الصراع والحوار من منظور إسلامي

 

الصراع والحوار من منظور إسلامي

 

 

إستراتيجيــة الصـــراع :
الظاهر أن البشر ، في وضعهم البدائي ، اقرب لأن تستحوذ عليهم العداوة لبعضهم البعض ، وبحيث كلما اشتدت العداوة بينهم اشتد صراعهم مع بعضهم البعض . وبذلك يبرز الصراع كظاهرة ملفته للعيان في حياة البشر منذ بداية وجودهم ، كما يفيد التاريخ ، والى يومهم هذا كما يفيد الواقع المشاهد . وقدكان ومازال هذا الصراع مكلفاً جداً وخاصة عندما يأخذ الشكل الجماعي المسلح حيث يكون آثاره ابعد عمقاً الاخر ، يكاد يغلب في الظن أن الصراع قدر محتوم لا قبل للبشر للإفلات منه أو تجاوزه والسمو عليه. ويبني البعض على مثل هذا الظن مقولات أو نظريات تبرر نهج الصراع وتكرسه وتدعو الى تبني استراتيجية الصراع على مستويي التعامل الفردي والجماعي بين البشر . وصحيح أن التنظير للتوجه الصراعي سجل و يسجل حضوراً بارزاً في الفكر والقانون الغربيين إلا أننا لانستطيع أن ننفي انه يسجل حضوراً معتبراً في الفكر الإسلامي و- الى درجة ما - الفقه الإسلامي أيضاً .

إستراتيجية الدفع :
يقر الإسلام بوجود الصراع وتخلله لمختلف العلاقات البشرية بدءا بعلاقة الفرد بذاته حيث تتنازع الفرد داخلياً دواعي الخير ونوازع الشر ، ومروراً بعلاقاته الاسرية سواء الأخوية أو الأبوية أو الزوجية ، صعوداً إلى العلاقات الفئوية و القومية ، وانتهاء بالعلاقات الدولية . بل إن النصوص الإسلامية تضمنت تنبأ بهذا الصراع بين البشر على الأرض قبل أن يحدث فعلا{ قلنا اهبطوا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو }1 . ويشير القرآن إلى أن وقوف الملائكة المسبق على ما سيحدث بين البشر من صراع وسفك للدماء سبب لهم لبسا مماجعلهم يتساءلون في بداية الخلق { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }2 . وتعلمنا قصص القرآن انه كما تتعدد أشكال الصراع وأطرافه تتعدد كذلك أسبابه ومصادره وان السبب الغالب أو المباشر قد يكون دينياً (قصة ابني آدم ) وقد يكون اجتماعياً اسرياً (قصة يوسف واخوته ) أو سياسياً ( قصة طالوت وجالوت ) أو اقتصادياً ( قصة نزاع أخوين على نعجة ) .

ويلفت القرآن الكريم النظر الى أن الصراع لا يقتصر على علاقة البشر ببعضهم البعض و إنما يتعداها ، وان كان بأساليب ووسائل مختلفة ، إلى علاقة البشر بغيرهم من بعض المخلوقات أو الكائنات . واكثر ما يركز القرآن بهذا الصدد على علاقة الإنسان بالشيطان (إبليس ) والذي يكن للأول العداء الشديد ويحاول بشتى السبل أن يميله عن رشد السلم والحوار إلى ضلال الاقتتال والصراع . وقد كشف لنا القرآن عن دور هذا الطرف الثالث - الشيطان - في مايحدث من صراع بين الإنسان وأخيه { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء }3 وبين لنا كيف انه يشجع البشر على الاقتتال والصراع { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لاغالب لكم اليوم من الناس واني جار لكم }4 . على أن القرآن وان حرص على كشف هذا الدور الخفيّ للشيطان في الصراعات البشرية ، وهو الدور الذي لم يكن في مقدور البشرية التيقن منه وربما مجرد إدراكه لو لا هذا الكشف الرباني ، إلا انه حرص بذات القدر على بيان أن هذا الدور الشيطاني ليس دوراً قهرياً لاقبل للإنسان بصده وانما هو دور اختياري من حيث انه لا يتم إلا من خلال إرادة الإنسان وموافقته الطوعية { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }5 و { إنما سلطانه على الذين يتولونه }6 ، وبذلك يكون القرآن قد أكد على المصدر البشري للصراعات البشرية دون إغفال لأهمية دور الغير ( الشيطان ) فيها .

إذن الشرع يقر بالصراع ويعتبره أحد الظواهر الأساسية في هذا الوجود . بيد أن حسن فهم منظور الشرع للصراع يتطلب الأخذ في الاعتبار :

1- إن إقرار الشرع بظاهرة الصراع في حياة البشر هو من قبيل الإقرار بالأمر الواقع . وفى ربط الشرع الصراع بإرادة الإنسان وتأكيده على مسئولية الإنسان عنه ما يؤكد رفض الشرع القول بأن الصراع بين البشر قدر محتوم .

2- يذم ويحظر الشرع الصراع بكل مستوياته بدءا بالبغض والحسد { ولاتباغضوا ولاتحاسدوا } ، ومروراً بالتهديد والتخويف { لايحل لمسلم أن يروع مسلماً } ، وانتهاء بالقتال أو حتى مجرد تمنيه { ولاتعتدوا إن الله لايحب المعتدين }7 و { لاتتمنوا لقاء العدو } ولايقدح في ذلك كون الشرع شرع القتال وأجازه رداً على القتال لان ذلك إنما جاء من باب الضرورة - ضرورة الدفاع وصد الاعتداء على النفس والغير من المستضعفين.

3- يطرح الشرع منهجاً متكاملاً لمحاصرة الصراع من خلال العمل على إضعاف جذوره والحد من أسبابه ومعالجة حالاته . ويقوم هذا المنهج على :

أ- سياسة تربوية وقائية تهدف إلى تعزيز الروادع والحوافز الداخلية ( النفسية ) التي تثني المرء عن الصراع وتعزز لديه الدافع الذاتي للنفور من الصراع والعزوف عنه اختياراً وطوعاً . وتعمل هذه السياسة من خلال تزكية النفس وتطهيرها من نوازع ودواعي الصراع كالبغض والعداوة والحسد والطمع ، وتربيتها على حب الإيثار والعفو والدفع بالتي هي احسن ، وتنشأتها على القبول بالاختلاف والتباين وإحترام الآخر وحفظ حقوقه واللجوء للطرق السلمية في حل الخلافات والنزاعات ، وتذكيرها بدور الشيطان في دفع الإنسان إلى وضحاياه اكثر عددا . الصراع وضرورة وكيفية مقاومة هذا الدور .

ب - سياسة عملية تكفل الاجراءات والآليات المناسبة للتعامل مع حالات الصراع القائمة أو الوشيكة الوقوع وهي سياسة قائمة على استراتيجية الدفع .

والدفع كالمنع والدرء يكون بوسائل عدة بدءا بالدعاء (الاستدفاع ) ومروراً بالحوار والتفاوض والمقاضاة

( الدفاع ) وانتهاء باستخدام القوة البدنية والقوة المسلحة (التدافع ) . والدفع في الإسلام لايكون إلا لغرض مشروع هو منع الفساد في الأرض { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين }8 . وحيث أن أكبر فساد من منظور الشرع هو الفتنة في الدين { والفتنة اشد من القتل }9 والتي تنطوي على الاعتداء على الحرية الدينية والإخلال بالتعايش الديني فقد خص الله دفع مثل هذا النوع من الفساد بالذكر كغاية من غايات الدفع { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلواتٌ ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً}10

واختيار وسيلة الدفع ليس متروكاً للهوى أو المصالح الخاصة أو الفئوية إذ و يشترط في الوسيلة أن تكون ملائمة للمدفوع رفقاً وعنفاً وليناً وشدة ، وان يكون استخدامها وخاصة إذا ماكانت الوسيلة المناسبة هي التدافع ( استخدام القوة البدنية أو المسلحة ) بقدر الدفع « وجزاء سيئةٍ سيئةً مثلها }11 و {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }12 . والذي يستلزم هذين الشرطين ، بالإضافة إلى شرط مشروعية الهدف ، من منظور الإسلام هو وجوب الالتزام بالعدل في التعامل مع الآخر. والاعتبار الثالث في اختيار وسيلة الدفع هو أفضلية عدل الإحسان على عدل المثل وهو ما يرشدنا أليه الشرع في نصوص عدة منها { خذ العفو وأمر بالعُرفِ وأعرض عن الجاهلين }13 و {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم }14 .

وهكذا يبدوا جلياً للعيان أن استراتيجية الدفع التي يدعو إليها الإسلام تختلف تماماً عن استراتيجية الصراع التي يتبناها البعض سواء ، من حيث الأساس أو الهدف أو الوسائل . فاستراتيجية الصراع قائمة على أساس ظني يزعم أن الصراع قانون طبيعي لازم ويلازم الوجود أبدا بينما استراتيجية الدفع قائمة على أساس - يقيني - مفاده أن الصراع بين البشر أمر واقع إلا انه ليس سنة كونية لازمة . ومن حيث الهدف تركز إستراتيجية الصراع ، كما هو الحال في آي مصارعة ، على التغلب على الطرف الآخر وطرحه أرضاً ماأمكن طلباً للسيطرة والهيمنة عليه ، وفي المقابل تهدف إستراتيجية الدفع أساساً إلى دفع الفساد وليس المفسد أي يركز على وقف الصراع أو المصارعة وليس طرح المصارع أرضاً ويبدو ذلك جلياً في حرص الشرع على دفع العداوة بما هو اقرب لا إلى التغلب الظاهر على العدو وإنما إلى تحويل العدو أو الخصم إلى ولي حميم . ومع اختلاف أسس وأهداف الاستراتيجيتين كان من الطبيعي أن تختلف وسائلهما واعتبارات أو ضوابط إستخدامهما .

أصـــالة الحــــــوار :
لاشك أن اختلاف التصورات عن الصراع يستتبع اختلافا في النظر إلى الحوار و الموقف منه . على أن من الواضح انه في غمرة انشغاله برصد وتتبع مظاهر الصراع رغبة في إثبات أصالة الصراع في هذا الوجود و، من ثم ، التأسيس لاستراتيجية الصراع غفل التنظير الغربي ، وربما تعامى أحياناً ، عن ملاحظة أصالة الحوار وتمظهراته - وما أكثرها - في هذا الوجود . واحسب أن المرء لا يحتاج إلا لقليل من التأمل ليتيقن من أصالة الحوار في هذا الوجود . ولعل اقصر طريق لذلك هو البدء بما يرجح انه محل اتفاق في مايتعلق بمقولات الصراع وهو أن الصراع بين البشر ، أيا كان التأطير أو التفسير الإيديولوجي له ، يعد ظاهرة اجتماعية أي ان الصراع بين البشر يرتبط بالتجمع وجودا وعدما . وإذا كان ذلك كذلك صح القول بأنه بقدر مايلزم لوجود الصراع وجود تجمع يلزم لوجود التجمع وجود حوار ، إذ لا يتصور إمكان قيام تجمع بشري أو استمراره بدون قيام حد أدنى من الحوار بين أفراد مثل هذه التجمعات . إذن فالحوار هو أساس ومصدر التجمع البشري وهو أساس تطويره . واحسب أن تخلف التجمعات غير البشرية عموماً - في مانعلم - يرتبط أساساً بمحدودية القدره على الحوار بين افراد مثل هذا التجمع . ويتيح ذلك الاستنتاج بان الحوار هو الأصل في التجمع البشري وان ما يطفو عادة على سطح هذا التجمع من صراع لا يعدو أن يكون انحرافاً عن الأصل واستثناء منه ، وهو ما يرجح خطأ تركيز البعض على فكرة أو مقولة الصراع وبحيث يبدو وكأنما الصراع هو الاصل في التجمع البشري وهو قدره ومصيره الذي لا فكاك عنه ابداً .

وإذا كان ماتمهد من مقاربة عقلية انتهى إلى أن الحوار وليس الصراع هو الأصل في التجمع البشري ، يبدو من المنظور الشرعي أن الحوار هو الأصل ليس على مستوى التجمع البشري وحده وإنما على مستوى الوجود كله . إذ يتضح من القرآن الكريم أن العلاقة الأساسية والأولى في هذا الوجود ، وهي علاقة الخالق بالمخلوقات قد بدأت وتأسست واستمرت على أساس الحوار وحده . أما أنها بدأت على أساس الحوار فتشير أليه النصوص القرآنية التي تروى عن الحوار الرباعي الأطراف الذي تم في بداية الخلق بين الخالق سبحانه وتعالى من جهة وبين كل من الملائكة وإبليس والبشر من جهة أخرى . ومن تلك النصوص { وإذا قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين }15 و{ وإذ قال ربك للملأئكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها }16 و { قال يا إبليس مالك إلا تكون مع الساجدين قال لم اكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال }17 و { وقلنا يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة }18 فهذه النصوص ، وأمثالها ، تحكي لنا بعض مادار بين الخالق وبعض مخلوقاتة من القول : والأصل في القول كما نعلم هو الحوار . والجدير بالملاحظة هنا أن تأسيس علاقة الله بالمخلوقات على الحوار لم يقتصر على علاقة الله ببعض المخلوقات ، مثلاً كالتي جرى العرف على تسميتها بالمخلوقات العاقلة أو الناطقة . فالنصوص توضح لنا أن الله كما حاور الإنسان والملائكة حاور كذلك الارض والسماء { وقال لها وللأرض }19 و { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها }20 . أما أن علاقة الله بمخلوقاته إستمرت على أساس الحوار - الحوار الاقناعي وحده - وليس القسر والإكراه فواضح مما هو معلوم من استمرار الله سبحانه وتعالى في محاورة مخلوقاته ، وخاصة الإنس والجن ، من خلال رسله الذين حملوا إلى أقوامهم رسالات سماوية بلغاتهم تيسيراً لعملية التحاور .

والدلالة الأساسية التي يخرج بها المسلم مما سبق بيانه من أن الله أسس وبنى علاقته بمخلوقاته على مبدأ الحوار وان هذه العلاقة استمرت وتستمر على أساس الحوار ، رغم ما نعلم من سلبية استجابات اكثر الإنس والجن لهذا الحوار ، هي أن الله أراد أن يعلمنا عمليا ، ومن خلال القدوة الحسنة ، أن النهج السليم في تأسيس وإدارة العلاقات في هذا الوجود هو تأسيسها وإدارتها على مبدأ الحوار . ولاشك أن من شأن مثل هذه الدلالة أن توجه المسلم إلى الحرص على بناء علاقته بالآخر سواء من المسلمين أو غيرهم على مبدأ الحوار . على أن الشرع لم يشأ أن يترك أمر الحوار في حياة المسلم لمثل هذا الاستنتاج الذي وان توصل اليه البعض قد لا يتوصل إليه البعض الآخر وإنما حرص على تأكيد لزوم أن يبني المسلم علاقاته بالاخر على مبدأ الحوار بنصوص صريحة وواضحة من مثل { وقولوا للناس حسنا }21 و{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هى أحسن }22 ، وامتثالاً لأوامر الشرع واحكامه وبيانا لها مارس الرسول صلى الله عليه وسلم الحوار والتزم به في تعاملاته مع المسلم وغير المسلم وحث أصحابه على حسن الحوار مع الآخر وعلمهم آدابه .

متطلبــات الحــــوار :
وإذا يتضح بذلك مدى حرص الشرع على تعزيز التوجه الحواري في السلوك البشري فان من الواضح أن مدى إقبال البشر على الالتزام بالحوار في تفاعلاتهم مع بعضهم البعض سيكون رهنا بمدى نجاح أسلوب الحوار في تمكينهم من الوصول الى أهدافهم وتقريبهم اكثر من تحقيق تطلعاتهم . وتتوقف فعالية أسلوب الحوار في تحقيق الأهداف المرجوة بشكل يشجع البشر على انتهاجه والالتزام به في تفاعلاتهم على مجموعة من العوامل التي لا يكتمل للحوار بدونها أسباب النجاح . ومن أهم هذه العوامل حسن اختبار الغاية من ، الحوار والاتفاق على مرجعية الحوار ،وتوافر المرونه الكافية لدى أطراف ، الحوار وحسن المصداقية العملية

الغايــة من الحـــوار :
صحيح أن الغاية المباشرة من الحوار عادة ما تتحدد تلقائياً بما تهدف إليه أطرافه في الموضوع محل الحوار . بيد أن مثل هذه الغايات غالباً ما تكون متضاربه بشكل يؤدي الإصرار عليها إلى تعثر الحوار وربما فشله تماماً . ومن هنا تأتي أهمية الاختيار الواعي والصائب لغاية أو غايات الحوار من قبل أطرافه . وتزداد أهمية تحري الصواب في تحديد الغاية إذا ما تعلق الحوار بشأن عام كما هو الحال مثلاً في الحوار بين الحضارات . ولعل المعيار الاهم في اختيار غايات الحوارات العامة بين أطراف متباينة هو تجنب الغايات الخاصة التي غالباً ما تثير ممانعة أو نفور الأطراف الآخرى و - بدلاً عن ذلك - تحرى ما قد يكون هناك من مصالح مشتركة تصلح لان تكون غايات مشتركة لأطراف الحوار . وفي ضوء ذلك يبدوا واضحاً أن ميل البعض لاختيار غايات مثل الهيمنة أو الإقصاء او الاختراق لايمكن أن يساعد في تحقيق أو إنجاح الدعوات القائمة للحوار الحضاري . واذا ما أخذنا في الاعتبار الاحتقان المتزايد في العلاقات بين الحضارات بينما تمس الحاجة الى التعايش السلمي والتعاون بينها ترجح لزوم أن تكون الغاية العامة الأساسية من الحوار الحضاري هي تزكية العلاقات بين حضارات وثقافات واديان العالم بمايؤمن الحد من الأوجه السلبية لتلك العلاقات وينمي أبعادها الإيجابية .

مرجعيــة الحـــــوار :
من المؤكد انه لا يستقيم أي حوار بين طرفين أو اكثر لا يستند إلى مرجعية واحدة يكفل الاستناد إلى مسلماتها حسم الخلافات وضبط الحوار وتوجيهه الوجهه الصحيحة . ويفترض أن لا تثور مسألة المرجعية أو يتعسر الاتفاق عليها إذا ما كان أطراف الحوار ينتمون إلى مرجعية واحدة لا خلاف على مسلماتها أو أسسها . ولذلك فان حوار المسلم مع الآخر لا يتعين أن يثير إشكالاً مرجعياً إذا ما كان الآخر مسلماً إذ تجمع بينهما مرجعية واحدة هي مرجعية البيان الشرعي . أما إذا تباينت المرجعيات الأساسية لأطراف الحوار كما هو الحال في الحوار بين الحضارات أو الحوار بين الأديان يغدو لازما اتفاق هذه الأطراف على مرجعية معينة تتبادل الاراء في ضوئها وتحتكم إليها في حسم الخلافات . ومن الواضح أن المرجعية الأنسب وربما الوحيدة التي يمكن الاتفاق عليها كمرجعية حاكمة في مثل هذه الحالات هي مرجعية العقل أو المنطق البشري وذلك باعتبار أن العقل يمثل القدر المشترك ، وان كان بدرجات متفاوته ، بين سائر المرجعيات التي يحتكم إليها البشر .

ولا ينبغي أن يجد المسلم حرجاً أو صعوبة في قبول مرجعية العقل البشري في الحوار مع الآخر غير المسلم ، إذ ليس في مثل هذا القبول تعارض مع مايتعين على المسلم التسليم به من حاكميه البيان الشرعي ومرجعيته . فالبيان الشرعي نفسه يقر ويؤكد أن العقل البشري يمثل أصلاً من أصول المرجعية الشرعية ويتيح بل يدعو إلى الإحتكام إليه في النطاق المحدد له ، وهونطاق واسع يشتمل بالضرورة على الحوار مع غير المسلم ويمتد الى مختلف الأمور الاجتهادية والمسائل العقلية . والواقع أن العقل هو المرجعية التي ارتضاها الله للحوار الإلهي - البشري حيث أن كافة الرسالات السماوية جاءت تخاطب العقل البشري وتعتبر العقل أساس الخطاب أو التكليف الشرعي ، ولذلك رفعت التكليف او الخطاب عن من فقد عقله أو لم يكتمل عقله بعد ، وتكريساً للاحترام للعقل وتشجيعاً للبشر على الاحتكام إليه امتنع الشرع الإسلامي عن ما درجت عليه الرسالات السماوية السابقة من الاستجابة لدعوات أو طلبات اجتراح المعجزات التي تبهر العقل اكثر مما تقنعه كشرط للأيمان . ولا يسع قارئ القران إلا أن يلاحظ أن الخطاب الشرعي وخاصة ماكان منه موجها لغير المسلم يعتمد في الإقناع أساساً على الحجج العقلية والبراهين المنطقية .

المـــرونة الكــافيـة :
من المتطلبات الأساسية لانجاح الحوار توفر قدر كاف من المرونة لدى أطراف الحوار . وتتوقف مرونة أي شخص أو طرف تجاه الآخر على عاملين أساسيين هما طبيعته الشخصية والمرجعية التي يستقي منها رؤيته للآخر ويحتكم إليها في اختلافاته معه .

وتتسم مرجعية المسلم - الشرع الإسلامي - بمرونة عالية تجاه الاخر تبدو واضحة في حرص الشرع على تنشئة المرء على التوجه الايجابي نحو الاخر من خلال تعاليمه التي تكرس لدى اتباعه الاهتمام بالتعارف مع الآخر { وجعلناكم شعوباً وقبآئل لتعارفوآ }23 ، ومخاطبته بالحسنى { قولوا للناس حسناً }24 و { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هى أحسن }25 ، والاهتمام بأموره (ليس منا من لم يهتم بأمر المسلمين ) ، والتداخل معه مؤاكلة وتزاوجاً { وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم }26 ، والتعاون معه { وتعاونوا على البر والتقوى}27 و { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم }28 ، ونصرته إذا ما ظلم أو استعضف أو أهين { ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء}29 ، والتجاوز عن أخطائه وزلاته تسامحاً وتنازلاً وعفوا وصلحاً ( والصلح خير ) و { فمن عفا واصلح فاجره على الله }30 وإيثارة على النفس { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }31

ولا شك أن مرجعية تتسم بهذا القدر من التوجه الإيجابي نحو الاخر كفيلة بان تربي من يلتزم بتعاليمها على التخلق في حواراتهم مع الآخرين بمرونه عالية تعكس مضمون الحديث النبوي ( المؤمن هين لين) وتساعد على إنجاح الحوار .

المصداقية العمليـــة :
يعد اقتناع أطراف الحوار بتوافر حد أدنى من المصداقية العملية لدى الطرف الاخر أمراً أساسياً لإستمرار الحوار بحيث تتاح فرصة اكبر للتغلب على الخلافات وتحقيق النجاح . وفي غياب مثل هذا الاقتناع غالباً ما تقل الرغبة ليس فقط في مواصلة الحوار وإنما حتى في مجرد بدء الحوار وهو مايترتب عنه ما يعرف بأزمة الثقة والتي تمثل أحد أهم عوائق الحوار في الوقت الراهن .

واهتمام الشرع ببعد المصداقية العملية تؤكده ما يتضمنه الشرع من نصوص صريحة ومباشرة توجب تطابق القول والاعتقاد كما توجب تطابق القول والعمل وتحظر الانفصام بينهما ولو حتى على المستوى الشخصي ناهيك عن المستوى العام { يقولون بأفوههم ماليس في قلوبهم }32 و ( هل يكذب المؤمن ؟ قال : لا) و { لم تقولون مالاتفعلونْ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالاتفعلون }33 ، ويأتي في اطار حرص الشرع على تعزيز مصداقية أتباعه تشديد الشرع على لزوم الوفاء بالوعد والالتزام بالعهد والميثاق من غير تمييز أو تفريق بين أن يكون الطرف الاخر مسلماً أو غير مسلم .

إذن فالشرع يحرص على ، ويفضي الإلتزام بتعاليمه إلى ، تعزيز المصداقية العملية للمسلم مما يمنع أن تكون مصداقيته سبباً لتعثر الحوار ويعزز احتمال نجاح حواراته مع الاخر وخاصة إذا ماتوافرت لهذا الاخر أيضاً مصداقية عملية كافية

تلك عن بعض متطلبات الحوار ومدى توفرها في مرجعية المسلم ( الشرع الاسلامي ) ، على أن مما ينبغي أن يكون واضحاً أن توفرها لمرجعية المسلم لا يعني بالضرورة توفرها للمسلم نفسه . والواقع أن تدني حظ المسلمين عموماً من متطلبات الحوار يعطي انطباعاً غير سليم للاخر ليس عن المسلم فقط وإنما عن الإسلام أيضاً الامر الذي يتسبب في إبعادهم اكثر عن الإسلام وفتنتهم عنه .إن واقع سلوكنا ، سواء الجماعي أو الفردي والشعبي أو الرسمي ، هو المحدد الأساسي لفهم الآخر للمسلم والاسلام معاً . ومن هنا لن يكفي أن نجيد العرض النظري للإسلام أو نحسن استعراض ماضينا المجيد ومساهماتنا السابقة في الإرث الحضاري البشري عموماً مالم ندعم ذلك بتغيير سلوكنا الشخصي والجماعي ونرتفع الى مستوى تعاليم ديننا الحنيف ونلتزم بقيمه ومبادئه

وكما يؤكد التاريخ ويشهد الواقع ، تؤكد وتشهد الكتب السماوية أيضاً أن الصراع بين البشر حقيقة واقعية وان جذور هذا الصراع موغلة في القدم . ووفقاً للكتب السماوية فان هذا الصراع بلغ ذروته منذ وقت مبكر جدا من التاريخ البشري كما تفيد قصة قتل أحد ابني آدم لأخيه .

ومن طول مصاحبة الصراع للوجود البشري واستمرار ملازمته له ، رغم أمنيات البعض وجهود البعض

1 القرأن الكريم : سورة طة ، أية 123

2 القرأن الكريم : سورة البقرة ، أية 20

3 القرأن الكريم : سورة المائدة ، أية 91

4 القرأن الكريم : سورة الانفال ، أية 48

5 القرأن الكريم : سورة الاسراء ، أية 65

6 القرأن الكريم : سورة النحل ، أية 100

7 القرأن الكريم : سورة البقرة ، أية 190

8 القرأن الكريم : سورة البقرة ، أية 251

9 القرأن الكريم : سورة البقرة ، أية 191

10 القرأن الكريم : سورة الحج ، أية 40

11 القرأن الكريم : سورة الشورى ، أية 40

12 القرأن الكريم : سورة البقرة ، أية 194

13 القرأن الكريم : سورة الاعراف ، أية 199

14 القرأن الكريم : سورة فصلت ، أية 34

15 القرأن الكريم : سورة البقره ، أية 71

16 القرأن الكريم : سورة البقرة ، أية 30

17 القرأن الكريم : سورة السجدة ، أية 33

18 القرأن الكريم : سورة البقرة ، أية 35

19 القرأن الكريم : سورة فصلت ، أية 11

20 القرأن الكريم : سورة الاحزاب ، أية 72

21 القرأن الكريم : سورة البقرة ، أية 83

22 القرأن الكريم : سورة العنكبوت ، أية 46

23 القرأن الكريم : سورة الحجرات ، أية 13

24 القرأن الكريم : سورة البقرة ، أية 83

25 القرأن الكريم : سورة العنكبوت ، أية 46

26 القرأن الكريم : سورة المائدة ، أية 5

27 القرأن الكريم : سورة المائدة ، أية 2

28 القرأن الكريم : سورة الممتحنة ، أية 8

29 القرأن الكريم : سورة النساء ، أية 75

30 القرأن الكريم : سورة الشورى ، أية 40

31 القرأن الكريم : سورة الحشر ، أية 9

32 القرأن الكريم : سورة آل عمران ، أية 167

33 القرأن الكريم : سورة الصف ، أية 202

 

المصدر:

http://www.mansourdialogue.org/Arabic/lecs%20(10).html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك