الفقه المقارن: منهج علمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية

الفقه المقارن: منهج علمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية

 

محمد بن نديم الحمصي

 

جعل الإسلام العلم فريضة وفضل أصحابه على غيرهم من الناس. قال تعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون". وقال (ص): "طلب العلم فريضة على كل مسلم".

 

ولطالما كان العلم باباً للخير والوعي والانفتاح والتسامح، حتى إن الكثير من الذين دخلوا في الإسلام هم من العلماء والمخترعين في كافة المجالات الفلكية والهندسية والطبية فضلاً عن علماء الأديان الأخرى، وذلك بعد اطلاعهم على الإسلام ونظامه وعلومه والقرآن ومعجزاته على رغم الظروف التي تحيط بالإسلام ومحاربة أعدائه له سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، إضافة لسلوك الكثير من المسلمين البعيد عن الإسلام خلقاً وجهلاً، وكل ذلك لا يعطي صورة جيدة عن هذا الدين العظيم، لولا أن أولئك العلماء والباحثين نظروا بتجرد إلى حقائق الإسلام من خلال بحث علمي مقارن لكافة الأديان والشرائع وأنظمتها ومقارنتها العلمية وقد وضعوا جانباً خلفياتهم العصبية وموروثاتهم الدينية وأيقنوا بنتيجة البحث العلمي صحة العقيدة والشريعة الإسلامية وصلاحيتها لمتطلبات العصر ولكل زمان ومكان.

 

وحري بالمسلمين عموماً وبالعلماء وطلبة العلوم الدينية خصوصاً من كافة المذاهب أن ينهجوا هذا المنهج العلمي الصحيح في البحث والتحري والمقارنة بين المذاهب، شرط التجرد عن الخلفية العصبية المذهبية والتوجه بصدق وإخلاص للَّه تعالى سعياً لإصلاح حال المسلمين، بدءاً من التقريب بين مذاهبهم وصولاً لتحقيق وحدة الأمة التي تعتبر وحدها الطريق السليم لرفع مستوى الأمة وانتصارها على أعدائها الذين يهمهم تمزيقها ويسعون باستمرار لإبقائها متفرقة متنافرة مشغولة بجدال عقيم، تماماً كالذين يتناقشون في جنس الملائكة بينما كان الغزاة يدكون حصون قلعتهم.

 

وبالعودة إلى المنهج العلمي الذي نحن بصدده والذي عنوانه الفقه المقارن نجد أنه يحقق لأصحابه من العلماء وطلبة العلم وغيرهم من المثقفين ما يلي:

 

1- يزيدهم إحاطة بجوانب العلوم وأنواعها.

 

2- يعرفهم على أسباب الخلاف وحجج المخالفين لهم.

 

3- يحقق لديهم الوعي والإدراك اللازم لحل الخلافات.

 

ولا شك أن الفوائد التي سيحققها هؤلاء العلماء لن تتوقف آثارها عليهم بل ستتعداهم لتنشر لدى أتباعهم وعامة المسلمين الوعي والتسامح الذي يمكن بيانه فيما يلي:

 

1- إن هذه الخلافات الفقهية هي تعددية فكرية علمية بديهية ناجمة عن الاجتهاد في البحث عن الدليل للوصول إلى الفتوى وهي بالتالي أمر لا بد منه في العلوم كلها دينية كانت أو دنيوية إنسانية وطبيعية.

 

وعلى سبيل المثال حين يذهب المريض إلى أحد الأطباء تجده يشخص له مرضه ويصف له دواءه لكن المريض نفسه قد يذهب إلى طبيب آخر فيشخص له مرضه بشكل آخر ويصف له دواء آخر والأمر نفسه ينطبق على المحامي في قضيته والمهندس في مشروعه، والناس لا تستغرب ذلك لأنها تدرك أن مرد ذلك إلى نوعية دراسة الطبيب واجتهاده الشخصي وكفاءته. والأمر نفسه ينطبق على عالم الدين. وتلك هي الحقيقة العلمية التي لا ينبغي أن تشكل حساسية عند كل متبع ومقتنع بعالم معين أو مذهب ما وإن الإشكالية تحصل عندما يتحول الأمر إلى عصبية بغيضة لهذا العالم أو ذلك المذهب تتداخل فيها طبعاً المصالح الشخصية والفئوية السياسية والمادية فتحول الاجتهاد والتنافس العلمي للوصول إلى الحقيقة إلى صراعات بغيضة بعيدة كل البعد عن روح العلم وأجوائه السمحة.

 

2- إن عدم اطلاع العامة والخاصة من طلبة العلم من الفريقين على ما عند الآخر هو الذي يولد هوة كبيرة بينهما فالناس أعداء ما جهلوا والتعارف هو باب المودة والتعايش، ولا بد من الجرأة العلمية المبنية على ثقة كل فريق بنفسه وبمذهبه بحيث يندفع للاطلاع على ما عند الآخر من دون خوف من عقدة أن يؤثر عليه الآخر أو يؤثر على أتباعه فيحولهم عن مذهبهم علماً أن هذا التحول نفسه ليس بالجريمة طالما أن الجميع ما زالوا في دائرة الإسلام والتوحيد وإنما هي مسؤولية شخصية يتحملها صاحب كل قرار عن نفسه أمام اللَّه في اختياره للعالم أو المذهب الذي يعتبره الأصوب.

 

3- إن الخلاف الفقهي ليس قائماً فقط بين المذهبين الرئيسين الشيعة والسنّة وإنما بين المذاهب المتفرعة عن كل منهما وحتى داخل المذهب الفرعي الواحد نفسه نجد فتوى لهذا العالم أو المرجع تختلف عن الفتوى لذلك العالم أو المرجع. وفي الوقت نفسه قد تتفق فتوى لمرجع شيعي مع فتوى لعالم سني في قضية ما بينما يختلف فيها العالم السنّي مع عالم سنّي آخر في نفس المذهب كما قد يختلف مرجع شيعي مع مرجع شيعي آخر في قضية واحدة وكل ذلك نتيجة للجهد الذي بذله كل واحد من هؤلاء في البحث عن الدليل الصحيح لفتواه.

 

ومن خلال الفقه المقارن سنجد الدليل على هذه الحقائق العلمية التي ذكرناها وسيتأكد لنا أن المسائل التي انفرد فيها الشيعي هي تماماً كالمسائل التي انفرد فيها الشافعي وإن المسائل التي التقى فيها مثلاً الحنفي بالشيعي قد تكون أكثر من المسائل التي التقى فيها الحنبلي بالحنفي وهكذا. وكتب الفقه المقارن على كل حال مليئة بهذه الأمثلة ولكن المشكلة كما قلنا بالجهل وعدم الاطلاع ليس عند عامة الناس فقط وإنما عند كثير من العلماء أنفسهم.

 

وإذا ما أدركنا هذه الحقائق والفوائد التي سنجنيها من هذا المنهج وجب علينا نشره بجد وإخلاص ليس في المعاهد والحوزات والجامعات فقط والتي ينحصر روادها بطلبة العلم والعلماء المتخصصين، وهذا لا يكون إلا بتأسيس مراكز ثقافية عامة تجذب عامة المسلمين لسماع هذا المنهج العلمي الذي ينشر التعارف والوعي والمودة والتسامح فيما بين جميع أتباع المذاهب ضمن البرنامج التالي:

 

نظرياً: وضع دراسات مقارنة للأصول والأحكام والفتاوى والتفسيرات والأحاديث المتفق عليها والمختلف فيها بين المذاهب، مع عرض الأدلة والحجج لكل فريق والإشارة إلى الجوانب التي تلقي أضواء على المسار الفقهي من الناحية السياسية والتاريخية والاجتماعية.

 

تطبيقاً: إقامة لقاءات وندوات حوار متواصلة بين العلماء في جلسات خاصة وأخرى عامة تتعرض للمادة الفقهية في إطار وعي توفيقي يؤدي لوضع أسس العلاقة المستقبلية التي تحقق الهدف المنشود.

 

وفي الختام لا بد لنا من دعوة جميع العلماء وكل مسلم مخلص صادق للمساهمة والعمل على نشر هذا المنهج العلمي ووضع برنامجه النظري والتطبيقي موضع التنفيذ، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يوفقنا من خلاله لتحقيق التآخي بين المسلمين والتقارب بين مذاهبهم وصولاً لتحقيق وحدة الأمة الإسلامية وانتصارها على أعدائها وتحرير مقدساتها.

 

المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك