصل هذا التوجيه قوله تعالى ( قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا و بينكم ). و تورد المعاجم اللغوية للفظ السواء معاني منها العدل و المثل و الغير و الوسط سواء وسط الشئ او الوسط بين شيئين. و يختار المفسرون عموما من تلك المعاني معنى العدل لتفسير وصف السواء الوارد في الاية . و اذا كان المعني بالعدل هنا هو، في ما نرجحه، الحق فان العبارة التالية لوصف سواء، أي حق، في الاية و هي ( بيننا و بينكم ) توضح ان المراد بالحق هنا ليس هو مطلق الحق و ليس هو ما هو حق بين المسلمين فقط و انما ما هو حق بين المسلمين و- في نفس الوقت- حق بين اهل الكتاب ايضا و مما يرجح ذلك ملاحظة ان مدلولات الكلمة السواء المذكورة لاحقا و هي عبادة الله وحده (و عدم الاشراك به) و عدم اتخاذ البعض اربابا هي مما هو حق مشترك بين المسلمين و بين اهل الكتاب ، ليس بالضرورة كل من يتسمون بالمسلمين و حتما ليس كل من يتسمون باهل الكتاب.

و يتضح مما تمهد ان المغزى العام  للاية هو توجيه المسلم ( الذات الاسلامية) في ما يخص العلاقة بالاخر  لتحري و تعزيز و البناء على والتعاون في  ما هو  مشترك بينهم و بين  هذا الاخر مما هو حق او عدل او صالح وليس ما هو مشترك و لكن من غير الحق او العدل لان تعزيز او التعاون في ما هو مشترك و لكن ليس بحق او عدل هو خطأ مرفوض في الاسلام ( و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الاثم و العدوان). اما مدلولات المشترك الحق الواردة في الاية فهي امثلة مختارة لاهميتها تما ما كما ان اهل الكتاب مثال مهم للاخر  و من الواضح ان مدلولات المشترك الحق يمكن ان تختلف باختلاف الاخر و ان كان سيكون هناك دائما قدر مشترك مع كل اخر بشري ليس اقله حقوق الانسان.

و توجيه الاسلام للذات الاسلامية للتداعي الى السواء أي المشترك الحق ما بينها وبين الاخر هو تنبيه و تبصير لهذه الذات، فردا كانت او جماعة او دولة، بانه مهما كان الاختلاف او التباين  بينها و بين الاخر ، أي اخر، فان هناك عادة اوجه مشتركة بينهما  صالحة لان تتحراها و تقيم عليها علاقتها بهذا الاخر. و لا تخفى اهمية هذ التوجيه الالهي  في تشجيع الذات الاسلامية على الحرص على  الدخول مع الاخر في علاقة موجهة و مثمرة.

  و هذا التوجيه توجيه مرتبط بل و مكمل للتوجيه السابق بالتعارف اذا ان التعارف بقدر ما يكشف من اوجه الاتفاق و الاشتراك بين الذات والاخر يكشف ايضا  ما بينهما من اوجه الاختلاف و التباين فكان من الحكمة ان يوجه الاسلام  الذات الاسلامية الى التركيز على اوجه الاتفاق و الاشتراك  حتى لا تدفعها اوجه الاختلاف والتباين الى النفور من اقامة علاقة مع الاخر او اقامة  علاقة صدامية معه.

 -  iiiالتفاعل بالحسنى:

          لما كان من شأن التوجيه الاول ( التعارف) ،كما سبق الذكر،  ان  يكشف عن اوجه الاختلاف كما يكشف عن اوجه الاتفاق بين الذات الاسلامية والاخر  فقد  جاء التوجيه الثاني ( التداعي الى السواء) لتوظيف اوجه الاتفاق  لصالح العلاقة بين الذات الاسلامية والاخر. ولان اوجه الاختلاف هي حقيقة واقعية في كل علاقة مع الاخر  و ليس من الممكن- او المستحسن- اغفالها دون الاضرار بتلك العلاقة جاء هذا التوجيه الثالث( التفاعل بالحسنى) مكملا للتوجيهين السابقين و مختصا بتوضيح كيفية معالجة اوجه الاختلاف بين الذات الاسلامية و الاخر. و تتعدد النصوص التي تؤسس لهذا التوجيه و منها ( ادفع بالتي هي احسن ) و ( جادلهم بالتي هي احسن)، على ان  مما يتعين ان يكون واضحا هنا  ان التوجيه بالتفاعل بالحسنى ليس حصرا على اوجه الاختلاف و انما يشمل ايضا ، و من باب اولى، اوجه الاتفاق ايضا (  اذا حييتم بتحية فحيوا باحسن منها) و ( قل لعبادي يقولوا التي هي احسن) و( لا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي احسن)

واذا كان من الملفت للنظر حرص الاسلام  على ان يكون التفاعل مع الاخر بالتي هي احسن و ليس بالتي هي  حسن فقط فانما لان ذلك افضل  اثرا  على العلاقة مع الاخر ( فاذا الذي بينك و بينه عداوة كانه ولي حميم)  و هو ما يعكس بوضوح  مدى حرص الاسلام على الارتقاء بالعلاقة مع الاخر الى، و الحفاظ عليها على، افضل ما يكون .

تلك بعض اصول و كليات علاقة الذات الاسلامية مع الاخر في التصور الاسلامي.

 

ثالثا-  أسباب اختلال واقع علاقة الذات الاسلامية مع الاخر:

 

لا يحتاج المرء الى كثير تأمل في الاصول و الكليات المشاراليها على سبيل المثال ليتبين ان التصور الاسلامي لعلاقة الذات الاسلامية مع الاخر  ، اذا ما احسن تفصيله وانزاله الى الواقع، كفيل بانماء و تزكية علاقة الذات الاسلامية مع الاخر  و تأمين المعالجة الامثل  لما قد تواجهه هذه العلاقات من اشكالات و اختلالات عملية  حتى تبقى دائما العلاقة الامثل بين مثيلاتها و الاقرب لتحقيق المقصد الإلهي من مجمل العلاقات في هذا الوجود. على انه، و في المقابل، لا يحتاج المرء ايضا لكثير تأمل في واقع علاقة الذات الاسلامية مع الاخر  ليتأكد من  ان هذه العلاقة علاقة متأزمة و مختلة اختلالا شديدا  ليس فقط مع الاخر البعيد غير المسلم  و خاصة الغربي  وانما ايضا  حتى مع الاخر القريب المسلم بل وحتى مع الاخر الطبيعي( الكون)، و قبل هذا و ذاك مع الله سبحانه و تعالى و مع الاسلام نفسه.

و الاختلال في العلاقة مع الاخر عموما يمكن ان يأخذ احدى صورتين  هما صورة الاختلال  الصاخب او الناشط  مثل نزعات العدائية و الهيمنة و العنف الاجتماعي و  الاقتتال و الارهاب  و صورة الاختلال  الصامت او الخامد و تشمل اختلالات الانتفاء( أي انتفاء وجود العلاقة) و الكره و الحسد و البغض و الخوف و الضعف و الانقطاع و التمزق. و على عكس ما يبدو ظاهريا فان اختلالات علاقة الذات البشرية بالاخر غير البشري و صورة الاختلال الصامت او الخامد ليس اقل اهمية او خطورة من اختلالات الذات البشرية مع الاخر البشري و صورة الاختلال الصاخب او الناشط و ان كان من الواضح ان الاهتمام ينصب حاليا على الاختلالات الاخيرة، و لعل ذلك من اهم الاخطاء المنهجية في اغلب التناولات المعاصرة للعلاقة مع الاخر.

و نظريا،  لا يملك المرء ان يعزو  التباين الكبير المشار اليه بين التصور الاسلامي لعلاقة الذات الاسلامية  مع الاخر  والواقع العملي لهذه العلاقة الا الى بعض او كل مصادر ثلاثة هي الذات الاسلامية و الاخر و الاسلام.   وقد يتهيأ للبعض، للوهلة الاولى،  وجود مصدر خارجي محتمل  بيد ان ما ذهبنا اليه من المفهوم الواسع للاخر يجعل هذا الاخر  شاملا لكل  ما هو غير الذات الاسلامية في هذا الوجود. و على النقيض من دعوى البعض بان الاسلام هو المصدر الاساسي  لاختلالات علاقة الذات الاسلامية مع الاخر،  واضح مما تمهد ان هذه الورقة تستبعد ان يكون الاسلام  هو مصدر الخلل فهي ترى ان تصور الاسلام  لعلاقة الذات الاسلامية مع الاخر تصور خال مما ينسبه اليه ذلك البعض من عيوب نتيجة اما خلط هذا البعض بين تصور الاسلام و تصور المسلمين  واما لخطأ فهم هذا البعض للاسلام و اما  لجحد منهم او سوء قصد.

و ليس بوسع المرء المنصف ان يبرئ  تماما الاخر  من بعض وزر اختلال علاقة الذات الاسلامية مع الاخر، و خاصة ان المعني بالاخر هنا لا يقتصر على الاخر البشري ( الانسان) فقط.  لقد اخبر الاسلام ان من الاخر غير البشري – كالشيطان-  من تعاهد على افساد علاقات الذات الاسلامية ولكن من المؤكد ايضا  ان من الاخر غير البشري  – كالكون الطبيعي- من تختل علاقة الذات الاسلامية معه من غير ان يكون هو السبب  في هذا الاختلال.

 و مع ان بعض، و ربما اكثر، الاخر البشري، و خاصة الغربي و التي تعتبر علاقة الذات الاسلامية معه الاشد اختلالا ، يميل الى  تحميل الذات الاسلامية كل وزر اختلال علاقة هذه الاخيرة  به الا ان مثل هذا الاتهام تكذبه شواهد التاريخ و يفنده منطق الاحداث المعاصرة و تفضحه بعض  نظريات و مقولات و تصورات هذا الاخر و التي تعتبر من بعض اهم مدخلات/ موجهات  تفاعلاته مع الذات الاسلامية. ففي حالات عدة، في التاريخ و الزمن المعاصر،  بادأ الاخر الغربي الذات الاسلامية العداوة و استخدم ضدها نفوذه و احيانا القوة دون مبرر سوى اشباع بعض اطماعه غير المشروعة. و ستبقى نظريات او مقولات من مثل  "عبء الرجل الابيض" و " تفوق الجنس الاري" و غيرها بمثابة اعترافات من هذا الاخر (الغربي)  على سوء ما تأسست عليه علاقاته بالذات الاسلامية. 

و الواقع ان كون علاقات هذا الاخر، خاصة   الغربي،  مع بعضهم البعض لم تخلو تاريخيا و لا تخلو حاليا من الاختلال  والصراع الذي وصل احيانا كثيرة  درجة الصراع المسلح و يسجل حاليا اعلا نسب العنف الاجتماعي يمثل دليلا و اضحا على ان لهذا الاخر عيوبه الذاتية و التي ان  لم يكن لتسلم من انعكاساتها و اثارها السلبية علاقاته البينية فلن يكون الا خطأ بينا استبعاد تاثيرها على علاقاته الخارجية( مع الذات الاسلامية، مثلا)

و كيفما كان حجم  دور او اسهام  الاخر في فشل الذات الذات الاسلامية في الارتقاء بواقع  علاقتها مع هذا الاخر الى مستوى التصور الاسلامي لتلك العلاقة يبقى من المؤكد ان هذا الدور او الاسهام  ما كان يستلزم او يحتم هذا الفشل و ما كان ليؤدى اليه لولا ما ظلت تعاني منه الذات الاسلامية من اسباب ذاتية اقعدت بها عن الارتقاء بحالها الى الوضع الذي كان سيمكنها من الاستجابة لتحديات هذا الاخر ، ايا كانت، استجابة تعكس تصورها الاسلامي . و مهما بدت تفاصيل  تلك الاسباب الذاتية متعددة يبدو لنا انه يمكن عزوها او ارجاعها جميعا الى احد سببين اساسيين متداخلين او مترابطين  هما:

-                                 ضعف الالتزام / الارادة

-                                 سوء الفهم او التصور

و لا  يقتصر المعني بضعف الالتزام هنا على ضعف الالتزام بتوجيهات المرجعية الدينية فقط بل يقصد به هنا  ضعف الالتزام بما هو معلوم من المبادئ و قيم الحق و العدل و العقلانية عموما سواء كان تبني المبدأ او القيمة المعنية ناتجا عن اعتقاد ديني او اقتناع فكري بحت او الزام قانوني. ويفيد تقييد محل ضعف الالتزام بما هو معلوم-  يفيد ان المعني بضعف الالتزام هنا هو ضعف الالتزام الناتج لا  عن جهل او عدم علم  بالمطلوب و انما عن ضعف في الارادة  في الالتزام بما هو معلوم لدى صاحبها.

و لا يجد المرء صعوبة في تبين ان ضعف التزام الذات الاسلامية يتجاوز ضعف التزامها بتوجيهات الاسلام دات الصلة بالعلاقة مع الاخر الى ضعف التزامها بما ينصح به العقل البشري عموما في ما يخص العلاقة مع الاخر و كدا  بما تأمر به القوانين البشرية بهدا الخصوص. فضعف التزام الذات الاسلامية  بتوجيهات دينية من قبيل التفاعل بالحسني و التعارف مع الاخرلا يقل وضوحا او سلبية عنه ضعف التزام الذات الاسلامية بنصائح عقلية عامة من قبيل عامل الاخر كما تحب ان يعاملك الاخر  او ضعف التزامها بقوانين عامة تنظم امورا مشتركة بين الذات و الاخر من قبيل قوانين و قواعد المرور.

 و من الواضح ان ضعف الالتزام بالمعنى العام المشار اليه و الناتج عن ضعف الارادة  يمثل سمة غالبة في البشر عموما و – بالتالي- يعد احد الاسباب المشتركة بين الذات الاسلامية والاخر لاختلال العلاقة بينهما. على ان لهذا الضعف مغزى خاصا في حالة الذات الاسلامية، حيث انه يعد دليلا واقعيا على ضعف التزام هذه الذات بالاسلام لان من المسلم به ان من شأن الالتزام الحقيقي بالاسلام، و الدين عموما، ان ينمي و يعزز ارادة الانسان  باعتباره مرتكزا اساسيا من مرتكزات التدبير الالهي  للانسان و الاجتماع البشري.

و يتعلق السبب الاساسي الثاني من الاسباب الذاتية و المتمثل في سوء الفهم اوالتصور  في سوء تصور الذات الاسلامية  لنفسها او للاخر  و في سوء فهمها للتصور الاسلامي للعلاقة مع الاخر.

و تتعدد مظاهر سوء تصور الذات الاسلامية لذاتها او نفسها، و لعل من اكثر تلك المظاهر شيوعا المراوحة بين الافراط و التفريط في تقدير الذات الاسلامية لنفسها. فبينما البعض يميل الى المغالاة في تقدير الذات على نحو ينطوي، احيانا، على  تقديس -  لاشعوري غالبا- للذات يعميها عن عيوبها و يصرفها عن ممارسة النقد الذاتي و يولد لديها الشعور او الاعتقاد بانها وحدها هي "الفرقة الناجية" ، هناك البعض الاخر الذي يميل الى المغالاة في التقليل من الذات و الشك في قدراتها و في صلاحية مرجعيتها على نحو لا يخلو، احيانا، من تسفيه الذات و تبديد الثقة في الذات. و اختلال تصور الذات الاسلامية لنفسها، افراطا او تفريطا، يستتبع اختلالا في تصور الذات الاسلامية للاخر. فالبعض الدي يفرط في تقدير الذات لا شك سيفرط في تقدير الاخر و ، من ثم، سينزع الى تبني علاقة استعلائية مع الاخر. و البعض الدي يفرط في التقليل من الذات لابد سيميل الى  الافراط في  تعظيم الاخر و قبول قيام علاقة استتباعية معه . و من الواضح ان كلتا العلاقتان الاستعلائية و الاستتباعية علاقتان مختلتان.

و من مظاهر سوء التصور للذات و الاخر الاكثر شيوعا ايضا  غلبة التوجس من تآمرية و عدائية الاخر على نحو يجعل الذات مسكونة بهاجس السيطرة على دلك الاخر كرد فعل او اجراء استباقي لتآمريته المتصورة . و لا يخفى ان من شأن هكدا  توجس و هاجس يتبادلاهما الذات الاسلامية و الاخر ان يعرض العلاقة بينهما للتوتر.

و المحل الاخر- بعد الذات و الاخر -  لسوء الفهم هو كما سبقت الاشارة التصور الاسلامي . و يمثل  سوء فهم الذات الاسلامية لتصورالاسلام  لعلاقتها مع الاخر جزءا لا يتجزأ من سوء فهم  اوسع يمتد  لمختلف جوانب الاسلام  سواء من قبل الذات الاسلامية او من قبل الاخر . و قد اسهم هدا الفهم السيئ / الخاطئ لتصور الاسلام للعلاقة مع الاخر ، بالطبع في وجود عوامل اخرى ربما كان من اهمها سوء تصرف الاخر ، في تكريس الاختلال الاكثر اثارة للقلق الدولي حاليا في علاقة الذات الاسلامية  مع الاخر و خاصة الاخر الغربي و هو جنوح هده العلاقة للعنف و العدائية.

و لعل الاسوأ  في ما هو شائع من  سوء او تشوه الفهم للاسلام عموما بما فيه تصوره  للعلاقة مع الاخر هو انه ناتج لا عن سهو او  اخطاء في التطبيق او الاجتهاد و لكن عن – من جانب- خطأ في منهج الفهم و – من جانب اخر- سوء قصد بين. و ليس المقام لبسط القول في ذلك الا انه لابد من اشارات موجزة لبعض اهم  اوجه الخلل في منهج الفهم السائد :

 

 -  iاختلال العلاقة مع الفهم الموروث:

 يتراوح الاختلال في موقف المسلمين اليوم من الفهم او التفسير الموروث لنصوص البيان الشرعي ما بين الرغبة في الغائه واغفاله كليا و بين تشدد في التمسك به و الوقوف عنده. و في الموقفين كلاهما سوء تقدير واضح للفهم الموروث ، فالاول يقلل من قيمة الفهم الموروث على نحو يعميه و يصرفه عن الاستفادة منه و يمنعه من تحقيق النمو التراكمي و يعرضه اكثر للزلل بينما الثاني  يعظم الفهم الموروث تعظيما يكاد يضفي عليه ذات  قدسية و شرعية النص او البيان الشرعي. و لعل اخطر ما في هذا التقديس ، و ان كان في الغالب خفيا و لا شعوريا، انه- في ظل مفاهيم اخرى خاطئة- ينطوي  على خطورة الانزلاق نحو  اضفاء السلطة المرجعية على الفهم الموروث وسلبها ، واقعيا ،  عن النص الشرعي و لا يخلوا الموروث الفقهي من اقوال  تؤكد حدوث هذا المحظور احيانا( تصريح بعض الفقهاء برفض الخروج عن اطار الاقوال الموروثة في المسألة محل الخلاف)

و تكمن سلبية هيمنة الموروث على فهم البيان الشرعي في ما تنطوي عليه هذا الموروث من مفاهيم و اقوال غير موفقة اوغير دقيقة ربما كان من اخطرها في ما يتعلق بعلاقة الذات الاسلامية بالاخر اقوال او مفاهيم سادت في الفقه الموروث من مثل:

-         الاصل في العلاقة مع الاخر غير المسلم هو الحرب و القتال*

-         ثنائية دار الحرب و دار الاسلام

-         ليس الاصل في الانسان العصمة ( عصمة الدم او حق الحياة)*

 

  -  ii النهج التجزيئي:

 من حيث المبدأ هناك اتفاق عام على خطأ النهج التجزيئي في المنهج المعرفي و مع ذلك قلما تجد معرفة بشرية تسلم من انعكاسات شكل من اشكال النهج التجزيئي. فبينما ينزع الفكر الوضعي الى حصر مصدر المعرفة في المصدر العقلي و يرفض المصدر الوحيي كلية يميل الفكر الديني الى الاكتفاء بالمصدر الوحيي و اغفال ، وان كان في الغالب من غير انكار، المصدر العقلي في المعرفة و خاصة الدينية. و مع ان علماء و فقهاء الاسلام يؤكدون دائما على اهمية الجمع بين النصوص المعنية  كلها و يحذرون من تجزئة النصوص و انتزاعها من سياقها الا انه ليس من العسير ملاحظة ضعف اهتمام او اغفال الفهم الاسلامي ، موروثه و معاصره، الجمع بين أي الوحي و ايات الوجود في كسب المعرفة عموما  و في  تحقيق  حسن فهم كل من أي الوحي و ايات الوجود. و صحيح ان هناك اهتمام ناشئ بهذا الجمع و لكنه يكاد يتركز على مجال الوجود المادي / الطبيعي  دون مجال الوجود الاجتماعي رغم اهمية هذا الاخير.

و بقدر ما يؤثر ذلك سلبا على  فهم  الاسلام عموما فهو يؤثر سلبا ايضا على فهم الذات الاسلامية لتصور الاسلام لعلاقتها مع الاخر خاصة في ظل الميل الى تبني هيمنة الفهم الموروث على الفهم المعاصر. و على سبيل المثال ، يمكن القول انه بغض النظر عن الخلاف المحتمل حول مشروعيته اصلا  كان ما ساد في الموروث الفقهي  من وجوب مصادرة و اتلاف كتب الاخر التي تحمل افكارا لا تتفق مع الفهم السائد للاسلام  يجد بعض المبرر في ما كان يحققه ، في واقع يومئذ، من فائدة منع انتشاره و لكن هذا الواقع قد تغير اليوم كثيرا  لدرجة ان الاقدام على مثل ذلك الاجراء  اتباعا للفقه الموروث لم يعد في امكانه تحقيق  مثل تلك الفائدة التي لاحظها الفقهاء بل الارجح ان يترتب عليه نقيض القصد منه.

و لعل من الواضح، في ضوء ما تمهد في المقدمة عن مفهوم كلام الله، ان كلا من اختلال العلاقة مع الفهم الموروث و النهج التجزيئي هما مظهران من مظاهر سوء ادراك لمفهوم كلام الله و سوء تحديد لمصادره، حيث ان الاول ينطوي على الحاق ما ليس من كلام الله بكلام الله  بينما ينطوي الثاني على فصل ما هو كلام الله من كلام الله.

 

  - iiiقصور في بعض القواعد اللغوية و التفسيرية  المتبعة في فهم البيان الشرعي



 


*  يمكن مراجعة تحرير هذه المفاهيم و مناقشتها في: د. عبد الملك منصور حسن: البغي السياسي ، دراسة للنزاع السياسي الداخلي المسلح من منظور إسلامي ( صنعاء، مؤسسة المنصور الثقافية للحوار بين الحضارات، 2002 ، طبعة ثانية)

 

المصدر:

http://www.mansourdialogue.org/Arabic/lecs%20(3).html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك