التقريب بين المذاهب توضيح ومعالجة

التقريب بين المذاهب توضيح ومعالجة

إبراهيم النصيراوي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وأصحابه الطيبين.

 

في بداية الحديث أقدم جزيل شكري لمؤسسة الإمام الخوئي الخيرية الداعية لعقد هذه الندوة المباركة سائلا المولى جل وعلا أن يأخذ بأيدينا جميعا لإعلاء كلمة الحق ويحقق أمنيات المسلمين ويوفق القائمين على هذا المشروع لإنجاز المزيد من العمل الهادف في طريق خدمة الإسلام والمسلمين .

 

المدخـل

 

لم تكن فكرة التقريب بين المذاهب وليدة العصر الحديث وإنما هي أمنية تسري مع الزمن وللمسلمين جميعا الرغبة الملحة في الرجوع إلى تلك الأيام الخالية من التضارب والتهاتر واجتماع الكلمة والعمل من أجل الإسلام الذي أنزل على النبي الأكرم ( ص ) . وفي بداية بحثنا نتساءل هل أن المراد بالمذهب ـ أيا كان ـ الإسلام الذي نزل به جبرائيل على النبي الخاتم أو غيره ؟

 

إن قلت إنه الإسلام المنزل على النبي (ص) فنقول إنه واحد لا يتعدد وبذلك صرح القرآن الكريم ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ومن المستحيل أن يأتي الرسول ( ص ) بإسلامين أو ثلاثة أو أربعة متفقة في شيء ومختلفة في آخر بل الإسلام واحد وهذا ما نراه من خلال تصريحاته (ص) كقوله ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وقد وصلى صلاة واحدة من أول يوم وجبت عليه إلى أن فارق الدنيا.

 

وإن قلت غيره ، أي أن المذهب غير الإسلام ومعنى ذلك إننا متفقون على إسلام منزل واحد إنما اختلفنا في الفهم والمصداق والتمثيل الخارجي وكل هذا حصل في عصر ما بعد الرسول الكريم صلى الله عليه وآله .

 

إذن والنتيجة أننا اقتربنا في أول خطوة على الطريق وهو أن الإسلام والحمد لله واحد والمذهبية ترتبط في آلية مفرداته تشخيصاً وتأويلاً وتفسيرا وما شابه وكل هذا يمكن أن نقترب فيه أكثر فأكثر حينما نتدارس الأمر بصورة جيدة وجدية .

 

والتقريب بين المذاهب يبعدنا عن التمذهب السلبي القائم على التناحر الذي هو بحقيقته غير ديني ويقربنا إلى التمذهب الإيجابي الذي هو نشاط فكري وعلمي ومدارسة واقعية قائمة على أساس ديني ويقربنا بالنتيجة إلى الإسلام الواحد الذي اتفقنا عليه .

 

إذن هو اقتراب أكثر من الإسلام الموحد بتحديد نقاط التباعد ومن ثم مدارستها والتغلب عليها وإلغاؤها ويبقى المالكي مالكيا والحنبلي حنبليا والإمامي إماميا وهكذا لأنه ليس المهم هو التسمية إنما الواقع الخارجي .

 

ومن أجل أن لا ننظر إلي عملية التقريب بعين التهويل والتعظيم وعدم الإمكان نلفت الأنظار إلى أن المسائل التي تنطوي تحت لواء الإسلام مهما بلغت لم نختلف فيها كلها بل هنالك مسائل كثيرة هي ثوابت اتفق عليها المسلمون ولا يمكن الاختلاف فيها وعدد آخر تتفق الآراء فيها اجتهادا وتتحد والباقي نسبة قليلة لا تشكل عائقا كبيرا رغم حساسية بعضها إلا أنه بالإمكان التغلب عليها تماما ولم يكن أمرا مستحيلا وقد وجدت في زمن ما.

 

إلا أن التقارب لم يكن بين السنّة والشيعة ويخطأ من يذهب لهذا الرأي إنما التقارب المفترض تحققه على عدة جبهات بين الشافعية والشيعة والحنابلة والمالكية والأحناف وهكذا أي في المجموع وليس مع طرف دون آخر إذ التأريخ بين أيدينا يذكر كيف تطور الخلاف في الفروع إلى احتدام سياسي بين الشافعية والأحناف في أصفهان عندما دخل هولاكو وقتل عددا من الأبرياء ولمزيد من المعلومات راجع الكامل لابن الأثير حوادث سنة 323 هـ تحت عنوان فتنة الحنابلة ببغداد .

 

وهكذا في الجزء الثالث عشر من تأريخ بغداد للخطيب البغدادي وهو من كبار علماء الشافعية تجده يحمل على الإمام أبي حنيفة حملة عنيفة ، إلى غير ذلك من الشواهد الأخرى.

 

إن أطروحة كل مذهب تدعو إلى التقارب لأنه دعوة الأنبياء وأمنية رسالات السماء وهتاف القرآن والسنّة فهل يمكن أن نعرف أين تكمن المشكلة التي تحول دون حصوله منذ زمن بعيد ؟ .

 

والجواب يتضح من خلال النقاط التالية :

 

لم تؤخذ الدعوة إلى التقريب بعين الجدية ولم يمارس ضغط تعبوي داخلي للتغلب على المشكلة ومن ثم تمييعها وتضييق هوتها ، وبقيت شعارا لطيفا يرفع دون واقع عملي وإن وجد فدون حجم المشكلة بكثير .

 

روح التعصب التي يتعامل بها بعضهم مع البعض الآخر مما يؤدي إلي الإصرار المسبق على الرأي ومن ثم لا ينفع الحوار قطعاً ويؤدي إلي ما لا يحمد عقباه مع أن الإسلام شدد على الدعوة إلي سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة . الموروث القديم الذي أصبحت له قدسية خاصة بحيث لا يمكن المناقشة فيه مما يغلق الباب في بداية الطريق عن الولوج في بعض القضايا مثل قداسة أبي هريرة وصحيح البخاري عند بعضهم وقداسة زرارة والكافي عند آخرين دون إلقاء نظرة أخيرة على الاثنين ثم الوصول إلي نفس النتيجة الموروثه أو المغايرة لها وبذلك تتم الحجة .

 

هناك نقطة مهمة هي أننا ندرك أن أمامنا أمرين أحدهما فعل خارجي جوارحي وآخر قلبي ويمكن التمثيل لكل منهما فالأول كالوضوء والثاني الخلافة ، أما الوضوء فقد أدى فهم النص الوارد عن قوم إلي غسل القدمين وعند آخرين إلي مسحهما فكان الوضوء في ظاهره مدعاة للاختلاف الذي يتكرر يوميا وهو فعل خارجي يلحظ ويشاهد ويعرف الاختلاف كل من ينظر إليه وهو تكليف شرعي مستمر مع الانسان عملاً حتى يخرج من الدنيا ، أما الخلافة فإننا نتنازع هل أن الإمام علياً خليفة شرعي أول أو يحق لأبي بكر أن يكون كذلك . نحن نناقش لماذا تقدم هذا على ذاك رغم مرور أكثر من ألف سنة وقد حكم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولا نجعل النقاش قائما على أساس الأحقية الثابتة بالنص الصريح الصحيح ليتبين لنا الواقع الذي يجب بناء العقيدة عليه مما يسهل علينا معرفة الفروع الصحيحة وفق التبني العقائدي المدروس ، وهذا العمل القلبي صار مدعاة للفرقة والتناحر والتسابب وجرّ إلي أمور كبرت شيئا فشيئا وأثرت سلبا على ديمومة الوحدة الإسلامية وكان الأجدر بذل الجهد للوصول إلى الحقيقة وهذا مفردة مهمة في جدول التقريب بين المذاهب .

 

علماً أن كل ما يتفرع من أمور خارجية وتكليف سماوي كما قلت يتبع في ممارسته لذلك الأمر العقائدي فمن يعتقد بصحة مذهب ما بطبيعة الحال يعمل طبق فتاواه فالمهم إذن تصحيح المسار لردم هوة الخلاف .

 

التقريب في النصوص

 

التقريب سبيل إلى الوحدة وقد حظيت الوحدة بدعم النصوص على مستوى قرآن وسنّة حيث أشار الكتاب إلى كليات الوحدة والإتفاق مؤكدا عليها ومحذرا من عواقبها ويمكن أن يكون التقريب الذي نحن بصدده أحد مصاديق دعوة الكتاب العزيز .

 

فقد ذم القرآن الكريم الإختلاف وحبّذ الوحدة التي تقوم على أساس الفطرة الإنسانية التي أودعها الله سبحانه في الإنسان لكنه يبتعد عنها بفعل مؤثرات كالهوى والجهل والطغيان والتعصب وهكذا . وحينما يضعنا القرآن بهذه الصورة يريد تأكيد مفهوم التقريب والوحدة وعدم التباعد ، ولنستعرض من الكتاب العزيز بعض آياته الكريمة :

 

قال تعالى : ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون )(3).

 

قال تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )(4). قوله تعالى : ( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين )(5). إذن الاعتصام والإتحاد هو الأساس في نظر القرآن الكريم . ونجده دائما يستعمل تعابير مذكرة لبني آدم بوحدتهم الشخصية والنوعية لتكون مدعاة لنبذ الفرقة والإختلاف كقوله تعالى :

 

( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة )(6) . وفي بعض آياته يجعل أحد مساوئ الطغاة كونهم يسعون للفرقة بين الناس كقوله تعالى مستعرضا أسلوب طغيان فرعون : ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ) . وأعطى النبي (ص) والأئمة التقريب والإتحاد أولوية كبرى قولا وعملا وهو القائل : ( من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام ، قيل يا رسول الله وما جماعة المسلمين ؟ قال : جماعة أهل الحق وإن قلوا )(7) .

 

وأول خطوة اتخذها عند دخوله المدينة بناء المسجد ليكون كهفا لأهم مظهر إسلامي يعبر عن التلاحم والاجتماع واتخاذ القرارات الموحدة ثم طرحه مفهوم التآخي بين المسلمين وهو تعبير رائع عن سلوك هذا النهج الوحدوي .

 

وهكذا نجد تعامل أهل البيت عليهم السلام منطلقا من نفس الرؤية القرآنية والنبوية فالإمام علي ـ ع ـ واجه مشكلة الخلافة بعد غياب الرسول (ص) وهي أول مشكلة حقيقية واجهت المسلمين ويعتبر الإمام قطب رحى الخلافة من خلال الأدلة الكثيرة وقد أبعد عنها على مدى خمس وعشرين سنة وكانت تجربة صعبة يتحدد الموقف فيها بواحد من النقاط التالية :

 

1ـ الابتعاد عن الساحة والوقوف موقفا سلبيا ممن تقدمه وإحصاء النقاط السلبية في تجربتهم بالخلافة .

 

2ـ التخطيط لقلب نظام الحكم من خلال المواجهة وإثارة المشاكل في الساحة الإسلامية.

 

3ـ الموقف الإيجابي ومراعاة الأهم والمهم وتقديم المصلحة العامة على الخاصة .

 

نجد أن الإمام اختار الأخير أي مسألة الإسلام في وجوده ووحدته وقوته ومواجهته الأعداء ورأى أن مصلحة الإسلام بحفظه ووحدته أهم من كل مصلحة .

 

قال عليه السلام :

 

( أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله علـيه وآله وسلم نذيرا للعالمـين ومهيمنا على المرسلين ، فلما مضى عليه السلام تنازع المسلمون الأمر من بعده فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمـر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته ولا أنهم منحوه عني مـن بعده فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه فأمسكت بيدي حتـى رأيـت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صـلى الله عليه وآله وسلم ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيـه ثلما أو هـدما تكـون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قـلائل ، يزول منها ما كـان كما يزول السـراب أو كما ينقشع السـحاب فنهضـت فـي تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه )(8).

 

ويحدثنا التأريخ أن أبا سفيان تخلف عن بيعة أبي بكر وطفق يجول في أزقة المدينة يحرّض الناس على الخليفة وهو يقول : ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ، ثم جاء للإمام علي وقال له : ابسط يدك أبايعك فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا.

 

فأبى الإمام وزجره قائلا :

 

والله ما أردت بهذا إلا الفتنة وإنك طالما بغيت للإسلام شرا .(9)

 

وبإمكان الإمام أن يستغله لا سيما لأن أبا سفيان يحسب له حساب في مثل هذه القضايا وقد أبى الإمام علي عليه السلام لأنه رأى أن هذا العمل على حساب الإسلام.

 

وكان الإمام يعنى بحل المشاكل الفكرية والمسائل الفقهية المعقدة ويعطي الرأي في الطريقة الأفضل بالحرب بعيدا عن الحساسية الذاتية .

 

وهكذا نجد سائر الأئمة على هذه الأسلوب والمنهج يدعون لحفظ تماسك المجتمع الإسلامي وقوته فالإمام زين العابدين كان يدعو لوحدة المجتمع حتى مع بني أمية ويدعو خاشعا لجيوش المسلمين بالنصر رغم الرزية التي لم تصب أحدا مثله والمأساة التي عاناها منهم .

 

هل التقريب مكسب شيعي

 

إننا نحن الشيعة مع المذهبية في نشاطها العلمي والإجتهادي وليس معها في الحالة النفسية لبعض أبنائها المؤثرة على سلوكها من جراء الإختلاف مما يدع المجال للمغرضين والخائفين من راية الإسلام أن يلعبوا لعبتهم .

 

وتمثل وحدة الأمة الإسلامية إحدى الركائز الكبرى في خطة أئمة أهل البيت عليهم السلام وبذلوا من أجلها الكثير ووجهوا شيعتهم على هذا المنحى وعظموا من شأنها وحذروا من الإخلال بها كما اتضح جليا بما قدمنا من نماذج فيما سبق ، ونعود لما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام:

 

( إياكم أن تعملوا عملا نعيّر به فإن ولد السـوء يعيّر والده بعمله ، كـونوا لمن انقطعتم إليه زينا ، ولا تكونوا عليه شينا ، صـلوا في عشـائرهم وعـودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم ولا يسـبقنكم إلى شئ من الخير فأنتم أولى به منهم والله ما عبد الله بشيء أحب إليه مـن الخـباء ، قلت ـ الراوي ـ وما الخباء ؟ قال التقية )(1).

 

والتقية هي التقريب والوحدة بعينها لا كما أسئ فهمها .

 

وقال علي عليه السلام : ثلاث موبقات ، نكث الصفقة وترك السنّة وفراق الجماعة(2).

 

وأكرر أن من الخطأ الاعتقاد أن التقارب هو سنّي شيعي إذ أن المذاهب الأخرى بوضع لا تحسد عليه والخلاف كما هو قائم بين السنّة والشيعة نجده فيما بين المذاهب السنية كذلك ـ كما أسلفنا ـ إذن لماذا يعزى الخلاف الكثير للسنّة والشيعة وتنصب عملية التقارب عليهما ؟

 

يمكن أن نحدد الجواب في النقاط التالية :

 

1ـ إن جوهر الخلاف بين السنّة والشيعة أعمق وفي بعض النقاط الحساسة جداً كالإمامة والعصمة وأمثالهما ولهما درجة كبرى من القدسية عندنا وتعتبر أمثال هذه الأمور أصلاً مسلماً تبتني عليه كثير من المواقف والمسائل ـ كما بينا ـ بينما المذاهب السنية الأخرى تكاد تتفق فيما بينها على وجهة نظر في هذا المسألة قبال رأي الشيعة ينكرها الأخير بلا كلام .

 

2ـ إن للشيعة موقفا دينيا سياسياً خاصا تجاه السلطات القائمة فهم يرفضون كل حاكم مستبد مسلط بلا شرعية ويعتبرونه جائرا والأحكام التي تصدر منه تعتبر غير شرعية ومرفوضة تماما ولا يمكن التعاون معه حال ظلمه والعمل معه ودعمه ، وقد ردع الأئمة عليهم السلام المسلمين عامة عن التعاون مع ولاة الجور ومعاونتهم والعمل في سلطانهم بأي حال من الأحوال إلا في حدود حفظ النظام العام على تفصيل فيه ، واستمر الوضع على هذا قرونا طويلة مما جعل في الحسبان أن الشيعة تكتل رافض للسياسات الدنيوية الحاكمة ولأجل تمشية عجلة الحكم الجائر كان لزاما عليه ـ بعد اليأس من استمالة الشيعة ـ التوجه للمذاهب الأخرى التي تحتفظ بموقف إيجابي في أغلب الأحيان من الحكام ـ وفق وجهة نظر ـ مما جعل الصراع قائماً بين الفريقين كمدرستين وكخطين وسياستين لا تلتقي إحداهما بالأخرى في كثير من الحالات .

 

فالاختلاف بين المذاهب قد يؤدي إلى موقف سياسي أو أزمة اجتماعية بلا فرق بينهما وعلينا احتواؤهما .

 

3ـ هنالك عوامل تجعل المستوى الشيعي الثقافي الإسلامي أعمق مما عليه المذاهب الإسلامية الأخرى حيث باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه عندنا ومنذ فترة تقارب ألف ومائة وخمسين سنة يتسابق علماؤنا فيها على الإبتكار والإبداع والمناقشة العلمية والفكرية ولم يكن للجمود عين ولا أثر مما جعل الموقف الشيعي يؤخذ بنظر الاعتبار ويولى أهمية أكثر من غيره وأحرى أن يوجه التقريب نحوه .

 

4ـ إن الخط الشيعي أسبق وجوداً من المذاهب الإسلامية الأخرى ونحن ندعي وجوده من زمن النبي ( ص ) بينما المذاهب الإسلامية الأخرى الموجودة اليوم ظهرت متأخرة عنه في الوجود فالمذهب الحنفي تبع للإمام أبي حنيفة المولود سنة ثمانين للهجرة ، ومالك بن أنس ولد سنة ثلاث وتسعين وأحمد بن حنبل ولد سنة مائة وأربع وستين ومحمد بن إدريس الشافعي ولد سنة مائة وخمسين للهجرة ، ومن أئمة المذاهب من التقى بأئمة أهل البيت وحضر دروسهم مدة زمنية وجرت مناظرات بينهم وثبت لنا التأريخ مناظرات بين الإمام الصادق عليه السلام والإمام أبي حنيفة سجل فيها للصادق انتصار كبير ومن هذا المجموع لابد أن يكون المذهب الشيعي له الأصالة والسبق والقدم والارتباط بعصر النبوة والرسالة وهذا يدعو الآخرين إلي التقارب معه قبل غيره .

 

5ـ وأخيراً إن التقارب دعوة شيعية أكثر من كونها سنية وذلك لأن الشيعة على مرور هذه الحقبة الزمنية الطويلة عانت الويلات من التشهير والتكفير وكم الأفواه والاتهامات الباطلة ممن لا تروق لهم الإلفة فحينما ندعوا للتقارب وذلك لإطلاع المذاهب الاسلامية على ما عندنا عن قرب وتفاهم واتفاق لتوضيح الحقائق وإزالة كل ما من شأنه أن يعكر الاجواء .

 

والشيعة لديهم الرغبة لوحدة إسلامية كبرى تنطوي تحت رايتها جميع الفرق والمذاهب إلا أننا ندعو إلى حفظ المقاييس والإعتبارات فنحن لا ندعو لتقارب بين الشيعة والبهرة مثلا مع كامل الإحترام لهم وجميل لو حصل إلا أن ذلك من جهة النظرة المنطقية التي تحتم على البهرة مثلا أن تراجع حساباتها ولمن عليها أن تقترب وتدنو وتنتمي لأن الإسلام العظيم والرسالة الكبرى لا يمكن وضعها لمجموعة محدودة انفصلت لسبب ما عن التشيع ، ولا يهمنا الإعتراف بهذا أو ذاك بقدر ما يهمنا البحث عن الحق والوصول للحقيقة .

 

علماء الشيعة والتقريب

 

سبق أن قلنا إن ديدن الأئمة (عليهم السلام) هو الإتحاد والتلاحم وتماسك المجتمع البشري وقد سار علماؤنا على هذا النهج إلا أن الهوة قد اتسعت بسبب النمو البشري واتساع ربقة المعارف على اختلافها والتطور العلمي في كافة المجالات والأيدي المغرضة الممتدة إلى العالم الإسلامي وغير ذلك مما يتطلب جهدا كبيرا من العلماء لتلافي أخطار التباعد .

 

إننا لا ننسى دعوة المخلصين من علماء السنّة للتقريب كالشيخ محمد شلتوت والشيخ محمد عبده والشيخ سليم البشري وغيرهم ممن أسهم إسهاما فاعلا في تقارب المسلمين .

 

أما علماء الشـيعة فأستطيع تصنيفهم إلى صنفين هما علماء العصور السابقة ويعـّبر عنـهم ( المتقدمون ) ـ بلحـاظ الزمن ـ وعلماء العصـور المتأخرة ويطلق عليـهم

 

( المتأخرون ) وكلهم تقريبا قاموا بمحاولات تقريبية جادة حققت نتائج مهمة على مختلف الأصعدة للشواهد الآتية :

 

أولا ـ لو تصفح القارىء الكريم كتب الشيخ المفيد ـ وهي كثيرة ـ لرأى أنها تسير وفق الخط العام الإسلامي من دون إثارة للحساسيات ونجده قام بالخطوات التالية :

 

1ـ تصدى الشيخ لبيان العقائد الصحيحة مقارنة بآراء المذاهب الإسلامية كما في كتابه أوائل المقالات ، ووقف بوجه ظاهرة الغلو الخطيرة والكشف عن طبيعته وحده ومناقشة مزاعم الغلاة بالبرهان والدليل وأن المسألة لا ترتبط بالشيعة لا من قريب ولا من بعيد وقد حاربوها بدأ من الإمام علي وباقي الأئمة ( عليهم السلام ) ، ولا إشكال أن معالجة هذه الظاهرة رافد من روافد التقريب .

 

2ـ كان يحترم أراء الآخرين ويعمل من أجل الأمة كلها وكان يناظر أهل كل عقيدة (11)بعيدا عن كل ما يثير الفتنة بين السنّة والشيعة وكان يحضر مجلسه العلمي مختلف العلماء من سائر الطوائف ـ كما يقول ابن كثير ـ .

 

3ـ الحوار الهادف والمناظرات الكثيرة التي أجراها المفيد مع كبار علماء المذاهب الإسلامية بروح علمية إسلامية خالية عن التعصب مما جعل اللقاء والتلاقح الفكري ممكنا ليستمع كل واحد لدليل الآخر .

 

ثانيا ـ سار السيد المرتضى ـ تلميذ المفيد ـ على خطى أستاذه متبعا الخطوات التي قام بها وكتابه ( الإنتصار ) الذي تجد فيه الإتجاه العلمي في الدراسة المقارنة وهو خير مبادرة للتقريب ، وهكذا نجد كبار العلماء تسابقوا لهذا الميدان أمثال الشيخ الطوسي وكتابه (الخلاف ) حيث تناول فيه المسائل الفقهية بين الشيعة والسنة في مختلف أبواب الفقه وتعرض في كل مسألة لما يسند الجانبين من الأدلة مع المناقشة وكذلك العلامة الحلي في ( التذكرة ) .

 

ثالثاـ عملت الطائفة بالرواية التي يرويها الراوي السّني الثقة وتسمى الرواية الموثقة ، قال الشيخ الطوسي :

 

ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن دراح والسكوني وغيرهم من العامة عن أئمتنا عليهم السلام فيما لم ينكره ولم يكن عندهم خلاف (15)

 

رابعا ـ زيارة الحواضر الإسلامية من قبل كبار علمائنا كالشهيد الأول ( 734 ـ 786هـ ) حيث زار مكة المكرمة والمدينة المنورة وبغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم واجتمع مع مشايخ علماء السنّة وقرأ كتبهم وروى عنهم وكان على صلة وثيقة بالإتجاهات الفكرية لهم وحصل تلاقح فكري في مجال الفقه والأصول والعقيدة وهكذا الشهيد الثاني الذي حضر عند عدد من علماء السنّة أمثال أحمد الرملي الشافعي والشيخ أبي الحسن البكري ودرّس الفقه في بعلبك على المذاهب الخمسة

 

خامسا ـ نجد علماء الشيعة في القرون الأخيرة من دعاة التقريب أيضا ولا أريد الإستقصاء بل أشير إلى بعض العينات منهم :

 

1ـ السيد البروجردي ( 1292ـ 1381هـ ) وهو أحد كبار المراجع الشيعة وله خطوات تقريبية ملموسة وعلاقته بدار التقريب في القاهرة .

 

يقول له الشيخ محمود شلتوت في إحدى رسائله :

 

أثمن جهودكم وأسأل الله القادر العليم أن يحقق آمالكم الإسلامية وبشراكم فإن خطواتكم على طريق التقريب كانت مدعاة للصلاح والسير نحو الله ( 14).

 

2ـ الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( 1294هـ ـ 1373هـ ) وكان أحد كبار الدعاة لوحدة المسلمين والتقريب بين مذاهبهم من خلال أسفاره إلى الحجاز واجتماعه بكبار علمائها وبلاد الشام ولقائه بالشيخ أحمد طبّارة وعبد الكريم الخليل وفي مصر اجتمع بعلماء الأزهر طيلة ثلاثة أشهر وألقى عدة محاضرات على طلابه وحضوره المؤتمر الإسلامي المنعقد بفلسطين ليلة المبعث النبوي سنة 1350هـ وقد حضره كبار علماء المذاهب الإسلامية وألقى فيه خطبة سمعها ما يقارب خمسون ألفا وصلى خلفه الحضور بما فيهم علماء المذاهب وطلبوا منه الصلاة بهم مدة بقائه في القدس .

 

وهو القائل :

 

إلى كل ذي حس وشعور يعلم أن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى الإتفاق والتآلف وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف وأن ينظم بعضهم لبعض كالبنيان المرصوص ولا يدعوا مجالا لأي شئ مما يثير الشحناء والبغضاء والتقاطع والعداء (13).

 

3ـ السيد محمد تقي الحكيم ، وهو من كبار علماء الشيعة مؤلف كتاب ( الأصول العامة للفقه المقارن ) وهو أطروحة جدية تصب في هدف التقريب مباشرة ونموذج رائد في حقل الدراسات الإسلامية المقارنة .

 

قال في مقدمة الكتاب عند ذكره فوائد الفقه المقارن ما نصه :

 

تقريب شقة الخلاف بين المسلمين والحد من تأثير العوامل المفرقة التي كان من أهمها وأقواها جهل بعض علماء بعض المذاهب بأسس وركائز البعض الآخر مما ترك المجال مفتوحا أمام تسرب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم والتقول عليهم بما لا يؤمنون به (12).

 

4ـ الشهيد السيد محمد باقر الصدر أحد أبرز علماء ومفكري الشيعة في القرن العشرين الذي شخّص أهمية وحدة الشعور ليقود إلى وحدة الموقف عند الأمة في ميدان العلم والجهاد ، ويخاطب السنّي مثلما يخاطب الشيعي ويبرز هذا الأمر بوضوح في نداءاته ومنها :

 

أيها الشعب العراقي إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية بكل فئاتك وطوائفك ، بعربك وأكرادك بسنتك وشيعتك لأن المحنة لا تختص مذهبا دون آخر (15).

 

ويقول :

 

إني منذ عرفت وجودي ومسئوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل السنّي والشيعي على السواء ومن أجل العربي والكردي على السواء حيث دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعا وعن العقيدة التي تضمهم جميعا ولم أعش بفكري وكياني إلا للإسلام طريق الخلاص وهدف الجميع (16).

 

ونجد الروح التقريبية طافحة على بحوثه ومؤلفاته ففي كتابه بحث حول الولاية يتبع أسلوب المناقشة الهادئ رغم حساسية المطلب وهكذا في غيره .

 

5ـ الجهود التي بذلها علماؤنا الآخرون كالإمام الحكيم وتحريمه القتال بين العرب والأكراد ودعمه لقضية الشعب الفلسطيني وإجازته صرف الحقوق الشرعية على ذلك ، والإمام الخوئي ومشاريعه الإسلامية الداعية للتقريب وفتواه باستحباب الصلاة جماعة خلف السني والإمام الخميني ونداءاته برفع راية الإسلام والسيد عبد الحسين شرف الدين وما قام به قولا وفعلا مما يطول بيانه عند التفصيل إلا أنني اكتفي بهذه الشواهد .

 

6ـ بالإضافة إلى دور كبار العلماء الأعلام في التقريب نجد أن الإعلام الشيعي على كل المستويات هو الآخر يسهم في مشروع التقريب بعيدا كل البعد عن إثارة الفتنة وتحريك العواطف متحفظا في كل ما يطرح وهذا ما نراه فعلا على مستوى الإعلام المرئي والمسموع ومقابلات رجال الدين الشيعة وما يقوم به خطباء المنبر الحسيني من دور كبير في هذا الجانب التقريبي مما قدم للأمة عطاء كبيرا في طريق وحدة المسلمين.

 

نعم بيان الحقائق الثابتة والمدعومة بالدليل بهدف سليم علمي لا يمكن تفسيره بحال من الأحوال أنه طائفية وإلا يكون التقريب على حساب المبادئ .

 

ثقافة التقريب

 

قلت إن التقريب هو طريق نحو التوحد والوصول إلى روحية الإسلام وعلى هامش ذلك تطفح معطيات وأهداف لها أثر كبير في نمو ثقافة الفكر الإسلامي على كافة الأصعدة ومنها :

 

1ـ يساعد التقريب على فك حصار العزلة التي يعاني منها البعض مما يسهل عملية الدخول للساحة الإسلامية بمقبولية دون تشنج .

 

2ـ يرتبط تطور الفقه الإسلامي بمنهج التقريب نتيجة تلاقح الأفكار وقد شهدت الساحة الإسلامية شيئا من هذا القبيل في بعض أدوار الفقه حيث كان الفقهاء من جميع المذاهب يتعايشون ويتدارسون النظريات الفقهية وأساليب الإستنباط مما أثرى الفقه كثيرا .

 

3ـ دراسة قضايا المسلمين والإطلاع على مشاكلهم والتعاون على إيجاد الحلول الناجعة لها والبحث عن نقاط الضعف في الصف الإسلامي بعيدا عن روح الإنفراد.

 

4ـ يتولد شعور لدى أبناء المذاهب بالإخاء والتحابب وحسن الظن وسلوك طريق التربية العالية حين يصغي هؤلاء إلى علمائهم وهم يحملون هذه الروح البعيدة عن التعصب والحريصة على المصلحة الإسلامية من جراء التقريب .

 

والخلاصة أن هناك فائدة مترتبة على نفس العملية وذات الحركة التقريبية إذ تعتبر خطوة أولى للتقريب .

 

ونفس عملية التقريب والدعوة إلي ذلك وإقامة المؤتمرات والندوات لدراسة الامر تعتبر فائدة مهمة لأنها دعوة إلي الإخاء والتفاهم والتحابب والجلوس على مائدة واحدة وتبديد المخاوف التي ورثناها من الطائفية بعدم القدرة على ذلك .

 

بالإضافة إلى هذا إن التقريب حسن في كل أمر لأنه من مظاهر التعاون ويولى أهمية كلما كان الموضوع مهماً لذا يعتبر أسمى هدف نسعى إليه باعتبار أهمية الموضوع وحساسيته .

 

ثم إن الصحوة الإسلامية تشق طريقها الآن لتغزو العالم فكيف نواجه هذا العالم إذن ونحن نريد ملأ الفراغ الروحي هل بعقائد منهارة ولم نقصد الانهيار الذاتي على العكس فالعقائد الاسلامية متينة وقائمة على الدليل إلا أن تشعب الآراء خصوصاً غير المبتنية على أساس يجعلها ضعيفة أمام النقاش والجدل كذلك نحتاج إلي إظهار الأحكام الإسلامية بمظهرها اللائق وهذا مسؤولية كبرى على الأمة أن تكون بمستواها ، واذا عزينا التخلف والهبوط لمستوى الأمة لأسباب فأولها يكون التباعد المذهبي والخلاف الطائفي إذن التقريب له دور كبير في انقاذ الأمة .

 

والحمد لله أولا وآخرا

 

المصدر: موقع مؤسسة الامام الخوئي الخيرية

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك