الطريق إلى التعايش والاستقرار السياسي

الطريق إلى التعايش والاستقرار السياسي

حسين احمد زين الدين

 

يعتبر عنوان « الآخر » من المفاهيم التي تحظى باهتمام متعاظم في أدبياتنا الثقافية والفكرية من قبل الباحثين والمفكرين، وهو بلا شك لا يقل أهمية عن كافة المفاهيم الجوهرية المترسخة في المنظومة الفكرية والحضارية والإنسانية، من بينها - على سبيل المثال لا الحصر - مفهوم المواطنة والتعددية والتسامح والحرية المؤدية إلى حالة التعايش والاندماج الوطني والإنساني، فهو يرتبط بها ارتباطا وثيقا وعميقا لا يمكن تناوله بمعزل عن هذه المفاهيم، وليس خيارا تفرضه التحديات والأزمات، وإن كانت هناك ثمة دوافع وأسباب تدفع باتجاه الحاجة إلى بلورة مفاهيم وقيم وثقافات من أجل تأسيس علاقة سليمة، إلا أن أصل هذه المفاهيم متجّذر في صلب المجتمع الإنساني، فالمداراة أصل متجذر في الفطرة الإنسانية تقتضي القبول بالآخر، واليسر والتيسير يتطلبان التعايش معه، والالتزام بقيمة السماحة هو النافذ الحقيقي إلى قيمة العدالة التي تساعد على تجاوز الأنا وحالة التعصب والنفور من الآخر. وليس بإمكان تلك المفاهيم أن تتحقق وتكتمل صورتها كوحدة متكاملة دون تواجدها مع بعضها البعض، فلا يمكن « أن ندعو إلى وحدة شاملة لهذا التنوع في الوقت الذي لا نعترف بأن هذا الآخر المختلف جزء لا يتجزأ من مكونات هذه الوحدة الشاملة» [1] .

 

إن اعترافنا بتلك المفاهيم الجوهرية واستحضارها في واقع حياتنا وعلاقتنا الإنسانية بالشكل السليم والصحيح، سيعزز فرص الاستقرار والأمن، وسيحمي المصالح الذاتية والمصالح العامه، لكننا - وللأسف الشديد - عملنا على تغييب تلك المفاهيم والتفاعل الإيجابي معها، وتم توظيفها من أجل مصالح وأهداف خاصة ومحددة، الأمر الذي ترك أثرا نفسيا واجتماعيا وفكريا على سلوكنا وقراراتنا، وفي طريقة تعاملنا مع بعضنا البعض، ومارسنا أقسى أشكال التمييز والتهميش والإقصاء بذواتنا وبذات الآخر المختلف، نتج على إثر ذلك عزلة اجتماعية وسياسية وفكرية بين جميع المكونات حتى ضمن المكون الواحد.

 

إن المتأمل لحقيقة تلك الحالة، يدرك أن هناك خللا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، ناتج عن الجهل بالآخر والقراءة الخاطئة لمتطلبات التعايش والتسامح، حتى أضحت نظرتنا للآخر المختلف نظرة أحادية قائمة على التوجس والخوف والتشكيك به، لو أننا « تأملنا في الكثير من الالتباسات التي تطغى على السطح في طبيعة الرؤية أو الموقف من الآخر المسلم، لوجدنا أن من الأسباب لذلك هو عدم المعرفة الدقيقة بالآخر. فتتشوه رؤيتنا للآخر المسلم من جراء جهلنا لبعض خصوصياته الثقافية والتاريخية» [2] .

 

ولعل ما يجب التأكيد عليه والاعتراف به، أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية كبقية المجتمعات الأخرى تضم تعدديات وتنوعات مختلفة؛ حيث أنها تختزل في داخلها الكثير من التباينات والاختلافات الأيديولوجية والعقدية، التي قد تفضي - إن لم نحسن التعامل معها - إلى القطيعة والتباعد.

 

وحقيقة إن المشكلة ليست في وجود تلك التعدديات والاختلافات، وإنما في إدارتنا الإدارة الواعية والسليمة « إن جوهر المشكلة الحقيقية ليس وجود حالة التنوع والتعددية في المجتمعات الإنسانية، وإنما في غياب الإدارة الواعية والحكيمة والحضارية لحالة التنوع ومتطلباتها المختلفة» [3] .

 

لهذا نستطيع أن نقول: إن العامل المشترك والضابط لهذا الاختلاف أو هذا التباين، هو عامل التلاقي والحوار، فالمعالجة الحقيقية لهذه الأزمة لا يكون إلا عبر قنوات الانفتاح على كافة تلك التعدديات والتنوعات والعمل معها على نشر ثقافة التسامح وضرورات العيش المشترك بواسطة عمل مؤسساتي وطني حضاري شامل، قادر على فهم الآخر والتعايش معه؛ إذ لا خيار لنا إذا أردنا العيش المشترك إلا خيار التواصل والتلاقي والقبول بالآخر، وهو الخيار الصحيح للنهوض بأوطاننا.

 

لذا فإن حقيقة التنوع لا ينبغي أن تدفعنا إلى حالة الاحتراب والاقتتال بل يجب أن نتخذها محفزا على تعزيز حالة الوحدة والاندماج والاحترام المتبادل لتكتمل الصيغة الإنسانية المؤسسة لحالة التسامح والتعايش والتواجد السلمي في مجتمعاتنا.

 

إن حالة التشظي والانقسام والصراع الديني والمذهبي والعرقي التي تشهدها مجتمعاتنا المعاصرة، ناتجة عن غياب الوعي الثقافي والرشد السياسي والنباهة الاجتماعية لحالة التنوع والاختلاف وإدارته، وذلك ناتج أساسا عن القراءة المغلوطة والقاصرة لواقع الآخر المختلف.

 

ناهيك عن استغلال بعض الأنظمة السياسية في مجتمعاتنا لظاهرة التنوع والاختلاف الطبيعية في المجتمعات البشرية لتنمية حالات الانقسام والصراع وتوظيفها في تغليب مكون ضد آخر للحصول على مكاسب خاصة من خلال اللعب على الثنائيات: سني/ شيعي/ مسلم/ مسيحي، بدو/ حضر/ أمازيغ/بربر/ عرب وما هنالك من تنوع، لتشكل أوراقا للضغط على الطرفين وإشغالهما بالصراع الثنائي، متوسلة بمؤسسات إعلامها ومناهجها التعليمية ومنابرها الدينية والقومية المختلفة، في تغذية خطاب الكراهية والتحريض ضد الآخر، من هنا نرى « أن المسؤول الأول عن ظاهرة العنف والغلو وغياب التسامح في مجتمعاتنا العربية، هو الاستبداد السياسي والأنظمة الشمولية والدولة التسلطية التي تزيد من الاحتقانات والتناقضات، ولا توفر مجالا ومناخا للتنافس السلمي أو ممارسة السياسة بعيدا عن المشاحنات واستخدام العنف» [4] .

 

و« إن الاستبداد بكل صنوفه، يضر بالاستقرار، ويهدد النسيج المجتمعي، ويعمق الفجوات بين المواطنين، ويزيد من المحن على كل المستويات، ولا معالجة لكل الأمراض والظواهر السلبية إلا بالتشبث بخيار الإصلاح والعمل على الوفاء بكل حاجاته ومستلزماته» [5] .

 

إن تلك السياسة وإن نجحت في اكتساب بعض الغايات على المدى القريب إلا أنها على المدى البعيد ستؤدي إلى تهديد جدي وخطير لأمن واستقرار مجتمعاتنا ووحدتها الوطنية.

 

من هنا، نرى أن المشكل الطائفي والصراع الديني يستمد قوته وحيويته من الثقافة الإقصائية والنظرة الأحادية والمناهج الاستبدادية فـ«الكثير من مظاهر التوتر، هي نابعة في بعض جوانبها من طبيعة الخيارات السياسية والثقافية المستخدمة تجاه ظاهرة وحقيقة التعدد المذهبي في بعض البلدان والدول». [6]

 

لذا تمثل مشكلة التعدديات والأقليات في مجتمعاتنا العربية والإسلامية جزءا من محنة كبرى هي» المواطنة»، فالتمييز المذهبي والتهميش السياسي والحجر الثقافي هو أحد عناصر مايمكن تسميته « أزمة المواطنة» التي تنطوي على الكثير من العناصر والتجليات، إلا أنه أكثر هذه العناصر خطورة وتعقيدا؛ لأنه يتصل باستقرار هذه الدول ووحدتها والتعايش بين أبنائها.

 

فالمواطنون يتحصلون على حقوقهم ضمن معايير ومقاييس معينة لا على أساس المواطنة والشراكة والمساواة والعدل وحاكمية القانون، وهو خلاف لحقيقة مفهوم» المواطنة حق للجميع»؛ إذ لا يمكن إلغاء حقوق المواطنين كلاً أو جزءا بسبب التوجه المذهبي أو الفكري أو العرقي.

 

« إن اختلاف الأديان والعقائد لا ينبغي أن يكون مسوغا للانتقاص من حقوق الأقليات في أي من الدول الديمقراطية المعاصرة، فمثل هذه الممارسات توصم اليوم بالعنصرية، كما أنها تعرقل التعايش السلمي بين سكان البلد الواحد، وتضعف من قوة الدولة، بل قد تهدد وحدته، كما إنها تهدد السلم الدولي. مرجعية العصر إذن هي حقوق الإنسان وحرياته، وعليها يقوم النظام الديمقراطي، باعتبارية آلية لتداول السلطة سلمية، ولتحقيق طموحات الشعب في العيش بحرية وعدل وكرامة إنسانية. وبمعنى آخر تحت مظلة المواطنة حيث يتمتع الجميع بالمشاركة السياسية في دولة ديمقراطية وبالمساواة أمام القانون في دولة القانون وهذا ما يتطلب دستورا جديدا معاصرا يحوى ضمانات كل الحقوق والحريات لكل فئات المجتمع ولجميع المواطنين رجالا ونساء. على اختلاف أديانهم وأعراقهم وألوانهم، داخل حدود الدولة، باعتبارها جزءا من العالم المتحضر». [7]

 

من هنا يمكن القول: إن الكراهية والتحريض عليها لا تفضي إلى الاستقرار والأمن، وأن التمييز أو الإقصاء بكل مظاهره وأشكاله لا يؤدي إلى الوحدة والاندماج، وأن العيش المشترك لا ينجز بدحر التعددية والتنوع بل بإعداد الفضاء السياسي والحضاري المناسب، والقانون هو الرافعة الحقيقية والضمان لحقوق الإنسان وأمنه واستقراره في وطنه.

 

ووفق هذه الحقيقة ندرك أن الخوف من الآخر والنفور منه لا يحصن الذات ولا يبقيها بعيدا عن المخاطر والتحديات، بل إن الانفتاح وتوسيع دائرة التلاقي والمشتركات هو من يضمن حقوق الذات وحقوق الآخرين.

 

إن إمكانية التعايش في مجتمعاتنا يمكن أن تتحقق وتنجز وفق حرية الرأي والمعتقد واحترام حقوق الإنسان، ولكي تكتمل الصورة يجب أن تلعب المؤسسات الرسمية والمدنية في تعزيز مفهوم التعايش والمواطنة وتوسيع المشاركة الشعبية، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص لكافة فئات الوطن والمجتمع في كل مجالات ومواقع صناعة القرار بغض النظر عن أي اعتبارات مذهبية أو توجهات فكرية، والضغط باتجاه فرض قوانين وتشريعات تجَّرم خطاب الكراهية والفرقة. وكل ذلك عبر تبني إصلاح سياسي شامل يتضمن منابرها الإعلامية ومؤسساتها التربوية والتعليمية وبرامجها التعبوية المختلفة، خاصة في هذه المرحلة التي تشهد منطقتنا العربية جراء رياح التغيير والتحولات " تتأكد الآن أكثر من أي وقت مضى مبادرة الأنظمة السياسية إلى القيام بإصلاحات شاملة، تستجيب فيها إلى تطلعات شعوبها، وتحفظ وجودها، وتحقق الاستقرار والأمن السياسي والاجتماعي، وتسد الطريق على مساعي الدول الكبرى التي يبدو أنها مصممة على التدخل في شؤون مختلف مناطق الشرق الأوسط، لفرض تغيير سياسي فيها بحجة نشر الديمقراطية، وضمن مشروع مكافحة الإرهاب، كما صرح بذلك أكثر من مسؤول في الإدارة الأمريكية. إن أخذ زمام المبادرة من قبل الحكومات للإصلاح السياسي هو الطريق لتلافي انفجار غضب الشعوب، اتلي يصعب عليها الاستمرار في تحمل ضغوط الواقع المر، والصبر عليه أكبر، خاصة مع وجود المحفزات الدولية، ووضوح ضعف بنية الأنظمة وقدرات صمودها. «8»

 

ولعل من المفيد الإشارة إلى أن إقامة المؤتمرات واللقاءات تشكل رافعة حقيقية في تعزيز الحوار وكسر حاجز الجمود بين مختلف المكونات، وتمثل فرصة حضارية في سبيل تأسيس برامج وفعاليات مشتركة، إن نحن عملنا على استثمارها وإدارتها بالشكل الصحيح والسليم. وفي تصوري إن نجاح تلك المؤتمرات واللقاءات مرهون بقدرتنا أولا على الشفافية والصراحة في عملية الطرح لقضايانا، وثانيا على مدى قدرتنا في تفعيل جميع التوصيات التي جاء بها المؤتمر وتحويلها من المستوى النظري إلى المستوى العملي.

 

وجماع القول: نخلص إلى أن الطريق إلى التعايش والاستقرار السياسي في مجتمعاتنا العربية، يتطلب التأكيد على الأمور التالية:

 

1» الاعتراف بالتعددية بأشكالها وصورها المختلفة، وتحويلها إلى مصدر إثراء وحيوية لمجتمعاتنا ووطننا، وأن الاختلاف سنة طبيعية وهي لا تلغي خصوصية الآخر أو التنازل عن حق من حقوقه.

 

2» تعزيز مفهوم المواطنة مع الانتماء الوطني، المواطنة بما تعني من واجبات وحقوق والتزام ومسؤوليات ومضامين دستورية وسياسية تحفظ الخصوصيات.

 

3» بناء رؤية جديدة ونمط سياسي جديد لطبيعة التعامل مع حقائق التعددية الموجودة في الفضاء العربي.

 

4» على الأنظمة ضرورة المبادرة إلى القيام بالإصلاح السياسي شامل لتلافي انفجار غضب شعوبها.

 

5» إننا بحاجة إلى أن يعيد كل مكون من المكونات النظر في طبيعة مناهجها والأساليب التي تساهم في تشكيل وعي الدعاة وتكوينهم النفسي والفكري.

 

6» على المؤسسات التربوية والإعلامية أن تتبنى خطاب الاعتدال والوسطية في وسائلها المرئية والمسموعة والمقروءة، ومناهجها التربوية والتعليمية وبرامجها التعبوية المختلفة.

 

7» العمل على توسعة المشاركة الشعبية، وتحقيق العدالة ومبدأ تكافؤ الفرص لكافة فئات الوطن والمجتمع في كل مجالات ومواقع صناعة القرار بغض النظر عن أي اعتبارات مذهبية أو توجهات فكرية، وإنهاء كل مظاهر الاستبداد.

 

8» الضغط باتجاه صياغة قوانين وتشريعات تجَّرم خطاب الكراهية والفرقة، وإنهاء كافة مظاهر التمييز والإقصاء والتهميش.

 

9» الدعوة إلى عملية نقد ثقافي وإصلاح اجتماعي تتجه إلى مراجعة جادة وجريئة لمواقفنا من الآخر انطلاقا من نقدنا لذواتنا وواقعنا وأفكارنا ومواقفنا.

 

10» توسيع دائرة الممكن وبناء وتنظيم المساحات المشتركة التي تجمعنا معاً.

المصدر: http://rasid.com/artc.php?id=49692

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك