محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة والحكمة بين عيون المعتدلين وفتون المعتدين

محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة والحكمة بين عيون المعتدلين وفتون المعتدين
إعداد
أ.د/ حكمت بن بشير بن ياسين

المقدمة
الحمد لله الذي أنزل الحكمة على نبيه الأمين، وأكمل الدين بخاتم المرسلين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى من اهتدى بحكمته إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن من رحمة الله الرحمن الرحيم بالبشرية إرسال نبي الرحمة  مؤيداً بالقرآن والحكمة( )، فبدأ دعوته بالأقربين من مكة المكرمة بالحكمة والرحمة، وقابله أغلبهم بالغلظة والنقمة، وقد صبر على ذلك مما أدى إلى ازدياد المعرفة بعظمة خُلقه، وجميل صبره، وعظمة حكمته، وسعة رحمته، فأسلم ثلة من الأولين، وانتشر صيته بالآفاق بما أوتي من مكارم الأخلاق، ولما أمره الله تعالى أن يُبلِّغ هذه الدعوة استجاب فوراً وبدأ بأهل مكة ثم أخذ يتنقل خارج مكة، فقصد الطائف وسوق عكاظ ومنى وذي المجاز.
وكانت نتيجة هذه الجولات معرفة هذا الدين، مما أدى إلى انتشار دعوته في المدن والبلدان المجاورة، وبدأ قصّاده يأتون إلى مكة المكرمة للدخول في الإسلام، فاغتاظ كفار قريش، وعمدوا إلى المواجهة بتدبير المكائد في النبي  ومن معه من المؤمنين، فهاجر جمع منهم إلى الحبشة في دفعتين، ثم تلا ذلك هجرة النبي  إلى المدينة والاستقرار بها، فرسَّخ فيها حياة المحبة والرحمة، إذ آخى بين المهاجرين والأنصار، فكانت بمثابة نواة دولة متراحمة بالأخوة الإيمانية والعلاقة الربانية، تحقق فيها حقوق الإنسان الحقيقية التي لا تعرف الدجل والخيانة بل الصدق وأداء الأمانة التي حث عليها  بقوله: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك"( ).
ومن هذا المنطلق بزغ نور العدل ساطعاً بالمساواة والحرية وإلغاء التفرقة العنصرية التي كانت في الجاهلية، وقد ترسخت هذه المعالم العظيمة والمعاني الحكيمة في المجتمع المدني الحقيقي، فطابت النفوس وارتقت القلوب، وأبرمت العهود مع النصارى واليهود، ولما رأى هذا التوفيق والسعادة في المدينة، وجد أن كفار قريش ومن وافقهم يهددون الدولة المسلمة الجديدة، فطفق بإرسال وفود الدعوة إليهم، وعقد المعاهدات مع بعضهم، ثم أراد أن يعمَّ هذا الخير أنحاء الجزيرة العربية، فأرسل سراياه إلى أنحائها، وإذا بالاستجابة لهذه الدعوة تتصاعد، وعقد المعاهدات مع نصارى نجران، ومع مجوس هجر، وغدت الجزيرة العربية دولة موحدة قوية لها هيبتها بين الفرس والروم.
إن هذه الدعوة لا تقتصر على قوم دون آخر فهي دعوة عالمينية، فنبي الرحمة  عالميني أرسله الله رب العالمين رحمة للعالمين، كما أخبر الله تعالى بذلك ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ [الأنبياء/107]، وكذلك القرآن الذي أُنزل إليه ﴿إن هو إلا ذكر للعالمين﴾ [يوسف/104]، وكذلك قبلته ﴿إن أول بيت وضع للناس الذي ببكة مباركاً وهدى ورحمة للعالمين﴾ [آل عمران/96].
من أجل ذلك بعث رسول الله  برسائله الحكيمة، وهدايته العظيمة، ومواعظه الكريمة إلى ملوك الدول المجاورة لينالوا رحمة الله تعالى في الدارين.
لقد علَّم الأُمَّة بل البشرية أصول الرحمة وأسباب نزولها فتركت آثاراً زاهرة، وثماراً وافرة، فعرفوا هذا النور وعملوا به، وانتشر هذا النور حتّى شمل أرجاء الجزيرة العربية فأخذوه بقوة، فطابت به القلوب، وقاموا جميعاً بحق الله تعالى ثم بحقوق العباد حتى غدت نموذجاً حضارياً فريداً بين الأمم بما تميزت به من رعاية الحقوق، ابتداءً بحق الله تعالى ثم بحق العباد في الأمن والعدل على اختلاف أديانهم وألوانهم وجنسهم، وإعطائهم حرياتهم وحقوقهم كاملة بروح الود والتسامح، والعفو والتناصح كما يرضى الله تعالى في حق المسلم وغير المسلم من داخل بلاد المسلمين وخارجها، وحق الراعي ورعيته في السراء والضراء، وحق الرجل والمرأة، والصغير والكبير، والغني والفقير، والساعي والأجير، وحق الدار والجوار كل ذلك تحت لواء ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ [الحجرات/13]، مما أدّى إلى مزيد من التقوى والمحبة والترابط، وقد ساعد ذلك على قوة الأواصر داخل الجزيرة العربية وانبثاق النور منها إلى الدول المجاورة والحضارات المعاصرة لها وقد تألقت حضارتها بين تلك الحضارات، إذ سطعت منها أنوار الهداية وامتد ذلك النور إلى بقية الحضارات حتّى انضوت تحت لوائها حيث انبهرت بصفاء أحكامها وطيب تعاملها، ونَعُمت ببركات أمنها، وارتشفت من رحيق إيمانها، فارتقت مراقي عليائها، وانسجمت مع علمائها وحكّامها، فإذا بدولة الخلافة تبسط أياديها العادلة البيضاء وبركاتها الكاملة الخضراء إلى أوربا شمالاً وأفريقيا غرباً، والصين شرقاً ترفرف على ربوعها راية القرآن الكريم الذي هو محور الهداية ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ [الإسراء/9].
قال المستشرق الفرنسي ألدو ميلي:
التسامح العظيم الذي تحلى به الخلفاء الأمويون، وملوك الطوائف.. لم يمتد لواؤه على ما حكموه من شعوب، أو على المسلمين القادمين من أفريقية والمشرق فحسب، بل انبسط ظله أيضاً على العلماء المسيحيين الذين أقبلوا مهطعين من أبعد الأقطار لتلقي العلوم في المدن المزدهرة التي لا تحصى، في ذلك القطر الساحر – الأندلس- الآخذ بمجامع الألباب.( )
إنها حقيقة عرفها التاريخ، وعرفها الإنسان الذي عايش تلك الحقوق أو عرفها من خلال القراءة أو السماع أو المعايشة.
ومع هذا الخير العظيم، والنفع العميم، فإن بعض الناس قد تعاملوا بجزاء سَنِّمار، إذ تطاولت ألسنتهم على مقام نبي الرحمة والحكمة، ولطّخت أقلامهم الصحف البيضاء بالاعتداء والافتراء على سيد ولد آدم وحواء منذ بعثته حتى هذا المساء( )، كل ذلك لإثارة الفتن أو حسداً أو جهلاً بحقيقة سيد الأنبياء، وهذا الاعتداء جحود لتلك الآلاء وظلم للبشرية ومخالفة لرب السماء، إذ أن أية كلمة تمس مقام النبي  لهي هجمة على البشرية قاطبة وظلم لها، وفتنة تفتك بالتفاهم والحوار، لأن البشرية تنقسم إلى ثلاثة أقسام تجاه نبي الرحمة والحكمة:
القسم الأول: مصدقون يتأثرون من أذى نبيهم ويغضبون له.
القسم الثاني: لا يعرفون النبي ، فإذا بلغهم التشويش في مقام النبي  فهو يؤثر على سعادتهم في الهداية إلى الحق ورضا الرب سبحانه.
القسم الثالث: قد سمع بعض الكلام الذي يشوه شخص النبي  فهؤلاء حينما سمعوا هذا الكلام يزداد التشويه في عقولهم فيستمرون على غيِّهم وجهلهم.
وفي ذلك ظلم كبير وشره مستطير، لا شك أنه يغضب الله تعالى، لأنه غيور على أنبيائه فما بالكم بالنيل من سيد الأنبياء؟! حقاً إن هذا الظلم لا يقبله العقلاء، ولهذا فقد انبرى له ثلة من المسلمين وغير المسلمين على مرِّ العصور بالردِّ والتفنيد لذلك الهراء والافتراء، إلا أن النيل من نبي الرحمة والحكمة  في هذا العصر دخل في طور جديد من الاعتداء المنسق والمنظم بتخطيط دقيق يستهدف النبي الحكيم والقرآن الكريم الذي جاء به من الله العظيم.
من أجل ذلك عزمت أن أقوم بهذا الجهد المتواضع لبيان هذه المخططات الخطيرة، ومعرفة جذورها وفروعها وآثارها المثيرة، واستعراض الجهود المبذولة تجاه هذا الاعتداء، لإعداد خطاب معاصر يتناسب مع البشرية بأديانها وثقافاتها، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، من الرواية المحررة المختصرة للسيرة المدبجة بالشمائل العظيمة والمعاملة الكريمة، واستنباط المنهاج النبوي في علاج المشكلات المعاصرة وطريقة تعامله مع الآخر، لمعرفة المعالم التي اتَّسم بها رسول الله  ولتوضيح المكارم التي أتى بها لجميع البشرية، ولرصد الأقلام التي سطرت شهادات بتلك المكارم من شتى بقاع الدنيا على اختلاف لغاتهم وأديانهم ومذاهبهم، هذه الشهادات صدرت متوافقة ومتناسقة من أساطين التاريخ والتربية، ودهاقنة السياسة، وأرباب القانون، وعباقرة الاقتصاد، وأساتذة اللاهوت والفلسفة من المنصفين المثقفين( ) الذين انبهروا بسيرة المصطفى ومنهاجه المجتبى الذي يقطر رحمة وحكمة في تعامله مع البشرية وحلِّ مشاكلها، بل إن كثيراً من المسلمين بحاجة للتعرف على هذا الخطاب ليعلموا حجم المعركة بين الحق والباطل، وليرى المعتدون الردود من أهل ملَّتهم وبني جلدتهم ومن أهل بلدانهم( )، وقد حاولت تتبع تلك الأقوال لعلها تؤثر في تصحيح المسار، وتؤخذ في نظر الاعتبار لعلاج المشكلات التي تعاني منها البشرية، كما استعرضت أهم الشبهات التي يشيعها أرباب الفتن والجهلة بالإسلام وبنبيه المختار  وحاولت الإجابة عليها بالنقل والعقل، لإعطاء حق الحوار والبيان الذي ينشده الساسة الغربيون المعتدلون كقول الأستاذ جيم ميران عضو لجنة الشؤون الخارجية بالكونجرس الأمريكي: الذي دعا قومه إلى وجوب التعرف على الإسلام دين السلام والمسامحة، الدين الذي يحث على الكدِّ والاجتهاد، ويحب النظام والالتزام، ويفيض بالحب واللطف، وهو يعتبر الرسول محمداً  أعظم إنسان عرفه التاريخ، ويجب التعرف على جوانب عظمته التي كان يتمتع بها، وكذلك عدد كبير من أصحابه. وكل شعوب العالم يجب أن تتعرف على التعاليم التي جاء بها محمد ، ولكن للأسف لم يحدث ذلك لسببين:
الأول: هو اتخاذ غير المسلمين موقفاً من هذه التعاليم منطلقه التعصب والتحيز والجهل.
الثاني: هو عدم سعي المسلمين حثيثا لإطلاع غيرهم على عظمة دينهم. وقال:
أنا أعتقد أن القرن القادم هو قرن الإسلام، وقرن الثقافة الإسلامية، وستكون هذه فرصة لإحلال مزيد من السلام والرفاهية في كل بقاع العالم .( )

وقد نظمت خطة البحث في مقدمة وثلاثة أبواب كما يلي:
المقدمة: وفيها أهمية الموضوع، وسبب الكتابة والخطة والمنهج.

الباب الأول: شذرات من سيرته مدبجة بقبسات من رحمته، وفيه فصلان:
الفصل الأول: العهد المكي، وفيه المباحث التالية:
المبحث الأول: ولادته ونسبه ونشأته.
المبحث الثاني: مبعثه .
المبحث الثالث: الهجرة إلى الحبشة.
المبحث الرابع: مقاطعة قريش لبني هاشم وبني المطلب.
المبحث الخامس: خروجه  إلى الطائف.
المبحث السادس: الإسراء والمعراج.
المبحث السابع: بيعة العقبة الأولى والثانية.
المبحث الثامن: هجرة رسول الله .
الفصل الثاني: العهد المدني وفيه المباحث التالية:
المبحث الأول: أهم أعمال وحوادث السنة الأولى للهجرة.
المبحث الثاني: أهم أعمال وحوادث السنة الثانية للهجرة.
المبحث الثالث: أهم أعمال وحوادث السنة الثالثة للهجرة.
المبحث الرابع: أهم أعمال وحوادث السنة الرابعة للهجرة.
المبحث الخامس: أهم أعمال وحوادث السنة الخامسة للهجرة.
المبحث السادس: أهم أعمال وحوادث السنة السادسة للهجرة.
المبحث السابع: أهم أعمال وحوادث السنة السابعة للهجرة.
المبحث الثامن: أهم أعمال وحوادث السنة الثامنة للهجرة.
المبحث التاسع: أهم أعمال وحوادث السنة التاسعة للهجرة.
المبحث العاشر: أهم أعمال وحوادث السنة العاشرة للهجرة.

الباب الثاني: المستفاد من حكمته الباهرة في تحقيق حاجات البشرية وعلاج أهم المشكلات المعاصرة، وفيه الفصول التالية:
الفصل الأول: المشكلات السياسية، وفيه المباحث التالية:
المبحث الأول: مشكلة التفرقة العنصرية والدينية والإقليمية.
المبحث الثاني: مشكلة نظام الدقرطة.
المبحث الثالث: مشكلة الحرية.
المبحث الرابع: مشكلة الاعتداء فيما بين الدول.
المبحث الخامس: مشكلة التخوف والتحسس من الآخر.

الفصل الثاني: المشكلات الاجتماعية، وفيه المباحث التالية:
المبحث الأول: مشكلة الجهل.
المبحث الثاني: مشكلة حقوق المرأة.
المبحث الثالث: مشكلة العقوبات.
المبحث الرابع: مشكلة الرق.
الفصل الثالث: المشكلات الاقتصادية، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مشكلة الربا.
المبحث الثاني: مشكلة الفقر.
المبحث الثالث: مشكلة البطالة.

الباب الثالث: مكانة نبي الرحمة والحكمة ، وفيه فصلان:
الفصل الأول: مكانته عند الله تعالى والملائكة والجن، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: مكانته عند الله تعالى.
المبحث الثاني: مكانته عند الملائكة والجن.
الفصل الثاني: مكانته عند البشر وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مكانته عند الأنبياء.
المبحث الثاني: مكانته عند المسلمين.
المبحث الثالث: مكانته عند غير المسلمين.

الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات والاقتراحات.
وكان منهج البحث حسب الخطوات التالية:
1- صياغة مختصرة مبتكرة للسيرة من كتب المختصرات المحررة والمصادر المعتبرة، ودمجها بالشمائل العظيمة.
2- استنباط المعاملة الكريمة من السيرة المختصرة، واقتناص الفوائد العلمية التي تهم الإنسان في هذا العصر.
3- جمع الأحاديث الواردة في تعامله مع غير المسلمين في السلم والحرب مقتصراً على الأحاديث الثابتة.
4- تخريج الأحاديث والآثار والحكم عليها معتمداً على أقوال النقاد المعتبرين من المتقدمين والمتأخرين.
5- الاستشهاد بالتوراة والإنجيل، وبأقوال المنصفين من غير المسلمين ومن الذين دخلوا في الإسلام الذين شهدوا على بيان عظمة نبي الرحمة .
6- تتبع المشكلات الكبرى التي تعتري العالم وبيان معالجتها بسنة نبي الحكمة .
7- جمع أقوال العلماء الأجانب من الشرق والغرب الذين كتبوا شهادات على نبي الرحمة والحكمة التي اتسم بها نبينا محمد .
8- تتبع أهم الإشاعات التي تُثار في هذا العصر، ومعرفة جذورها وتطورها ودراسة انتشارها وخطورتها، والرد عليها بالعقل والنقل.

الباب الأول
شذرات من سيرته مدبجة بقبسات من رحمته
الفصل الأول: العهد المكي
لقد استغرق هذا العهد فترة طويلة من حياة نبي الرحمة  إذ بلغ (53) سنة، أما في المدينة النبوية فقد عاش (10) سنوات، من أجل ذلك فإن الحديث عن العهد المكي حافل بالحوادث والأخبار، وجدير بالاستنباط والاعتبار، وقد حظي هذا العهد هذا العهد بتنـزيل قرآني غزير يشكل أكثر من ثلاثة أضعاف التنـزيل المدني، فقد بلغ عدد السور المكية (86) سورة بينما بلغ عدد السور المدنية (28) سورة، إضافة إلى ذلك أن بعض السور المدنية فيها آيات مكية، وهذا التنـزيل العظيم يضفي إلى وقائع السيرة كثيراً من المشاهد الموثوقة والأخبار المؤكدة، وذلك من خلال فحوى التنـزيل المكي وما فيه من المقاصد، فإن هذه المقاصد قائمة بكل جزئياتها في حياة نبي الرحمة  ومن معه من الصحابة، فقد كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، ويترجم آياته بأقواله وأفعاله، والصحابة يقتدون به، ويتشوقون إلى تنـزيل القرآن ومعرفة معانيه، فتكون هذه المقاصد ضمن منظومة السيرة النبوية فحينما نتتبع خصائص التنـزيل المكي فكأننا نرى معالم جديدة من السيرة العطرة، ومن خصائص التنـزيل المكي:
1- تقرير أسس العقيدة والدعوة إلى توحيد العبودية والربوبية.
2- الدعوة إلى أصول الأخلاق كالصدقة والبر وصلة الأرحام وبرِّ الوالدين وإكرام الجار والعدل والإحسان بالضعيف واليتيم.
3- العناية بقصص الأنبياء والاعتبار بها.
وكل هذه الخصائص تضفي إلى السيرة مزيداً من المشاهد من القصص والآداب والأحكام والأخبار بل وتحدد لنا أوقاتها من خلال معرفة أول ما نزل، والمتقدم والمتأخر، والناسخ والمنسوخ، وأسباب النـزول، وكذلك معرفة التنـزيل الحضري والسفري، ومعرفة النهاري والليلي، والصيفي والشتائي، فإنه يعطي مزيداً من المعلومات الدقيقة والموثوقة، فيتجلى المزيد من مظاهر ومشاهد السيرة النبوية بوضوح.
فعلى سبيل المثال لو استعرضنا مقاصد سورة العلق وسورة المزمل وهما أول ما نزل، لوجدنا الحث على العلم بالقراءة، وبيان توحيد الربوبية بأن الله هو الذي خلق الإنسان وعلمه البيان وما لم يعلم، وبيان المعركة بين الإيمان والكفر، واعتداء المشركين على المؤمنين، وتهديد المشركين الذين يعتدون على المؤمنين، وبشرى المؤمنين، وكذلك نجد سورة المزمل تتناول جانباً مهماً من عبادة نبي الرحمة  في طاعته وقيامه الليل وتلاوته لكتاب الله تعالى، وفيها الأمر بالصبر على أذى المشركين، ثم توعد الله المشركين، وذكر الصحابة أنهم كانوا يقيمون الليل معه، ثم رغَّب المؤمنين بأعمال البر والاستغفار، وأن لهم الثواب من عند الله تعالى على ذلك.
ويستنبط من ذلك تسابقهم بأعمال البر، وكثرة استغفارهم لأن هذا التنـزيل من أوائل ما نزل، وفي تلك الفترة قد دخل الإسلام الأوائل من الصحابة الذين يستجيبون لهذا القرآن بقوة، فيعطي تصوراً واضحاً عن أحوالهم وأعمالهم من خلال تلك الأوامر والنواهي القرآنية.
وهكذا كلما نظرنا في مزيد من السور المكية سنجد مزيداً من المشاهد والمظاهر للعهد المكي الذي عاش فيه نبي الرحمة مع أصحابه.
ويشتمل هذا الفصل على المباحث التالية:

المبحث الأول: ولادته ونسبه ونشأته
كانت ولادته مبشرة بالنور والنصر والرحمة، وكانت نشأته مؤيدة بالهداية والأمانة والحكمة، ومنذ أن كان جنيناً  في بطن أمه فقد أشرقت الأرض بنور ربها وسطع نوره من مكة المكرمة إلى بلاد الشام المباركة، كما صرحت بذلك أمه آمنة بنت وهب فقد رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام،( ) وفي ذلك بشرى كريمة ورحمة عظيمة.
ولما وُلد نبي الرحمة  عام الفيل( )، فإنه في ذلك اليوم المبارك ظهرت رحمة الله تعالى تتنـزل على أهل مكة بدحر جحافل أبرهة الحبشي، والذود عن الكعبة التي هي القلب النابض لأهل مكة، والتي أراد أبرهة هدمها فأهلكه الله تعالى وجنده وفيَله بالحجارة التي أمطرتها الطير الأبابيل، فكان ذلك اليوم نصراً مؤزراً لقريش، مما يبشر بالخير الذي سيجلبه هذا المولود الودود، إنها ولادة رحمة للعالمين، وحكمة للمؤمنين.
لقد عاش  في بيئة عربية أصيلة في أطهر بقعة في الأرض ألا وهي مكة المكرمة حرسها الله تعالى، ونشأ في بيت كريم ذي مجد عظيم، هو بيت بني هاشم المعروف بسخائه وطيبه ، هذا البيت من قبيلة عريقة كريمة هي (قريش) المشهورة في الجزيرة العربية بمكانتها ومناقبها( ) وضيافتها للحجيج وقصَّاد بيت الله الحرام.
ويصل نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام فهو نسب زكي( ) كما قال ابن هشام: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، واسم عبد المطلب: شيبة بن هاشم، واسم هاشم: عَمرو بن عبدُ مناف، واسم عبدُ مناف: المغيرة بن قُصي، (واسم قصي: زيد) بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي ابن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مُدركة، واسم مُدركة: عامر بن إلياس بن مُضر بن نزار بن مَعد بن عدنان. ( )
وكذا ذكره البخاري في صحيحه. ( )
قال المؤرخ ابن دحية: أجمع العلماء والإجماع حجة، على أن النبي  كان إذا انتسب لا يجاوز عدنان. ( )
أما النسب من عدنان إلى إسماعيل فمختلف فيه( )، ولكنهم اتفقوا على أن النسب يرجع إلى إسماعيل بن إبراهيم خليل الله تعالى.( )
بل قد ثبت ذلك عن النبي  أنه قال: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".( )
وقد وُلِد يتيماً، واستُرضِع له في بني سعد، فأرضعته حليمة السعدية، وأقام عندها في بني سعد نحواً من أربع سنين( )، بين المروج الخضراء، ونقاء الهواء.
إن اختيار ديار بني سعد اختيار حكيم لما في تلك الديار من الخيرات والبركات والقبائل الأصيلة منهم رجال الجبال وجبال الرجال.
وإن هذا الرضاع الممزوج بالرحمة والأدب له أثره في النشأة على الرحمة والتراحم.
وفي هذه الرحلة المباركة بدأت إرهاصات النبوة تتجلى بالإعداد لهذه المهمة الكبرى، فقد صحَّ عن أنس بن مالك  أن رسول الله  أتاه جبريل  وهو يلعب مع الغلمان. فأخذه فصرعه فشقَّ عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه عَلَقة، فقال: هذا حظُّ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمه، ثم أعاده في مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (يعني ظئره) فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.( )
ثم ردَّته حليمة السعدية إلى أمه في المدينة تزور أخواله بني النجار بالمدينة، فتوفيت أُمه بالأبواء( )، وهي راجعة إلى مكة وله من العمر ست سنين. ( )
إن هذه النشأة من اليُتم أعطته القدرة في الاعتماد على النفس وعدم الاتكال على الغير وتحمل الصعاب والمسؤولية، كما عرفته على حال اليتيم وما يحتاج من الرحمة.
ولا شك أن هذا الأمر قد أحزنه  إلا أن رحمة الله تعالى واسعة، فقد هيأ الله تعالى له امرأة حنون تدعى أُم أيمن وهي مولاته، ورثها من أبيه، وكفله جده عبد المطلب، فلما بلغ رسول الله  من العمر ثماني سنين توفي جده، وأوصى به إلى عمِّه أبي طالب، لأنه كان شقيق عبد الله فكفله، وحاطه أتم حياطة، ونصره حين بعثه الله أعزّ نصر.( )
لم تطل رعاية الجد وعطفه الذي عوّض حفيده حدب الأب وحنان الأم، إذ ما لبث أن توفي، ومحمد  لم يجاوز الثامنة من عمره فتولى أمره عمه أبو طالب، لأنه وعبد الله والد الرسول  كانا لأُم واحدة، ولم يكن أبو طالب بالرجل الموفور المال، وكان يُعيل عدداً من الأبناء الأمر الذي اضطر محمداً  أن يعينه في كسب قوته حسب طاقته، فكان يرعى له الأغنام.( )
إن عمله في الرعي المبكر يدل على تحمل المسؤولية، وقدرته على الرعاية، وخصوصاً أن الرعي يحتاج إلى صبر واجتهاد ومتابعة ومراقبة وعناية وإحصاء، وهنا تبرز رحمته لأنه يرعى بهائم ضعيفة، والراعي إذا لم يكن رحيماً فإنه لا يقدر على هذه المهمة.
وخرج به عمه إلى الشام في تجارة وهو ابن ثنتي عشرة سنة، وذلك من تمام لطفه به، لعدم من يقوم به إذا تركه بمكة، فرأى هو وأصحابه ممن خرج معه إلى الشام من الآيات فيه  ما زاد عمّه في الوصاة به والحرص عليه.. ثم خرج ثانياً إلى الشام في تجارة لخديجة بنت خويلد رضي الله عنها.( )
إن رحلة نبي الرحمة إلى بلاد الشام مرتين أعطته خبرة اقتصادية، وتربية على التراحم بين الأقربين، ودراية اجتماعية بأهل الشام، وإتقان الطريق إلى بلاد الشام والتعرف على المدن التي مرَّ بها ومنها تبوك، ولا شك أن مسيرته إلى غزوة تبوك فيما بعد كانت عن خبرة ودراية لمشقة الطريق، فإن حال الذي يتوجه إلى غزو وهو حديث عهد في مكان الغزوة وطريقها، غير حال الذي يعرف الطريق ومسالكه ومشاكله.
ولما كانت الرحلة الثانية إلى الشام مع ميسرة – غلام خديجة رضي الله عنها - على سبيل القِراض، فرأى ميسرة ما أبهره من شأنه، فرجع فأخبر سيدته بما رأى، فرغبت إليه أن يتزوجها، لما رجت في ذلك من الخير الذي جمعه الله لها، فتزوجها رسول الله  وله (25) سنة.( )
فبدأ الاستقرار في بيت الزوجية، مع الزوجة الكريمة الحكيمة، والانتقال من بيت عمّه أبي طالب إلى بيت سيدة قريش حسباً ونسباً، وفي هذا الاستقرار مؤازرة من زوجته ومن أهلها المقربين لها، فتكون مرحلة جديدة من حياة نبي الرحمة  وتطور في العلائق الاجتماعية المبنية على التراحم، واستمرت العشرة الزوجية برحماتها مع خديجة رضي الله عنها (24) سنة إذ بقيت عنده قبل الوحي خمس عشرة سنة، وبعده إلى ما قبل الهجرة بثلاث سنين. فماتت ولرسول الله  تسع وأربعون سنة، وثمانية أشهر، وكانت له وزير صدق.( ) بل هي أول من آمن به، وقد خصَّها الله تعالى ثم جبريل عليه السلام بالسلام عليها، وبشرها ببيت في الجنة. ( )
وقد ولدت له خديجة رضي الله عنها ستة أولاد: ابنان هما:
1- القاسم وعاش سنتين. 2- عبد الله.
وأربع بنات هُنَّ:
1- زينب. 2- رقية.
3- أُم كلثوم. 4- فاطمة.
فصار أباً لستة أولاد، حظوا بأبوة رحيم كريم ونبي عظيم، فنالوا شرفاً مجيداً، ولا شك أنهم حظوا بتسمية جميلة، ودعوة جليلة، وسنن حميدة، من التحنيك والأذان والعقيقة.
وتوفوا كلهم قبل وفاة النبي  إلا فاطمة رضي الله عنها توفيت بعده بستة أشهر.( )
وأما ابنه إبراهيم  فسيأتي ذكره في السنة الثامنة للهجرة.
ومنذ أن كان نبي الرحمة عمره (25) سنة فقد كان يسكن في بيت خديجة رضي الله عنها، وبقي فيه إلى أن هاجر إلى المدينة النبوية.( )
وكان الله سبحانه قد صانه من قسوة القلب وحماه من صغره، وطهره من دنس الجاهلية( ) ومن كل عيب، ومنحه كل خلق جميل حتى لم يعرف بين قومه إلا بالأمين، لما شاهدوا من رحمته وطهارته وصدق حديثه وأمانته، حتى انه لما بنت قريش الكعبة في سنة خمس وثلاثين من عمره فوصلوا إلى موضع الحجر الأسود اشتجروا فيمن يضع الحجر موضعه، فقالت كل قبيلة: نحن نضعه، ثم اتفقوا على أن يضعه أول داخل عليهم، وكان رسول الله ، فقالوا: جاء الأمين، فرضوا به، فأمر بثوب، فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب، ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه .( )
وهذا يدل على قوة حكمته وشدة رحمته بقومه وحسن تدبيره، كما يدل على سمو مكانته عند القوم وقبولهم رأيه .
وفي هذه الفترة كان ينعزل للعبادة في غار حراء، وعزلته لا تعني أن يعيش حياة منعزلة دائماً بل كان له أصحاب، وقد كان لنبي الرحمة  صحبة قبل بعثته من عقلاء وأثرياء قريش كأبي بكر وحكيم بن خزام وهو من نبلاء مكة( )، والسائب بن يزيد، والسائب بن عثمان( )، هذا الذي وصلنا ولا شك أنه يوجد غير هؤلاء، لأن اشتهاره بالصادق الأمين، ومشاركته في رفع الحجر الأسود، وحلف الفضول جعله يتعرف على رجالات مكة وفحول قريش.
إن الفترة التي عاشها نبي الرحمة  قبل البعثة تشكل ثلثي عمره فهي فترة مهمة تتجلى فيها العناية الإلهية بنبي الرحمة وإعداده للقيام بالرسالة الخالدة للبشرية جميعاً.
إن هذه العناية الإلهية والأخلاق الربانية تترك آثاراً في مجتمع مكة، فإن شخصاًَ قد نال هذه العناية لا يمكن أن يكون مغموراً أو عادياً، بل يشار إليه بالبنان لما فيه من السمو والرحمة والطهر والأمانة والصدق، وكل هذه الصفات مهدت للرسالة، فلم يستنكر العقلاء حينما سمعوا بنبوته وبعثته بل دخلوا في الإسلام، أو أخذوا يمهدون لذلك مع أقوامهم ويفكرون بالدخول عاجلاً أم آجلاًَ.

المبحث الثاني: مبعثه 
أخذت خلوات الرسول  وانعزاله عن مجرى الحياة المكية تزداد وتتسع وهو يقترب من الأربعين، حيث أعدَّه الله سبحانه لأول لقاء مع وحيه الأمين؛ من أجل تكليفه مسؤولية النبوة، وإخراج الناس بها من ظلمات الجاهلية ودنسها إلى نور الإسلام ونقائه. فكان يغادر مكة بين الحين والحين، مجتازاً أسوارها الجبلية، ناقلاً خطواته الثابتة الواسعة عبر رمال الصحراء المترامية، حتى تحتجب عنه البيوت والأسواق، ويغيبه الأفق، وتستقبله شعاب مكة وبطون أوديتها، ثم يلج بعيداً إلى جبل النور، حيث ينتهي به المطاف إلى غار حراء.( )
ثم بعث نبي الرحمة عندما بلغ الأربعين من عمره، وفي هذا العمر تظهر أوصاف الإنسان بوضوح، من أجل ذلك أَذْكُر ما وصفه علي بن أبي طالب ( ) وأنس بن مالك ( ) خادم رسول الله ، فقد حظيا بصحبته الكريمة ومعرفة أوصافه الجميلة.
فقد كان رسول الله من أحسن الناس وجهاً، أبيض اللون بياضاً مزهراً، مستدير الوجه، مليحَهُ، واسعَ الفم، طويلً شِقّ العينين، رَجِلَ الشعر – بين الجعودة والسَّبط – يصل إلى شحمة أذنيه، وأحياناً بين أذنيه وعاتقه، وقد يمتد حتى منكبيه أحياناً أخرى، ولم يشب شعره الأسود إلا اليسير منه، حيث قدر شيبه في أواخر عمره بعشرين شعرة موزعة في الرأس وتحت الفم والصدغين، ويميل اللون إلى الحمرة في بعض شعره من أثر الطِّيب، وكانت رائحته أطيب من رائحة المسك، وكان إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكانت تحت شفته السفلى شعرات بيض.
وكان متوسط القامة، متوسط الوزن، ليس بالنحيف ولا الجسيم، عريض الصدر ضخم اليدين والقدمين، مبسوطين الكفين، كفّاه لينتان، قليل لحم العقبين، يحمل في أعلى كتفه اليسرى خاتم النبوة وهو شعرٌ مجتمعٌ كالزُّرِّ.
وصحَّ عن البراء  أنه قال: كان رسول الله  أحسن الناس وجهاً، وأحسنه خلقاً ليس بالطويل البائن ولا بالقصير. ( )
وصحَّ عن أبي سعيد الخدري  أنه قال: "كان النبي  أشد حياء من العذراء في خدرها"( )، والحياء من الإيمان.
وهذه الصفات الجسمية تدل على جمال المظهر، واكتمال الجسم وقدرته على النهوض بالواجبات العظيمة التي أُنيطت به، فلم ير أعداؤه في مظهره ما يعيبونه عليه أو يلقبونه به على سبيل الانتقاص. وإضافة لحسن خلقته الجبلية وسلامة حواسه وأعضائه، فقد اعتنى بمظهره من النظافة وحسن الهيئة والتطيب بالطيب. ( )
كما تميز بسلامة الصدر، وطيب النفس، ولين القلب.
ولما أراد الله تعالى رحمة العباد، وكرامتَه بإرساله رحمة للعالمين، حبَّب إليه الخلاء، وكان يتحنث في غار حراء، كما كان يصنع ذلك متعبِّدو ذلك الزمان.. ففجأه الحق وهو بغار حراء في رمضان، وله من العمر أربعون سنة، فجاءه الملك فقال له: اقرأ، قال: لست بقارئ، فغتّه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال له: اقرأ، قال: لست بقارئ، ثلاثاً، ثم قال: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم﴾ [العلق/1-5] فرجع بها رسول الله  ترجف بوادره، فأخبر بذلك خديجة رضي الله عنها، وقال: قد خشيت على عقلي، فثبتته، وقالت: أبشر، كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتَصدُق الحديث، وتحمل الكلَّ وتعين على نوائب الدهر.. في أوصاف أُخر جميلة عددتها من أخلاقه ، وتصديقاً منها وتثبيتاً وإعانة على الحق، فهي أول صدِّيق له رضي الله تعالى عنها وأكرمها. ( )
ثم مكث رسول الله  ما شاء الله أن يمكث لا يرى شيئاً، وفتر عنه الوحي، فاغتمَّ لذلك وحزن على فراق الوحي الذي يفيض عليه بالسكينة والطمأنينة، فاشتاق إلى ما رأى أول مرة، من حلاوة ما شاهده من وحي، فقيل: إن فترة الوحي كانت قريباً من سنتين أو أكثر، ثم تبدَّى له الملَك بين السماء والأرض على كرسي، وثبته، وبشره بأنه رسول الله حقاً، فلما رآه رسول الله  فَرَق منه وذهب إلى خديجة وقال: زملوني. دثروني. فأنزل الله عليه ﴿ يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر﴾ [المدثر/1-4].( )
وكانت الحال الأولى حال نبوة وإيحاء، ثم أمره في هذه الآية أن يُنذر قومه ويدعوهم إلى الله، فشمّر  عن ساق التكليف، وقام في طاعة الله أتم قيام بالرحمة والحكمة، يدعو إلى الله سبحانه الكبير والصغير، والحرَّ والعبد، والرجال والنساء، والأسود والأحمر، فاستجاب له عباد الله من عدة قبائل.
وكان حائز سبقهم أبو بكر  وعلي بن أبي طالب ، وأسلم على يد أبي بكر عثمان بن عفان، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص .( )
وكذلك أسلمت خديجة، وزيد بن حارثة.
وأسلم القسُّ ورقة بن نوفل فصدّق بما وجد من وحي الله، وتمنى أن لو كان جَذَعاً، وذلك أول ما نزل الوحي، وفي الصحيحين أنه قال: هذا الناموس الذي جاء موسى بن عمران( ). لما ذهبت خديجة به إليه، فقصّ عليه رسول الله  ما رأى من أمر جبريل عليه السلام.
ودخل من شرح الله صدره للإسلام على نور وبصيرة ومعاينة، فأخذهم سفهاء مكة بالأذى والعقوبة، وصان الله رسوله وحماه بعمه أبو طالب، لأنه كان شريفاً مطاعاً فيهم، نبيلاً بينهم، لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر محمد  لما يعلمون من محبته له، وكان من حكمة الله بقاؤه على دينهم لما في ذلك من المصلحة، فهذا رسول الله  يدعو إلى الله ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً لا يصده عن ذلك صاد، ولا يرده عنه راد، ولا يأخذه في الله لومة لائم.( )
ففي المرحلة الأولى كانت الدعوة سراً حذراً من الاصطدام المباشر مع المشركين، ولكن المواجهة كانت عن طريق نزول القرآن منذ بداية نزوله.
ففي سورة العلق حملة عنيفة على أحد زعماء قريش، في وقت لم يكن النبي قد آمن بدعوته بعد سوى نفر يعدون على الأصابع، ومن ثم يتبين لنا الموقف العصيب الذي واجهه الرسول  والجرأة العظيمة التي واجه بها هذا الموقف بأمر ربه، بما كان يوجهه إلى الزعيم القوي الغني الطاغي: المغيرة بن هشام المخزومي، مما يوحي إليه من آيات فيها الصفعات الداميات ﴿كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية. ناصية كاذبة خاطئة. فليد ناديه. سندعو الزبانية. كلا لا تطعه واسجد واقترب﴾ [العلق/15-19]، ثم بما كان من تثبيت القرآن له على دعوته وعبادته وثباته فيهما فعلاً، تبين لنا العظمة الخلقية والإيمان العميق والجرأة الشديدة في الحق على كل باغٍ مهما كان قوياً عاتياً. ولقد كان هذا دأبه في كل المواقف التالية لهذا الموقف العصيب سواء كانت في الخطوات الأولى أو ما بعدها، وفي هذا سر من أسرار اصطفائه للرسالة العظمى من دون ريب.( )
ولا شك أن الصحابة السابقين في الإسلام كأبي بكر وخديجة وعلي  كانوا يقومون بواجبهم في الدعوة إلى الله تعالى في نطاق المقربين إليهم في النسب أو التعامل التجاري، فمثلاً خديجة المخزومية رضي الله عنها وهي من سيدات قبيلتها، وأبو بكر  وهو من أسياد وأغنياء قريش، وعلي بن أبي طالب الهاشمي ، بل إن بعضهم كان يصدع بالدعوة ويتلو القرآن الكريم عند الكعبة المشرفة كصنيع ابن مسعود ، فكل من آمن هو على ثغرة من الدعوة مع الأقرب فالأقرب.
وما لبث الرسول  أن جُوبه بمعارضة شديدة من قومه، وبإجماع منهم على مقاومته وصدّه، سيما بعد الحملات الشديدة التي راح يشنُّها على آلهتهم وأصنامهم، ووقف عمه أبو طالب ينافح عنده ضد قريش، فرأى زعماؤهم أن يبعثوا إليه وفداً من أشرافهم علَّهم يقنعونه بوقف ابن أخيه على المضي في دعوته، أو على الأقل بالتخلي عن إسناده وحمايته. والتقى رجالات الوفد بأبي طالب وقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا وعاب ديننا وسفَّه أحلامنا وضلَّل آباءنا، فإما أن تكفَّه عنَّا وإما أن تخلي بيننا وبينه. فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً وردَّهم ردَّاً جميلاً فانصرفوا عنه.( )
وفي هذه المرحلة كان التنـزيل المكي يركز على تثبيت الإيمان وبيان ثمرته والاعتبار بالأمم السابقة من خلال قصص الأنبياء وصبرهم على أُممهم ورحمتهم بهم، ونصرهم على أعدائهم، كل ذلك كان يرتله نبي الرحمة  على أسماع أصحابه رضوان الله عليهم بتلك القراءة المفسرة، وقراءته كانت بتدبر ولهذا كانت السورة عندما يرتلها تطول، فقد أخرج مسلم بسنده عن حفصة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله  صلى في سبحته قاعداً حتى كان قبل وفاته بعام، وكان يصلي في سجدته قاعداً، وكان يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها.( ) فتنـزل السكينة والرحمة.
وفي ذلك تعليم وتطبيق عملي للتلاوة والتدبر، ورصيد من الثواب الجزيل، وهذه القراءة المتأنية التي تطول بها السورة ساعدت على مزيد من الفهم ثم العمل، وقد وصفت أُم سلمة رضي الله عنها قراءته كانت مفسِّرة حرفاً حرفاً( )، وأنه كان يقطع قراءته آية آية.( )
قال الإمام النحاس: ومعنى هذا الوقف على رؤوس الآيات.( )
وفي رواية عن أُم سلمة رضي الله عنها كان رسول الله  يقطع قراءته، يقرأ ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ ثم يقف ﴿الرحمن الرحيم﴾[الفاتحة/1-2] ثم يقف…( )
فهذه القراءة المرتلة التي تمسُّ شغاف القلب كان لها الأثر الفاعل في تعليم الصحابة  علم التفسير وعلم التدبر.
ولا شك أن هذه السورة قد قرأها عليهم في مكة مرات كثيرة.
ويستفاد من إسلام ورقة بن نوفل أن بعض أهل الكتاب الذين عرفوا الحقَّ من كتبهم، هم أقرب النّاس للدخول في هذا الدين، ومعرفة منـزلة النبي الأمين .

المبحث الثالث: الهجرة إلى الحبشة
في السنة الخامسة للهجرة اشتد أذى المشركين للمؤمنين.( )
قال مؤرخ السيرة أ.د.أكرم بن ضياء العمري: لا شك أن الاستجابة للأمر الإلهي بإعلان الدعوة اقتضى مواجهة المشركين بحقائق التوحيد وبفساد الشرك، مما جعل المشركين يلحقون الأذى بالرسول  وأصحابه، ففضلاً عن المعتقدات الباطلة التي عشعشت بعقولهم وتوارثوها خلفاً عن السلف، فإنهم كانوا مدركين لجدواها في تحقيق مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية عندما تؤم القبائل العربية مكة حيث الأصنام الثلاثمائة والستون المحيطة بالكعبة، وينجم عن ذلك حركة بيع وشراء تحقق الأرباح الوفيرة للملأ.( )
ولما اشتد أذى المشركين على من آمن وفتنوا جماعة حتى إنهم كانوا يَصبِرونهم، ويُلقونهم في الحر، ويضعون الصخرة العظيمة على صدر أحدهم في شدة الحر، حتى إن أحدهم إذا أُطلِقَ لا يستطيع أن يجلس من شدة الألم، فيقولون لأحدهم: اللات إلهك من دون الله. فيقول مُكرهاً: نعم.. فلما اشتد البلاء أذن الله سبحانه وتعالى في الهجرة إلى أرض الحبشة.. فانحاز المهاجرون إلى مملكة أصحَمة النجاشي فآواهم وأكرمهم، فكانوا عنده آمنين. فلما علمت قريش بذلك بعثت في إثرهم عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بهدايا وتحفٍ من بلادهم إلى النجاشي، ليردَّهم عليهم، فأبى ذلك عليهم، وتشفعوا إليه بالقواد من جنده، فلم يُجبهم إلى ما طلبوا، فَوشَوا إليه: إن هؤلاء يقولون في عيسى قولا عظيماً، يقولون: إنه عبد، فأحضر المسلمون إلى مجلسه، وزعيمهم جعفر بن أبي طالب ، فقال: ما يقول هؤلاء إنكم تقولون في عيسى؟! فتلا عليه جعفر سورة ﴿كهيعص﴾ [مريم/1]، فلما فرغ أخذ النجاشي عوداً من الأرض فقال: ما زاد هذا على ما في التوراة ولا هذا العود، ثم قال: اذهبوا فأنتم شُيُّوم( ) بأرضي، من سبَّكم غَرم، وقال لعمرو وعبد الله: لو أعطيتموني دَبْرَاً من ذهب - يقول: جبلاً من ذهب – ما سلَّمتهم إليكما، ثم أمر فرُدَّت عليهما هداياهما، ورجعا مقبوحين بشر خيبة وأسوئها. ( )
وبلغ المهاجرين إلى الحبشة أن قريشاً أسلموا، فقدم مكة منهم جماعة، فوجدوا البلاء والشدة كما كانا، فاستمروا بمكة إلى أن هاجروا إلى المدينة.( )
إن إقامة شعائر الله تعالى في الأرض واجب على المسلمين، فإذا مُنعوا من هذه العبادة فلهم أن يختاروا أيَّ بلد يمكنهم من توحيد العبودية لله تعالى، واختيار بلاد الحبشة كان موفقاً بكل أبعاده على الرُغم من ركوب البحر، فقد وقع الاختيار على بلد تحكمه شريعة النصارى الذين عرفوا محمداً  رسولاً بعد عيسى ، فوجدوا العدل والإنصاف وإعطاء حرية العبادة لأنهم عرفوا الغاية من هجرتهم وهو رضاء الله تعالى.
ومن خلال هذه الهجرة تتجلى رحمة النبي  بأصحابه بالسماح لهم بالهجرة، مع حاجته إليهم في الحماية له من الأعداء، ولكنه آثر مصلحة الدعوة على ما سواها، فإن هجرتهم فيها الحفظ على سلامتهم، وفيها تبليغ الدعوة إلى بلاد الحبشة.
كما يستنبط من هذه الرحلة وجود العلائق بين النصارى والمسلمين، وخاصة النصارى من المؤمنين بالقرآن الكريم فإنهم كانوا يتأثرون بل يبكون، قال الله تعالى ﴿وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين﴾ [المائدة/82-83].
ويستفاد من تلاوة سورة مريم أنها قد نزلت قبل هذه الهجرة، أي أن الصحابة  آنذاك قد عرفوا معالم هذه السورة وما فيها من الرحمات وإجابة الدعوات، والمعجزات التي ترفع المعنويات، وبشرى المؤمنين بالمحبة والجنة، وترسيخ الإيمان بالله وبالبعث، وبيان مصير الكفار والمشركين في النار، وكل ذلك يثبِّت المؤمنين ويزيدهم قوة تتحدى الطواغيت.
(ولا ننسى هنا المرأة المسلمة التي تحملت أعباء الاضطهاد والهجرة، جنباً إلى جنب مع الرجل في سبيل الهدف الذي آمنت به.. وستتكرر هذه المواقف مرة تلو مرة في السلم والحرب، لكي يتبين لنا المدى الواسع الذي أفسحه الإسلام للمرأة، والمكانة العالية التي رفعها إليها، والمسؤوليات الجسيمة التي حمّلها إياها، بعدما كانت تعانيه من ضيق واحتقار وإهمال في عهود الجاهلية).( )
ومع أن نبي الرحمة بحاجة إلى من يبقى معه لحمايته وحماية من بقي معه في مكة والذود عن الدين، لكنه رجح مصلحة الدعوة وحماية المؤمنين من الفتنة فأذن لهم بالهجرتين إلى الحبشة.

المبحث الرابع: مقاطعة قريش لبني هاشم وبني المطلب
لما أسلم حمزة عمُّ رسول الله ، وجماعة كثيرون وفشا الإسلام، علمت قريش فساءها ذلك الحدث، وأجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف: ألا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلِّموهم، ولا يجالسوهم، حتى يُسلِموا إليهم رسول الله . وكتبوا بذلك صحيفة وعلَّقوها في سقف الكعبة..
وانحازوا إلى الشِّعب بنو هاشم وبنو المطلب، مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب – لعنه الله – فإنه ظاهر قريشاً. وبقوا على تلك الحال لا يدخل عليهم أحد نحواً من ثلاث سنين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: حُصرنا في الشعب ثلاث سنين، وقطعوا عنّا الميرة حتى أن الرجل ليخرج بالنفقة فما يباع شيئاً حتى مات منّا قوم.
ثم سعى في نقض تلك الصحيفة أقوام من قريش، فكان القائم في أمر ذلك هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حُبيب بن جَذيمة بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي، مشى في ذلك إلى مُطعم بن عَدي وجماعة من قريش، فأجابوه إلى ذلك، وأخبرَ رسول الله  قومه أن الله قد أرسل على تلك الصحيفة الأَرَضَة، فأكلت جميع ما فيها إلا ذكر الله عز وجل، فكان كذلك. ثم رجع بنو هاشم وبنو المطلب إلى مكة، وحصل الصلح برغمً من أبي جهل عمرو بن هشام. ( )
ورُبَّ ضارة نافعة، فقد استفاد المؤمنون من نبي الرحمة  ومن هذا الحصار كثرة الصحبة والسماع والتوجيه، لأن صِلاتهم الاجتماعية حُجِّمت وتقلصت، فكان فيها الخير الكثير من الإعداد الإيماني والتفقه بأمور الدين وكثرة سماع القرآن الكريم من النبي الحكيم، ولهذا نبغ من هؤلاء الصحابة العلماء والفقهاء، وكان تفسير ذلك التنـزيل من أجل الفهم والعمل به، فكان أحيانا يبين التفسير من القرآن وهو قمة في البيان، فقد صحَّ عنه  أنه قال: قال الله تعالى ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو﴾ [الأنعام/59] مفاتح الغيب خمس ﴿إن الله عنده علم الساعة وينـزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير﴾ [لقمان/34].( )
وهذا من قبيل بيان المكي بالمكي، وهو مناسب ذكره هنا في هذه الفترة المكية.
وصحَّ عن عبد الله بن مسعود  قال: لما نزلت هذه الآية ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن﴾ [الأنعام/82] شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله  وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله :"إنه ليس بذاك، ألا تسمع قول لقمان لابنه إن الشرك لظلم عظيم".( )
وهكذا فقد بين للصحابة  آيات الإيمان وكذلك يوضح ما أشكل عليهم في تلك الآية ، كما كان يعتني بالتكرار لإعطاء التعلم حقه في ترسيخ العلوم فقد صحَّ عن أنس عن النبي  كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه.( )
وهذا من رحمته وصبره على تعليم أصحابه .
وخرج من الحصار وله تسع وأربعون سنة، وبعد ذلك بثمانية أشهر مات عمه أبو طالب، وكان موت أُم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بعده بثلاثة أيام. ( )
ففقد رسول الله  خير الأعوان، وهذا الحدث لم يثنِ دعوته بل استمر متوكلاً على الله تعالى يبلغ الأمانة بهمة وصيانة.
وفي ذلك الحدث حكمة ربانية في كمال التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه، والقيام بمزيد من العلائق الاجتماعية بالتزوج من القبائل والأسر التي تزوج منها نبي الرحمة .
وبعد موت أُم المؤمنين خديجة رضي الله عنها رجع المهاجرون من الحبشة، ومن بينهم سَودة بنت زمعة رضي الله عنها وكانت ممن أسلم قديماً ومات زوجها السكران بن عمرو  فلما حلّت خطبها رسول الله  وتزوجها( )، وهذا من رحمته  فقد جبر خاطر هذه الأرملة، وإن كان بإمكانه أن يتزوج من الأبكار، وكانت قد خطبتها خولة بنت حكيم السلمية للنبي ، وقد وافق والد سودة بقوله: كفء كريم( ).

المبحث الخامس: خروجه  إلى الطائف
ولما اشتد البلاء من قريش على رسول الله  بعد موت عمه خرج إلى الطائف، رجاء أن يؤوه وينصروه على قومه، ويمنعوهم منه، حتى يبلّغ رسالة ربه. ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ، فلم ير من يؤوي ولم ير ناصراً، وآذوه أشد الأذى. ونالوا منه ما لم ينل منه قومه، وكان معه زيد بن حارثة مولاه.
فأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا كلمه، فقالوا: أخرج من بلدنا وأغروا به سفهاءهم، فوقفوا له سِماطين، وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه. هي أشد وقعاً من الحجارة، حتى دُميت قدماه، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه، فانصرف إلى مكة محزوناً.
فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة – وهما جبلاها اللذان هي بينهما – فقال: "بل استأني بهم، لعلَّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده، لا يشرك به شيئاً"( ).
هكذا كانت رحمته حتى بأعدائه وذرياتهم، وكانوا إذا طلبوا منه الاستسقاء فإنه يدعو الله تعالى لهم بذلك ويستجيب له. ( )
وهكذا كانت رحمته  في الإحسان مع المشركين، ولقد آتت ثمارها بأن رأوا صدق هذا النبي  ولطفه بهم وحنانه عليهم، مما جعل الكثير منهم يعلنوا كلمة التوحيد الخالدة وغدوا قادة الأُمم بنعمة هذا الدين، كل ذلك بفضل القيام بحق الناس من الدعوة وطلب الخير من الله تعالى حتى ولو كانوا مشركين، وقد كان دعاء النبي  تطبيقاً عملياً لهذا الحق الذي ترك أثره في النفوس وأبرز معجزة نبوية في جلب الخير ودفع الشر. وفي هذا العمل يبرز حكم شرعي في جواز الاستسقاء للمشركين من أجل الدعوة إلى الله تعالى.
من خلال هذه الرحمة نتخيل لو كان حياً بين ظهورنا فماذا يصنع بهؤلاء الذين تكلموا فيه؟ فهو لم يرضَ أن يعاقب أولئك الذين آذوه باللسان والسنان وبالأقوال والأفعال! لا شك أنه سيبلِّغهم الدعوة، وإذا استجابوا فإنه سيشفع لهم عند الله تعالى ليدخلوا جنة عرضها السموات والأرض!
فلما نزل بنخلة( ) في مرجعه، قام يصلي من الليل ما شاء الله، فصرف الله إليه نفراً من الجن فاستمعوا قراءته، ولم يشعر بهم رسول الله  حتى نزل عليه ﴿وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن﴾ إلى قوله ﴿وأولئك في ضلال مبين﴾[الأحقاف/28-32]. ثم انتهى إلى مكة، فأرسل رجلاً من خزاعة إلى المطعم بن عدي (أدخل في جوارك؟) فقال: نعم. فدعا المطعم بنيه وقومه، فقال: ألبسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً فلا يهجه منكم أحد. فانتهى رسول الله  إلى الركن فاستلمه. وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته، والمطعم ابن عدي وولده محدقون به في السلاح، حتى دخل بيته.( )
إنها ابتلاءات تهد الجبال هداً، ولكن نفوس الأنبياء تصمد أمام الابتلاء، فلماذا الافتراء؟! لماذا تنصب ضدهم العداوة؟! إن العداوة ضد نبي الرحمة  لهي عداوة لجميع الأنبياء، لأنهم إخوة ونبي الرحمة سيدهم.
ألم يأن للذين يجرحون عرض نبي الرحمة  أن يتوبوا وتصفو قلوبهم؟ فترقى أقلامهم إلى السماء، وتهذب ألسنتهم من الافتراء، فينجوا من ظلمات الاعتداء.

المبحث السادس: الإسراء والمعراج
إن قصة الإسراء والمعراج هي واقعة عظمى وآية كبرى إذ فيها حصل انتقال إلى مرحلة جديدة من الريادة العلمية والسيادة النبوية، فهي انتقال من السماع بواسطة جبريل إلى المشاهدة البصرية الحقيقية لرؤية الأنبياء كلهم والجنة والنار وسدرة المنتهى والسماوات السبع وخزنتها وغير ذلك من المرئيات، ثم ارتقاء جديد بمكالمة الله تعالى عدة مرات في فرضية الصلاة والتخفيف في عدد ركعاتها، وانتقال إلى التعبئة الإيمانية والتزود بالحكمة والرحمة، وبهذا نستطيع أن نقول أنه انتقل إلى مرحلة هي: ريادة الحكماء والرحماء والعلماء، وسيادة الرسل والأنبياء بذلك التكريم العظيم، من الإمامة والتعليم، والتكليف الشريف والتكليم الكريم لله الحكيم العليم.
وحديث الإسراء والمعراج طويل ومتواتر وسأذكره بطوله لما فيه من الاستنباط فقد صحَّ عنه بالتواتر  أنه قال: "بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحِجر - مضطجعاً إذ أتاني آت فشقَّ ما بين هذه إلى هذه - يعني به قال من ثغرة نحره إلى شعرته - فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض... فحُملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال جبريل: قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلَّم عليه، فسلَّمت عليه فردَّ السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلِّم عليهما فسلَّمت فردَّا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلِّم عليه، فسلَّمت عليه فردَّ ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أو قد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إلى إدريس قال: هذا إدريس فسلِّم عليه، فسلَّمت عليه فردَّ ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد ، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلِّم عليه، فسلَّمت عليه فردَّ ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى قال: هذا موسى فسلِّم عليه، فسلَّمت عليه فردَّ ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي. ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك فسلِّم عليه، قال: فسلَّمت عليه فردَّ السلام وقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم رُفعت لي سِدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قِلال هَجَر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سِدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رُفع لي البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة أنت عليها وأمتك ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بم أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى منادٍ: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.( )
ويستنبط من الحديث أنه لم يتوقف عند السماء السابعة ورؤية البيت المعمور بل ارتقى إلى أعلى فرأى من آيات ربه الكبرى، سدرة المنتهى، وشجرة الزقوم، وفتحت له أبواب الجنة، ورأى النار وما فيها من الفجار، ورأى نهر الكوثر وما فيه من قباب لؤلؤية، واستمر الارتقاء إلى مستوى سمع فيه صريف أقلام الملائكة وأشياء لم يقدر أن يصفها لما فيها من العجائب، قال تعالى ﴿إذ يغشى السدرة ما يغشى﴾[النجم/18]، وثبت عنه  في بيان ذلك أنه قال: "فراش من ذهب"( )، ثم بلغ التشرف بمكالمة الله تعالى والحوار في فرضية الصلاة وتخفيفها مما جعل الحوار متكرراً ومتقطعاً إذ بلغ تسع أو بضع مرات حين فرض الله تعالى الصلاة خمسين ثم لما نزل إلى السماء السادسة، رأى موسى  فسأله ثم نصح بالتخفيف، فرجع النبي  إلى ربه يسأله التخفيف، وهكذا تكرر الأمر بالتخفيف عشراً عشرا، وفي رواية خمساً خمساً( ) حتى وصلت إلى خمسة فروض في اليوم، وهكذا التكرار جعل النبي  يمرُّ بالسماء السابعة وما فوقها تسع مرات أو بضع مرات حسب التخفيف. وهذا الذهاب والإياب من السماء السادسة إلى ما شاء الله تعالى طلباً للتخفيف لهو أمر شديد على نبي الرحمة ، ولكنه مضى بسؤال ربه التخفيف رحمة بالأُمَّة، وهذا أيضاً يدل على رحمة موسى  بنا.
ويستنتج من هذا أن مشاهداته لهذه الأماكن زاده من المعلومات ورؤيتها رأي العين، وهذا الأمر نقل العلم النبوي من أقوال يسمعها من جبريل إلى مشاهدات رآها رأي العين، فيتعين معرفة المصدر الثاني وهو المشاهدة بالإضافة إلى المصدر الأول وهو: السماع من جبريل .
وقد روى  من هذه المشاهدات أحاديث كثيرة وخصوصاًَ في صفة الجنة والنار وما فيهما من العجائب والغرائب، ومنها هذه الرحلة الفضائية، فقد فصّل الروايات فيها تفصيلاً دقيقاً وثبتها في أذهان الصحابة تثبيتاً حتى سمعه منه عشرات الصحابة  فغدت الرواية متواترة مشهورة.
ونستنتج أن السموات السبع متصلة بعضها فوق بعض، وأن الدخول إلى السماء السابعة من السماء السادسة، وهكذا الدخول إلى السماء السادسة من الخامسة وهكذا في البقية الدخول من السماء التي تحت الأخرى. إنها رحلة تعليم وتكريم من العليم الكريم.
ويستنبط أيضاً أن النبي  اجتمعت له ثلاثة مصادر لتلقي علوم الوحي وأخبار هذه الرحلة، وهي مكالمة من الله تعالى عدة مرات، وسؤالاته لجبريل، ومشاهدته للتهاويل.
ويستنتج من حوار النبي  والأنبياء وجبريل مع الخزنة أن الملائكة والأنبياء كلَّهم لهجوا باللغة العربية ومنها قول آدم : "مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح"، وكذلك تحية الأنبياء ودعاؤهم للنبي .
ولا شك أن نبي الرحمة بشَّر أصحابه بما رأى تثبيتاً لهم وتطييباً لخواطرهم ورحمة بهم وحباً لهم، فإن ما رآه يرفع المعنويات فتسهل العقبات.
ولما أصبح رسول الله  من نومه أخبرهم بما أراه الله من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستجراؤهم عليه. وجعل رسول الله  يعرض نفسه على القبائل أيام الموسم ويقول:"من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي!؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" فأتاه رجل من همدان فقال: "ممن أنت؟" فقال الرجل: من همدان. قال: "فهل عند قومك منعة؟" قال: نعم. ثم إن الرجل خشي أن يُخفره قومه، فأتى رسول الله  فقال: آتيهم فأُخبرهم، ثم آتيك من عام قابل. قال: "نعم". فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب.( )

المبحث السابع: بيعة العقبة الأولى والثانية
ثم إن رسول الله  لقي عند العقبة في الموسم نفراً من الأنصار، كلُّهم من الخزرج، وهم: أبو أُمامة بن زرارة بن عدس، وعوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء ورافع بن مالك بن العجلان، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعُقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رئاب، فدعاهم رسول الله  إلى الإسلام، فأسلموا مبادرة إلى الخير، ثم رجعوا إلى المدينة، فدعوا إلى الإسلام، ففشا الإسلام فيها، حتى لم تبق دار إلا وقد دخلها الإسلام.
فلما كان العام المقبل، جاء منهم اثنا عشر رجلاً: الستة الأوائل خلا جابر بن عبدالله بن رئاب، ومعهم: معاذ بن الحارث بن رفاعة، أخو عوف المتقدم، وذكوان بن عبدُ قيس بن خلدة - وقد أقام ذكوان هذا بمكة حتى هاجر إلى المدينة، فيقال: إنه مهاجري أنصاري - وعبادة بن الصامت بن قيس، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة، فهؤلاء عشرة من الخزرج، واثنان من الأوس وهما: أبو الهيثم مالك بن التيهان، وعويم بن ساعدة. فبايعوا رسول الله  كبيعة النساء، ولم يكن أمر القتال بعد.
فلما انصرفوا إلى المدينة، بعث معهم رسول الله  عمرو بن أُم مكتوم، ومصعب بن عمير، يعلمان من أسلم منهم القرآن، ويدعوان إلى الله عزَّ وجلَّ، فنزلا على أبي أُمامة أسعد بن زرارة، وكان مصعب بن عمير يؤمهم، وقد جمَّع بهم يوماً بأربعين نفساً، فأسلم على يديهما أُسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بني عبد الأشهل... وكثر الإسلام بالمدينة وظهر، ثم رجع مصعب إلى مكة، ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين، وزعيم القوم البراء بن معرور.
فلما كانت ليلة العقبة – الثلث الأول منها- تسلَّل إلى رسول الله  ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، فبايعوا رسول الله  خفية من قومهم ومن كفار مكة، على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم. وكان أول من بايعه ليلتئذ البراء بن معرور، وكانت له اليد البيضاء، إذ أكد العقد وبادر إليه.
وحضر العباس عمُّ رسول الله  موثِّقاً مؤكِّداً للبيعة مع أنه كان على دين قومه، واختار رسول الله  منهم تلك الليلة اثني عشر نقيباً... فلما تمت هذه البيعة استأذنوا رسول الله  أن يميلوا على أهل العقبة فلم يأذن لهم في ذلك، بل أذن للمسلمين بعدها من أهل مكة في الهجرة إلى المدينة، فبادر الناس إلى ذلك. ( )
ولا شك أن أصحاب هاتين البيعتين قد حظوا بسماع القرآن الكريم الذي نزل على النبي الحكيم في مكة المكرمة، ونالوا قسطاً من البيان والحكمة والفقه، ليعرفوا مرامي هذا الدين العظيم فيبلغوا أقوامهم.
وقد ذكر أهل السير أن النبي  قد قرأ عليهم القرآن، وذكروا أيضاً أن مصعب بن عمير قرأ سورة الزخرف على سعد بن معاذ ثم أسلم( ).
ويستنتج من ذلك أن مصعب بن عمير قد سمع هذه السورة وفهم معانيها ومراميها، فهي تستهل بإثبات صدق الرسالة وصدق هذا القرآن، ودلائل قدرة الله جلَّ وعلا ووحدانيته، منبثة في هذا الكون الفسيح، في سمائه وأرضه، وفي جباله ووهاده، وفي بحاره وأنهاره، وفي الماء الهاطل من السماء، والفلك التي تسير على سطح الماء، والأنعام التي سخرها؛ لتصحيح الانحرافات العقدية، وردِّ النفوس إلى الفطرة وإلى الحقائق، وعرضت السورة لقصة إبراهيم الخليل الذي زعم المشركون أنهم على ملته، وأن متاع الدنيا زائل والعاقبة للمتقين، وتذكر السورة الكريمة قصة موسى مع فرعون، وقد وردت في سياق تسلية الرسول  عمَّا يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره للرسالة، وتتحدث السورة الكريمة عن الأشقياء المجرمين، وهم في غمرات جهنم يستغيثون ويستصرخون فلا يجابون، وتختم السورة الكريمة ببيان عظمة الله وجلاله، وأنه الخالق الذي لا سلطان ولا شفاعة لأحد إلا بإذنه. كل هذه المقاصد كانت تطرق مسامعهم وتجول في عقولهم، فيزداد الإيمان وتقوى النفوس والقلوب.
ويستفاد من هذه القصة رحمته  بأهل هذه البيعة وبأعدائه، فإنه لم يوافق أصحاب البيعة على قتال الأعداء لعلهم يهتدون أو تهتدي ذرياتهم، وكذلك أنه لم يأذن الله تعالى بذلك.
المبحث الثامن: هجرة رسول الله 
إن مفارقة الوطن والأهل أمر عسير على النفس البشرية التي تعودت على نمط الحياة المستقرة، ولكن الأمر الرباني فوق ذلك كله؛ لأنه سبحانه وتعالى أعلم بالمصالح والنتائج، فقد أمر نبيه  بالهجرة إلى المدينة التي كان اسمها (يثرب)، وقد استجاب نبي الحكمة لهذا الأمر الحكيم، واستخدم التمويه إذ اتجه إلى غار جبل ثور الذي يقع جنوب مكة المكرمة بعشرين كيلاً، ثم نزل منه متجهاً إلى المدينة الواقعة شمال مكة المكرمة.
وقد أعدَّ أبو بكر  جهازه وجهاز رسول الله ، منتظراً حتى يأذن الله عز وجل لرسوله  في الخروج. فلما كانت ليلة هم المشركون بالفتك برسول الله ، وأرصدوا على الباب أقواماً، إذا خرج عليهم قتلوه، فلما خرج عليهم لم يره منهم أحد... فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً، وقد استأجرا عبد الله بن أُريقط، وكان هادياً خريتاً، ماهراً بالدلالة إلى أرض المدينة، وأمناه على ذلك مع أنه كان على دين قومه، وسلَّما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث، فلما حصلا في الغار أعمى الله على قريش خبرهما، فلم يدروا أين ذهبا.
وكان عامر بن فهيرة، يريح عليهما غنماً لأبي بكر، وكانت أسماء بنت أبي بكر تحمل لهما الزاد إلى الغار، وكان عبد الله بن أبي بكر يتسمع ما يقال بمكة ثم يذهب إليهما بذلك فيحترزان منه. وجاء المشركون في طلبهما إلى ثور، وما هناك من الأماكن، حتى إنهم مروا على باب الغار، وحاذت أقدامهم رسول الله  وصاحبه، وعمَّى الله عليهم باب الغار... ولما كان بعد الثلاث أتى ابن أُريقط بالراحلتين فركباهما، وأردف أبو بكر عامر ابن فهيرة وسار ابن أُريقط أمامهما على راحلته.
وجعلت قريش لمن جاء بواحد من محمد  وأبي بكر  مائة من الإبل، فلما مرُّوا بحي مدلج، بَصُر بهم سراقة بن مالك بن جعشم سيد مدلج، فركب جواده وسار في طلبهم، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي ، وأبو بكر  يكثر الالتفات حذراً على رسول الله ، وهو  لا يلتفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله هذا سراقة بن مالك قد رهقنا. فدعا عليه رسول الله  فساخت يدا فرسه في الأرض فقال: رميت، إن الذي أصابني بدعائكما، فادعوا الله لي، ولكما عليَّ أن أردَّ الناس عنكما، فدعا له رسول الله  فأطلق، وسأل رسول الله  أن يكتب له كتاباً، فكتب له أبو بكر في أدم، ورجع يقول للناس: قد كفيتم ما ههنا. وقد جاء مسلماً عام حجة الوداع ودفع إلى رسول الله  الكتاب الذي كتبه له، فوفَّى له رسول الله  بما وعده وهو لذلك أهل. ومرَّ رسول الله  في مسيره ذلك بخيمة أُم معبد فقَالَ عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبناً كثيراً في سنة مُجدبة ما بهر العقول.( )
إن استئجار عبد الله بن أُريقط وهو من المشركين يدل على ثقة النبي  بالآخر إذا عُلم منه ذلك، وهذه هي الحكمة في التعامل مع الآخر وتبادل المنافع إذا أُمِن جانبه.
وفي قصة الهجرة رحمة النبي  بأبي بكر  في تخفيف همومه، وخوفه على النبي ، وتذكيره بأن الله تعالى معهم وحافظهم.
وقد كان بلغ الأنصار مخرجه من مكة وقصده إياهم، فكانوا كل يوم يخرجون إلى الحرَّة ينتظرونه، فلما كان يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من نبوته  وافاهم رسول الله  حين اشتد الضحى، وكان قد خرج الأنصار يومئذ، فلما طال عليهم رجعوا إلى بيوتهم، وكان أول من بَصُر به رجل من اليهود - وكان على سطح أطمة- فنادى بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون! فخرج الأنصار في سلاحهم وحيوه بتحية النبوة.
ونزل رسول الله  بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل: بل على سعد بن خيثمة، وجاء المسلمون يسلمون على رسول الله ، وأكثرهم لم يره بعد، وكان بعضهم أو أكثرهم يظنه أبا بكر لكثرة شيبه، فلما اشتد الحر قام أبو بكر بثوب يظلل على رسول الله  فتحقق الناس حينئذ رسول الله الصلاة والسلام. ( )

الفصل الثاني: العهد المدني
استغرق هذا العهد عشر سنوات حافلة بالوقائع والحوادث والمعاهدات والرحمات حتى في الفتوحات، وتميز هذا العهد بإتمام التنزيل، وإكمال الشريعة مما أعطى قوة لدولة الإسلام في نظام الحكم والاقتصاد والاجتماع والتربية، ولذلك كان المنهاج النبوي في غاية الضبط والإتقان في تعامله مع المسلمين وغير المسلمين، ورحمته الشاملة للجميع على الرغم من اختلاف العقيدة والأديان، فقد كان في المدينة يهود بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع، والأعراب من غير المسلمين إضافة إلى طائفة من المنافقين أظهروا الإسلام خوفاً على أنفسهم، وكانت مكائدهم تترى، ومع ذلك فكانوا يحظون برحمة وحكمة النبي  هم وغيرهم في السراء والضراء، وفي السلم والحرب، أما في السلم فهو كما يلي:
أولاً: رحمته في وضع معاهدة لكل سكان المدينة بمختلف مللهم تضمن حقوق الجميع، وتمنع الاعتداء بين هذه الملل، بل وتمنع الظلم فيما بين الملة الواحدة كما سيأتي تفصيله في الباب الثاني في رحمته في حل المشكلات.
ثانياً: حكمته في موافقته لأهل الكتاب:
بما أن أهل الكتاب هم من أرباب الأديان السماوية فقد صحَّ أن النبي  كان يحب موافقتهم في كثير من الأمور إلا فيما لم يؤمر فيه بشيء. ( )
كذلك كان متواضعاً للأنبياء ومتوافقاً معهم، فقد صحَّ عنه أنه قال: "مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون ويقولون: لولا موضع اللبنة".( )
في هذا الحديث ذكر جهود الأنبياء في الدعوة، وصلته بهم وسيره على عقيدتهم.
ثالثاً: رحمته في التخفيف عن فقراء أهل الذمة:
وقد عقد الإمام ابن قيم الجوزية فصلاً بعنوان (ذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم) ثم قال: أما أموالهم التي يتجرون بها في المقام أو يتخذونها للقنية فليس عليهم فيها صدقة فإن الصدقة طهرة... وأما زروعهم وثمارهم التي يستغلونها من أرض الخراج فليس عليهم فيها غير الخراج.( )
وأما بالنسبة للجزية فقد سقطت عن ضعفائهم وغيرهم من الذين ذكرهم الإمام أبو يوسف في كتابه إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد إذ قال:
ولا تؤخذ الجزية من المسكين الذي يتصدق عليه، ولا من أعمى لا حرفة له ولا عمل، ولا من ذميّ يتصدق عليه ولا من مقعد. والمقعد والزمِن إذا كان لهما يسار أخذ منهما وكذلك الأعمى.
وكذلك المترهبون الذين في الديارات إذا كان لهم يسار أُخذ منهم، وإن كانوا إنما هم مساكين يتصدق عليهم أهل اليسار منهم لم يؤخذ منهم، وكذلك أهل الصوامع إن كان لهم غني ويسار، وإن كانوا قد صيروا ما كان لهم لمن ينفقه على الديارات ومن فيها من المترهبين والقوام أُخذت الجزية منهم يؤخذ بها صاحب الدير، فإن أنكر صاحب الدير الذي ذلك الشيء في يده، وحلف على ذلك بالله وبما يحلف به مثله من أهل دينه ما في يده شيء من ذلك ترك ولم يُؤخذ منه شيء.( )
وفي اعتماد المسلمين هذا الحلف من أهل الذمة تتجلى الثقة فيهم وحسن الظن بهم.

رابعاً: العفو والسماحة:
لقد ضربت سماحة النبي ورحمته  القدح المعلى والقدوة المثلى حتى فيمن قام بسحره فقد قام لبيد بن الأعصم اليهودي بسحر النبي  وإذا برعاية الله تعالى لنبيه تكشف هذا المخطط الخبيث وتبطله وتخلصه من هذا الشر.
أخرج البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَحر رسولَ الله  رجلٌ من بني زُريق يقال له لَبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله  يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله. حتى إذا كان ذات يوم -أو ذات ليلة- وهو عندي، لكنه دعا ودعا ثم قال: يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفيته فيه؟ أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب. قال: من طبَّه؟ قال: لَبيد بن الأعصم.( )
خامساً: زيارة أهل الكتاب:
ومن لطفه فإنه كان يزور كنيسة اليهود يوم عيدهم ومعه بعض أصحابه ، فقد صحَّ عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: انطلق النبي  وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيدهم. ( )
وفي هذا الحديث تطبيق عملي لبيان جواز مثل هذه الزيارة لأجل الدعوة إلى الله تعالى.
سادساً: رحمته في موتى أهل الكتاب:
مما تقدم تبين منهاجه  ورحمته ورفقه مع اليهود، ولم يقتصر على ذلك بل حتى بعد موت اليهود، ولقد تركت هذه السنة آثارها في الصحابة في احترام اليهود في موتهم أيضاً.
فقد ثبت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين فمرُّوا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنهما من أهل الأرض - أي من أهل الذمة - فقالا: إن النبي  مرت به جنازة فقام. فقيل له: إنها جنازة يهودي. فقال: "أليست نفساً؟". وصحَّ عن جابر عبد الله  قال: مر بنا جنازة فقام لها النبي  وقمنا فقلنا: يا رسول إنها جنازة يهودي فقال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا".( )
قال الحافظ ابن حجر: واستدل بحديث الباب على جواز إخراج جنائز أهل الذمة نهاراً غير متميزة عن جنائز المسلمين. ( )
ولا غرابة إنه دين الإسلام الذي يحترم النفس في حياتها وموتها ولا يفرق في حق المسلمين ولا في حق أهل الكتاب.
هكذا أرسى النبي  مثل هذه الدعائم في رحمته بأهل الكتاب حتى عند الممات حتى لا يظن بعضهم أن المصالح والعلاقات الشخصية تقتضي حسن التعامل مع الأحياء منهم بل كان الأمر فوق ذلك إذ أحسن التعامل مع الأموات منهم أيضاً.
سابعاً: رحمته في تعامله مع الأقليات:
لقد أبرم معاهدات مع وفد نجران، ومع مجوس هجر وتبالة وجرش( )، ومع بعض القبائل العربية كما سيأتي في العهد المدني، وقد حدد حقوق الجوار لكل طرف.
قال المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار: حاول الإسلام منذ القرن السابع للميلاد أن يقدم حلاً لمشكلة الأقليات فريداً من نوعه. وتستحق جماعة غير المسلمين على أرض الإسلام أن تُتناول بالتحليل, لأنه ثبت أنها نهج لا مثيل له.( )
قال المستشرق الأمريكي أدوين كالغرلي: احتفظ المسلمون للأقليات غير المسلمة في البلاد التي فتحوها بحقوقهم وامتيازاتهم الدينية.( )
ثامناً: أمره بالتيسير: وذلك عندما أرسل أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما وأوصاهما بقوله الحكيم: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"( ).
هذا في حالة السلم، أما في حالة الحرب فإن رحمته  تتجلى في كثير من الأمور منها ما يلي:
أولاً: النهي عن قتل النساء والصبيان في الغزو:
لقد حرم الله تعالى الاعتداء حتى في الحرب فقال تعالى ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا...﴾ [البقرة/190] واستجاب النبي  لهذا الأمر، وبين تحريم قتل النساء والصبيان، حيث ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله ، فنهى رسول الله  عن قتل النساء والصبيان".( )
قال النووي: أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا قال جماهير العلماء يقتلون.( )
ثانياً: تحريم التمثيل بالمقتولين المحاربين:
ومن آداب الإسلام وحقوق الإنسان في الحرب تحريم التمثيل بمن سقط قتيلاً أو جريحاً على يد المسلمين، حيث نهى النبي  عن ذلك كما صحَّ عن بريدة مرفوعاً: "اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً".( )
ثالثاً: الترهيب من التعذيب:
وثبت عن هشام بن حكيم بن حزام قال: مرَّ بالشام على أناس وقد أقيموا في الشمس وصبَّ على رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل: يعذبون في الخراج. فقال: أما إني سمعت رسول الله  يقول: "إن الله يعذب الذين يعذبون في الدنيا".( )
والخراج: قال الأزهري: الخراج اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال... ويقع على الفيء ويقع على الجزية.( )
قال النووي: هذا محمول على التعذيب بغير حق، فلا يدخل فيه التعذيب بحق كالقصاص والحدود والتعزير ونحو ذلك.( )
رابعاً: أمان الأسير إذا أسلم:
قال الإمام الجصاص: اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافاً فيه( )، وذكر الإجماع ابن حزم( )، وابن رشد ( ). ولكن يستثنى من هذا الحكم إذا أسلم الأسير فإنه يحرم قتله، فقد ثبت عن النبي  أنه قال: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"( ).
وكذلك في حال عقد الأمان للأسير فإنه لا خلاف بين المسلمين أن الأمان للأسير يعصم دمه.( )
وقد جاءت السنة النبوية في تطبيق الأمان للأسرى ومنها كما حصل في غزوة بدر فقد كان الأمان، وقبول الفداء للعباس وأبي العاص زوج زينب رضي الله عنها بنت رسول الله ، وكذلك كان الأمان لنوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وعُتبة بن عمرو بن جحدم.
وثبت عن عائشة قالت: لما جاءت أهل مكة في فداء أساراهم، بعثت زينب بنت رسول الله  في فداء أبي العاص، وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بني عليها، فلما رآها رسول الله  رَقَّ لها رقة شديدة وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردُّوا عليها الذي لها فافعلوا" قالوا: نعم يا رسول الله، وردُّوا عليه الذي لها. ( )
وفي هذا الحديث الكريم التطبيق العملي لحق فداء الأسير والتلطف مع الأسرى الذي يبين حكماً شرعياً في جواز أخذ الفداء لإطلاق سراح الأسرى، وفيه أيضاً أنه لا محسوبية ولا منسوبية في السياسة النبوية مع المحاربين حتى لو كانوا من الأقربين كما رأينا في فداء زوج ابنة رسول الله  زينب رضي الله عنها، وذلك بعد ما دفعت الحق المطلوب منها، وكذلك الحال للأسرى من أبناء عمِّ النبي  فكان التعامل يتم بالسواسية.
خامساً: حق الأسير والحربي في حرز ماله إذا أسلم:
وثبت هذا الحق فيما صحَّ عن صخر بن عَيلة أن قوما من بني سليم فرُّوا عن أرضهم حين جاء الإسلام فأخذتُها، فأسلموا فخاصموني فيها إلى النبي ، فردَّها عليهم وقال: إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله.( )
وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعا كانت جميع أمواله في ملكه، ولا فرق بين أن يكون إسلامه في دار الإسلام أو دار الكفر على ظاهر الدليل.
سادساً: أمان الرسل:
سنّ النبي  هذا الحق ومضت هذه السنة إلى يومنا هذا، كما هو معروف في العلاقات الدولية، وهذا القرار الحكيم هو تمهيد إلى الصلح والمفاوضات، وصحَّ عن نُعيم بن مسعود الأشجعي قال: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبي  فقال لهما: أتشهدن أني رسول الله؟ قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله فقال رسول الله : آمنت بالله ورسوله لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما.
رواه الإمام أحمد وقال ابنه عبد الله: فمضت السُنَّة أن الرسل لا تقتل.( )
وهذا الحديث صريح في تحريم قتل الرسل حتى لو أعلنوا الكفر جهاراً نهاراً. وفي ذلك قمة السماحة والمرونة السياسية في الإسلام، لأن هذا الرسول الذي أعلن كفره هو وسيط لإبرام معاهدات وعقد صلح وغير ذلك. وهذه السنة النبوية الفعلية للعلاقات الدولية جاءت لتطبيق هذا الحق الذي لا زال قائما في الأعراف الدولية. إنها دراسة السياسة. هكذا كانت رحمة نبي الحكمة .
قال الأستاذ الهندي بيجي رودريك: قوانين الحرب في الإسلام تعتبر أكثر القوانين إنسانية ورأفة، فهي تضمن السلامة التامة للنساء والولدان والشيوخ وجميع غير المحاربين فليس هناك في نظر الإسلام أبشع من جريمة قصف المستشفيات والمدارس وأماكن العبادة ومساكن المدنيين في المنطقة المعادية. وإنما يجعل الإسلام لهذه المرافق الإنسانية قدسيتها ويحذر من المساس بها.( )
هذا وإن كثيراً من الغزوات لم يقع فيها قتال، وإنما كان صلحاً، فقد صحَّ عن بُريدة الأسلمي  قال: غزا رسول الله  تسع عشرة غزوة قاتل في ثمان منهن.( ) وهنَّ كما قال موسى بن عقبة: بدر ثم أحد ثم الأحزاب ثم المصطلق ثم خيبر ثم مكة ثم حُنين ثم الطائف. ذكره الحافظ ابن حجر ثم قال: وأهمل غزوة بني قريظة لأنه ضمَّها إلى الأحزاب، لكونها كانت في إثرها. ( ) وهذا العدد ذكره أيضاً ابن إسحاق( )، وابن سعد( )، وابن حزم( ).
ولكي نقف على المنهاج النبوي الحكيم الرحيم في العهد المدني نستعرض أهم أعمال وحوادث كل سنة كما في المباحث التالية:

المبحث الأول: أهم أعمال وحوادث السنة الأولى للهجرة
لما أقام رسول الله  بقباء أياماً وأسس مسجد قباء، ثم ركب بأمر الله تعالى فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن رانونا( )، ورغب إليه أهل تلك الدار أن ينـزل عليهم، فقال:"دعوها فإنها مأمورة" فلم تزل ناقته سائرة به لا تمرُّ بدار من دور الأنصار إلا رغبوا إليه في النزول عليهم، فيقول: "دعوها فإنها مأمورة". فلما جاءت موضع مسجده اليوم بركت، ولم ينزل عنها  حتى نهضت وسارت قليلاً ثم التفتت ورجعت فبركت موضعها الأول، فنـزل عنها ، وذلك في دار بني النجار، فحمل أبو أيوب  رحل رسول الله  إلى منـزله.
واشترى رسول الله  موضع المسجد، وكان مربداً ليتيمين، وبناه مسجداً، فهو مسجده الآن، وبني لآل رسول الله  الودائع التي كانت عنده وغير ذلك، ثم لحق برسول الله .( )
ووادع رسول الله  مَن بالمدينة من اليهود، وكتب بذلك كتاباً( )، وأسلم حبرهم عبد الله بن سلام ، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. وآخى رسول الله  بين المهاجرين والأنصار، فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرثاً مقدماً على القرابة.
وفرض الله سبحانه وتعالى إذ ذاك الزكاة رفقاً بفقراء المهاجرين. ( )
وفيها بنى بعائشة رضي الله عنها، وهي الزوجة الثالثة بعد سودة رضي الله عنها.
وأمر فيها بالأذان للصلاة، وزِيد في صلاة الحضر ركعتين، فصارت أربع ركعات، ونزل أهل الصُّفة المسجد، وكانت مكاناً في المسجد ينـزل فيه فقراء المهاجرين الذين لا أهل لهم ولا ومال( ). وفيها أرسل  سرية حمزة بن عبد المطلب، وسرية عبيدة بن الحارث بن عبدالملك.( )
وتتجلى رحمته  في مراعاة مستقبليه فلم يُقدِّم أحداً على آخر، وإنما أخبرهم أن الله عزَّ وجلَّ قد جعل الناقة تبرك حيث أُمرت.
وكذلك عنايته ورعايته بأهل الصُّفة فقد كان يتفقدهم في طعامهم وكسائهم.
وقد كان سقف الحُجرات قريباً جداً حتى أن الغلام يصل إليه إذا مدَّ يده إليه، وصحَّ عن الحسن البصري قال: كنتُ أدخل بيوت أزواج النبي  في خلافة عثمان بن عفان  فأتناول سقفها بيدي.( )
وقد وصف لنا التابعي داود بن قيس تلك الحُجرات المتواضعة فقال: رأيت الحجرات من جريد النحل، مغشي من خارج بمسوح الشعر، وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحواً من ست أو سبع أذرع، وأحزر البيت الداخل عشر أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والسبع نحو ذلك، ووقفت عند باب عائشة فإذا هو مستقبل المغرب.( ) هذه الحُجرات المتواضعة موعظة للبشرية، لقد بكى بعض التابعين حين هُدمت الحجرات.

المبحث الثاني: أهم أعمال وحوادث السنة الثانية
ولما استقر رسول الله  في المدينة وأيده الله بنصره وبالمؤمنين، وألَّف بين قلوبهم بعد العداوة، ومنعته أنصار الله من الأحمر والأسود: رمتهم العرب واليهود عن قوس واحد، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، والله يأمر رسوله والمؤمنين بالكف والعفو والصفح، حتى قويت الشوكة، فحينئذ أذن لهم في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال تعالى ﴿أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير﴾ [الحج/39] وهي أول آية نزلت في القتال. ( )
وفيها تحويل القبلة، في شهر رجب، وقيل: شعبان. وفرض شهر رمضان، في شهر شعبان. وقدوم زينب من مكة، في شهر شوال. وفيها فرضت الزكاة وزكاة الفطر. وزوّج رسول الله  علياً فاطمة رضي الله عنها. وأظهر الإسلام طائفة كثيرة من المشركين واليهود وهم في الباطن منافقون.( )
ومن رحمته  لم يفضح أمر المنافقين وستر عليهم، ولم يعاقبهم وقد عرَّفه الله تعالى عليهم ليحذرهم، فكان تعامله معهم في غاية الحكمة والرحمة.
وفيها غزا بني سليم بالكدر( )، وأقام ثلاثة أيام فيها، أفدى فيها معظم أسارى قريش.
وغزا فيها  غزوة الأبواء، وكانت أول غزوة غزاها رسول الله  خرج في المهاجرين خاصة، يعترض عِيراً لقريش، فلم يلقَ كيداً.
وفيها وادع بني ضمرة على أن لا يغزوهم ولا يغزوه، ولا يعينوا عليه أحداً.
وغزا بواطاً في ربيع الأول، خرج يعترض عيراً لقريش، فيها أُمية بن خلف ومائة رجل من المشركين، فبلغ بواطاً - جبلاً من جهينة – فرجع ولم يلق كيداً.
ثم خرج في طلب كرز بن جابر الفهري، وقد أغار على سرح المدينة فاستاقه، فخرج رسول الله  في أثره حتى بلغ سفوان من ناحية بدر، وهرب كرز.
ثم خرج في جماد الآخرة في مائة وخمسين من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش ذاهبة إلى الشام، وخرج في ثلاثين بعيراً يتعاقبونها، فبلغ ذا العشيرة من ناحية ينبع، فوجد العير قد فاتته بأيام، وهي التي خرجوا لها يوم بدر لما جاءت عائدة من الشام وتسمى (غزوة العشيرة).
وفيها وادع بني مِدلج وحلفاؤهم. ثم بعث عبد الله بن جحش إلى نخلة في رجب في اثني عشر رجلاً من المهاجرين كل اثنين على بعير، فوصلوا إلى نخلة يرصدون عيراً لقريش، وكان رسول الله  قد كتب له كتاباً، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، فلما فتح الكتاب إذ فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنـزل نخلة - بين مكة والطائف- فترصد قريشاً وتعلم لنا أخبارها".
فأخبر أصحابه بذلك، وأخبرهم أنه لا يستكرههم، فقالوا سمعاً وطاعة. ( )
فلما كان في رمضان: بلغ رسول الله  خبر العير المقبلة من الشام مع أبي سفيان، فيها أموال قريش، فندب رسول الله  للخروج مسرعاً في ثلاثمائة وبضع عشرة رجلاً،ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد بن الأسود، وكان معهم سبعون بعيراً، يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير، واستخلف عبد الله بن أُم مكتوم على المدينة. ( )
وكان نتيجتها النصر المؤزر على مشركي مكة إذ قتل منهم سبعون وأسر سبعون، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً.
ويستنتج مما سبق من الموادعة مع بني ضمرة وبني مدلج وحلفائهم اهتمامه بالسلم وحواره مع الآخر لحياة مستقرة خالية من الحروب، وبيان رحمته في عدم الإكراه في الغزو كما أوصى عبد الله بن جحش ، وأما غزوة الأبواء وبواط والعشيرة وبدر فكلها كانت اقتصادية لأخذ عير قريش لإضعافهم اقتصادياًُ وتعويض ما فات من الحقوق المالية في مكة حينما هاجر النبي  ومن معه من الصحابة، فقد تركوا عقاراتهم وأموالهم. وأما خروجه لطلب كرز فهي تأديبية على اعتدائه على سرح المدينة.
المبحث الثالث: أهم أعمال وحوادث السنة الثالثة
فيها غزوة الفُرع( ) من بحران، في ربيع الأول يريد بذلك قريشاً. وعقد عثمان على رُقية بنت رسول الله . وعقد عثمان بن عفان  على أُم كلثوم بنت رسول الله  بعد وفاة أختها رقية رضي الله عنها في شهر ربيع الأول. ( )
وفيها كانت غزوة بني قينقاع، وكانوا من يهود المدينة، فنقضوا العهد، فحاصرهم رسول الله  خمسة عشر ليلة، فنـزلوا على حكمه، فشفع فيهم عبد الله بن أُبي بن سلول، وألحَّ على رسول الله  فيهم، فأطلقهم له وكانوا سبعمائة رجل، وهم رهط عبد الله بن سلام.
وفيها كانت وقعة أحد في شوال، وذلك أن الله تبارك وتعالى لما أوقع بقريش يوم بدر، وترأس فيهم أبو سفيان لذهاب أكابرهم، أخذ يؤلب على رسول الله  وعلى المسلمين، ويجمع الجموع، فجمع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش، والحلفاء والأحابيش، وجاءوا بنسائهم لئلا يفروا، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنـزل قريباً من جبل أحد. ( )
وكان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص، اختبر الله عز وجل به المؤمنين، وأظهر به المنافقين، وأكرم فيه من أراد كرامته بالشهادة، فكان مما نزل من القرآن في يوم أحد، إحدى وستون آية من آل عمران، أولها ﴿وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال...﴾ [آل عمران/121-180]الآيات.( )
ويستفاد من العفو عن اليهود السبعمائة بيان رحمته ورأفته، والاستجابة لعبد الله بن أُبي بن سلول، أما في غزوة أحد فإن ما أصابه من الجراح لم يثنه عن محبة جبل أحد فهو يحبنا ونحبه كما قال ، وفيه من التفاؤل وعدم التشاؤم، وأن محبته تجاوزت البشرية، وكذلك محبة الجمادات له .

المبحث الرابع: أهم أعمال وحوادث السنة الرابعة
وفيها غزوة الرجيع( )، في شهر صفر، وكان قد بعث رسول الله  وفداً إلى أهل مكة للتفاوض، فغدر بهم بنو لحيان فقتلوا عاصم بن ثابت، وأسروا اثنين. وفيها سرية عمرو بن أُمية الضمري، فقد بعث رسول الله  عمرو بن أُمية وسلمة بن أسلم بن حريش لقتل أبي سفيان بن حرب لأن أبا سفيان أرسل إلى النبي  رجلاً ليقتله.
وفيها سرية بئر معونة( )، في شهر صفر، إذ طلبت قبيلة رِعل وذكوان وعصية وبني لحيان من النبي  عوناً على عدوهم فأمدهم بسبعين من الأنصار حتى إذا بلغوا بئر معونة تعرض لهم حيان من بني سليم رِعل وذكوان عند بئر معونة فقد غدروا بهم وقتلهم.
وفيها غزوة بني النضير بسبب غدرهم بالنبي ، وغزوة بني لحيان بسبب غدرهم المذكور في غزوة الرجيع( ). وغزوة ذات الرقاع، وذلك في نجد، أراد رسول الله  غزو بني محارب وبني ثعلبة من غطفان؛ لتأديبهم على تحالفهم مع اليهود ضد المسلمين.
وفيها تزوج  من زينب بنت خزيمة بن الحارث. وتزوج أُم سلمة بنت أبي أُمية. وأمر رسول الله  زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود، وصحَّ أنه تعلمه في خمسة عشر يوماً. ( )
المبحث الخامس: أهم أعمال وحوادث السنة الخامسة
وفيها غزوة دومة الجندل( )، بسبب اعتدائهم على من مرَّ بهم من الصحابة، وقد هربوا ولم يقتل أحد وأسلم بعضهم. وفيها غزوة الخندق( ) بسبب مؤامرة كفار قريش مع بعض الأعراب واليهود. وغزوة بني قريظة، بسبب تآمرهم مع قريش على قتال المؤمنين.
وزواج النبي  بأُم حبيبة رضي الله عنها، وزواج النبي  زينب بنت جحش رضي الله عنها. ونزول الحجاب صبيحة عرس زينب بنت جحش. ( )
المبحث السادس: أهم أعمال وحوادث السنة السادسة
وفيها كانت غزوة المريسيع( ) على بني المصطلق، فأغار عليهم رسول الله  وهم غارّون، فسبى رسول الله  النساء والنعم والشاء.
وكان من جملة السبي: جويرية بنت الحارث، سيد القوم، وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدى عنها رسول الله  وتزوجها، فأعتق المسلمون – بسبب هذا التزوج – مائة من أهل بيت بني المصطلق، وقالوا: أصهار رسول الله ، وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك.( )
وفيها غزوة ذي قرد، بسبب غارة بعض الأعراب من غطفان على لقاح( ) رسول الله  بمنطقة الغابة في المدينة.
وفيها صلح الحديبية( )، وهو الصلح الذي عقده رسول الله  مع كفار قريش الذي سماه الله تعالى: الفتح المبين، كما في قوله تعالى ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ [الفتح/1]، وفي مرجعه  أنزل الله سورة الفتح ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر﴾ [الفتح/1-2]، فقال عمر: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: "نعم". قال الصحابة: هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فأنزل الله ﴿هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم﴾ إلى قوله ﴿فوزاً عظيماً﴾ [الفتح/4-5]، وعدة الصحابة إذ ذاك ألف وأربعمائة، وهم أهل الشجرة، وأهل بيعة الرضوان. ( )
المبحث السابع: أهم أعمال وحوادث السنة السابعة
لما قدم رسول الله  من الحديبية( )، مكث بالمدينة عشرين يوماً أو قريباً منها، ثم خرج إلى خيبر، واستخلف على المدينة سِباع بن عُرفطة، وفي هذه الغزوة قدم إليه ابن عمه جعفر بن طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون أبو موسى وأصحابه.( )
وفيها غزوة خيبر( )، وذلك بسبب دسائس يهود خيبر في تخريب الأحزاب ضد المؤمنين، ولأنهم أثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، وكانوا يعدّون العُدّة لحرب المسلمين، وعند رجوعه بوادي القرى اعتدى بعض اليهود ومن معهم من الأعراب على بعض الصحابة، فنشبت المعركة، ثم عقد معهم صلحاً كما صنع مع أهل خيبر. ( )
ويستفاد مما تقدم أن هذه الغزوات كلها كانت بسبب اعتداء الأعداء ومؤامرتهم على المسلمين.
وفي هذه السنة تزوج  بميمونة( )، وهي آخر زوجة من زوجاته اللاتي تزوجهن ، وقد ثبت عن أُم المؤمنين أُم حبيبة رضي الله عنها أن مهور أزواج النبي  أربعمائة درهم( ). وهذه الحياة الزوجية التي عاشها نبي الرحمة  رسخت الأسس الاجتماعية، والأساليب التربوية في حياة الأسرة، ومنحت الإنسانية صورة ناطقة وخطة ساطعة تتناول منظومة الحياة الزوجية بكل حقوقها ومتطلباتها وتطويرها وحلِّ مشاكلها وضمان سعادتها في الدارين.
المبحث الثامن: أهم أعمال وحوادث السنة الثامنة
وفيها غزوة مؤتة( )، وهي أعظم حرب خاضها المسلمون، وسببها أن رسول الله  بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بُصرى( )، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر الروم، فأوثقه رباطاً ثم قدمه فضرب عنقه.
وفيها بعث رسول الله  إلى ملوك الآفاق وكتبه إليهم، فكتب إلى ملك العرب في الشام، وإلى كسرى، وإلى المقوقس.
وفيها غزوة ذات السلاسل، لتأديب قبيلة قضاعة التي اشتركت لدعم الروم فتجمعت تريد الدنو من المدينة، فتقدم جيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص، وتوغل في ديار قضاعة حتى هربت واندحرت.
وفيها فتح مكة، وذلك أن قريش دعمت بالسلاح والرجال حلفاء بني بكر على خزاعة حليفة المسلمين، فأوقعوا بها الخسائر فاستنجدت خزاعة بالمسلمين، فتوجه نبي الملحمة  إلى مكة في عشرة آلاف مجاهد، ودخلها خاشعاً فاتحاً متسامحاً، فقد عفا عنهم جميعاً. وفيها غزوة هوازن يوم حنين( )، فقد غزا قبيلة هوازن التي منها قبيلة ثقيف، بسبب تلاحمهم مع كفار قريش، ولأنها تشكل خطراً على المسلمين في مكة المكرمة بعد فتحها. وفيها غزوة الطائف، وسببها نفس سبب غزوة حنين فهي امتداد لها. وفيها عمرة الجعرانة( ). وفيها هدم العزى التي كانت تعبد بين مكة والطائف وسواع ومناة.( )
وفي آخر السنة الثامنة ولدت مارية القبطية رضي الله عنها جارية رسول الله  إبراهيم. ( )
ويستفاد من هذه الوقائع التسامح الكبير الذي اتسم به نبي الرحمة  في عفوه عن مشركي مكة الذين آذوه وحاولوا قتله مراراً.
المبحث التاسع: أهم أعمال وحوادث السنة التاسعة
وفيها غزوة تبوك( ) في رجب، وكانت بسبب إعداد الروم لحرب المسلمين، وبعد التأكد من هذا الإعداد جهّز نبي الملحمة  جيشاً في ثلاثين ألف مجاهداً، وقد أدرك الروم خطورة المواجهة، فنـزلوا إلى الصلح الذي أتى به نبي الرحمة .
وفيها مصالحته  ملك إيلة( ) وأهل جرباء وأذرح( ) قبل رجوعه من تبوك، وفيها قصة مسجد الضرار حينما تآمر المنافقون على قتل نبي الرحمة ، وفيها إرسال خالد إلى مسيلمة الكذاب، وفيها بعث رسول الله  أبا بكر الصديق أميراً على الحج.
وفي هذا العام قدم المدينة عشرات الوفود للدخول في هذا الدين، ومنهم وفد بني عبد قيس، ووفد بني حنيفة، ووفد أهل نجران، ووفد بني عامر، وقدوم ضمام بن ثعلبة وافداً على قومه، ووفد طيء مع زيد الخيل ، وقدوم الأشعرييين وأهل اليمن، وقدوم رسول ملوك حِميَر إلى رسول الله .( ) ولما قدم رسول الله  المدينة، ودخلت السنة التاسعة بعث جُباة الصدقة يأخذون الصدقات من الأعراب.
وفيها بعث علياً  إلى صنم طيء ليهدمه فهُدم.( )
ويستفاد من هذه الحوادث أن توجه الجيش إلى الروم لأنهم كانوا يمهدون لشن هجوم على المسلمين، وأن عيون الأعداء كانت ترصد المدينة وذلك من خلال قصة تخلف كعب بن مالك  في غزوة تبوك، فقد أرسل إليه ملك غسان ما نصه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك( )!! وفيها أن من أسباب قتال الأعداء خيانة المنافقين في مسجد الضرار، وإدراك كثير من القبائل بعظمة الدين الذي جاء به نبي الرحمة  وتصديقهم به.
المبحث العاشر: أهم أعمال وحوادث السنة العاشرة
في هذه السنة توفي إبراهيم  ابن النبي ( )، وقد بكى عليه نبي الرحمة  إذ قال: "العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإن بفراقك يا إبراهيم لمحزونون"( )، ويستفاد من هذه القصة بيان حنانه ورحمته على ابنه إبراهيم .
وفيها بعث رسول الله  خالد بن الوليد  إلى بني الحارث في نجران، وبعثه  الأمراء – أبي موسى ومعاذ - إلى أهل اليمن.( )
وفيها حجة الوداع، فقد صلى رسول الله  الظهر يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة من سنة عشر بالمدينة، ثم خرج منها بمن معه من المسلمين من أهل المدينة ومن تجمع من الأعراب، فصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، وبات بها...
وخطب ثاني يوم النحر خطبة عظيمة وفيها قوله: "يا أيها الناس، أي يوم هذا؟" قالوا: يوم حرام. قال: "فأي بلد هذا؟" قالوا: بلد حرام. قال: "فأي شهر هذا؟" قالوا: شهر حرام. قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا" فأعادها مراراً. ( )
ثم أقبل  منصرفاً إلى المدينة، وقد أكمل الله له دينه. ( )
يقول الكاتب الإنكليزي هربرت جورج ولز: حجَّ محمد [] حجة الوداع من المدينة إلى مكة، قبل وفاته بعام، وعند ذاك ألقى على شعبه موعظة عظيمة.. إن أول فقرة فيها تجرف أمامها كل ما بين المسلمين من نهب وسلب ومن ثارات ودماء، وتجعل الفقرة الأخيرة منها الزنجي المؤمن عدلاً للخليفة.. إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي، عما في أي جماعة أخرى سبقتها.( )
ويستفاد من وقائع هذه السنة بيان رحمته  بالإنسانية، إذ وضع ميثاق حقوق الإنسان في خطبة حجة الوداع، وثبّت المحكم من القرآن، وما نُسخ بالعرض مرتين على جبريل ، وإنه كان يؤم المسلمين طوال صلاته جماعة، وهي تبلغ قرابة (50.000) ركعة جهرية، في فترة (23) سنة.
وفي هذه القراءة تعليم للتلاوة الصحيحة، وتثبيت لحفظ القرآن الكريم، وترسيخ لمعانيه وأحكامه، لأن كل ركعة جهرية هي درس قرآني متقن.
وقبل وفاته  كان جبريل ينـزل عليه كثيراً فقد صحَّ عن أنس بن مالك  أنه قال: "إن الله تابع الوحي على رسول الله  حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم توفي رسول الله ".( )
وعندما قرب الأجل خُيّر بين الموت والحياة، فقد صحَّ أنه قال لمولاه أبي مويهبة: "يا أبا مويهيبة إني قد أوتيتُ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وخُيِّرتُ بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة" قال: قلت: بأبي وأُمي، فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة. قال: "لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة" ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبُدئ رسول الله  في وجعه الذي قبضه الله عز وجل فيه حين أصبح.( )
وفي هذه السنة كانت وفاته ، كان عمره يوم مات  ثلاثاً وستين سنة، على الصحيح( ). وسيأتي المزيد عن وفاته  في الباب الثالث في مبحث مكانته عند المسلمين.
وأما عن تركته المتواضعة فقد صحَّ عن عمر بن الحارث – أخي جويرية بنت الحارث- رضي الله عنهما قال: ما ترك رسول الله  عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمةً ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضاً جعلها صدقةً.( )
إن هذه التركة والله لهي موعظة عظيمة للأغنياء وسلوى كريمة للفقراء، وهي صورة ناطقة تُبصر الذين ظنوا أنه كان ينشد الأموال والغنائم.
هذه هي التركة المتواضعة، ولكن ثمة تركة عظيمة تتفيأ البشرية بظلالها، وتستمد العزة والسعادة من معطياتها، إنه الإرث الذي لا مثيل له في التركات، هذه التركة هي الحكمة التي تركها للمسلمين خاصة والبشرية عامة، إذ اشتملت على نظام حياة أمثل، وشرع دين أكمل، فقد عرَّف الإنس والجنَّ كيفية العيش بسلام وعزَّة، وذلك من خلال سيرته العطرة وأقواله المثمرة وأفعاله الخيِّرة بكرمه للجميع، وصبره على المشاكل، وحلمه على الناس ورحمته بهم، وتواضعه لهم، وحبه للخير لهم، تلك السيرة التي حملت الرحمة للبشرية بالرفق في الأمور كلها، والتأكيد على ذلك بقوله: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله"( )، ومع هذا الرفق سعى إلى ترسيخ وتقوية الروابط والعلائق بين أفراد المجتمع بجميع ملله بغرس الآداب الحميدة، كالعفو والتسامح وإفشاء السلام ونصرة المظلوم وعون الضعيف كاليتامى والفقراء، وإكرام الضيف وعيادة المريض وتشميت العاطس وتقديم النصيحة والتيسير على الناس، فقد أمر  بالتعليم والتيسير فثبت عنه أنه قال: "علموا ويسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا وإذا غضب أحدكم فليسكت".( )
وأخرج مسلم بسنده عن تميم الداري أن النبي  قال: "الدين النصيحة" قلنا: لمن:؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامَّتهم".( )
وصح عن سهل بن سعد الساعدي  مرفوعا قال: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا".( )
وقد صحَّ عن البراء بن عازب  أن النبي  قال: "أُمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس".( )
وأخرج أبو داود بسنده الثابت عن عبد الله بن عمرو عن النبي r: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء".( )
ويقول الرسول : "ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم".( )
وفي الوقت نفسه حذَّر ونهى عن الخصال السيئة كالحسد وسوء الظن والظلم والكِبْر والغيبة والسب واللعن، فقد أخرج مسلم بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله  قال: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".( )
كما اعتنى عناية فائقة بإعطاء كل ذي حق حقه، فقد أكد على حق الوالدين والأرحام والجيران والخدم والترفق بهم ، فقد صحَّ عنه  أنه قال: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راعٍ، والرجل على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".( )
وأخرج البخاري بسنده عن أنس  قال: خدمت النبي  عشر سنين فما قال لي: أف، ولا لم صنعت، ولا ألا صنعت.( )
وأخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله  قال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك".( )
كما اعتنى بحق الطفولة، وحق المرأة كما سيأتي في الباب الثاني.
كما وضع الأُطر الدقيقة في التعامل مع غير المسلمين، وقد تقدم طرف منه في بداية هذا الفصل، وهذه التركة تعطي للبشرية القدرة على علاج أكبر المشكلات المعاصرة كما سيأتي في الباب التالي.

الباب الثاني
المستفاد من حكمته الباهرة في تحقيق حاجات البشرية وعلاج أهم المشكلات المعاصرة
تحوم حول البشرية حاجات أساسية ومشكلات سياسية مخيفة, وأزمات اجتماعية عنيفة, وهزات اقتصادية كثيفة, تكاد أن تأخذ برقاب البشرية قاطبة, وذلك بسبب الانحراف عن الشريعة التي أنزلها الله تعالى رحمة للعباد والبلاد على خير الأنبياء والعباد.
هذا الانحراف أدى إلى التوجه شطر القوانين الوضعية التي ما أنزل الله بها من سلطان, ولا نفعت أي إنسان في كل زمان ومكان, فهي تتخبط في كل يوم بالتغيير والتعديل لهذه القوانين البشرية.
ولو تأملنا في الأحكام التي جاء بها نبي الحكمة  وتأثيرها على المجتمع لرأينا تقدماً وسمواً لا مثيل له، وذلك على مستوى الازدهار الاقتصادي والنمو الاجتماعي والتماسك السياسي، فما جاء عن الله تعالى الخالق الخبير بما يصلح لخلقه لهو البلسم الشافي والدواء الكافي, فقد أنزل القرآن الكريم على نبي الرحمة  هداية للبشرية ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾[الإسراء/9]، وقد أخذه نبي الحكمة  بقوة، فتمكن بهذا القرآن المحكم أن يعالج ظلمات الجهل بأنوار العلم, وأن ينقل الناس من رعاة غنم إلى قيادة أُمم، فكانت قيادة رائدة, ومنهجية رائعة, بهرت الحضارات الأخرى، وشهد له أرباب الهمم الذين يتصدرون لحل مشاكل الأمم.
يقول الكاتب الإنكليزي هربرت جورج ولز: كل شريعة لا تسير مع المدنية في كل طور من أطوارها فأضرب بها عرض الحائط ولا تبال بها، لأن الشريعة التي لا تسير مع المدنية جنبا إلى جنب هي شر مستطير على أصحابها تجرهم إلى الهلاك، وإن الشريعة التي وجدتها تسير مع المدنية أنى سارت هي الشريعة الإسلامية، وإذا أراد إنسان أن يعرف شيئا من هذا فليقرأ القرآن وما به من نظريات علمية وقوانين وأنظمة لربط المجتمع: فهو كتاب ديني علمي اجتماعي تهذيبي خلقي تاريخي، وكثير من أنظمته وقوانينه تستعمل حتى في وقتنا الحالي، وستبقى مستعملة حتى قيام الساعة، وهل في استطاعة إنسان أن يأتيني بدور من الأدوار كانت فيه الشريعة الإسلامية مغايرة للمدنية والتقدم؟( )
كما تحتاج البشرية كثيراً من الحاجات والحقوق، وقد ذكرتها مفصلة في كتابي (عناية السنة النبوية بحقوق الإنسان) وفيه أكثر من خمسمائة رواية تُكوِّن قاموس حقوق الإنسان.
ويقول المفكر اللبناني المسيحي نصري سلهب: تراثك يا ابن عبد الله ينبغي أن يُحيا، لا في النفوس والقلوب فحسب، بل في واقع الحياة، في ما يعاني البشر من أزمات وما يعترضهم من عقبات. تراثك مدرسة يلقى على منابرها كل يوم عظة ودرس. كل سؤال له عندك جواب كل مشكلة، مهما استعصت وتعقدت، نجد لها في آثارك حلاً.( )
فما هي المشكلات التي نجد لها حلاً في سنة نبي الرحمة ؟
سنجدها بمشيئة الله تعالى في الفصول التالية:
الفصل الأول: المشكلات السياسية
علاج هذه المشكلات له علاقة بمفهوم السياسة عند المسلمين وغير المسلمين، فيقول ابن عقيل في كتابه (الفنون): السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد إلى الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي.( )
وقال ابن عابدين الحنفي: السياسة استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة.( )
وقد استهل شيخ الإسلام ابن تيمية مقدمة كتابه (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) بقوله: وهذه رسالة مبنية على آية الأمراء في كتاب الله وهي قوله تعالى ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾ [النساء/58]، ثم ذكر شيئا من تفسيرها ثم ختم بقوله: وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة.( )
ونستنتج من هذه الأقوال أن السياسة في الإسلام تنشد أداء الأمانة والعدل والصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، وليس كما يظن البعض في هذا العصر أنها المراوغة والدجل واستخدام الحيل كما يراه (نيقولا ميكافللي) في كتابه الشهير بعنوان (الأمير) الذي اشتهر في أوروبا وأخذ به عتاولة السياسة، ويقول (كريستان غاوس) عميد جامعة برنستون الأسبق: اختار (موسيليني) كتاب الأمير أطروحة للدكتوراه, وكان هتلر يضعه في سريره ليقرأ به قبل النوم, وتتلمذ (لينين)و(ستالين) على هذا الكتاب أيضاً, ومنذ خمسين عاماً بدأنا نطلق على (مكيافللي) اسم مؤسس علم السياسة الحديث. ( )
وعند إنشاء دولة الإسلام في المدينة النبوية تبلور المنهاج السياسي النبوي من خلال التعامل مع المسلمين وغير المسلمين في داخل ديار الإسلام وخارجها، وأصبح صرحاً عادلاً، وعهداً ملزماً للمسلمين فيما بينهم ومع غيرهم.
قال المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار: وكما يظهر التاريخ الرسول  قائداً عظيما ملء قلبه الرأفة، يصوره كذلك رجل دولة صريحا قوي الشكيمة له سياسته الحكيمة التي تتعامل مع الجميع على قدم المساواة وتعطي كل صاحب حق حقه.( )
وإذا تتبعنا المنهاج النبوي في سياسته الخارجية والداخلية نرى علاج المشكلات حسب المطالب التالية:
المبحث الأول: مشكلة التفرقة العنصرية والدينية والإقليمية
تعاني مجتمعات العالم من الفوارق الطبقية فيما بينها في الألوان والأديان والبلدان واللسان، وهذه المعاناة تكون في القارة الواحدة بل في البلدة الواحدة.
يقول المؤرخ أ.د أكرم ضياء العُمري: إن قضية العنصرية والأجناس المتفوقة مما شغل المفكرين في القرن التاسع عشر، وانتهى ذلك إلى الحالة خطيرة من الاستعلاء القومي بسبب الاعتقاد الذي ساد الناس في أوربا -خاصة- بوجود تمايز بيولوجي وعقلي بين البشر، وإن بعض الأجناس متفوقة على سواها، وقد جر ذلك إلى الحب العالمية الأولى والثانية… وأزهقت ملايين الأرواح ودمرت آلة الاقتصاد العالمي وعاش الناس في رعب قاتل عدة سنوات… وقد حلَّ الإسلام هذه المشكلة قبل أربعة عشر قرنا عندما قرر وحدة الأصل للبشر جميعا، فكلهم من آدم وحواء فهم يستوون إذا في الأصل، وبالتالي في الخصائص الجسمية والنفسية والعقلية، وإنما اقتضت حكمة الله تعالى أن تختلف ألوانهم وتعدد لغاتهم، وقد أوضحت الآية أن علاقة هذه الشعوب المختلفة الألوان واللغات هي علاقة التعارف المفضي إلى التعاون، وهكذا قامت الحضارة الإسلامية على مبدأ وحدة الإنسانية ولم تعترف بالتفوق العرقي والاستعلاء القومي. وإنما وضعت مقياسا خلقيا للتفاضل بين الأفراد ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ [الحجرات/13] وقد اعترف بذلك كبار المفكرين، قال المؤرخ البريطاني المعاصر أرنولد توينبي: إن انطفاء جذوة النـزعات العنصرية بين المسلمين يعد ظاهرة من أعظم المنجزات الأخلاقية في الإسلام.( )
وقد عالج نبي الرحمة هذه المشكلة بالمساواة والعدالة، لأن حق المساواة هو واجب على الجميع كل على قدر مسؤوليته، وهذا الحق يجعل أفراد المجتمع في انسجام ووئام وتآلف إذ تتلاشى الفروق العنصرية بل تنعدم لأنها تتطلع وتفخر بقول الله تعالى ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ [الحجرات/13]، وفي هذه الآية العظيمة إلغاء الطبقية والعنصرية والجنسية، فكل الناس سواسية كأسنان المشط وإنما يتفاضلون بالتقوى.
ولهذا نرى تطبيق السنة النبوية في حق المساواة تجلَّت في عدة وقائع منها حينما قال أبو ذرٍّ لأحد أصحابه: يا ابن السوداء فزجره النبي  بقوله: "أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية".( )
فأنكر على أبي ذرٍّ هذه العنصرية البغيضة الجاهلية، لأن العرب في عهد الجاهلية كانوا يزدرون ذوي اللون الأسود ويستعلون عليهم، فجاء الإسلام فساوى بين الجميع.
ولما ظهر الإسلام كان بلال الحبشي أول مؤذن لرسول الله . وكذلك المساواة بين الشريف وغيره في أمر القضاء فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة مخزومية سرقت فشفع لها أُسامة بن زيد  فأجابه النبي : "أتشفع في حد من حدود الله؟".( )
وخطب رسول الله  في حجة الوداع فكان مما قال للمسلمين بل للناس أجمعين: "يا أيها الناس: أي يوم هذا؟" قالوا: يوم حرام. قال: "فأي بلد هذا؟" قالوا: بلد حرام. قال: "فأي شهر هذا؟" قالوا: شهر حرام. قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا" فأعادها مراراً. ( )
وقد جاءت السنة صريحة بالمساواة بين الأجناس وبين أصحاب الأموال والفقراء "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم"، لأن هذه القلوب هي محل التقوى كما صحَّ عنه "التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".( )
ومع هذه المساواة أعطى كل ذي حق حقه فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعية: أداء الأمانات، وقال: وفيه بابان، الباب الأول الولايات. والباب الثاني: الأموال وذكر تحت باب الولايات الفصل الأول استعمال الأصلح فقال: إن النبي  لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة، طلبها منه العباس، ليجمع له بين سقاية الحاج، وسدانة البيت، فأنزل الله هذه الآية( )، بدفع مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة. فيجب على وليِّ الأمر أن يوليِّ على كل عمل من أعمال المسلمين، أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي : "من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله"( ).
ويستفاد من الحديث أن النبي  قد اهتم بأمر الولاية وهي سنام السياسة، ولا غرابة فقد علم الساسة السياسة، وأطّر الحقوق السياسية تأطيراً، وأرسى أركانها إذ أحاط بمفرداتها، ومارس تجاربها عملياً بكل ما أوتي من حكمة وحنكة، واستخدم فصاحته وبلاغته لبيانها بجلاء.
ومن الجدير بالذكر أن حكومة المملكة العربية السعودية مستمرة على هذا العهد إذ لا تزال قبيلة بني شيبة تتصدر هذا الشرف فإن مفاتيح الكعبة المشرفة لا تزال باقية عندها.
وهكذا كان النبي  يقوم بالعدل خير قيام، كما رغب فيه ووعد بالخير العظيم لمن يقوم به، فقد ثبت عنه  أنه قال: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا "( ).
وكذلك العدل واجب في التجارة فيجب أن تنضبط البيوع بالعدالة لا ظلم ولا غبن ولا غش، فقد ثبت عن النبي  أنه قال "من غشنا فليس منا"( ) وذلك بسبب الغشِّ في الطعام.
إنه نظام العدل وعدل النظام، فقد بدد ظلمات الجاهلية، وامتد نوره أنحاء البرية.
يقول العالم الألماني رودي بارت: كان العرب يعيشون منذ قرون طويلة في بوادي وواحات شبه الجزيرة، يعيثون فيها فساداً. حتى أتى محمد [] ودعاهم إلى الإيمان بإله واحد، خالق بارئ، وجمعهم في كيان واحد متجانس.( )
ويقول العالم الأمريكي مايكل هارث:
إن محمداً [] كان الرجل الوحيد الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي.. إن هذا الإتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معاً يخوله أن يعتبر أعظم شخصية ذات تأثير في تاريخ البشرية.( )
يقول المؤرخ الأمريكي فيليب حتي:
إن إقامة الأخوة في الإسلام مكان العصبية الجاهلية (القائمة على الدم والقرابة) للبناء الاجتماعي كان في الحقيقة عملاً جريئاً جديداً قام به النبي العربي []...( )
إن حضارة الإسلام جاءت لتبقى حتى تقوم الساعة, وما يعتري المسلمين من اضطراب سياسي وضعف فهو بسبب الغيبوبة عن التعلم والعمل والزهد بالقرآن والسنة فهما الرافدان الأصليان للحقوق السياسية، فكلما رجعت الأُمَّة إليهما ارتقت وانتعشت, وكلما ابتعدت عنهما ارتمت وانتكست.
المبحث الثاني: مشكلة نظام الدقرطة
لقد كثُر الكلام عن النظام الديمقراطي في شتى وسائل الإعلام، وفي جميع أروقة السياسة، وقد أثرَّ هذا الإلحاح في كثير من الدول، وأرى أن مصدر المشكلات ومنبع الفتن هو هذا النظام، لأنه سريع الاحتراق والتلون، ولا غرابة فإنه من صنع البشر، ومهما أوتيت البشرية من حكمة وعقل في صياغة القوانين الوضعية فإنها لا تداني ولا تضاهي شريعة خالق البشر لأنه سبحانه هو أعلم بما يصلح لهم ﴿وخلق الإنسان ضعيفاً﴾ [النساء/28].
لقد بلغت الممارسة الديمقراطية دركات الانتكاس، من السباب والشتائم فيما بين أعضاء البرلمانات، والاتهامات والفضائح التي نالت من رؤساء بعض الدول، حتى الدول المتقدمة مادياً، حتى بلغ الأمر بها أن استخدمت لغة ضرب الأحذية تجاه رئيس وزراء دولة متقدمة مادياً سنة 1990م، عندما وافق على دعم المحتلين للعراق، وهذه الممارسات لم نشاهدها لا في العهد الجاهلي العربي ولا البيزنطي.
وعند ما نضع النظام الديمقراطي في الميزان الدقيق، فإنه يتكون لدينا قاموس المصائب والمظالم، وها هو السيل من السؤالات يجري في الذاكرة ولعل هذا القلم يقطر بذكر أهمها:
1- من الذي وضع القوانين الوضعية المتقلبة وستر عارها؟
2- من الذي جعل المجتمع الواحد ينقسم إلى أحزاب يزداد تناحرها؟
3- من الذي أشعل فتن المعارضة في الدول وسعَّر نارها؟
4- من الذي أتى بالأحزاب الشيوعية وثوّارها؟
5 - من الذي أتى بالأحزاب القومية وعوارها؟
6- من الذي ورّط الجماعات الإسلامية في الجزائر وفلسطين ويسعى لدمارها؟
7- من الذي نصّب صقور البنتاجون الجاثمة باستكبارها؟
8- من الذي مهد تجييش الجيوش لاحتلال ديار العراق بخدعة تحريرها؟
9- من الذي خدع الشعوب ونال من أحبارها؟
10- من الذي سلب حقوق الحاكم والمحكوم وغيَّرها؟
11- من الذي ساعد على ظهور العلمانية وأفكارها؟
12- من الذي ساعد على انتشار الماسونية وأوكارها؟
13- من الذي عرّى المرأة وهتك أستارها؟
14- من الذي قنن الدعارة ووضع أسعارها؟
15- من الذي جرأ على الجريمة وانتشارها؟
ويتفرع من هذه السؤالات الخمسة عشر عشرات أخرى، ولكن للاختصار اكتفيت بما ورد، وأرى أن الجواب على هذه السؤالات هو جواب واحد:
إن الذي فعل هذه هو: النظام الديمقراطي الذي يتمحور حول قطب القوانين الوضعية. وقد يُستغرب من هذا الجواب، وإليك التعليل بالترتيب حسب أرقام السؤالات السابقة:
1- فالذي وضع القوانين الوضعية بشر من رجال القانون والبرلمان، لأن الديمقراطية هي: حكم الشعب للشعب، ورجال البرلمان يمثلون الشعب وهم معرضون للخطأ مهما أوتوا من خبرة، فهي متغيرة وفي كل فترة تتغير المواد القانونية! وهكذا يحاولون ستر ضعفها وهزالها.
2- لقد شقق النظام الديمقراطي المجتمع إلى أحزاب متنافرة كل يطالب بالحكم ويصوت لمرشحه، وتوزع الرشوات على الذين يدلون بأصواتهم، وتنشر الفضائح والقبائح.
3- إذا فاز أحد الأحزاب فإن بقية الأحزاب غالباً ما تكون معارضة، والمعارضة لا تأتي بخير ولا نصيحة، إنما هي فتن، وقيل وقال، ومؤامرات ضد الحاكم وحزبه، مما يشغل الناس بالفتن ويضيع الأوقات والأموال.
4- لو تتبعنا رؤساء الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في روسيا والصين لرأينا أغلبهم كانوا في الحزب الديمقراطي ثم أسسوا تلك الأحزاب فكان النظام الديمقراطي نواة للأحزاب الشيوعية والاشتراكية.
5- وكذلك الأحزاب القومية انبثقت من الأحزاب الديمقراطية التي حاولت تقويض نظام الحكم الإسلامي في الدولة العثمانية، فقامت أحزاب قومية تركية وعربية وكردية وفارسية وبربرية وأرمنية كل ذلك من أجل إلغاء نظام الحكم الإسلامي.
6- الذي ورّط الجماعات الإسلامية هي الانتخابات الديمقراطية التي فازت بها الجماعات الإسلامية، ثم باسم الديمقراطية قامت المعارضة حرباً عليها بالضغوط المادية والمعنوية كما نراه في هذه الأيام.
7- إن الذي نصبهم هو أعضاء البرلمان المنتخبون ، وهم الآن يتصرفون باستكبار حتى على ذلك البرلمان.
8- إن النظام الديمقراطي في أمريكا هو الذي مهد لاحتلال العراق باسم الحرية والتحرير، وهو الذي وافق على التمويل الهائل بمئات المليارات من الدولارات، ومع التهاويل والتنكيل والتقتيل الذي أصاب العراق( ) يقال أنه سيكون نموذجاً للحرية والديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير!!!
هذا الكلام يرفضه نبي الحكمة موسى  ونبي الرحمة عيسى  لأنه لا يوجد في شريعتيهما، ويأباه التوراة والإنجيل، بل ويستنكره المعتدلون من قوم عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام .
9- لقد زُينت الديمقراطية بثوب زور صبغته الحرية، وقد انطلت هذه الصبغة على كثير من الناس، فانصرفوا عن علمائهم وشريعتهم، فحُجِّم دور العلماء واقتصر على بعض ميادين الحياة بما يسمى الأحوال الشخصية، فأدى إلى بعد أولئك عن شريعتهم، فاقتحمت القوانين الوضعية أسوار الفضيلة فانتشرت الرذيلة، وشاعت المحرمات ومحقت البركات، وسادت قوانين الغابات.
10- وهذا أدى إلى هدر الحقوق فترى حق الحاكم في السمع والطاعة دخل في خبر كان! بل نسمع في بعض البلدان المتقدمة مادياً أنه يتهم بالفاحشة فتضيع هيبته، أما في الإسلام فإن من يقذف الحاكم بذلك فإنه يجلد ثمانين جلدة مهما بلغ عددهم إلا إذا شهد أربعة شهداء قد رأوا ذلك رأي العين بعد التثبت والتأكد فإن الحدَّ يقع عليه، وهكذا نرى كثيراً من حقوق المجتمع قد ضاعت لأن الله تعالى قد ضمن حقوقهم جميعاً، فحينما زهد الناس بشريعة الله هُدرت تلك الحقوق.
11- لقد انتعشت العلمانية بانتشار النظام الديمقراطي واستطاعت بث أفكارها ضد تعاليم الإسلام إتباعا للشهوات والشبهات، ويمكن القول أن النظام الديمقراطي هو وليد الأفكار العلمانية، فهما عملة واحدة ذات وجهين، مُزوقين بالشعارات البراقة.
12- إن المحافل الماسونية انتشرت وتوسعت بانتشار الديمقراطية، كما وجدت تلك المحافل حماية لأفكارها من قبل الحكومات المخدوعة بذلك النظام، فقد كانت تتم مؤتمرات المحافل خفية، وحينما وجدت الدعم والحماية من تلك الحكومات أخذت تعلن عن بعض مؤتمراتها وتكشف عورة بعض أفرادها، وهكذا بلغت بهم الجرأة.
13- بوصول جيوش الاحتلال إلى بعض البلدان الإسلامية في القرن الماضي بدأت الضغوط على لباس المرأة وحجابها، واستخدموا وسائل كثيرة ماكرة، واستغلوا أرباب السذاجة المخدوعين بالنظام الديمقراطي باسم الترقي والتقدم، فخلعوا حجاب المرأة ثم هتكوا سترها شيئاً فشيئاً حتى ألقوها عارية أو شبه عارية على شواطئ البحار وضفاف الأنهار، وفي أوكار المسرح والتمثيل بقيادة مؤسسة الفن (هوليود) وما أدراك ما هوليود؟!
14- لما وضعت القوانين الوضعية حسب النظام الديمقراطي فقد جعلت الزنا مباحاً برضا الطرفين، فإذا رفعت الشكوى إلى القضاء فإنهم يقضون بعقوبة مالية زهيدة جداً، وذلك حسب القانون الفرنسي الذي انتشر في كثير من الدول، بل في الدول الإسلامية المسماة بالدول الفرانكفونيه، فهل هذه عقوبة على جريمة الزنا أم تسعير للزنا!
15- وكذلك حينما وضعت عقوبة السجن للقاتل عمداً لتعطيل حكم القصاص الحكيم، فإن جريمة القتل انتشرت ولا زالت بازدياد حسب إحصاءات المعهد العالمي للجريمة. كل ذلك من مخلفات النظام الديمقراطي.
والعجيب عُقد مؤتمر في باريس بتاريخ 16/1/1428هـ ينادي بإلحاح إلغاء القصاص!
كيف يرضى هذا الإنسان العاقل بهذا التخبط في التشريعات؟ ويتغافل عن شريعة الخالق التي عملت فيها الأديان وجميع الأنبياء، ومنهم نبي الرحمة ، فقد استمد نبي الرحمة  نظام الحكم من الله الخالق سبحانه بنـزول القرآن الكريم الذي اشتمل على التشريعات السياسية داخل الدولة وخارجها، وذلك من خلال مبدأ البيعة والشورى والاعتماد في ذلك على أهل الحل والعقد من العلماء والحكماء، وترشيح الحاكم الصالح من يراه مناسباً لهذه المهمة الكبرى التي تحتاج إلى توافر الصفات المطلوبة في الحاكم لينال كل من الحاكم والمحكوم حقه، لذا حينما شعر نبي الرحمة  بالمرض لم يناد للانتخابات بل أمر بتبليغ أبي بكر الصديق  ليصلي إماماً بالناس، وفيه إشارة بالخلافة الراشدة، وقد تقدم في الكلام عن وفاته، وفي رواية أخرى أكد ثانية على ذلك التكليف والتشريف، قال الحافظ ابن ناصر الدمشقي ت842هـ: وجاءت الإشارة الصريحة إلى خلافة الصديق الصحيحة. ( )
وقد عمل بذلك أبو بكر  في استخلاف عمر ، كما كان نبي الرحمة  يعمل بنظام الشورى الذي أمر الله تعالى به في قوله تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر﴾ [آل عمران/159]، وقد استجاب النبي  لهذا الأمر وأرسى نظامه، ورسّخ دعائمه قولاً وفعلاً، فقد أخرج مسلم بسنده عن أنس أن رسول الله  شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا.( )
وهذه المشاورة حصلت قُبيل غزوة بدر، وقد أظهرت الآراء السديدة والتأييدات الرشيدة التي كانت أحد أسباب النصر في هذه المعركة.
قال السفاريني: فاستشار  الناس، أي: طلب المشورة منهم؛ امتثالا لقوله تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر﴾[آل عمران/159].
قال ابن الجوزي في قوله تعالى ﴿وشاورهم في الأمر﴾ معناه: استخرج آراءهم واعلم ما عندهم. ويقال: إنه من شرت العسل: إذا استخرجته من الخلية.
اختلف العلماء، لأي معنى أمر الله نبيه  بمشاورة أصحابه ، مع كمال رأيه وتدبيره. فقيل: ليستنَّ به من بعده، قاله الحسن، وسفيان بن عيينة. وقيل: لتطيب قلوبهم، قاله قتادة، والربيع، وابن إسحاق، ومقاتل.
وقال الشافعي: نظير هذا قوله: البكر تستأمر في نفسها، إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت كان للأب أن يزوجها، وكذلك مشاورة إبراهيم لابنه عليهما السلام حين أمر بذبحه.
قال ابن الجوزي: من فوائد المشاورة أن المشاورة إذا لم ينجح أمره؛ علم أن امتناع النجاح محض قدر؛ فلم يلم نفسه. ومنها: أنه قد يعزم على أمر يتبين له الصواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه. والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم.
وقال بعض الحكماء: ما استنبط الصواب بمثل المشاورة، ولا حصنت النعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر.
واعلم أن النبي  إنما أمر بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي. وعمَّهم بالذكر، والمقصود أرباب الفضل والتجارب منهم. ( )
إن القيام بالمشاورة هو حق الإمام وحق الأُمَّة أيضاً، وقد قام بهما  عملياً لتتضح صورتها وتتجلى فوائدها. وبذلك فقد قام بوضع دعامة أساسية سياسية لا تزال قائمة إلى يومنا هذا لما فيها من الفوائد والاعتراف بأهل الفضل والفراسة.
ويقول العالم الأمريكي مايكل هارث: لقد أسس محمد [] ونشر أحد أعظم الأديان في العالم، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظام. ففي هذه الأيام وبعد مرور ثلاثة عشر قرناً تقريباً على وفاته، فإن تأثيره لا يزال قوياً وعارماً...( )
وبما أن أرباب الديمقراطية يتشدقون بالحرية، والحقيقة لو كانت حرية حقيقية لما خضعت وخنعت لآراء البشر يتصرفون فيها كيف يشاءون حسب مصالحهم الدنيوية وشهواتهم النفسية، أما الحرية الحقيقية فهي تنبثق من استلهام الشريعة من خالق البشر الذي يعلم ما يصلح لهم، لذلك سيأتي بعدها المبحث الثالث (مشكلة الحرية).
المبحث الثالث: مشكلة الحرية
يدندن أرباب السياسة من غير المسلمين كثيراً حول الحرية في بلاد المسلمين، وهم في الوقت نفسه يعانون في بلدانهم من هذه المشكلة، وبحلِّ مشكلة التفرقة العنصرية والإقليمية بالعدل والمساواة، فإنه يمهد إلى حلِّ مشكلة الحرية، والحرية في هذا العصر تعتريها ضربات قاضية، ونكسات سارية، وهجمات ضارية في كثير من البلدان، وذلك بسبب الاحتلال والانحلال، والجحود والجمود، والتنكيل والتقتيل، والعنصرية والإباحية، تلك الإباحية التي غُلفت بلباس الحرية، وكل هذه الأسباب أضداد الحرية تخرق حق الحرية خروقاً، وتبددها تبديداً، وتجعلها كالريشة في مهب الريح إذ أصابت الإنسان في جسمه ودينه، وفي سيادته وعرضه، وعزته وكرامته، برفض أحكام الله تعالى والثوابت الإيمانية، ومحاولة إلغائها "وصدقت تلك المرأة الفرنسية (مدام رولاند) إذ قالت: (أيتها الحرية كم من الجرائم قد اقترفت باسمك؟!) وذلك لما رأت ما أقدمت عليه الثورة الفرنسية من انتهاكات باسم الحرية".( )
وحينما نيمم وجوهنا شطر السنة النبوية وثمراتها في تحقيق الحرية نجدها قد اعتنت عناية فائقة وعالجت نقائض الحرية التي كانت في الجاهلية، فقامت بشتى حقوق الحريات اتجاه الناس جميعاً.
قال المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار: فتح الإسلام الباب للتعايش على الصعيد الاجتماعي والعرقي حين اعترف بصدق الرسالات الإلهية المنزلة على بعض الشعوب، لكنه بدا له برفض الحوار في الوقت ذاته على الصعيد اللاهوتي، حين أزال من العقيدة كل ما اعتبر زيفاً مخالفاً للتوحيد بالمعنى الدقيق للكلمة، وأتاح منطق تعاليمه القوي، وبساطة عقيدته، وما يرافقها من تسامح، أتاح كل هذا للشعوب التي فتح بلادها حرية دينية تفوق بكثير تلك التي أتاحتها الدول المسيحية.( )
فلم يقتصر  على المسلمين بل أطلقها إلى غير المسلمين حتى شملت المشركين الأعداء فقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"( )، فأي حرية هذه؟ إنها انطلاقة الحرية من طوق الجاهلية، وحرية الانطلاق من الجاهلية.
ولم يقتصر الأمر على هذه المكرمة، فقد أعطى الحريات التالية:
أولاً: الحرية من الرِّق: لقد عالج النبي  ظاهرة الرِّق كما سيأتي مفصلاً في المشكلات الاجتماعية.
ثانياً: حرية الدين: لقد أعطى النبي  لغير المسلمين حريتهم الدينية، إذ عاش مع اليهود فترة من الزمن، كما كان يستقبل الوفود من النصارى كالسيد والعاقب من نصارى نجران في المعاهدات التي أبرمها بينه وبين اليهود، وأخذ الجزية من الذين بقوا على غير الإسلام، كل هذا يدل على إقرار مبدأ الحرية الدينية لغير المسلمين، لأنه قد اعتمد على الثوابت القرآنية ﴿لا إكراه في الدين﴾ [البقرة/256]، فليس لأحد أن يجبر غيره على أن يدخله في الإسلام، ولا يكرهنا أحد على الخروج من ديننا.
وقد حظي النصارى بعناية فائقة في القرن الأول الهجري، وقد شهد بذلك البطريرك (عيثويابة) الذي تولى كرسي البطريكية من سنة 647 إلى سنة 657م إذ كتب ما يلي:
إن العرب الذين مكنهم الربُّ من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون، أنهم ليسوا بأعداء للنصرانية بل يمتدحون مِلَّتنا، ويقرون قسيسنا وقديسينا، ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا.( )
وهذه الشهادة لم تقتصر على الحرية، بل تنصُّ على تقديم العون للنصارى، ويقرُّون قسيسيهم على دينهم، وقد شهد بذلك أيضاً المستشرق النمساوي بارتولد (1879-1930م) إذ يقول: وكان نصارى بلاد الخلافة يتعاملون مع عالم النصرانية بدون مشقة، ويتمكنون من أن يتلقوا منهم إعانات لمؤسساتهم الدينية، وكان في المؤتمر الديني الذي انعقد في القسطنطينية سنة (680-681م) مندوب من القدس أيضاً. ثم أن المسيحيين المقيمين ببلاد الخلافة كانوا مرتبطين بعضهم ببعض ارتباطاً وثيقاً( ).
وقد زلّت أقدام في هذا الموضوع، وذهب البعض أن المسلم أيضاً له حق الحرية في اختيار أي دين، واستدلوا بالآية المتقدمة دون النظر إلى البيان النبوي الذي يبين الإجمال ويزيل الإشكال، وعطلوا بذلك حكماً شرعياً ألا وهو حكم المرتد، ولا زال من يردد ذلك إلى يومنا هذا وبعضهم من المسلمين، وهذا من الأمور الخطيرة المعاصرة، والسَّنة النبوية فيها فصل الخطاب فقد ثبت عنه  أنه قال: "من بدَّل دينه فاقتلوه"( ).
وصحَّ عنه  أيضاً قوله "لا يحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة"( )، وقوله تعالى ﴿ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة﴾ [البقرة/217]، فهذا نصٌّ صريح في حكم المرتد من القرآن والسنة، وأن القول بأن هذا المرتد له الحرية الدينية فهو مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وقد نبّه العلامة علال الفاسي عن ذلك وأورد شبههم ودحضها بالعقل والنقل، وسأذكر طرفاً من كلامه للاختصار:
وقد وقع إجماع من المسلمين منذ نشوء المـذاهب الفقهية على قتل المرتد؛ مستدلين بحديث: "من بدّل دينه فاقتلوه"( )، ولكنه لا يعتبرون القتل عقاباً له على كونه لم يعد مسلماًَ، وإنما يعتبرون ذلك نتيجة خيانته للملَّة الإسلامية التي انخرط في عداد أفرادها ثم غدرها ؛ فلو ستر كفره لم يتعرض له أحد ولم يشق على بيضة قلبه كما كان يقع المنافقين الذين قال فيهم الله: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون﴾ [البقرة/14]. فقد صبر النبي  على المنافقين وهو يعلم أمـرهم؛ وقيل له في قتل بعضهم؛ فقال: "لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه".( )
فالعقوبة إذن هي لحماية بيضة الطائفة الإسلامية ممن يكسر وحدتها ويضر بها، وليس لمجرد تغير العقيدة الذي لا يصحبه إعلان ردَّة.
ومن أدلة الإجماع قتال أبي بكر  للمرتدين، ولمانعي الزكاة.
وقال أيضاً: أما تعليل الحكم على المرتد بالقتل في العصور الأولى بخوف ضعف الإسلام لأنه لم يتمكن بعد من النفوس؛ وعدم بقاء العلَّة اليوم، فهي حجة واهية؛ لأن الإسلام في زمن أبي بكر وعلي كان أقوى في النفوس منه في مسلمي هذا العصر الذين قد لا يستجيبوا للبشارة المسيحية أو غيرها ولكنهم يتأثرون بدعايات الإلحاد الخرافية أكثر مما تأثر السبأيون بجهالات عبد الله بن سبأ وخزعبلاته. ( )
وقد تقدم قول المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار في بداية هذه المشكلة.
وقال المستشرق البريطاني سير توماس أرنولد: لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قُصد منه استئصال الدين المسيحي. ( )
ثالثاً: حرية التملك: أطلقت السنة النبوية عنان التملك مهما بلغ المالك من الأموال والقناطير المقنطرة بشرط أن يؤدي المالك حق الزكاة، وشجع على التملك حيث صرح بأن ذلك خير من الذي لا يملك شيئاً، وثبت عنه : "اليد العليا خير من اليد السفلى"( ).
كان من الصحابة بعض الأغنياء كأبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة  وخصوصا بعد الفتوح، فقد تملك بعضهم عقارات وقرى ومزارع، والمالك له الحرية بماله يتصرف فيه كيف يشاء كما يرضي الله تعالى بشرط أن لا يبذر ذلك المال ولا يصرفه في المجالات المحرمة كما سيأتي في حق التملك ضمن الحقوق المالية، فقد نهى سبحانه وتعالى بقوله ﴿ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا﴾ [الإسراء/26-27]، وفي ذلك تحريم وتنفير من التبذير. وفي ذلك تميز دين الإسلام بالوسطية في الأمور المالية عن الاشتراكية والرأسمالية، فإن الاشتراكية تقيد التملك وتفقد هذه الحرية، والرأسمالية تفقد هذه الشروط فالصرف فيها لم يقيد بحلال ولا حرام.
كما أعطى الإسلام حرية التملك لغير المسلمين حيث قال الأستاذ الفرنسي جاك ريسلر: كانت جميع الأديان لها حقُّ الممارسة المطلقة في عبادتها، وكان اليهود لديهم مطلق الحرية في اقتناء الثروات ووصلوا أحياناً إلى مراكز سامية.( )
يقول المستشرق النمساوي بارتولد (1879-1930م): كانت في بلاد الخلافة الممتدة من رأس سان فنسنت الواقعة جنوبي البرتغال إلى سمرقند مؤسسات مسيحية غنية، قد حافظت على أملاكها غير المنقولة الموقوفة عليها. ( )
رابعاً: حرية الرأي: إن حرية إبداء الرأي تطلق عقل الإنسان ليفكر في ملكوت الله تعالى، وفي مصالحه في الدنيا والآخرة، وأما إذا قيدت هذه الحرية فإنها تؤثر على التفكير وتشله شلاً، وقد احترم النبي  الرأي وسمع من الصحابة ، وما وجد من رأي سديد أخذ به، مما شجع على إبداء الرأي بكل وضوح دون تردد، كما حصل في غزوة بدر عندما أدلى برأيه الصحابي الحباب بن المنذر ، وكذلك عندما أشار سلمان الفارسي  بحفر الخندق، فقد أخذ النبي  بتلك الآراء، وفي ذلك تربية على حرية إبداء الرأي للمصلحة العامة.
وأحياناً يكون إبداء الرأي واجباً في حق من الحقوق التي علم بها المرء، فقد أمر النبي  بذلك على المنبر، إذ صحَّ عن أبي سعيد الخدري  أن رسول الله  قام خطيباً فكان فيما قال: "ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه".( )
وينبغي أن يعلم أن حرية الرأي ليس على إطلاقها فهي مقيدة بضوابط، وقد ألمح معالي العلامة الشيخ عبد الله بن بيّه عن ذلك فقال: ولا شك أن لحرية الرأي في الإسلام قيوداً وضوابط منهجية، مثل: التحرّي في المعطيات، وفي المسالك المبلّغة إلى الحق، والإخلاص في إرادة النفع العام، وإلا انقلبت إلى ضروب من المغالطة والتغرير والأنانية، كما أن لها قيوداً أخلاقية مثل الصدق في تبليغ الرأي ونقله والحسنى بالإقناع به، وإلا انقلبت كذباً وغشاً وتجريحاً ولجاجة، فتخرج إذن عن الدائرة التي رسمت لها في الاستعمال الشائع، وما نعتمد في هذا السياق هو الحرية بتلك الضوابط والقيود.( )
من أجل ذلك نجد أن كثيراً من غير المسلمين الذين ينشدون الحرية يحبون الإسلام، قال الأستاذ علي يول الدانمركي: إن التسامح الواسع الأفق الذي يتسم به الإسلام في معاملة الأديان الأخرى يجعله محببا لدى جميع من يحبون الحرية. ( )
خامساً: حرية العمل والتعليم: والفرد له حرية اختيار العمل والتعليم سواء في مجال التجارة أم الصناعة أم الزراعة أم التعليم وفي ذلك إنماء لمواهب الإنسان ورغباته فيكون اندفاعه وإنتاجه أكثر وأكبر، بخلاف أن يعمل بعمل ليس له فيه رغبة فإن إنتاجه سيكون محدوداً لذا نجد السنة النبوية أعطت الحرية في مزاولة أنواع الأعمال والحـرف التي شرعها الله تعالى لعباده وقد حبّر المؤرخ الخزاعي أصناف الأعمال والحرف في كتابه (تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله  من الحرف والصنائع والعملات الشرعية) وكذلك الكتاني في كتابه (التراتيب الإدارية).
وقد فتحت السنة النبوية آفاقاً واسعةً في مجال حرية التعليم والبحث العلمي إذ حلَّقت في رحاب السموات السبع وما فوقها، فوصل  إلى مشاهدات ومعلومات ما لم يصل إليه العلم الحديث إلى يومنا هذا، ففي رحلته الفضائية في الإسراء والمعراج فتح لنا الضوء لرؤية مفاتيح الاستنباط للوصول إلى مبادئ وشذرات من علم السماء.
قال المستشرق الفرنسي كوستاف لوبون: الإسلام من أكثر الأديـان ملائمة لاكتشافات العلم.( )
وقال الضابط البريطاني ج.ف.فيلويز: التقدم العلمي المعاصر في العصر الحاضر والمنجزات العلمية تتفق تماماً مع مبادئ الإسلام.( )
المبحث الرابع: مشكلة الاعتداء فيما بين الدول
تعاني كثير من الدول في هذا العصر من الاعتداءات العسكرية والاقتصادية والإعلامية بسبب الأطماع المادية أو الرغبة في الهيمنة والسيطرة، أو الإفساد لتمهيد السيطرة، وقد عالج المنهاج السياسي النبوي هذه المشكلة بالصلح وعقد المعاهدات التي تضمن الأمن وتحقق مصالح الطرفين.
ومن المعاهدات المشهورة مع النصارى ما عقده  مع ملك آيلة، وبذلك أصبح العهد شاملا لكل المدن التي كانت تحت سلطة ذلك الملك.
فقد صحَّ عن أبي حميد الساعدي قال غزونا مع النبي  تبوك، وأهدى ملك آيلة للنبي  بغلة بيضاء وكساه برداً وكتب له ببحرهم.( )
قال ابن حجر: قال ابن بطال العلماء مجمعون على أن الإمام إذا صالح ملك القرية أنه يدخل في ذلك الصلح بقيتهم.( )
ومن أهم المعاهدات مع المشركين هو: صلح الحديبية الذي تعجب منه بعض الصحابة  لأنهم لم يدركوا الحكمة النبوية من هذا الصلح الذي تبين فيما بعد آثاره وفوائده.
أخرج مسلم بسنده عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب  يقول: كتب علي بن أبي طالب  الصلح بين النبي  وبين المشركين يوم الحديبية فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله، فقالوا: لا تكتب رسول الله فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، فقال النبي  لعلي: امحه، فقال: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه النبي  بيده، قال: وكان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثا، ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح، قلت لأبي إسحاق: وما جلبان السلاح؟ قال: القراب وما فيه.( )
قال النووي: وفيه أن للإمام أن يعقد الصلح على ما رآه مصلحة للمسلمين وإن كان لا يظهر ذلك لبعض الناس في بادئ الرأي.( )
وفي هذا الحديث بيان وجوب الصبر على المشركين وتحقيق رغباتهم التي لا تضر بالمصلحة العامة للمسلمين، وفيه البيان الفعلي لطريقة الكتابة للمعاهدات، وجواز مثل هذه الكتابة من أجل الصلح وتجنب الحروب.
وكان نبي الرحمة والملحمة  إذا وجد قوة تهدد أمن المسلمين فإنه يكتب إلى ملكها برسالة محررة فحواها الدعوة إلى الله تعالى والموعظة بالتخويف من الله تعالى، ومن ذلك رسالته إلى بلاد الشام التي كان يقطنها الروم آنذاك، فقد صحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني أبو سفيان  من فيه إلى فيَّ قال: انطلقت في المدّة التي كانت بيني وبين رسول الله ، قال: قال: فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من النبي  إلى هرقل... فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم. تسلَم، وأسلمْ يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين( ). ﴿يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله﴾ إلى قوله: ﴿اشهدوا بأنا مسلمون﴾ [البقرة/64] .( )
وهذه شهادات علماء الغرب في قدرة نبي الرحمة على حلِّ مثل هذه المشكلات:
يقول (تولستوي): لا ريب أن محمداً  كان من عظماء الرجال المصلحين، الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، وإنه يكفيه فخراً أنه هدى أُمَّة برمَّتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام، وأنه هو الذي منعها من سفك الدماء، وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقيّ والمدنية... ( )
ويقول برنارد شو: إنه يجب أن يُدعى منقذ الإنسانية.. ويُعتقد أنه لو أن رجلاً مثله تولى زعامة العالم الحديث لنجح في حلِّ مشكلاته وأحلَّ السلام والسعادة في العالم.( )
ويقول المؤرخ المسيحي اللبناني جورج حنا: محمد بن عبد الله [] كان ثائراً، عندما أبى أن يماشي أهل الصحراء في عبادة الأصنام وفي عاداتهم الهمجية... فأخرج من جاهلية الصحراء عقيدة دينية واجتماعية تجمع بين مئات الملايين من البشر في أقطار المعمورة.( )
وتقدم قول الكاتب الإنكليزي هربرت جورج ولز: عن حجة الوداع وأثرها في علاج الاعتداء في آخر الباب الأول.
ويقول المستشرق الفرنسي هنري سيرويا: ومحمد []لم يغرس في نفوس الأعراب مبدأ التوحيد فقط، بل غرس فيها أيضاً المدنية والأدب.( )
وهكذا يستتب الأمن وتعطى الحقوق أما إذا نُقض العهد فله ردعه وعقوبته، ومثاله نقض بني قريظة، كما صحَّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: أُصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش - يقال له: ابن العرقة - رماه في الأكحل، فضرب عليه رسول الله r خيمة في المسجد يعوده من قريب. فلما رجع رسول الله r من الخندق وضع السلاح، فاغتسل. فأتاه جبريل وهو ينفُض رأسه من الغبار. فقال: وضعتَ السلاح ؟ والله ما وضعناه اخرُج إليهم. فقال رسول الله r: "فأين"؟ فأشار إلى بني قُريظة. فقاتلهم رسول الله r. فنـزلوا على حكم رسول الله r. فردّ رسول الله r الحكم فيهم إلى سعد. قال: فإني أحكم فيهم أن تُقتل المقاتلة، وأن تُسبى الذرية والنساء، وتُقسم أموالهم.( )
وهكذا حكم الله تعالى فإنه نور لمن اهتدى ونار على من اعتدى.
قال العيني: قوله "أن تقتل المقاتلة" أي الطائفة المقاتلة منهم، أي: البالغون.( )
وصحَّ عن ابن عمر: أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله ، فأجلى رسول الله  بني النضير، وأقرّ قريظة ومَنَّ عليهم. حتى حاربت قريظة بعد ذلك. فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين. إلا أن بعضهم لحقوا برسول الله  فآمنهم وأسلموا. وأجلى رسول الله  يهود المدينة كلهم: بني قينقاع (وهم قوم عبد الله بن سلام). ويهود بني حارثة وكل يهودي كان بالمدينة.( )
إن هذا الإجلاء لهؤلاء المحاربين لهو الجزاء، وهو آخر الدواء فقد صبر  على مكائدهم ودسائسهم، ولما بلغ الأمر ذروته بالمحاربة العلنية والمؤامرة الجلية، جاءت السنة النبوية الفعلية بالجزاء العام لإخراجهم من المدينة إلا من لحق برسول الله  وأسلم فإنه نجا من ذلك. وهذا التعامل الحكيم في غاية السماحة النبوية بأن لا يؤاخذ الجميع بجريرة البعض بل كان يعامل كلا على قدر بأن يعطي كل واحد حقه من العقوبة والمثوبة، إنها كياسة السياسة.
المبحث الخامس: مشكلة التخوف والتحسس من الآخر
يسود غبش شديد عند كثير من غير المسلمين حول الإسلام ونبي الإسلام، وذلك بسبب الإشاعات والشبهات التي أثيرت حولهما كما سيأتي في الباب الرابع، ويعاني من هذه المشكلة غير المسلمين فيما بينهم بسبب الخلاف في الأديان والثقافات، وكذلك يعاني المسلمون فيما بينهم، وحينما نستحضر المنهاج الاجتماعي النبوي نرى أنه تميز في معاملته السمحة مع الجميع وخصوصاً مع غير المسلمين الذين يعيشون في ديار الإسلام، وكذلك مع الأقليات غير المسلمة، فقد وضع الأسس المثالية للتعامل مع الآخر، واستطاع أن يقضي على تلك المشكلة بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه كما في تعامله مع اليهود في المدينة، فقد وضع معاهدة سياسية اجتماعية عامة للمدينة وفيها اتفاقيات مع اليهود ضمنت مصالح الطرفين كما في البنود التالية:
- هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
- إنهم أُمَّة واحدة من دون الناس.
- وإنه من اتبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
- وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
- وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً.
- وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد.
- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
- وإن يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه فإنه لا يوتغ ( ) إلا نفسه وأهل بيته.
- وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
- وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
- وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
- وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.
- وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
- وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وإثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
- وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
- وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف وأن البر دون الإثم.
- وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
- وإن بطانة يهود كأنفسهم.
- وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد.
- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله وإلى محمد رسول الله  وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
- وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
- وإن بينهم النصر من دهم يثرب.
- وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
- وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البرَّ دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن برَّ واتقى، ومحمد رسول الله .( )
إن هذه المعاهدة الحكيمة تتجلى فيها عناية السنة النبوية الرحيمة التي تقوم بالحقوق السياسية والاقتصادية لليهود وغيرهم من المسلمين في المدينة النبوية، ويستنتج منها أحكام شرعية مالية وعسكرية.

الفصل الثاني
المشكلات الاجتماعية
تعتري البشرية موجات عاتية من الأزمات الاجتماعية في جميع أنحاء العالم، وتتفاوت هذه الأزمات من بلد إلى بلد حسب تشريعات تلك البلدان، وحسب قوة وصلاحية تلك التشريعات، والأخذ بها بجدية، وقد استطاع نبي الرحمة والحكمة  أن يعالج كثيراً من تلك المشكلات بترسيخ الأخلاق الفاضلة، وتأصيل الحقوق الكاملة، وهذا المنهاج الحكيم له قدرة عظيمة على حلِّ أي مشكلة في الماضي والحاضر والمستقبل.
يقول المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار:
لقد كان محمد [] نبياً لا مصلحاً اجتماعياً. وأحدثت رسالته في المجتمع العربي القائم آنذاك تغييرات أساسية ما تزال أثارها ماثلة في المجتمع الإسلامي المعاصر...( )
ويقول المؤرخ الفرنسي أدوار بروي: جاء محمد بن عبد الله []، النبي العربي وخاتمة النبيين، يبشر العرب والناس أجمعين، بدين جديد، ويدعو للقول بالله الواحد الأحد، كانت الشريعة [في دعوته] لا تختلف عن العقيدة أو الإيمان، وتتمتع مثلها بسلطة إلهية ملزمة، تضبط ليس الأمور الدينية فحسب، بل أيضاً الأمور الدنيوية.. وعندما قبض النبي العربي  عام 632م، كان قد انتهى من دعوته، كما انتهى من وضع نظام اجتماعي يسموا كثيراً فوق النظام القبلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية، وهكذا تم للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة، لم تعرف مثلها من قبل...( )
وسأذكر المشكلات التي تعالجها رحمة النبي  حسب المباحث التالية:
المبحث الأول: مشكلة الجهل
فقد عاصر نبي الرحمة  مجتمعا جاهلياً يعج بالمشكلات والأزمات الإيمانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد شارك في علاج بعض هذه المشكلات منذ شبابه, ثم عند البعثة حاول أن يصحح المسار العلمي للمجتمع حسب الإرشادات الإلهية بالآيات القرآنية التي اعتنت بعلم الإيمان وأركانه وشعبه، فإن أول آية أمرت بالقراءة والتعليم، وما تضمن ذلك الأمر من تناول توحيد الربوبية لمعرفة خالق الإنسان، ومن أي شيء خُلق لبيان قصة بداية الإنسان، ثم التأكيد تارة أخرى بأنه الخالق هو الذي علم الإنسان. فانطلق نبي الرحمة  في معالجة المشكلة الكبرى ألا وهي الشرك بالله تعالى؛ لأن علاج هذه المشكلة هو مفتاح علاج المشكلات الأخرى مهما تعددت وتشعبت, ومهما بلغت من التعقيد والتشديد؛ لأن نعمة توحيد العبودية لله تعالى وحده قادرة على حلِّ تلك المشكلات, بنظام الخالق الخبير بما يصلح البشرية ويضمن سعادتها في الدنيا والآخرة؛ من أجل ذلك أعطى نبي الرحمة  الأولوية لهذه القضية الكبرى بالحوار الهادف ذي البراهين الواضحة للبشرية والحجج الدامغة للوثنية.
وكانت هذه الأولوية نابعة من أول ما نزل من القرآن، ونابعة من الأمر بالإيمان كما في قوله تعالى ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم﴾[العلق/1-5]، وإليكم أنموذجاً من الحوار في مكة المكرمة:
صحَّ عن عمرو بن عبسة السلمي: كنت وأنا في الجاهلـية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله  مستخفياً جراء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: "أنا نبي" فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله" فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يُوحد الله لا يُشرك به شيء" قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: "حرٌ وعبد" قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به، فقلت: إني متبعك، قال: "إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرتُ فأتني".( )
ونشر هذا العلم لم يقتصر على مكة المكرمة بل استمر حتى في المدينة النبوية وخصوصاً عندما يأتيه السائلون عن هذا الدين.( )
ولأهمية العلم حثَّ نبي الرحمة على طلب العلم وأمر بالتعليم والتيسير، فثبت عنه أنه قال: "علموا ويسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا وإذا غضب أحدكم فليسكت".( )
كما صحَّ عنه أنه أمر بأن من عنده علم أن يعلم أهله فقد صحَّ عن مالك بن الحويرث أنه قال: أتيت النبي  في نفر من قومي فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيماً رفيقاً فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال: "ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم، وصلوا فإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم"( ). كما صحَّ عنه أنه رغَّب في طلب العلم فقال: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة".( )
قال المناوي: علماً: نكرة ليشمل كل علم وآلته ويندرج فيه ما قل وكثر.( )
وقد شرح هذا الحديث الحافظ ابن رجب الحنبلي حيث أفرده بكتاب عنوانه (ورثة الأنبياء شرح حديث أبي الدرداء). ويستنبط من الحديث الترغيب في كل العلوم النافعة التي تصلح أحوال العباد في الدنيا والآخرة، وصحَّ عنه  أنه قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"( ). وصحَّ عنه أنه قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"( ).
إن هذا الحث والترغيب من أجل علاج الجهل والقضاء عليه بعدة أساليب، ومن ذلك بيانه لمكانة العلماء وفضلهم في قوله : "وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وأورثوا العلم، فمن أخذه، أخذ بحظ وافر" ( ).
وحينما نستعرض الأحاديث النبوية في منهاجه التطبيقي للتعليم نجد رحمات وشذرات تفصح عن بعض معالم منهجه في التعليم وهي: عبارات فيها جوامع الكلم تدهش بفصاحتها وملاحتها أساطين البلاغة وأمراء البيان، وإشارات وإيماءات تفتح المدارك وتفهم المتعلم والأمي، ورسوم تلقح الفهوم وترسخ العلوم عبر السمع والبصر ، وتشبيهات تجعل الغائب حاضراً والبعيد قريباً . ومطالع بليغة هي قمة في براعة الاستهلال، تجذب النفوس فتستقبل الكلام وتأخذه بقوة، وتدرج في البيان المنقطع النظير يسهل الفهم والعمل، وأسئلة تشنف الأسماع وتجذب الأفكار والأبصار، وتنبيهات وابتسامات فيها بشائر تتوق إليها النفوس، وتشرئب لها الأعناق، وإنذار تخفق له القلوب وتقشعر منه الجلود، وقصص تثقف العوام وتزيل الإبهام وتشد السامعين، وتكرار يرسخ كبار المهمات في الألباب، وقَسم يؤكد المعاني ويهز المشاعر وينور البصائر، وخطب مؤثرة تأخذ بسامعيها في رحاب التعليم لبيان الإيمان والحلال والحرام والجنة والنار.
المبحث الثاني: مشكلة حقوق المرأة
لقد أسرفت أجهزة الإعلام والمنظمات الدولية بكثرة الدندنة حول هذه المشكلة، وفي الوقت نفسه تغافلت عن رحمة النبي  بالمرأة وإعطائها حقوقها كاملة، وبعض الأجهزة الإعلامية والجهات الدولية أنكرت هذه الرعاية والعناية؛ لأنها تعاني من مشكلات عويصة في مجال حقوق المرأة فتريد تعميم ذلك وتخلط الأوراق، ولكن بعض أصحاب القرار أدرك الخطر الذي ينحدرون فيه فقد حذَّروا من الوضع الراهن للمرأة وصاروا ينشدون عزَّة الإسلام للمرأة والأسرة.
وهذه نصيحة الزعيم السوفيتي السابق (ميخائيل جورباتشوف) في كتابه (البيريسترويكا) إذ يقول: غالباً ما ينظر إلى درجة تحرير المرأة كمقياس للحكم على المستوى الاجتماعي والسياسي للمجتمع. لقد وضعت الدولة السوفيتية حداً للتمييز ضد المرأة الذي كان سائداً في روسيا القيصرية بتصميم دون مساومة، وكسبت المرأة مكانة اجتماعية يضمنها القانون وتتساوى مع مكانة الرجل ونحن نفخر بما قدمته الحكومة السوفيتية للمرأة: نفس الحق في العمل كالرجل، والأجر المتساوي للعمل المتساوي والضمان الاجتماعي. وأتيحت للمرأة كل فرصة للحصول على التعليم لبناء مستقبلها، وللمشاركة في النشاط الاجتماعي والسياسي. وبدون إسهام المرأة وعملها المتفاني ما كان بمقدورنا أن نبني مجتمعاً جديداً أو نكسب الحرب ضد الفاشية. ولكن طوال سنوات تاريخنا البطولي والشاق عجزنا عن أن نولي اهتماماً لحقوق المرأة الخاصة، واحتياجاتها الناشئة عن دورها كأُم وربة منـزل ووظيفتها التعليمية التي لا غنى عنها بالنسبة للأطفال. إن المرأة إذ تعمل في مجال البحث العلمي، وفي مواقع البناء، وفي الإنتاج والخدمات، وتشارك في النشاط الإبداعي، لم يعد لها وقت للقيام بواجباتها اليومية في المنـزل (العمل المنـزلي , وتربية الأطفال وإقامة جو أسري طيب). لقد اكتشفنا أن كثيراً من مشاكلنا - في سلوك الأطفال والشباب وفي معنوياتنا وثقافتنا وفي الإنتاج - تعود جزئياً إلى تدهور العلاقات الأسرية، والموقف المتراخي من المسئوليات الأسرية. وهذه نتيجة متناقضة لرغبتنا المخلصة والمبررة سياسياً لمساواة المرأة بالرجل في كل شيء. والآن في مجرى البيريسترويكا بدأنا نتغلب على هذا الوضع. ولهذا السبب فإننا نجري الآن مناقشات حادة في الصحافة، وفي المنظمات العامة، وفي العمل والمنـزل، بخصوص مسألة ما يجب أن نفعله لنسهل على المرأة العودة إلى رسالتها النسائية البحتة.( )
وقال المهتمون بحقوق المرأة ( إن المرأة تشكل نصف المجتمع ) وذلك بمنطوق الإحصاء. كلا بل هي المجتمع كله لأنها تشكل أكثر من نصف المجتمع وتلد النصف الآخر، ولها دور في التأثير في الأبناء والأزواج والإخوة، فهي إذا كانت على هدى الصراط المستقيم فإنها سترفل الأُمَّة بقيم الرجال الأبطال، وسترقى إلى إيجاد المجتمع الطيب المنشود، كما قال الشاعر حافظ إبراهيم:
أعددت شعبا طيب الأعراق الأُم مدرسة إذا أعددتها
والنبي  أدرك أثرها ومكانتها من الرجال فقال: "إنما النساء شقائق الرجال"( )، وعرف أثر الزوجة الصالحة عملياً منذ زواجه بأُم المؤمنين خديجة بنت خويلد الأسدي كيف قامت بحق الزوج؟ وكيف نافحت عن الدعوة وآزرت زوجها  منذ بداية البعثة؟ وكيف بذلت من أجل الدعوة ومن أجل بيت زوجها، إنها نموذج للمرأة المؤمنة التي جمعت بين الدنيا والآخرة، فقد عرف حق الزوجة بل هو الذي أرسى دعائم حقوق المرأة من خلال أقواله السديدة وأفعاله الرشيدة فحفلت السنة النبوية بتطبيقات عملية في مجال حقوق المرأة حتى أحاطت بها الرحمة النبوية منذ ولادتها حتى مماتها فإذا بقاموس حقوق المرأة قد انتظم عقده، واجتمعت مفرداته ودقائق جزئياته، فلم يترك لا شاردة ولا واردة إلا أحصاها في ديوان السنة النبوية الشريفة التي حفلت بالأقوال الفصيحة والتطبيقات الصحيحة، وسيأتي استعراض جملة منها.
إن المرأة المسلمة شريكة الرجل المسلم في تعمير الأرض واستخلافها وفي بناء المجتمع وشد أواصره، لذا كان لابد لها من المشاركة والتعاون في بناء البيت المسلم وفي مجالات الحياة الأخرى التي تتناسب مع خصائصها بشرط أن لا يكون البيت ضحية ذلك العمل، كما بين نبي الرحمة  أثرها في مسؤولية البيت الذي هو أساس المجتمع إذ البيت لبنة من لبنات إذا صَلُحَ صَلُحَ المجتمع وإذا فسد فسد المجتمع، فقد حدد مسؤليتها في الحديث العظيم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته... والمرأة راعية في بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".( )
وهذا لا يعني اقتصار مهمتها في البيت إنما هو واجبها الأساس، ولها حق المشاركة فيما يخدم المجتمع بما يليق لمقامها ويحافظ على شخصيتها، ويرضي ربها سبحانه وتعالى.
ولقد بُذلت جهود كبيرة في مجال حقوق الإنسان من كتابات ومؤتمرات وندوات وخصوصا في مجال حقوق المرأة، فحُبرت فيها الكتب والمقالات والمحاضرات، واضطربت فيها الأقلام ما بين إنصاف وإجحاف، وما بين مبالغة ومغالطة، وحينما نحصي نتائجها نجد كثيرا من الحقوق قد أُهدرت بل قلب البعض الموازين فجعل بعض الحقوق عيباً وظلماً وتخلفاً عن ركب الحضارة.
وبما أن موضوع حقوق المرأة له أهمية كبيرة في جميع المجتمعات قديماً وحديثاً فقد دارت فيه الألسن، وكثرت فيه المناقشات، ونزلت فيه المساومات.
فمن ذا الذي يقرر حقوقها؟ وعلى أي أساس ينبني هذا القرار؟
إن الذي يقرر هذه الحقوق ليس الذين يميلون ويتعصبون إلى أحد الجنسين من الرجال والنساء، ولا الذين جرفتهم دوافع الغرائز والشهوات إلى مكان سحيق، ولا أرباب المتاجرة بأعراض النساء والناس. وإنما الذي يقرر هو خالق الإنسان سبحانه وتعالى الخبير بمخلوقاته الذي نزل القران الحكيم تبيانا لكل شيء أنزله على رسوله الأمين  ليبين للأُمَّة ما أنزل الله على رسوله الأمين ، قال الله تعالى ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ [النحل/44]، وهذا التشريع قد أحاط بجميع حقوق المرأة، ومنح المرأة المكانة المرموقة الكريمة التي جذبت أنظار الشرق والغرب، وإليك شهادة من امرأة غربية محايدة إذ تقول المستشرقة الإنكليزية إيفلين كوبولد: كتبت اللادي ماري مونتكاد، زوجة السفير الإنجليزي في تركيا إلى شقيقتها تقول: (يزعمون أن المرأة المسلمة في استعباد وحجر معيب، وهو ما أودّ تكذيبه فإن مؤلفي الروايات في أوربا لا يحاولون الحقيقة ولا يسعون للبحث عنها، ولولا أنني في تركيا، وأنني اجتمعت إلى النساء المسلمات ما كان لذلك سبيل، وإني استمع إلى أخبارهم وحوادثهم وطرق معيشتهم من سبل شتّى لذهبت أصدِّق ما يكتبه الكُتّاب، ولكن ما رأيته يكذِّب كل التكذيب أخبارهم، ولا أبالغ إذا قررت لك أن المرأة المسلمة وما رأيتها في الأستانة أكثر حرية من زميلاتها في أوربا، ولعلها المرأة الوحيدة التي لا تعنى بغير حياتها البيتية...).( )
إنها كلمة إنصاف من امرأة محايدة عايشت المسألة عن قرب فأدلت بدلوها.
وحينما نتأمل السيرة النبوية في إعطاء حقوق المرأة نجد عناية فائقة وأمانة دقيقة في إعطاء حقها، ولو تتبعنا تلك السيرة العطرة لرأينا مفردات حقوق المرأة قد انتظمت في عقد متكامل يكاد أن يشتمل على قاموس حقوق المرأة من ولادتها إلى موتها ودفنها، وقد كانت التطبيقات النبوية في التعامل مع المرأة في كل مراحله من أوضح السبل التي ترشد المجتمع لممارسة هذه الحقوق، وإليكم بعضها كما يلي:
أولاً: حق حسن المعاشرة:
لقد حثنا النبي  على حسن المعاشرة للزوجة، وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".( )
هكذا كانت عناية النبي  بحسن عشرة المرأة بالقول والعمل، وهو يفصح عن مكانة المؤمن الذي يحسن عشرة زوجته وفيه ترغيب في ذلك بأسلوب مشوق مشرق.
ثانياً: الوصية بالنساء إذا صدر منهن ما يكره:
وحسن المعاشرة مطلوبة حتى لو صدر منها ما يكره لأنه يمكن أن يكون ذلك الأمر خيراً في المستقبل.
وقد أكد النبي  على ذلك ونبه أنه إذا كره منها خلقاً فإنه سيرضى على خلق آخر منها فيسد ذلك الخلل، فقد أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : "لا يفرك مؤمن مؤمنة. إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر" أو قال: "غيره".( )
وهذا الحديث الشريف يغفل عنه كثير من الأزواج المسارعين بالطلاق فيُطلق بسبب أمر يكرهه في زوجته، وينسى الأمور الحسنة الكثيرة إذا تأمل ذلك، وهذا أمر خطير يهدد حصون الحقوق الاجتماعية ويقوضها.

ثالثاً: النهي عن العنف:
كثر في هذا الزمان الشكوى من النساء بسبب الضرب والعنف من أزواجهن، وهذا أمر خطير جداً، فإنه يهدد الأسرة بالسقوط ناهيك عما يفتك في نفس المرأة لما فيه من الآثار السيئة، لذلك نهى النبي  عن ذلك وبأسلوب فيه التذكير بحاجة الرجال إلى النساء.
وصحَّ عن عبد الله بن زمعة عن النبي  قال: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يُجامعها في آخر اليوم".( )

رابعاً: الرفق بالحامل والمرضع:
كما راعى حالتها في الحمل بالتخفيف عنها في الصيام، فقد ثبت عنه  أنه قال: "إن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم أو الصيام".( )

خامساً: حق الزوجة في أن يشارك الزوج في أعمال البيت:
لقد كان النبي  يقوم ببعض الأعمال البيتية لتخفيف أعباء العمل على أهله، وقد صحَّ عن الأسود قال: سألت عائشة ما كان النبي  يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله - تعني: خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.( )

سادساً: حقها في الترفيه وحضور العيد:
لقد كان النبي  حريصاً على الترفيه في بعض المناسبات للترويح، وقد صحَّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي  وكان لي صواحب يلعبنَّ معي فكان رسول الله  إذا دخل يتقمعن منه فيُسَرِّبُهُنَّ إليَّ فيلعبن معي.( )
وثبت عن عائشة أنها قال: "وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب، فإما سألت النبي  وإما قال: تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم. فأقامني وراءه خدي على خده وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة. حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم.قال: فاذهبي".( )
سابعاً: حقها في الجماع والمبيت:
للزوجة حقوق على الزوج كالجماع والنفقة والكسوة، ومن حقها في الجماع ما صحَّ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص  قال: قال رسول الله : "يا عبد الله ألم أُخبَر أنك تصوم النهار وتقوم الليل" قلت: بلى يا رسول الله. قال: "فلا تفعل صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا". ( )
ثامناً: حقها في طلب عدم التطليق بالتنازل عن بعض حقوقها:
للمرأة الحق في طلب عدم التطليق إذا كان زوجها أراد طلاقها بسبب كبر سنها بأن تتفق مع زوجها بالتنازل عن بعض الحقوق، وقد حصل ذلك لأُم المؤمنين سودة بنت زمعة، فقد صحَّ عن عائشة: ﴿وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً﴾ [النساء/128] الآية. قالت: أُنزلت في المرأة تكون عند الرجل. فتطول صُحبتها. فيُريد طلاقها فتقول: لا تطلّقني وأمسكني، وأنت في حلٍّ منّي. فنـزلت هذه الآية.( )
وثبت عن ابن عباس قال: خشيتْ سودة رضي الله عنها أن يُطلقها النبي  فقالت: لا تُطلقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة ففعل فنـزلت ﴿فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صُلحاً والصلح خير﴾ [النساء/128]. ( )
وفي هذا الفعل النبوي عناية خاصة بحق المرأة حتى أثناء الطلاق، وتطبيق هذه العناية تقلل من حوادث وقوع الطلاق التي زادت بشكل سريع ومخيف.
تاسعاً: حق المتعة للمرأة المطلق بعد الطلاق:
هذه المتعة من الحقوق للمرأة المطلقة متروكة، فلم نجد أحداً في زماننا من يقوم بهذا الحق إلا من رحم الله تعالى، وهو حق مشروع من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة قال الله تعالى ﴿وللمطلقات متاع بالمعروف حق على المتقين﴾ [البقرة/241]، وفي غيرها من الآيات التي نصَّت على مشروعية تكريم المطلقة.
أما من السُّنة الفعلية، فقد صحَّ عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي الله عنهما قالا: "تزوج النبي  أُميمة بنت شراحيل، فلما أُدخلت عليه بسطَ يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها وكسوها ثوبين رازقيين ".( )
عاشراً: الحق السياسي للمرأة:
تحرص بعض الآراء على زجِّ المرأة في كل مرافق السياسة وثمة فئة أخرى على نقيض ذلك ترى حرمانها من كل شيء سياسي، وكلاهما فيه نظر؛ لأنه ما بين إفراط وتفريط، أما الوسطية في الإسلام فقد جعلت الحق السياسي للمرأة ثابتاً متوازناً فلها أن تبايع الإمام, وأن تستشار فيما يفيد في الشؤون السياسية، ولها أن تجير كما سيأتي عن أُم هانئ رضي الله عنها، وغير ذلك مما سيأتي ذكره ودليله.
وإذا كان الإسلام قد أعفاها من مناصب الحكم والقيادة فإنه قد كلفها بإعداد الأبطال والقادة وقد قيل: (إن وراء كل عظيم امرأة)، وهو قول حكيم لأن لمساتها التربوية الإسلامية تيمم وجه أولادها شطر المعالي والعوالي، وهي في الوقت نفسه توفر السكن والراحة لزوجها إن كان حاكماً أو محكوماً إذ هي تهيأ له السعادة الزوجية بتوفير أسباب الراحة له فتمكنه من أداء واجباته اتجاه أمته ومسؤولياته، وعلى العكس فإن إخفاقها في أمور السكن للزوج يعكس ذلك على عمله وحركته مع أمته، فيتجلى أثرها في نشأة الولد الذي من الممكن أن يكون في المستقبل هو الرجل القائد، وفي مؤازرة الزوج القائد وإعانته على مهامه. وأما الدليل على إعفائها من منصب الحكم فقوله تعالى: ﴿الرجال قوَّامون على النساء﴾ [النساء/34]، فهذه الآية الكريمة صريحة بذكر قوامة الرجال على النساء في البيت وخارجه، ولما كانت قوامة منصب الدولة أعظم من قوامة البيت فإن القوامة فيها للرجال من باب أولى، وكذلك في السُنة النبوية، كما ثبت عن أبي بكرة  قال: لما هلك كسرى قال  "من استخلفوا؟" قالوا: ابنته فقال النبي : "لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة".( )
وهذا من رحمة نبي الرحمة  بالمرأة أن أعفاها من هذه المهمة الخطيرة وفيه تخفيف عنها.
ولو دُرست جدوى تجربة تسلم المرأة منصب الحكم قديماً وحديثاً لازداد الأمر علماً ويقينياً بحكمة السنة النبوية الشريفة، ولو استعرضنا المشاركة السياسية للمرأة في حكم الدولة العباسية لرأينا التدهور الطردي كلما كان التدخل في الحكم كان التدهور يتسع، والسقوط يسرع.
الحادي عشر: حق البيعة:
للمرأة حقوق سياسية وضحتها السنة المطهرة منها البيعة، فقد صحَّ عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي  أخبرته أن رسول الله  كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية بقول الله تعالى: ﴿يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك﴾ إلى قوله: ﴿غفور رحيم﴾[الممتحنة/12]، قال عروة: قالت عائشة: فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله : "قد بايعتكِ" كلاماً، ولا والله ما مسّت يده يدَ امرأة قطّ في المبايعة، ما يبايعهنّ إلا بقوله: "قد بايعتكِ على ذلك".( )
قال ابن حجر: قوله: قد بايعتكِ كلاماً، أي يقول ذلك كلاماً فقط لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة.( )
وقد ورد بعض أسمائهن منهن: أُميمة بنت بشر، وأُم كلثوم بنت عقبة، وسبيعة بنت الحارث الأسلمية، وبروع بنت عقبة، وعيدة بنت العزى.( )
الثاني عشر: استشارة المرأة:
وأما استشارة المرأة فقد استشار النبي  أُم سلمة في أحرج الأوقات، وذلك في صلح الحديبية، فقد صحَّ أنه عندما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله  لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا،فلم يقم أحد منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلم يقم أحد منهم" فدخل رسول الله  على أُم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك.( )
وفي هذا الحديث التطبيق الفعلي للنبي  مشروعية المشاورة مع المرأة. وفيه منهاج تربوي حكيم في هذه المشاركة السياسية فهو يجعل المرأة واثقة بنفسها متفكرة بهموم الأُمَّة، وفي الوقت نفسه يبين للأُمَّة مكانة المرأة في الاستشارات والقرارات السياسية.
الثالث عشر: إجارة المحارب:
أجمع العلماء على جواز إجارة المرأة والأمان على أحد من الأعداء المحاربين( ) واستدلوا بما رواه البخاري بسنده عن أُم هانئ بنت أبي طالب قالت: ذهبت إلى رسول الله  عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره فسلمت عليه، فقال: "من هذه؟" فقلت: أنا أُم هانئ بنت أبي طالب، فقال: "مرحباً بأُم هانئ" فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد، فقلت: يا رسول الله زعم ابن أُمي علي أنه قاتل رجلا قد أجرته فلان بن هبيرة، فقال رسول الله  "قد أجرنا من أجرتِ يا أُم هانئ" قالت أُم هانئ: وذلك ضحى.( )
قال العيني: وفيه من الفقه جواز أمان المرأة وأن من أمنته حرم قتله، وقد أجارت زينب بنت رسول الله  أبا العاص ابن الربيع. وعلى هذا جماعة الفقهاء بالحجاز والعراق منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وهو قول الثوري والأوزاعي، وشذَّ عبد الملك بن الماجشون وسحنون عن الجماعة فقالا: أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام فإن أجازه جاز، وإن ردَّه رُدَّ.( )
إن هذا الجواز للأمان لهو إقرار صريح لهذا الحق السياسي عند فتوح البلدان واستقامة النسوان.
الرابع عشر: المشاركة في الغزو بمداوة الجرحى وسقي الماء:
للمرأة حق في المشاركة في الغزو إذا كانت قادرة على التداوي وحمل الماء للسقي، مع مراعاة الضوابط الشرعية في ذلك، ولهن حقوق مالية على ذلك كما سيأتي.
أخرج مسلم بسنده أن نَجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خِلال. فقال ابن عباس: لولا أن أكتم عِلماً ما كتبتُ إليه. كتب إليه نَجدة: أما بعد. فأخبِرْني هل كان رسول الله  يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهنَّ بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يُتم اليتيم؟ وعن الخمس لِمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: كتبتَ تسألني هل كان رسول الله  يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهنَّ فيداوين الجرحى، ويُحذين من الغنيمة. وأما بسهم فلم يضرب لهنَّ. ( )
وفي هذه السنة النبوية الفعلية إعطاء المرأة حقها من المشاركة في الغزو بالقيام بمداواة الجرحى وحمل الماء للسقي، ووجوب دفع أجورها المالية على ذلك.
الخامس عشر: حق العدل في تعدد الزوجات:
إن التعدد تثار حوله جدالات بأنه هضم لحق المرأة وظلم لها بل هو حق للمرأة المهددة بالعنوسة، وخصوصاً أن عدد الإناث يزداد على عدد الذكور، فأين يذهب ذلك العدد الزائد والمضاعف أحياناً؟ وأين حقه من الزواج؟ من أجل ذلك وغيره من الأسباب جاءت الشرائع السماوية بإباحة التعدد وكان خاتمها الإسلام، فإن ما بعد الزوجة الأولى تأخذ حقها المشروع عند زوجها وبما أُمر به من العدل بين زوجاته، فالتعدد مشروط بالعدل ويحتاج إلى صبر ومداراة ومقدرة على النفقة والتربية، وقد حذرَّ نبي الرحمة  من الميل إلى أحد الزوجات بتقديم وتفضيل إحداهن على الأخرى فقد أخرج أبو داود: بسنده عن أبي هريرة، عن النبي  قال: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل".( )
من تطبيقه  لحق الزوجات في السفر أن يعدل بينهن فيجعل بينهن القرعة فأيهما يخرج سهمها كان نصيبها أن تسافر معه وذلك تطييباً للقلوب وعدم الميل إلى إحداهن. فقد أخرج البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي  قالت: كان رسول الله  إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله  معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي... ( )
قال ابن حجر: قوله "أقرع بين أزواجه" فيه مشروعية القرعة والرد على من منع منها.( )
السادس عشر: حقها في عدم الجمع بينها وبين أختها أو عمتها أو خالتها:
وكذلك تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، كما نهى النبي  في قوله: "لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها" وفي رواية: نهى رسول الله  أن تُنكح المرأة على عمتها أو خالتها( ). لأن هذا التعدد يؤدي إلى قطيعة الأرحام بسبب ما يقع من الغيرة بين النساء، وفي ذلك حق للمرأة في عدم قبولها لهذا التعدد.

السابع عشر: استئذان البكر في النكاح وللثيب الخيار:
من حق البكر أن تُستأذن عند النكاح فلا تُجبر على ذلك، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبي سلمة، أن أبا هريرة حدثهم أن النبي  قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت"( ).
هكذا جعلت السنة النبوية هذه الخيارات حقاً للمرأة البكر والثيب حتى لا تجبر على المكروه ولا تقهر عليه بل يكون الأمر بطيب نفس وتآلف، لأن الإكراه له مشاكله في المستقبل وقد يؤدي إلى الطلاق كما تشاهد في هذا الزمان، فهذه السنة العظيمة تقلل من وقوع الطلاق، وتجنب الوقوع في المشاكل والخصومات.

الثامن عشر: حقها في الخلع:
إذا تنافرت النفوس وجب على المسلمين حق الصلح بين المتنافرين، وهذا التنافر قد يمس بيت الزوجية، فإذا نفر الرجل من امرأته وجب الصلح، فإن لم ينفع فللرجل حق الطلاق، وكما أن الإسلام جعل له هذا الحق فكذلك للمرأة حق الخلع عندما تنفر من زوجها بسبب الدمامة أو أي مبرر مشروع فلها الحرية بأن تختار البقاء أو الصبر على ذلك وأجرها على الله تعالى، ولها الخلع بأن تردَّ على زوجها ما أخذته من صداق.
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي  فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله : "أتردينَ عليه حديقته؟ " قالت: نعم. قال رسول الله : "أقبل الحديقة وطلِّقها تطليقة".( )
التاسع عشر: حقها في عدم تعرضها إلى الخلوة:
يرتقي المجتمع حينما يسمو بتعاليم الإسلام، ومنها المحافظة على عرض المرأة من الخلوة بالأجنبي أو أقارب الزوج، فمن حقها صيانة عرضها بأن لا نعرضها إلى أسباب الخلوة التي تفضي إلى ما لا يحمد عقباه، لذا قد حذر النبي  من هذا الأمر.
أخرج البخاري بسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله r قال: "إياكم والدخول على النساء" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت".( )
العشرون: حقها في طلب مرافقة المحرم في السفر الضروري المهم:
للمرأة الحق بأن تطلب من وليها أن يرافقها أحد المحارم في السفر المهم والضروري، وقد جعل بعض الناس هذا الحق تقييد وتشديد على المرأة وهذا خطأ وخطر، لأن السفر بمفردها يعرضها إلى مهانة ومشقة ومخاطر من حيث حمل الأشياء، والقيام بالمعاملات الرسمية، وتعرضها إلى الخلوة أحياناً وإلى الاحتكاك بالذين في قلوبهم مرض فيطمعون بهذه الفرصة مادياً أومعنوياً، وقد حذَّر النبي  من ذلك وصحَّ عنه أنه قال: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" فقال رجل: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجَّة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا. فقال: فانطلق فحج مع امرأتك.( )
الحادي والعشرون: حق المرأة في أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة:
يظن كثير من الجهلة أن موافقة الزوجة الثانية أن تكون ضرة لسابقتها عيب وهجوم على الزوجة الأولى وحرمان لها من حقوقها، لأنها ستشاركها مع زوجها، وهكذا إذا كانت زوجة ثالثة ورابعة، وكل ذلك من الجهل بعظمة هذا الدين الذي تكفل بحقوق الزوجات، فقد شرع الله لهذه الزوجة الثانية والثالثة والرابعة حق الزواج في قوله تعالى ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع﴾ [النساء/3]، ويستنبط من هذه الآية إثبات هذا الحق لها، وقد ذكرت في الحق الخامس عشر: حق العدل في تعدد الزوجات المزيد على هذا.
وهذا الحق يبينه النبي  عمليا تطبيقيا في أزواجه وفي إقراره للصحابة على التعدد إلى أربع زوجات بشرط العدل والقيام بالحقوق حسب ما يرضي الله تعالى.
الثاني والعشرون: حقها في شأن إقامة الحدود في تأخير الحد عن النفساء:
إن المرأة لها حقوقها وحرمتها حتى لو وقعت في بعض المحرمات التي فيها حدٌّ من حدود الله تعالى، وخصوصاً إذا كانت نفساء فإن الحدَّ يُؤخَر حتى تزول فترة النفاس.
أخرج مسلم بسنده عن أبي عبد الرحمن قال: خطب عليٌّ  فقال: يا أيها الناس! أقيموا على أرقّائكم الحدَّ. من أحصن منهم ومن لم يُحصن. فإن أمَةً لِرسول الله  زنت. فأمرني أن أجلدها. فإذا هي حديث عهد بنفاس. فخشيتُ، إن أنا جلدتها، أن أقتلها. فذكرت ذلك للنبي  فقال: "أحسنتَ". ( )
قال النووي: فيه أن الجلد واجب على الأمة الزانية، وأن النفساء والمريضة ونحوهما يؤخر جلدهما إلى البرء والله أعلم. ( )
الثالث والعشرون: تأخير الحد على الحامل حتى ترضع:
فإذا قتلت المرأة الحامل نفساً عمداً بغير حق ولم يُعفَ عنها , أو حملت من زنا بعد إحصان وهي حرة فإنه لا يقام عليها الحد أو القصاص حتى تضع حملها بل إذا لم يوجد للطفل من يكفله غيرها فإنها تترك لحضانته حتى يفطم ويوجد من يكفله، ثم يقام عليها الحدّ، وذلك رعاية للطفل حتى لا يتضرر.
الرابع والعشرون: حقها في التطهير والتوبة:
إن كثيراً من الحدود تدفع بالشبهات ولا تقام ولكن إذا وقعت المرأة في ظلمات الفاحشة وأصرت أن تطهر، فإذا أقرت وثبت الأمر فإن من حقها الاستجابة لها.
أخرج مسلم بسنده عن عمران بن حصين ، أن امرأة من جُهينة أتت نبي الله ، وهي حبلى من الزنى. فقالت: يا نبي الله! أصبت حدّاً فأقمه عليَّ. فدعا نبي الله  وليها. فقال: "أحسِن إليها، فإذا وضعت فائتني بها" ففعل. فأمر بها نبي الله . فشُكّت عليها ثيابها. ثم أمر بها فرُجمت ثم صلى عليها. فقال له عمر: تصلي عليها؟ يا نبي الله وقد زنت! فقال: "لقد تابت توبة لو قُسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدتَ توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟".( )
قال ابن حجر: وقد استحب العلماء تلقين من أقر بموجب الحدِّ بالرجوع عنه إما بالتعريض وإما بأوضح منه ليُدرأ عنه الحدّ. ( )

الخامس والعشرون: درء حدِّ الزنا عنها إذا لم تعترف:
إذا وقعت الملاعنة( ) بين المرأة وزوجها ولم تعترف المرأة في آخر الملاعنة فإنها لا تحد ولكن يبقى إثمها وأمرها إلى الله تعالى، والدليل على ذلك أن هلال بن أُمية قذف امرأته عند النبي  بشريك بن سمحاء، فقال النبي : "البينة أو حدٌّ في ظهرك" فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي  يقول: "البينة أو حدٌّ في ظهرك". فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينـزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد. فنـزل جبريل وأنزل عليه ﴿والذين يرمون أزواجهم﴾ فقرأ حتى بلغ ﴿إن كان من الصادقين﴾ [النور/6]، فانصرف النبي  فأرسل إليها فجاء هلال فشهد، والنبي  يقول: "إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ "ثم قامت فشهدت؟ فلما كانت عند الخامسة وقفوها، وقالوا: إنها موجبة. قال ابن عباس: فتلكّأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت. فقال النبي :"أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الإليتين خدلّج الساقين فهو لشريك بن سمحاء" فجاءت به كذلك، فقال النبي : "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن".( )
ويستفاد من هذا الحديث الشريف احترام مكانة المرأة وعدم إهدار كلمتها ودمها، وعدم عقوبتها حتى وإن عُلم أنها كاذبة.
السادس والعشرون: حق الصداق:
إن الزوج له حقوق والزوجة لها حقوق ومن حقوقها في الزواج الصداق، وأجمع العلماء على أنه شرط من شروط الصحة وأنه لا يجوز التواطؤ على تركه لقوله تعالى ﴿وآتوا النساء صدقاتهن نحلة﴾ [النساء/4]، وقوله تعالى ﴿فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن ﴾ [النساء/25]. ( )
والصداق قد يكون كثيراً وقد يكون قليلاً على قدر طاقة الزوج.
وقد أخرج البخاري بسنده أن عبد الرحمن بن عوف  تزوج امرأةً على وزن نواةٍ، فرأى النبيُ  بشاشة العُرس، فسأله، فقال: إني تزوجت امرأةً على وزن نواةٍ.( )
السابع والعشرون: حق النفقة والسكن:
كما أن على المرأة أن ترعى بيت زوجها وتحرص على مصالحه وتدبيره، فإنه يجب على الزوج النفقة والسكن سواء كان غنياً أو فقيراً، فقد أمر الله تعالى بقوله ﴿لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها﴾ [الطلاق/7]، وقال تعالى في حق المطلقات أثناء العدة ﴿أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم﴾ [الطلاق/6]، فإذا كان هذا الحكم للمطلقات في العدة فحقُّ الزوجات كذلك بل هو أوجب.
وقد أوضح النبي  هذا الحق ورغب فيه فروى مسلم بسنده عن ثوبان  قال: قال رسول الله : "أفضل دينار ينفقه الرجل على عياله...".( )
والعيال: من يعوله ويلزمه مؤنته كالزوجة والأولاد.
في الحديث الطويل عن جابر  مرفوعاً: "ولهنَّ عليكم رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف".( )

الثامن والعشرون: الحقوق المالية في الإرث:
تختلف أحوال المرأة في الميراث فتارة تأخذ الثلثين، وتارة تأخذ النصف، وتارة تأخذ الربع، وتارة تأخذ السدس، وتارة تأخذ نصف ما يأخذه الذكر.
ونصيب الزوجة الربع إذا لم يكن للزوج فرع وارث، أو الثمن إذا كان للزوج فرع وارث، بدليل قوله تعالى ﴿ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم﴾ [النساء/12].
وهذا التغيير حسب أحوالها وحاجتها فجاء هذا التبيان الحكيم في غاية الدقة، وقد أثيرت بعض الشبهات حول نصيبها في الإرث نصف ما يأخذه الذكر، ولكن هذه حالة واحدة، ولها حالات أخرى، ولكل حالة حق كما تقدم في بداية الكلام عن هذا الحق.

التاسع والعشرون: حق الزوجة في الصدقة غير الزكاة:
وللزوجة حق الصدقة عليها من مال الزوج فهي أحق الناس بها ولكن لا تكون هذه الصدقة من أموال الزكاة، قال النبي  لزينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: "صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم".( )
ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الحديث دالٌّ على أنها صدقة تطوع، لأن الولد لا يُعطى من الزكاة الواجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره...( )

المبحث الثالث: مشكلة العقوبات
هذه المشكلة ذات شقين، وهما: ضعف القوانين الوضعية، وانتقاد العقوبات الشرعية فإن بعض الهيئات العالمية وبعض الفئات التي تتبع الشهوات والشبهات تعصف رياحها لنقد هذه الأحكام الحكيمة، أو تصفها بالرجعية، أو تزعم أنها تعطل تنمية الموارد البشرية، وتشوه بعض أجزاء بدن الإنسان، وتحطّ من قدر الإنسان وغيرها من المغالطات التي كثر فيها اللغط باللمز والهمز المؤلم، علماً أن إقامة الحدود الشرعية لا تُنفذ إلا بنطاق ضيق محدود، فقد يظن بعض الناس أن إقامة الحدود في الإسلام كإقامة الصلاة في كثرتها، والحق أن أحكام الشريعة الإسلامية تعد بالمئات لكن عدد الحدود التي تقام هي سبعة: الحرابة (قطع الطريق)، والردَّة، والبغي، والزنا، والقذف، والسرقة، وشرب الخمر. وعند تنفيذها فإنه لا يمكن ذلك إلا بعد مراحل وشروط وذلك بعد التأكد من وقوع الجريمة وإقامة الحجة على الجاني كالاعتراف أو الشهادة عليه، وقد يصل عددهم إلى أربعة شهود في جريمة الزنا، ويشترط فيهم العدالة وعدم التهمة مما يدل على التحري والتثبت والاحتياط بهذا العدد الذي انفرد عن بقية الجرائم الأخرى.
(والحكمة في ذلك أن الله تعالى يحب الستر، كما أن جريمة الزنا لا تقع إلا من اثنين فكأن كل شاهدين يشهدان على أحدهما). ( )
قال ابن القيم - رحمه الله -: وكان من تمام حكمته ورحمته أنه لم يأخذ الجناة بغير حجة، كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وجعل الحجة التي يأخذهم بها، إما منهم وهي الإقرار، أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال وإما أن تكون الحجة من خارج عنهم، وهي البينة، واشترط فيها العدالة، وعدم التهمة، فلا أحسن في العقول والفطر من ذلك، ولو طلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك، ولا أوفق منه للمصلحة.( )
وعلى سبيل المثال على قلة تنفيذ الحدِّ لهذه الجريمة فإنه منذ أن نزل حدُّ الزنا لم نسمع في تاريخ أُمَّة الإسلام أن أُقيم حدُّ الزنا بتوافر أربعة شهود، وكذلك لم تُحدّ امرأة حتى لو تمت عليها الشهادة كما في الملاعنة إذا لم تقر بما نُسب إليها، فقد ثبت أن النبي  لم يقم الحدَّ على المرأة في قصة الملاعنة كما تقدم في ص(100) في الحق الخامس والعشرين من حقوق المرأة.
ويستفاد من هذا الحديث الشريف احترام مكانة المرأة وعدم إهدار كلمتها ودمها حتّى وإن عُلم أنها كاذبة.
ولو ثبتت جريمة الزنا بالاعتراف وأقيم حد الرجم فإن هذا الزاني الذي يرجم لو طلب منهم التوقف عن ذلك لإدلاء ما عنده ما يدفع عنه فينبغي أن يوقف الرجم ويُسمع منه هل ما يقوله يعتد به أم لا؟
وقد صحَّ أن ماعز بن مالك  فرّ حين وجد مسّ الحجارة ومسّ الموت، فقال رسول الله : "هلاَّ تركتموه؟".( )
وكذلك لا تقام الحدود عند الضرورات وعند الشبهات فيأتي دور درء الحدود، قال العلاّمة معالي الشيخ ابن بيه: والشريعة المطهرة مع اهتمامها الشديد بسلامة المجتمع، فإنها تقدم للفرد ضمانات أكيدة، لا من حيث درء الحدود بالشبهات وهي قاعدة تنسحب على الحدود وبخاصة في جرائم الأخلاق وحقوق الله المحضة، ولكنها قدمت ضمانات على مستوى الإجراءات القضائية ووسائل الإثبات، فمنعت القاضي من أن يحكم بعلمه الشخصي، واشترطت العدالة وزيادة العدد على اثنين في قضايا أخلاقية معينة، وأعذرت للمتهم في البينات ليجرح الشاهد عند الاقتضاء، وأوجبت الأيمان وغلظتها، حيث يجب التغليظ، وألغت إقرار المكره، ولم تعتبر إلا إقرارا في حالة طوع واختيار وحرية، واشترطت شروطا خاصة فيمن يتولى القضاء من علم وورع ونزاهة واستقامة إلى آخر ما هو معروف في كتب الأحكام والقضاء.( )
وحينما ننظر في عقوبات القوانين الوضعية نجدها هزيلة ومتغيرة، لقد ثبت من خلال الدراسات المقارنة والإحصاءات الدقيقة أن القوانين في العقوبات الوضعية مهما عدّلت ورقعت فإنها تافهة وسقيمة؛ لأن الذين وضعوها ما عندهم من العلم إلا القليل منه، قال الله تعالى: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾ [الإسراء/85].
أمّا علم الله تعالى فقد أحاط بكل مخلوقاته علما، فشريعة الخالق هي المناسبة بخلقه لأنه أدرى بخلقه وما يصلح لهم من الآداب والأحكام والترغيب والترهيب. ومن هذه الأحكام الربانية: الحدود الشرعية كحدِّ أهل البغي والزنا والسرقة والردَّة والحرابة والقذف وشرب الخمر، فقد قام بها النبي  على أحسن وجه، وارتقى بالمجتمع الجاهلي إلى مجتمع الحضارات وجعلها منارات تضيء الدرب للبشرية إلى حياة طيبة وجنة كريمة.
وهذه الأحكام مهجورة في العالم بل في العالم الإسلامي إلا ما رحم الله تعالى، وعندما نقارن المجتمعات التي تقيم شعائر الله تعالى وسنة رسوله  مع المجتمعات التي أهملت هذه الروادع الحكيمة عن الجريمة نجد الحكمة العظيمة.
وعلى سبيل المثال نرى تجربة المملكة العربية السعودية في تطبيق الشريعة الإسلامية ونجاحها الرائد في إقامة الحدود إذ نجحت نجاحا باهرا، وذلك بالقضاء على مظاهر السلب والنهب، والقتل والجهل، وانتشار الأمن والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
من أجل ذلك نرى نسبة الجرائم ضئيلة جداً – والحمد لله - فمعدلها حسب الإحصاءات لعام 1416هـ يصل إلى (0.32) في ألف من السكان بينما نجد نسبة الجريمة في بعض دول العالم أضعافاً مضاعفة لكل ألف من السكان هي:
(77.26) في أسبانيا، وفي ألمانيا الغربية (41.71) وفي إيطاليا (20.08)، وفي الدانمارك (60.52) وفي فرنسا (32.27) وفي أستراليا (75.00) وفي كندا (75.00) وفي كوريا (12.42)، وفي غانا (10.72) وفي كينيا (4.74) وفي إندونيسيا (1.47).( )
فنرى الفرق الشاسع بين هذه البلدان التي تحكم بالقوانين الوضعية، والمملكة العربية السعودية التي تحكم بالشريعة الإسلامية مما يدل على أن هذا هو الحق، وأنها تجربة رائدة في العالم، وخصوصا لو زاد الاهتمام بالتدابير الوقائية للحد من الجريمة لكانت النسبة أقل.
وقد حاولت جمهورية السودان أن تطبق هذه التجربة المباركة، ومنذ أن بدأت بتطبيق أحكام الشريعة فإن نسبة جريمة القتل انخفضت بشكل ملموس يصل إلى النصف تقريباً، ففي عام 1402 هـ بلغت عدد الجرائم (1155) جريمة بينما انخفضت في عام 1403 هـ إلى (670) جريمة ثم في عام 1404هـ نزلت إلى (663) جريمة وذلك حسب دراسة ميدانية مدعمة بالإحصاءات الدقيقة.( )
بينما نجد الدول التي تتخبط بفوضى القوانين الوضعية تزداد فيها نسبة الجريمة بل تدخل في أطوار جديدة، وإن قضية الاهتمام بالدين يقلل منها، فقد جاء في (موسوعة القانون الجنائي وعلم الإجرام، ص199-203 (لبيا بوزا) و (جان بيناتا Pierre Bouzat et Jean Pinatei): أنه نتيجة لانتشار التعليم وتحسين الظروف الاقتصادية لشرائح عريضة من المجتمع فإن جرائم القتل أصبحت يطغى عليها طابع الحيلة أكثر من طابع العنف , وزيادة على بعض العوامل فإن المؤلفين يذكران تأثير الريف في ارتفاع عدد جرائم القتل , وتأثير الدين في الخفض منه , وهما يذكران دراسة أجراها المستشرق القانوني سلينM . Th. Sllin في موضوع العلاقة بين العمل بحكم الإعدام أو إلغائه من ناحية، ومستوى الجرائم من ناحية أخرى , ويذكر المؤلفان أيضاً دراسة (عزت بن عبد الفتاح) التي بينت أن تفاقم عدد جرائم القتل بكندا منذ سنة 1962م يتدرج ضمن تصاعد عام لجرائم العنف.( )
وما ورد عن هؤلاء الخبراء الفرنسيين يؤكد ارتفاع الجريمة بمرور الزمن بل يعترف بدور الدين في انخفاضها! فهل تعي آذان الأمم ما يقوله الخبراء والعلماء للوفاء بالذمم؟
ومن الأدلة المهمة في ارتفاع معدل جرائم الأموال ما جاء في تقرير (المنظمة الدولية العربية للدفاع الاجتماعي التابعة للجامعة العربية) والذي أعده د.محمود عبد القادر - رئيس وحدة بحوث الأسرة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة - ص 43 وما بعدها وجاء فيه:
إن معدل الجرائم ضد الأموال في ارتفاع مع عملية التنمية الاقتصادية , إذ تزداد فرص الاعتداء على الأموال عندما يصبح المجتمع أكثر إنتاجاً وتعقيداً وتحضراً وتصنيعاً , ومن ثمَّ نجد أن نسبة عالية من جرائم الأحداث والشباب في غالبية البلاد ذات طابع اقتصادي مثل السرقة والاختلاس... وتزييف الأوراق الرسمية , وتزييف العملة أو المسكوكات وتهريب المخدرات والخطف لطلب الفدية والرشوة وجرائم السوق السوداء...( ) ولا ريب أن عقوبات القوانين الوضعية لا تزجر ولا تردع بل هي أقرب إلى الإغراء بالجرائم.
وكذلك جريمة الشذوذ الجنسي ففي بعض الولايات المتحدة الأمريكية كانت نتيجة هذه الجريمة الإصابة بمرض الإيدز فبلغت عدد الإصابات 231 حالة في سنة 1981م، ثم ارتفعت في كل سنة حتى وصلت (17.050) حالة في سنة 1985م( )، وهذه الزيادة في مدة أربع سنوات فما بالك بالعشرين سنة التي تلت سنة1985م!! إنها ستكون أرقام مذهلة!
وإذا كان هذا التصعيد في الجريمة على هذه الوتيرة، وأن العلاج بهذه الصفة الهزيلة ماذا نتوقع أن تفرز القوانين (الوضعية الوضيعة) في المستقبل؟ لا شك أنها ستحدث كارثة بشرية عامة طامة وذلك لطغيان الخبث ولانتشاره السريع وإن لطغيانه علامة أكيدة لدمار البشرية صالحهم وطالحهم، لأنه ثبت عن المعصوم  أن كثرة الخبث هي سبب هلاك الأمم, كما ثبت عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي  قال: "ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم ردم يأجوج ومأجوج" وحلق بإصبعيه الإبهام والسبابة. فقالت زينب رضي الله عنها: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث".( )
لذا فإن الثبات على الشريعة الإسلامية بالسنة النبوية الرحيمة هو نجاة لذلك المجتمع الثابت فلا تزال هذه الأُمَّة بخير ما عظمت حرمتها فهذه الأُمَّة الثابتة على الحق تستطيع بمشيئة الله تعالى أن تمد يديها لجميع المسلمين ولغير المسلمين ليحذروا من مغبة ترك أحكام الله تعالى والأخذ بآراء البشر الضعفاء ﴿وخلق الإنسان ضعيفاً﴾ [النساء/28].
وبذلك فإن رحمة السنة النبوية في تطبيق هذه العقوبات حافظت على الضرورات الخمس: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض، وكذلك الأديان السماوية متفقة مع نبي الرحمة  في تنفيذ هذه العقوبات.
ولو نظرنا في الحدود بالشرائع والقوانين السابقة للبعثة النبوية الشريفة لوجدناها متفقة مع حدود الإسلام، ومتفقة في كثير من الأحكام، كما في التوراة والإنجيل وشريعة نوح وصحف إبراهيم وموسى عليهم الصلاة والسلام, وكذا القانون الروماني كما في مدوّنة جونستنيان، وأغلبه مأخوذ من التوراة والإنجيل.
فمن نصوص التوراة ورد في الإصحاحات التاسع عشر إلى الحادي والثلاثين وصايا وتشريعات منها النهي عن القتل والسرقة والزنا وشهادة الزور... وقتل القاتل , وقتل ضارب والديه ولاعنهما , وقتل من يخطف أحداً , وقصاص العين بالعين، والسن بالسن, واليد باليد, والرجل بالرجل, والكي بالكي, والجرح بالجرح, والرضّ بالرضّ, وقتل من يذبح لآلهة أخرى أو يأتي بهيمة, وعدم استبقاء الساحرات، واسترداد المسروق من السارق بزيادة , وهدر دم السارق إذا قتله صاحب المال.( )
وفي الإصحاح 24و25و26و27 من سفر التثنية تشريعات متنوعة ومنها: الأمر بقتل من يخطف إسرائيلياً ويسترقه.
وأما ما ورد في الأنجيل فإنه حوى ذلك الهدي والنور، وهو موافق للتوراة قال الله تعالى: ﴿وقفّينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين﴾ [المائدة/47]، وقد ذكر د.أحمد شلبي بعض الموافقات منها تحريم القتل والزنا والسرقة وشهادة الزور.( )
وفي سورة الأعلى ذكرت موافقات لما جاء في صحف إبراهيم وموسى فقال الله تعالى في نهايتها: ﴿إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى﴾[الأعلى/18-19] والإشارة إلى ما تقدم من آيات في هذه السورة، وكذا في سورة النجم في قوله تعالى: ﴿أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وإبراهيم الذي وفى. ألا تزرُ وازرةٌ وزر أخرى﴾ [النجم/36-54] الآيات التي تليها.
وذكر العلامة الأصولي الغزالي أنه لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب المسكر.( )
وقد نقل هذا القول فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة ثم علق بأن المصالح الخمسة التي يعد طلبها ضرورة إنسانية متفق عليها بين الناس والمحافظة عليها بفرض عقوبات للاعتداء عليها يعد من الأمور البدهية التي لا تختلف فيها العقول ولا تختلف فيها الأديان.( )
وأختم الحديث عن هذه المشكلة بقول الأستاذ (شيرل) عميد كلية الحقوق بجامعة (فينا) في مؤتمر الحقوقيين سنة 1927م: إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد  إليها، إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون - نحن الأوربيين - أسعد ما نكون، لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة.( )
وهكذا فإن المجتمع المدني الذي جاء به رسول الرحمة لهو المجتمع الأصيل والنيل، أما المجتمع المدني الذي ينشده المرتزقة ودعاة التغريب فإنه دخيل، ويحتاج إلى مزيد من الترقيع والتعديل.

المبحث الرابع: مشكلة الرقّ
لا تزال هذه القضية تُثار في عصرنا الحاضر في أروقة حقوق الإنسان، وجعلوها مشكلة كبيرة، بل صنف بعض الذين انبروا إلى صراع الحضارات كتباً في ذلك وهذه الكتب أيضاً تدرس في بلاد الغرب، ومنها (قراءات في كتاب الرق والعبودية في الشرق الأوسط) لبيرنارد لويس، وكتاب (القراصنة والاسترقاق والعتق) لدانيا فيتكوس، وهذه الكتب تدرس في جامعة مينيسوتا ويدرس فيها موضوع الرقّ في السودان. ( )
لقد أكد نبي الرحمة على حقوق العبيد، وفي الوقت نفسه قام بعلاج هذه الظاهرة وحث ورغب في تحرير الرقّ بعدة أساليب، منها: بذكر فضل ثوابه فقد ثبت عن أبي هريرة  عن النبي  قال: "من اعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه".( )
وهذا الحديث يبين عظم فضل تحرير الرقاب.
كما رغب النبي  بتأديب الإماء ثم عتقهن والتزوج منهن فبشر بأن من الثلاثة الذين يؤتون أجرهم مرتين: رجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران.( )
كما رغَّب في فضل عتق الوالد بقوله : "لا يجزى ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه".( )
وهذا العلاج أساسه من القرآن الكريم فقد رغب وحضَّ على عتق الرقاب، فقال تعالى: ﴿فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة﴾ [البلد/11-13].
كما نجد العلاج لهذه الظاهرة بالكفارات مثل كفارة قتل الخطأ في قوله تعالى: ﴿ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً﴾ [النساء/92].
فالحرية كالحياة، وإذا جُرِّد الإنسان منها فكأنه في عداد الموتى.
ولهذا كانت عناية القرآن الكريم والسنة النبوية بتحرير الرقيق في غاية الأهمية وكذلك ورد في كفارة الأيمان فقال تعالى: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون﴾ [المائدة/89].
كما ورد في كفارة الظِهار في قوله تعالى: ﴿والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير﴾ [المجادلة/3]، وكل هذه الآيات كان بني الرحمة  يرتلها للعمل بها.
ومما تقدم نستدل أن القضاء على ظاهرة الرقِّ جاء علاجها من خلال الأحكام الواجبة التي تتكرر كثيراً جداً، فكم من المسلمين من احتاج إلى كفارة الأيمان؟ وكم منهم من يحتاج إلى كفارة القتل الخطأ؟ وكم من المسلمين من يحتاج إلى كفارة الظهار؟ وإذ أراد أحد المسلمين أن يكفِّر بعتق رقبة هل يجد هذه الرقبة؟ الجواب لم يجد، مما يدل على أن إثارة هذه المشكلة هي بلبلة ومغالطة. وأما إذا أراد العبد المكاتبة وعرف أنه أهل لذلك فقد أمر الله تعالى الاستجابة لهم ومساعدتهم في ذلك مالياً ومعنوياً، قال الله تعالى: ﴿والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ [النور/33].
فهذه الحرية من حق الرقيق مقابل مبلغ من المال يتفق عليه العبد والسيد، ولا يجوز للسيد رفضه، فإن رفض فيرفع الأمر إلى الحاكم كما رفع أمر سيرين إلى عمر بن الخطاب ، فقد سأل سيدهُ أنس بن مالك  فأبى، فأمر عمر بالمكاتبة والعتق( ). وفي ذلك إنهاء لهذه الحالة ليلحق الرقيق بركب الأحرار، وقد نُفذ هذا الأمر إضافة إلى العتق في سبيل الله تعالى حسب التوجيهات النبوية حتى تلاشت ظاهرة الرقِّ ولله الحمد والمنة.
ومن السنة النبوية في تسهيل العتق ما أخرجه الترمذي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: "ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف".( )
حقاً إنها حرية الحق لجميع الخلق، وحق الحرية من خالق الخلق.

الفصل الثالث
المشكلات الاقتصادية
تجتاح العالم اضطرابات اقتصادية عنيفة، وأزمات مالية مخيفة، فإن عشرات الملايين من البشر يعضهم ناب الفقر، ويهددهم الجوع بالموت، مع أن الملايين من أطنان الثمار تقذف في البحار للمحافظة على الأسعار! وأن الملايين من البشر يعانون من شبح البطالة، مع أن الملايين من البشر يدرسون علم الاقتصاد والتجارة والإدارة المالية، وكثير منهم يتخصصون فيه.
يقول الخبير الاقتصادي السياسي هيلموت شميت (رئيس وزراء سابق لجمهورية ألمانيا الاتحادية): لقد دخل الاقتصاد العالمي مرحلة من عدم الاستقرار غير العادي… ولم يعد مساره المستقبلي مؤكدا على الإطلاق. ذكره الأستاذ الدكتور محمد عمر شابرا( )، ثم عقب عليه بقوله: هذا ما كتبه هيلموت شميت منذ حوالي عقد مضى. أجل لقد ترسخ عدم الاستقرار، واستمر عدم اليقين، وبعد أن مرَّ الاقتصاد العالمي بآلام معدلات التضخم المرتفعة والمزعجة، شهد ركوداً عميقاً، كما شهد معدلات بطالة لم يسبق لها مثيل، زاد من حدتها ارتفاع مستويات معدلات (الربا)( ) الفعلية، وتقلب أسعار الصرف تقلبات غير صحيحة، أضف إلى ذلك الارتفاع الحاد لسعر النفط الخام.
ومع أن هناك بوادر تحسن، إلا أن حالة عدم اليقين لا تزال سائدة. وتستمر معدلات (الربا) الحقيقية مرتفعة، ويتوقع لها مزيد من الارتفاع، وهو ما يثير المخاوف من إجهاض ذلك التحسن. ويزيد من حدة هذه الأزمة وجود الفقر المدقع وسط الوفرة في كافة البلدان، ووجود أشكال مختلفة من الظلم الاقتصادي الاجتماعي، وعجز كبير في موازين المدفوعات، وعدم قدرة بعض الأقطار النامية على خدمة ديونها المذهلة.( )
ثم ذكر جذور الأزمة وتورط الأقطار الإسلامية فيها بتقليد الغرب فقال:
إن الأقطار الإسلامية لا تختلف عن غيرها في هذا الباب، فهي تواجه نفس المشكلات التي تواجهها الأقطار الأخرى، ذلك بأنها تقلد الغرب تقليداً أعمى في كل شيء، وترتكب نفس الخطأ في اعتبار الأعراض فقط، وليس فيها أي جهد جاد لمعرفة المصدر الأساسي لمشكلاتها، واختيار إستراتيجية ملائمة لحل هذه المشكلات في ضوء قيمها الخاصة ومعتقداتها.
إن جذور الأزمة في المنظار الإسلامي تبدو أعمق من ذلك، ولا يمكن حلِّ المشكلات من خلال تغييرات تجميلية فقط. بل هناك حاجة إلى إصلاح شامل، لأن الهدف هو الصحة الاجتماعية النابعة من صميم الوعي الإنساني المصحوب بالعدالة والاستقامة في كافة مستويات التفاعل البشري، ولا يمكن أن تتحقق هذه الصحة دون تحول أخلاقي للفرد والمجتمع الذي يعيش فيه هذا الفرد.( )
والعجيب أن عتاولة الاقتصاد والسياسة عجزت عن بيان أسباب ذلك الاضطراب، إذ يقول هنري كيسنجر (وزير الخارجية الأمريكي سابقاً): ليس ثمة أي نظرية سابقة تبدو قادرة على تفسير الأزمة الحالية للاقتصاد العالمي.
ذكره الخبير الاقتصادي د.محمد عمر شابرا وقال: وربما يميل أغلب رجال الاقتصاد إلى الاتفاق مع قول هنري كيسنجر.( )
ولو نظرنا إلى السبب لبطل العجب، وذلك أن من أعظم أسباب ذلك الاختلال الاقتصادي والاعتلال المالي هو ما يلي:
أولاً: الربا، الذي يدمر الحياة الاقتصادية، يقول الله تعالى ﴿يمحق الله الربا ويربي الصدقات﴾ [البقرة/276]، هذا هو السبب الأساس.
ثانياً: البيوع التي فيها الغرر والخداع.
ثالثاً: التبذير والإسراف والبخل.
رابعاً: السرقة وعدم وضع العقاب الزاجر لها.
خامساً: مخالفة شرع الله تعالى في مسلك النظام الاشتراكي وقيوده، والنظام الرأسمالي وإباحيته.
سادساً: البطالة.
سابعاً: الفقر. وقد عالج نبي الرحمة  هذه المشاكل، وهذه نماذج منها:

المبحث الأول: مشكلة الربا:
يقول الخبير الاقتصادي محمد شابرا: للإسلام مزايا فكرية تمكنه من تقديم برنامج لحل عادل وعملي للمشكلات التي تواجهها الأقطار الإسلامية، ويواجهها الجنس البشري كله، وذلك بشرط توافر الإرادة السياسية الضرورية لغرس تعاليمه وإقامة إصلاحاته. ولما كانت اقتصادات أغلب الأقطار الإسلامية لا تزال في مرحلة التشكل، فإنه لن يصعب على المسلمين كثيرا أن يعدوا تصميماً جديداً لاقتصاداتهم ولأنظمتهم المصرفية. ولكن مع مرور الزمن قد تزداد عليهم صعوبة تنفيذ الإصلاحات التي يتطلبها النظام الإسلامي.
إن لب النظام الإسلامي يكمن في معتقداته وأهدافه وقيمه الأساسية (بما في ذلك إبطال الربا) والسمو الأخلاقي للفرد. فهذه الأمور لا غنى عنها، وليست محدودة بزمن معين، وسواء في ذلك كنا نرجع النظر إلى أيام الرسول عليه الصلاة والسلام منذ أربعة عشر قرناً، أو كنا نمد النظر إلى القرن الهجري الخامس عشر. إن المؤسسات التي أقيمت لكي تحقق وتمثل هذه الأهداف والقيم، يمكن أن تتغير من زمن لآخر باختلاف الظروف. وعلى هذا لا يمكن لأي دراسة أن تقترح أساليب أو حلول خالدة. لكن من خلال تفاعل الأفكار، يمكن بمرور الوقت للنظام النقدي والمصرفي المنسجم مع عبقرية الإسلام، أن ينشأ ويتطور تدريجياً، لتمكين الأُمَّة الإسلامية من تحقيق تطلعاتها.( )
وقد عالج نبي الرحمة  هذه المشكلة بعدة أساليب:
1- التنفير من الربا وتحريمه، فقد تلا قوله تعالى ﴿وأحل الله البيع وحرّم الربا﴾[البقرة/275]، وأخرج مسلم من حديث جابر: "لعن رسول الله  آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء"( ).
2- جعل البديل للربا القرض الحسن، والترغيب في إنظار المعسر، فقد أخرج البخاري بسنده أن حذيفة  قال: قال النبي : "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: كنت آمر فتياني أن ينظروا ويتجاوزوا عن الموسر. قال: فتجاوزوا عنه".( )
3- وقد رغب ترغيباً عظيماً في الوضع عن المدين، وصحَّ عن أنه قال: "من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه".( )
وهنا لابد من الإشارة والإشادة بالمصارف الإسلامية التي لا تتعامل بالربا بل لابد من الاحتفاء والثناء على البنوك التي تقرض المحتاجين قرضاً حسناً، والتي تقوم عليه حكومة المملكة العربية السعودية مثل بنك التسليف الزراعي وبنك التنمية العقارية. ولقد ساهمت هذه البنوك المباركة في النهضة الاقتصادية والاجتماعية والصحية.
المبحث الثاني: مشكلة الفقر
تعاني مئات الملايين من البشر من مشكلة الفقر بسبب الاضطراب الاقتصادي والتبذير المتمادي، لقد عالج نبي الرحمة  الفقر علاجاً ناجحاً بعدة أساليب ومنها:
1- الترغيب في العمل الحر والمهن، وخصوصاً أن الناس في هذا الزمان يرغبون الوظيفة، فقد رغَّب النبي  في البديل عن ذلك، وصحَّ عنه أنه قال: "ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"( ).
2- بيان حق إحياء الأرض الموات وتمليكها، فقد أباح للمسلم أن يستفيد من أرض لم تملك فيقوم بزراعتها أو بنائها، فقد ثبت عن عروة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي  قال: "من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق". قال عروة: قضى به عمر  في خلافته.( )
قال القزاز: الموات الأرض التي لم تعمر شبهت العمارة بالحياة وتعطيلها بفقد الحياة، وإحياء الموات أن يعمد الشخص لأرض لا يعلم تقدم ملك عليها لأحد فيحييها بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء فتصير بذلك ملكه، سواء كانت فيما قرب من العمران أم بعد، سواء أذن له الإمام في ذلك أم لم يأذن، وهذا قول الجمهور. وعن أبي حنيفة لا بد من إذن الإمام مطلقاً.( )
وكذلك الفقراء من أهل الذمة، فقد راعى الإسلام أهل الذمة في إحياء الأرض الموات وذلك لرعايتهم وقضاء حاجتهم وعوزهم فقد رأى بعض الفقهاء تمليك الذمي بالإحياء إذا كان بإذن الإمام.
قال العيني: ثم عندنا يملكه الذمي بالإحياء كالمسلم، وبه قال مالك وأحمد في رواية.( )
3- الزكاة والصدقات للفقراء من المسلمين وغير المسلمين، إن الزكاة هي صمام الأمن للنظام الاقتصادي في الإسلام، إذ يحصل بها سدّ حاجات أنواع المحتاجين ويتحقق بها حقوق المستحقين لها، ولقد بين الله تعالى وجوب الزكاة وبين الفئات الثمان المستحقة لها في قوله تعالى: ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم﴾[التوبة/60]، وقد صحَّ عنه  أنه بعث معاذاً  إلى اليمن فقال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم".( )
4- أن علاج مشكلة الربا السابقة هي من أسباب علاج الفقر.
5- كما عالج مشكلة شريحة كبيرة من الفقراء العاطلين عن العمل كما في المبحث التالي.
إنه دين البشرية والرحمة النبوية، إذ يراعي الفقر عامة في المسلم وغير المسلم، واختم هذا المبحث بقول الأستاذ الفرنسي ليون في كتابه (ثلاثون عاماً في الإسلام): وجدت هذا الدين أفضل دين عرفته، فهو دين إنساني اقتصادي أدبي.( )
المبحث الثالث: مشكلة البطالة
يتطلع الملايين من البشر إلى بصيص من الأمل للانخراط في ميدان العمل، فهذه الطاقات الجاثمة الهامدة لا تعرف الحياة الجادة، يعتريها نوم طويل ولهو ممل، لأنها لم تجد العمل فهي تنتظر اليد الحانية لتشغيلها، وقد عالجت السنة النبوية الشريفة هذه المشكلة بشتى الأساليب من الترغيب والتسهيل والإرشاد والعون، فقد صحَّ عن نبي الرحمة  أنه قال: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خيراً من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"( ).
فيرشد هنا إلى عمل الاحتطاب وهذا العمل يستنتج منه العمل في المهن الحرة، والاستفادة من الفرص المتاحة، وعدم الاعتماد على الآخرين في التشغيل، وعدم الحاجة إلى رأس المال.
وفيه الإشارة إلى الأعمال المباشرة التي لا تحتاج إلى تمويل وشراكة وتوظيف، كأعمال الصيد بأنواعه، والأعمال اليدوية، وإحياء الأرض الموات والاحتطاب والبحث عن الثمرات التي تحت الأرض كالكمأة، فقد أشار إليها نبي الرحمة  بقوله: "الكمأة من المن وماؤها شفاء العين"( )، ويستفاد منه للبحث عمّا امتن الله تعالى على عباده من دون زرع ولا سقي.
وكذلك عالج البطالة بإصلاح الأرض الموات وإعطاء الزكاة كما تقدم في علاج الفقر.
وصحَّ عنه: ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم( )، وفيه ترغيب في هذه الحرفة وبيان شرفها.
وهذه شهادات العلماء الغربيين عن تطور النمو الاقتصادي:
يخبرنا د.محمد وقيع الله أحمد عن البروفسور جير هاردت إندريس في كتابه (مقدمة عن الإسلام) إذ يقول: وقد تناول المؤلف مبادئ الاقتصاد الإسلامي بالتحليل والتعليل، وأبان عن آثار نمو الاقتصاد الإسلامي على المسلمين، من حيث توجيهه للنهضة والأخذ بأسباب القوة لأكثر من ثمانية قرون، وكان واضحاً أن المؤلف يرد بذلك على نظرية مناقضة تبناها من قديم الدكتور (ديفيد صمويل مارجليوث) في كتابه عن (المحمدية)، حيث فسر نجاح الدعوة الإسلامية من خلال تحليله لتصرفات الرسول الاقتصادية ذاكراً أنها تصرفات انتهازية، قصد بها الوصول إلى الحكم. ( )
ويقول العالم الأمريكي ول ديورانت: لسنا نجد في التاريخ كله مصلحاً فرض على الأغنياء من الضرائب ما فرضه عليهم محمد [] لإعانة الفقراء...( )
ويقول العالم الأمريكي مايكل هارث:
إن محمداً [] كان الرجل الوحيد الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي.. إن هذا الإتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معاً يخوله أن يعتبر أعظم شخصية ذات تأثير في تاريخ البشرية.( )
ويقول الأستاذ السويسري أدوار مونته مدير جامعة جنيف: وفضلا عن الأيمان فالإسلام، تمشى مع الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، وله ميزة عجيبة على التكيّف بحسب المحيط، وعلى تكييف المحيط حسب ما يقتضيه هذا الدين القوي، ولا شك أنه يعد من أكبر وسائل تمدين الناس وترقية أحوالهم الاجتماعية والخلقية والاقتصادية.( )
هذا وإن علاج الربا والفقر يتيح كثيراً من الأعمال والوظائف.

الباب الثالث
مكانة نبي الرحمة والحكمة 
الفصل الأول: مكانته عند الله تعالى والملائكة والجن
المبحث الأول: مكانة نبي الرحمة  عند الله تعالى

إن مكانة نبي الرحمة  عند الله الرحمن الرحيم حديث ذو شجون، إذ سطع وميضها منذ أن كان جنيناً في بطن أمه، فقد رأت خروج نور منها أضاءت له قصور الشام –كما تقدم في نشأته- ثم تلا ذلك إرهاصات مبكرة وبوادر عطرة منذ صباه عندما جاء الملك وشقَّ صدره - كما تقدم في السيرة - ثم حفظه سبحانه وتعالى له  من أدناس الجاهلية وأدران الشرك، وأتحفه بالشمائل الجميلة، والصفات الجليلة، التي جذبت انتباه المجتمع آنذاك حتى لقب بالصادق الأمين، كل هذا إعداد لتلك المهمة العظمى من أجل الرسالة الخالدة.
إن هذه العناية الإلهية بنبي الرحمة  تنوعت بضروب من البشارات والشهادات والمعجزات والآيات التي تأمر بطاعته وحبه وتوقيره والانتصارات حتى بلغت به إلى سيادة البشرية في الدنيا وإلى المقام المحمود في الآخرة، ومن هذه الضروب ما يلي:
أولا: البشارات:
لقد بشَّر الله تعالى ببعثة النبي  في التوراة والإنجيل، كما سيأتي ذكره في مكانة نبي الرحمة عند الأنبياء.
ثانياً: الشهادات:
شهد الله تعالى بمكانة نبي الرحمة  في القرآن الكريم في آيات كثيرة منها ما يأتي:
1- قوله تعالى: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ [القلم/4]، وبيان هذا الخلق العظيم هو ما جاء بالقرآن من مكارم الأخلاق ومعالي الآداب كما صحَّ عن عائشة  أنها قالت: "كان خلقه القرآن"( ).
2- قوله تعالى: ﴿ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك. ورفعنا لك ذكرك﴾. [الشرح/1-4].
3- قال تعالى: ﴿عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً﴾ [الإسراء/79].
4- قوله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ [الأنبياء/107]، وهذه الآية تؤكد بعدة أساليب على عظيم قدره وفضله على الإنس والجن برحمته الشاملة التي تدل على عظيم قدره وعظمة فضله على الإنس والجن.
5- قوله تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو لقاء الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً﴾ [الأحزاب/21].
6- قوله تعالى: ﴿إنا أعطيناك الكوثر﴾ [الكوثر/1].
7- قوله تعالى ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾ [التوبة/128].
ومن الآيات التي فيها الأمر بمحبته وطاعته وتوقيره وإتباعه ما يلي:
1- قوله تعالى: ﴿وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين﴾ [آل عمران/81].
2- قوله تعالى: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم﴾ [آل عمران/31].
3- قوله تعالى: ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ [النساء/59].
4- قوله تعالى: ﴿لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً﴾ [الفتح/9].
5- قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم، يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون﴾ [الحجرات/1-2].
6- قوله تعالى: ﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون﴾ [الأعراف/157].
وهكذا تتجلى بعض الوجوه لمكانة هذا النبي  الحكيم عند الله تعالى الكريم.
ثالثاً: نصرته سبحانه لنبيه وتتضمن ما يلي:
1- نصرته من المشركين والمنافقين.
2- نصرته في الردِّ على المنافقين والمشركين.
3- نصرته من اليهود.
4- نصرته في غزواته التي انتصر فيها.
رابعاً: المعجزات، وهي كثيرة كانشقاق القمر، وخروج الماء من يده الشريفة ، وفي قصة الإسراء، وصحَّ عنه أنه قال: "لما كذبتني قريش قمتُ في الحجر فجلَّى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا انظر إليه"( ).
خامساً: تخييره بين الحياة والممات كما تقدم في آخر السيرة، مما يدل على علو مكانته وخصائصه.
المبحث الثاني
مكانته  عند الملائكة والجن
إن مكانة نبي الرحمة  عند الملائكة عليهم السلام تبدأ منذ أن كان صبياً  حين قام بعضهم بشق صدره فقد أُمروا بذلك، فعرفوا قدره وكان أكثر الملائكة معرفة بعظيم قدر نبي الرحمة  هو جبريل عليه السلام أعظم الملائكة فقد كانت علاقته مع نبي الرحمة مدة ثلاث وعشرين سنة من بعثته  حتى وفاته، فعرف مكانته عند الله تعالى إذ هو سبحانه الذي يأمر جبريل بالنـزول وكان أكثر نزولاً وصلة بنبي الرحمة قبيل وفاته كما تقدم في سيرته.
ومن الملائكة الذين عرفوا مكانة نبي الرحمة  خزنة السماوات السبع عليهم السلام، فقد تقدم في قصة الإسراء والمعراج الحوار بين جبريل وخزنة السماوات حينما استأذن جبريل خازن السماء الأولى بالدخول إذ قال لجبريل: من معك؟ قال: محمد. فسأل خازن السماء جبريل: أو قد بعثت؟ويستفاد من هذا أنه قد علم أنه سيبعث نبي الرحمة  ولكنه لم يعلم أنه قد بعث منذ تسع سنين، وهذا يدلنا أن أخبار عالم السماء الأولى غير عالم الأرض، ويستفاد من ذلك أن خازن السماء الأولى عرف قدر نبي الرحمة  إذ فتح له باب السماء الأولى، وقد تكرر الحوار نفسه في بقية السماوات الأخرى إلى السماء السابعة، حصل السؤال نفسه، مما يدل أنهم كلهم عرفوا مكانة نبي الرحمة ولهذا فتحوا له أبواب السماء، تمكيناً له من هذه الرحلة التي علمه الله تعالى وكرمه بل وكلمه سبحانه وتعالى عدة مرات كلما طلب التخفيف عنّا في فرض الخمسين صلاة.
هذا وإن الملائكة التي شاركت في بدر علمت من هو نبي الرحمة، وأدركت عظيم قدره حينما استجاب الله دعاءه، ونصره نصراً مؤزراً.
هذا بالنسبة للملائكة الذين وصلت أخبارهم بالروايات الصحيحة، ويمكن الجزم بأن جميع الملائكة عرفت قدر نبي الرحمة  وأدركت منـزلته العالية، لأن الله تعالى اصطفاه وأحبه وأمر باتباعه، وإذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني أُحبُّ فلاناً، فيحبه جبريل وينادى مَن في السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه من في السماء ويكون له القبول في الأرض( ).
فكيف بعبده ورسوله؟ لاشك أن جميع الملائكة تحبه . وبهذا تتجلى معرفة مكانته  عند جميع الملائكة عامه وعند كبار الملائكة خاصة.
أما مكانته عند الجن فقد قصَّ الله تعالى في قوله تعالى ﴿وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولو إلى قومهم منذرين. قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاب أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم. ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه من أولياء أولئك في ضلال مبين﴾ [الأحقاف/29-32].
تفسيره: يُثني الله تعالى على الجنّ المؤمنين وسماعهم القرآن من النبيّ  حين بعث الله تعالى طائفة من الجنّ يستمعون القرآن من النبي ، فلمّا حضروا التلاوة قال بعضهم لبعض: أنصتوا لنستمع القرآن، فلمّا فرغ من التلاوة رجعوا إلى قومهم يُخوّفونهم العذاب إن لم يؤمنوا بالله تعالى.
ودعوا قومهم بنداء النسب لاستمالتهم يُبشّرونهم أنّهم سمعوا قرآناً عجيباً أُنزل من بعد موسى  مصدّقاً لما تقدّمه من الكتب المنـزّلة، يهدي إلى الدين الحقّ والطريق الصحيح، يا قومنا أجيبوا محمّداً رسول الله  الذي يدعو إلى الإيمان بالله، وصدّقوا برسالته، يغفر الله من ذنوبكم ويخلّصكم من عذاب موجع، ومن لا يجب رسول الله إلى دين الإسلام فلن يفلت من الله طلباً ولا يُعجزه هرباً، وليس له أنصار يمنعونه من عذاب الله، أولئك البعداء عن الحقّ في ضلال عن الحقّ ظاهر. ( )
وقوله تعالى ﴿قل أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً. يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا﴾ [الجن/1-2].
وتفسيره: يأمر الله تعالى رسوله محمّداً  أن يقصّ على العباد ما أُوحي إليه من قصّة الجنّ معه وسماعهم تلاوة القرآن منه وسرعة استجابتهم له، وفي ذلك تشويق وتهييج للبشرية للمسارعة إلى هداية القرآن الحكيم الذي سمعه طائفة من الجنّ فقالوا معجبين بهديه: إنّنا أنصتنا وسمعنا تلاوة قرآن عجيب في بيان هديه وأحكامه، ويدلّ العباد إلى سبيل الرشاد، ويهدي إلى اتّباع الحقّ، فصدّقنا بالقرآن أنّه من عند الله، ولن نُشرك بعبادة ربّنا أحداً من خلقه.
وقوله تعالى ﴿وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً﴾ [الجن/13].
وتفسيره وأنّنا لمّا سمعنا الهدى المفصّل في القرآن صدّقنا أنّه من عند الله، فمن يصدّق بربّه فلا يخاف نقصاناً من حسناته، ولا ظلماً بزيادة في سيئاته.
ومن هذه الآيات الكريمة يتبين لنا أن طائفة من الجن قد دخلوا الإسلام لأنهم صدقوا بما جاء به نبي الرحمة  مما يدل على تعظيم قدره ، ويمكن القول أن جميع الجن المؤمنين منذ عهد النبي  إلى يومنا هذا يدركون علو مكانة النبي  بدليل أنهم دخلوا في الإسلام طائعين مقتنعين. ( )
ونقل الحافظ الذهبي روايات صحيحة عن معرفة الجن بنبي الرحمة ، فأخرج بسنده عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: ما سمعت عمر  يقول لشيء قط إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن، فبينا عمر جالس إذ مرَّ به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني، أو أن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، على الرجل، فدعا له فقال له عمر: لقد أخطأ ظني أو أنك على دينك في الجاهلية أو لقد كنت كاهنهم، فقال: ما رأيت كاليوم استُقبل به رجل مسلم، قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، فقال: كنت كاهنهم في الجاهلية، فقال: فما أعجب ما جاءتك به جِنِّيتك؟ قال: بينا أنا جالس جاءتني أعرف فيها الفزع قالت: ألم تر الجن وإبلاسها، ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص( ) وأحلاسها( ). قال عمر صدق، بينا أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ منه صارخ لم أسمع صراخاً أشد صوتاً منه، يقول: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، فأعاد قوله، قال: فقمت فما نَشِبت أن قيل: هذا نبي.( )

الفصل الثاني
مكانته  عند البشر، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مكانته  عند الأنبياء صلى الله عليهم وسلم

لقد تبوء نبي الرحمة  عند الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مكانة مرموقة، وذلك من خلال بشارتهم في كتبهم السماوية، ومن خلال شهاداتهم عند لقائه  في الرحلة السماوية، وأعظم مشهد في تلك الرحلة بالإسراء والمعراج صلاته إماماً بالأنبياء والمرسلين كلهم، فقد أمّهم جميعاً في بيت المقدس، كما تقدم في سيرته في المبحث السادس من العهد المكي.
حقاً إنها مكانة علياء وربِّ السماء، وذلك بسيادة الأنبياء التي تبشر بسيادة الأمراء والعلماء، وأما الحديث عن بشاراتهم، فقد عقد البخاري باباً بعنوان: خاتم النبوة، ثم ساق حديثاً عن السائب بن يزيد  أنه رأى خاتم النبوة بين كتفيه. ( )
قال الحافظ ابن حجر: قوله (باب خاتم النبوة) أي صفته، وهو الذي كان بين كتفي النبي ، وكان من علاماته التي كان أهل الكتاب يعرفونه بها. ( )
من أين هذه المعرفة لأهل الكتاب؟ إنها من كتبهم السماوية التي بشرت بهذه البشارة.
صفة رسول الله  من الإنجيل
نقل المؤرخ ابن هشام عن ابن إسحاق بشرى عيسى الحواري برسول الله  فقال: وقد كان فيما بلغني عما كان وضع عيسى بن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله ، مما أثبت يُحَنَّس الحواري لهم، حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى بن مريم عليه السلام في رسول الله  إليهم أنه قال: فلو قد جاء المُنحمنَّا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الربِّ، وروح القدس، هذا الذي من عند الرب خرج، فهو شهيد عليَّ وأنتم أيضاً، لأنكم قديماً كنتم معي في هذا قلت لكم: لكيما لا تشكُّوا.
والمنحمنا (بالسريانية) محمد، وهو بالرومية: البرقليطس، .( )
وهو كما قال إذ يؤيد ذلك ما ورد في إنجيل يوحنا الذي كتب باليوناينية استعمل الاسم: باراكليتوس، وهي توافق وتطابق تماماً اسم أحمد في معناه ومغزاه. هكذا قال خبير الإنجيل البروفيسور عبد الأحد داود. ( )
وقد نقل لنا نصاً آخر من الإنجيل في الإصحاح الثاني من سفر حجي فيه البشرى بمبعث محمد  وهذا نصه:
"ولسوف أُزلزل كل الأمم، وسوف يأتي (حِمدَا himada) لكل الأمم، وسوف أملأ هذا البيت بالمجد، كذلك قال ربُّ الجنود، وليَّ الفضة، وليَّ الذهب، هكذا يقول ربُّ الجنود، وإن مجد ذلك البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول، هكذا يقول ربُّ الجنود، وفي هذا المكان أعطي السلام، هكذا يقول ربُّ الجنود". ويقول عبد الأحد:
ولقد قمت بترجمة هذه الفقرة المذكورة من النسخة الوحيدة من الإنجيل التي كانت بحوزتي، والتي أعارتني إياها سيدة أشورية كانت ابنة عمٍّ لي، والنسخة هذه باللغة الوطنية الدارجة آنذاك، ولكن دعنا نرجع إلى الترجمة الإنجليزية للكتاب المقدس، والتي نجد أنها ترجمت عن الأصل العبري كلمة (حمدا) إلى (الأمنية) وكلمة (شالوم) إلى (الإسلام).
ولقد أولى المعلقون اليهود والمسيحيون سواءً بسواء، أعظم الأهمية للوعد المزدوج الذي احتوته النبوءة المذكورة آنفاً. وهؤلاء المعلقون يعرفون النبوءة المسيحية المتعلقة بالكلمة (حمدا)، وفي الحقيقة هناك نبوءة رائعة أثبتتها الصياغة الإنجيلية العادية للقسم الإلهي "يقول الرب إله الصَّباءوات (الملائكة)" ذلك القسم الذي أعيد ذكره أربع مرات. فإذا أخذنا هذه النبوءة بالصيغة التجريدية لكلمتي (حمدا) و(شالوم) على أنهما (الأمنية) و(السلام)، فحينئذ تصبح تلك النبوءة لا شيء أكثر من همس غامض مبهم ولا يُفهم معناه، ولكن إذا فهمنا المقصود من التعبير بكلمة (حمدا) بأنه فكرة ثابتة عن شخص أو عن حقيقة واقعة.
ومن المستحسن قبل محاولة إثبات نفاذ ومطابقة هذه النبوءة إيضاح وتعليل أصول هاتين الكلمتين بصورة مختصرة وبقدر المستطاع:
- لنأخذ كلمة (حمدا) ولعلي لست مخطئاً فإنها تقرأ باللغة العبرية الأصلية هكذا (في يافو حمداث كول هاجوييم) والتي تعني حرفياً (وسوف يأتي حمدا لكل الأمم) والحرفان (ها) في اللغة العبرية يقابلهما في اللغة العربية (أل) للتعريف، أو (ل)عندما تكون في حالة الجر، والكلمة مأخوذة من اللغة العبرية القديمة أو لعلها الآرمية، وفي الأصل(حِمْدْ) بالحرف الساكن، ويلفظ بدون التسكين (حِمِدْ). وفي اللغة العبرية (حِمِدْ) تستعمل عادة لتعني (الأمنية الكبيرة) أو (المشتهى) أو (الشهية) أو (الشائق). وقد جاء في الوصية التاسعة من الوصايا العشر (لو تاهمود إيش رايخا) ومعناها (لا تشته زوجة جارك) وفي اللغة العبرية يأتي الفاعل (حِمِيدا) من نفس الحرف الساكن (حِمْدْ، ومعناها: الحمد) وهكذا؟
وهل هناك شيء أكثر من المدح وحسن الأحدوثة يتوق إليه البشر ويشتهيه الإنسان أو يرغب فيه؟ وأيَّاً من المعنيين تختار، فإن الحقيقة الناصعة تبقى بأن كلمة (أحمد) هي الصيغة العربية لكلمة (حِمْدا) وهذا التفسير هو تفسير قاطع لا ريب ولا مراء فيه.( )
وقد عقد فصلاً بعنوان: يوحنا المعمدان تنبأ بمحمد، كما نقل عن إنجيل برنابا أن عيسى يتكلم عن روح محمد، وبرهن أن كلمة البرقليط تعني أحمد ومحمد، فقال:
إن التنـزيل القرآني القائل بأن عيسى بن مريم أعلن لنبي إسرائيل أنه كان ﴿ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد﴾[الصف/6] واحد من أقوى البراهين على أن محمداً كان حقيقة نبياً وأن القرآن تنـزيل إلهي فعلاً، إذ لم يكن في وسعه أبداً أن يعرف أن كلمة البرقليط كانت تعني: أحمد إلا من خلال الوحي والتنـزيل الإلهي. وحجة القرآن قاطعة ونهائية، لأن الدلالة الحرفية للاسم اليوناني تعادل بالدقة ودون شك كلمتي (أحمد ومحمد) ( ).
ويذكر الشيخ النجار حواراً دار بينه وبين المستشرق الإيطالي (كارلونلينو) - وكان بينهما صداقة - حول معنى (البارقليط) قال: قلت له: ما معنى (بيركلوتس)؟ فأجابني بقوله: "إن القسس يقولون إن هذه الكلمة معناها (المُعزَّى)" فقلت: إني أسأل الدكتور (كارلونلينو) الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة ولست أسأل قسيساً! فقال: إن معناها: الذي له حمد كثير. فقلت: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حمد؟ فقال: نعم. فقلت: إن رسول الله  من أسمائه أحمد. فقال: يا أخي أنك تحفظ كثيراً ثم افترقنا، وقد ازددت تثبتاً في معنى قوله تعالى حكاية عن المسيح ﴿ ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد﴾ [الصف/6].( )
وقد صحَّ عن جُبير بن مُطعم  أنه قال: قال رسول الله : "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر يُحشَرُ الناس على قدمي وأنا العاقب"( ).
وله أسماء أخرى، قال الحافظ ابن حجر: وقيل الحكمة في الاقتصار على الخمسة المذكورة في هذا الحديث أنها أشهر من غيرها موجودة في الكتب القديمة وبين الأمم السالفة. ( )
قال العلامة القرافي: البشارة الثلاثون: قال أشعياء عليه السلام في نبوءته منبهاً على محمد : عبدي الذي يرضى نفسي، أعطيه كلامي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصيهم بالوصايا، لا يضحك ولا يصخب، يفتح العيون العور، ويسمع الآذان الصم، ويحي القلوب الميتة، وما أعطيه لا أعطيه غيره أحد يحمد الله حمداً حديثا، يأتي من أفضل الأرض فتفرح به البرية وسكانها، ويوحدون الله تعالى على كل شرف، ويعظمونه على كل رابية، لا يضعف ولا يغلب ولا يميل إلى الهوى، ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصب الضعيف، بل يقوي الصدِّيقين المتواضعين، وهو نور الله تعالى الذي لا يطفأ، أثر سلطانه على كتفه.( )
البشارة الثانية والثلاثون: قال أشعياء عليه السلام في نبوءته: يا آل إبراهيم خليلي الذي قوتيه ودعوته من أقاصي الأرض، لا تخف ولا ترهب فأنا معك، ويدي العزيزة مهدت لك، جعلتك مثل الجرجر الحديد يدق ما يأتي عليه دقاً، ويسحقه سحقاً حتى يجعله هشيماً يلوى به هوج الرياح، وأنت تبتهج وترتاح ويكون محمداً.
البشارة الثالثة والثلاثون: قال اشعياء عليه السلام في نبوءته معلناً باسمه : إني جعلت اسمك محمداً يامحمد، يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد.
البشارة السابعة والثلاثون: قال أشعياء عليه السلام في نبوءته: إنا سمعنا في أطراف الجبال صوت محمد.
البشارة الثانية والأربعون: قال النبي حبقوق عليه السلام في نبوءته: إن الله تعالى جاء من التيمن، والقدوس من جبال فاران، لقد أضاءت السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من حمده، وشاع منظره مثل النور، يحوط بلاده بعزة.
البشارة الخامسة والأربعون: قال دانيال عليه السلام في نبوءته مخاطباً لمحمد : ستنـزع من قسيك إغراقا، ترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء.( )
من أجل ذلك أعلن النجاشي إسلامه وقال: أشهد أنه رسول الله فإنه الذي نجد في الإنجيل، وإنه الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم. ( )
صفة رسول الله  في التوراة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد  عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم. ( )
أخرج الإمام الذهبي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل كعب الأحبار: كيف تجد نعت رسول الله  في التوراة؟ قال: نجده محمد بن عبد الله يولد بمكة، ويهاجر إلى طابة، ويكون ملكه بالشام، وليس بفحَّاش ولا سخَّاب في الأسواق ولا يكافئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر. ( )
ويشهد له ما أخرجه البخاري بسنده من حديث عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قلت: أخبرني عن صفة رسول الله  في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح بها أعين عميٌ وآذان صمٌ وقلوبٌ غلفٌ. ( )
وأخرج الإمام أحمد بسند حسن عن ابن مسعود  قال: إن الله  ابتعث نبيه  لإدخال رجلٍ إلى الجنة، فدخل الكنيسة، فإذا هو بيهود، وإذا يهودي يقرأ عليهم التوراة، فلما أتوا على صفة النبي ، أمسكوا، وفي ناحيتها رجل مريض، فقال النبي : "ما لكم أمسكتم؟" قال المريض: إنهم أتوا على صفة نبي، فأمسكوا، ثم جاء المريض يحبو، حتى أخذ التوراة، فقرأ حتى أتى على صفة النبي  وأمته، فقال: هذه صفتك وصفة أمتك، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم مات، فقال النبي  لأصحابه: "لُوا أخاكم".( )
نقل المؤرخ الذهبي بُشرى ورقة بن نوفل بمبعثه  فقال: قال ابن إسحاق: وكانت خديجة قد ذكرت لعمها ورقة بن نوفل - وكان قد قرأ الكتب وتنصَّر - ما حدثها ميسرة من قول الراهب وإظلال الملكين، فقال: لئن كان هذا حقاً يا خديجة إن محمداً لنبي هذه الأُمَّة، وقد عرف أن لهذه الأُمَّة نبياً ينتظر زمانه، قال وجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول: حتى متى، وقال قصيدة.( )
ومن الذين علموا بمبعث النبي  وصفته عبد الله بن سلام، قال الواحدي قوله تعالى ﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾[البقرة/146]، نزلت في مؤمني أهل الكتاب: عبد الله بن سَلام وأصحابه، كانوا يعرفون رسول الله  بنعته وصفته ومبعثه في كتبهم، كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان.
قال عبد الله بن سلام : لأنا كنت أشدَّ معرفة برسول الله  مني بابني. فقال له عمر بن الخطاب: وكيف ذاك يا بان سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمداً رسول الله حقاً يقيناً، وأنا لا أشهد بذلك على ابني، لأني لا أدري ما أحدث النساء. فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام. ( )
وعبد الله بن سلام خبير بالتوراة، فهو الذي فضح الذين كتموا حكم الرجم.( )
ونقل الحافظ ابن حجر عن البغوي وابن سعد وابن شاهين وابن السكن من طريق خليفة بن عبدة المنقري قال: سألت محمد بن عدي بن ربيعة كيف سمَّاك أبوك في الجاهلية محمداً؟ قال: سألت أبي عمَّا سألتني فقال: خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا أحدهم وسفيان بن مجاشع ويزيد بن عمرو بن ربيعة وأُسامة بن مالك بن حبيب بن العنبر نريد ابن جفنة الغساني بالشام، فنـزلنا على غدير عند دير، فأشرف علينا الديراني فقال لنا: إنه يبعث منكم وشيكاً نبي فسارعوا إليه، فقلنا ما اسمه؟ قال: محمد. فلما انصرفنا وُلد لكل منا ولد فسماه محمد لذلك. ( )
من أين أتى ورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام وعدي بن ربيعة بهذا النبأ؟ إنه من كتب أهل الكتاب السماوية.
يقول برنابا: سيأتي مسيا (أي الرسول) المرسل من الله لكل العالم،... وحينئذ يسجد لله في كل العالم وتنال الرحمة.( )
ذكر نبي الرحمة في مزامير وزبور داود
قال القرافي: البشارة الحادية والعشرون: قال داود عليه السلام في مزاميره: سيكون من يحوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض (بحر أهل الجزائر بين يديه)، ويلحس أعداؤه التراب، وتسجد له ملوك الفرس، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، ويخلص (المضطهد البائس) ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالمساكين والضعفاء، ويصلي عليه ويبارك في كل حين. ( )
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية من مزامير داود: ومحمد قد عمّ الأرض كلها فرحاً.( )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة محمد  باسمه. ( )
وأما الحديث عن شهاداتهم فقد شهد ثلة من الأنبياء بصدق نبوته وصلاح شخصيته في لقائه بهم أثناء عروجه  إلى السموات السبع، وذلك حينما قال آدم  مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح في السماء الأولى، ثم قول عيسى ويحيى بن زكريا  عندما قالا: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح في السماء الثانية، وكذا قال يوسف  في السماء الثالثة، ثم أدريس  في السماء الرابعة، ثم هارون  في السماء الخامسة، ثم موسى  في السماء السادسة، ثم إبراهيم  في السماء السابعة.

المبحث الثاني
مكانته  عند المسلمين
إن مكانة نبي الرحمة  عند المسلمين حافلة بالوقائع الجميلة، والمناقب الجليلة منذ أن كان مع صحابته رضوان الله عليهم إلى أن فارقهم في ذلك اليوم المحزن، وتتجددُ تترى تلك الوقائع إلى يومنا هذا، فلو نظرنا إلى مكانته عند الصحابة فإنهم يفدونه بأنفسهم وآبائهم وأمهاتهم إذ تغلغل حبه في عروقهم حتى طغى على نفوسهم وهكذا ينبغي علينا جميعاً.
ولا شك أن الشمائل الكريمة التي اتصف بها والسيرة العظيمة التي تميز بها تركت آثاراً كبيرة في نفوس الصحابة  والأُمَّة جميعاً إلى يومنا هذا.
وأذكر في هذا المقام وصفاً لعروة بن مسعود الذي كان أحد المفاوضين من كفار قريش مع نبي الرحمة يوم الحديبية، فقد رأى تعظيم الصحابة  له  فقال: واللهِ لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد  محمداً، والله إن تنخم نُخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.( )
هذا في حياته، وأما عند وفاة نبي الرحمة  فقد كان مشهداً هزَّ المشاعر، وأخفق القلوب، وأذرف العيون، بل أن عمر  لم يصدق بذلك النبأ وأنكر ذلك! فقد صحَّ عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي  أن رسول الله  مات وأبو بكر بالسُنح، - يعني بالعالية- فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله ، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله  فقبَّله، قال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رِسلك، فلمّا تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمداً  فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال ﴿إنك ميت وإنهم ميتون﴾ [الزمر/30]، وقال ﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين﴾ [آل عمران/144]، قال: فنشج الناس يبكون( ).
ولا زال هذا الزلزال يعتبر عند المسلمين أكبر مصيبة حتى تقوم الساعة.
تقول أُم سلمة رضي الله عنها: فيا لها من مصيبة! ما أُصبنا بعدها بمصيبة إلا هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به .( )
وأنشد علي بن حجر السعدي ت244هـ:
وإذا ذكرت مصيبة تشجى بها فاذكر مصابك بالنبي محمد.( )
ومن أعظم ما قام به الصحابة  من تعظيم نبي الرحمة  حفظ سنته في أقواله وأفعاله وتقريراته، فقد انبرى ثلة من الرجال والنساء فحفظوها وبلَّغوها إلى التابعين رحمهم الله تعالى الذين قاموا بهذه السنة حفظاً وعلماً وتعليما ً وعملاً ونشروها في بلاد المسلمين ودافعوا عنها من هجوم المعتدين، وبدءوا بكتابتها في الدواوين وقد أخذها أتباعهم واعتنوا بها قولاً وعملاً وكتابةً وجمعاً وتدريساً وانبروا إلى فضح الوضَّاعين.
وقد اشتهر جمع كبير من الصحابة والتابعين برواية الحديث الشريف حتى حفلت الكتب بعشرات الألوف من مروياتهم القولية والفعلية، والتي أنارت مدارس الحديث الحافلة بطبقات الحفاظ من القرن الثاني إلى عصرنا الحاضر الذي ازدان بالبرامج الحاسوبية، والموسوعات الإلكترونية، حتى بلغ عدد الرواة ما يقارب نصف المليون.
أضف إلى ذلك تدريس الحديث الشريف في المدارس والجامعات والتخصص فيه بالدراسات العليا وكليات الحديث الشريف، والجوائز التي رصدت لحفَّاظ الحديث، وأضف إلى ذلك زيارة المسجد النبوي مئات الملايين من المسلمين يزور المسجد النبوي للسلام على نبي رحمة  والسلام على صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وبما أن الزوار يتقاطرون ويتزايدون في كل عام فإن حكومة المملكة العربية السعودية أولت اهتماماً بالغاً في توسعة المسجد النبوي إذ قامت بعدة مراحل حتى بلغت إلى هذه التوسعة المباركة التي نشهدها اليوم والتي تعجب الزوار والحذاق من أرباب الهندسة المعمارية، كما انتشرت دروس الحديث الشريف عبر الإذاعات والقنوات الفضائية والشبكات العنكبوتية، وتكاثرت المؤلفات، ولو تتبعنا المؤلفات التي كتبت عنه لبلغت الألوف، وذلك في مدحه وسيرته وخصائصه وفضائله ومعجزاته ومكانته وشمائله ورحمته وسماحته وحكمته وأخلاقه وغزواته ومعاهداته وزوجاته وآل بيته .
وأما ذكره  وقت أذان الصلاة والإقامة لها فإن الكرة الأرضية كلها تنادي بذكره مقروناً بذكر الله تعالى، ولو تتبعنا خطوط الطول لرأينا ذكره طوال الأربع والعشرين ساعة.
وكذلك الصلاة والسلام عليه فإن مئات الملايين تلهج ألسنتهم بذلك، وأما الشعراء والأدباء فقد تغنوا بذكره ودبَّجوا القصائد والمدائح، ومن شدة حبِّه وتقديره فإن الأُمَّة قد أجمعت على حبِّ وتقدير أهل بيته الشريف فلهم مكانة كريمة وخصائص عظيمة، كل ذلك من أجل تعظيم قدر نبي الرحمة .
ومن المسلمين من كان غير مسلم ثم درس الإسلام ونبي الإسلام فعرف قدر نبي الرحمة  فدخل في دين الله تعالى راضياً مرضياً، وذلك لأن الدراسة العلمية المجردة من التعصب والحسد تدفع صاحبها إلى إتباع طريق الحق والإنصاف، وقد قام ثلة من المستشرقين بمثل هذه الدراسة للقرآن الكريم وتعمقوا فيه، وبعض من ترجموا معاني القرآن الكريم تأثروا بالقرآن الكريم، وأعلنوا إسلامهم نتيجة للاتصال المباشر بالقرآن الكريم، ودراسته، والتعمق فيه. ومن هؤلاء: ج. ل. بروكهارت (1784-1817) المستشرق الإنجليزي الذي قرأ القرآن وتفقه في الدين الإسلامي واعتنقه عام 1809. وكذلك ر. ف. بودلي Bodley الذي آمن بسلامة العقيدة الإسلامية وضمن هذا في مقدمة كتابه: الرسول، حياة محمد (لندن 1946)( ). والمستشرق فريتس كرنكوفKrenkow (1872-1952) الذي اعتنق الإسلام وسمى نفسه محمد سالم الكرنكوي. وله في الدراسات القرآنية تفسير ثلاثين سورة لابن خالويه (1936). وكذلك المستشرق مارمادوك وليم بكثول (1875-1936) الذي ترجم معاني القرآن الكريم (1930) وكان قد أعلن إسلامه وأصبح إماماً للمسلمين في لندن بعد رحلة إلى مصر حيث استدعاه اللورد كرومر عام 1904 ثم سافر إلى تركيا وعاد إلى مصر معلناً إسلامه. وتعدّ ترجمته لمعاني القرآن الكريم من أفضل الترجمات الإنجليزية( ). ومن هؤلاء المستشرقين أيضاً المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس (1884-1979) الذي أعلن إسلامه في مدينة دلهي (1931). ويعتبر المستشرق النمساوي ليوبولد فايس أشهر المستشرقين الذين ترجموا القرآن الكريم إلى الإنجليزية وأسلم وتسمى محمد أسد، وأسس بمعاونة وليم بكثول (الذي أسلم أيضاً) مجلة الثقافة الإسلامية في حيدراباد الدكن (1927) للرد على أخطاء المستشرقين( ). ومن المستشرقين الفرنسيين أسلم جينون رينيه Guenon René (المتوفى 1951) في عام 1927 وتسمى باسم عبدالواحد يحيي، وكان سبب إسلامه الآيات القرآنية المرتبطة بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، وكذلك أسلم المستشرق دينهEt Dinet (1861-1929) وتسمى بناصر الدين وحجَّ في عام 1928( ).
و(اللورد هدلي) الكاثوليكي سابقاً، وكرستيان شرفيس الفرنسي، ومارتن لينغر الإنكليزي( )، وإليكم بعض شهاداتهم وإعجابهم بنبي الرحمة  وهي كما يلي:
1- يقول المفكر الإنكليزي عبد الله كويليام:امتدت أنوار المدنية بعد محمد [] في قليل من الزمان ساطعة في أقطار الأرض من المشرق إلى المغرب حتى أن وصول أتباعه في ذلك الزمن اليسير إلى تلك المرتبة العلية من المدنية قد حير عقول أولي الألباب. وما السبب في ذلك إلا كون أوامره ونواهيه موافقة لموجب العقل ومطابقة لمقتضى الحكمة.( )
2- ويقول أيضاً: ما اهتدى مئات الملايين إلى الإسلام إلا ببركة محمد [] الذي علمهم الركوع والسجود لله، وأبقى لهم دستوراً لن يضلُّوا بعده أبداً وهو القرآن الجامع لمصالح دنياهم ولخير أخراهم...( )
3- ويقول أيضاً: لما شرف محمد [] ساحة عالم الشهود بوجوده الذي هو الواسطة العظمى والوسيلة الكبرى إلى اعتلاء النوع الإنساني وترقيه في درجات المدنية أكملا ما يحتاجه البشر من اللوازم الضرورية على نهج مشروع، وأوصل الخلق إلى أقصى مراتب السعادة بسرعة خارقة. ومن نظر بعين البصيرة في حال الأنام قبله عليه الصلاة والسلام وما كانوا عليه من الضلالة.. ونظر في حالهم بعد ذلك وما حصل لهم في عصره من الترقي العظيم رأى بين الحالين فرقاً عظيماً كما بين الثُريا والثَرى.( )
4- يقول المهندس العراقي أحمد نسيم سوسه – كان يهودياً ثم أسلم -:
أي غاية أسمى وأقرب إلى الإنسانية ودين الله من تلكم الغاية التي كان يرمي إليها الرسول  في توحيد القلوب وإظهار الحقيقة؟ لنتصور محمداً  وهو يملي على أهل الكتاب وحي الله قائلاً: ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون﴾ [آل عمران/64].( )
5- يقول العالم الفرنسي إيتين (ناصر الدين) دينيه: إن الشخصية التي حملها محمد [] بين برديه كانت خارقة للعادة وكانت ذات أثر عظيم جداً حتى أنه طبعت شريعته بطابع قوي جعل لها روح الإبداع وأعطاها صفة الشيء الجديد.( )
6- ويقول أيضاً: إن سنة الرسول الغراء [] باقية إلى يومنا هذا، يجلوها أعظم إخلاص ديني تفيض به نفوس مئات الملايين من أتباع سنته منتشرين على سطح الكرة.( )
7- ويقول أيضاً: كان النبي  يعنى بنفسه عناية تامة، إلى حد أن عرف له نمط من التأنق على غاية من البساطة، ولكن على جانب كبير من الذوق والجمال.( )
8- ويقول أيضاً: لقد دعا عيسى [عليه السلام] إلى المساواة والأخوة، أما محمد [] فوفق إلى تحقيق المساواة والأخوة بين المؤمنين أثناء حياته.( )
9- تقول المستشرقة الإنكليزية اللادي إيفلين كوبولد: لعمري، ليجدن المرء في نفسه، ما تقدم إلى قبر [الرسول ] روعة ما يستطيع لها تفسيراً... ذلك أنه أمام نبي مرسل وعبقري عظيم لم تلد مثله البطون حتى اليوم.. إن العظمة والعبقرية يهزان القلوب ويثيران الأفئدة فما بالك بالعظمة إذا انتظمت مع النبوة، وما بالك بها وقد راحت تضحي بكل شيء في الحياة في سبيل الإنسانية وخير البشرية.( )
10- وقالت أيضاً: هذه هي مدينة الرسول [].. تعيد إلى نفسي ذكرى جهوده في سبيل لا إله إلا الله، وتلقي في روعي صبره على المكاره واحتماله للأذى في سبيل الوحدانية الإلهية.( )
11- وقالت أيضاً: مع أن محمداً [] كان سيد الجزيرة العربية.. فإنه لم يفكر في الألقاب، ولا راح يعمل لاستثمارها، بل ظلَّ على حاله مكتفياً بأنه رسول الله، وأنه خادم المسلمين، ينظف بيته بنفسه ويصلح حذاءه بيده، كريماً باراً كأنه الريح السارية، لا يقصده فقير أو بائس إلا تفضل عليه بما لديه، وما لديه كان في أكثر الأحايين قليلاً لا يكاد يكفيه.( )
12- يقول الدكتور الإنكليزي م.ج.دوراني: إن هذا الإيمان وهذا السعي الحثيث وهذا التصميم والعزم الذي قاد به محمد  حركته حتى النصر النهائي، إنما هو برهان بليغ على صدقه المطلق في دعوته. إذ لو كانت في نفسه أدنى لمسة من شك أو اضطراب لما استطاع أبداً أن يصمد أمام العاصفة التي استمر أوارها أكثر من عشرين عاماً كاملة. هل بعد هذا من برهان على صدق كامل في الهدف واستقامة في الخلق وسمو في النفس كل هذه العوامل تؤدي لا محالة إلى الاستنتاج الذي لا مفر منه، وهو أن هذا الرجل هو رسول الله حقاً. هذا هو نبينا محمد ، إذ كان آية في صفاته النادرة، ونموذجاً كاملاً للفضيلة والخير، ورمزاً للصدق والإخلاص.. إن حياته وأفكاره وصدقه واستقامته، وتقواه وجوده، وعقيدته منجزاته، كل أولئك براهين فريدة على نبوته.
فأي إنسان يدرس دون تحيز حياته ورسالته سوف يشهد أنه حقاً رسول من عند الله، وأن القرآن الذي جاء به للناس هو كتاب الله حقاً.
وكل مفكر منصف جاد يبحث عن الحقيقة لابد أن يصل هذا الحكم.
13- ويقول أيضاً: وأخيراً أخذت أدرس حياة النبي محمد [] فأيقنت أن من أعظم الآثام أن نتنكر لذلك الرجل الرباني الذي أقام مملكة لله بين أقوام كانوا من قبل متحاربين لا يحكمهم قانون، يعبدون الوثن، ويقترفون كل الأفعال المشينة، فغيَّر طرق تفكيرهم، لا بل بدَّل عاداتهم وأخلاقهم، وجمعهم تحت راية واحدة، وقانون واحد، ودين واحد، وثقافة واحدة، وحضارة واحدة، وحكومة واحدة، وأصبحت تلك الأُمَّة، التي لم تنجب رجلاً عظيماً واحداً يستحق الذكر منذ عدة قرون، أصبحت تحت تأثيره وهديه تنجب ألوفاً من النفوس الكريمة التي انطلقت إلى أقصى أرجاء المعمورة تدعو إلى مبادئ الإسلام وأخلاقه ونظام الحياة الإسلامية، وتعلم الناس أمور الدين الجديد.( )
14- يقول الطبيب الفرنسي موريس بوكاي:
فإنه لولا أنه أتيحت لي فرصة إجراء بعض الاتصالات بالعالم الإسلامي لبقيت بلا شك ككثير من الغربيين متمسكاً بهذه العقيدة التي تعلمناها منذ عهد الطفولة، والذي نسمع أحياناً ما يدعى باسم (الدين المحمدي) كان ينظر إليه كظاهرة اجتماعية ثقافية، وبناء على هذا يستبعد تماماً كلُّ تلميح إلى ما يؤدي إلى التفكير في عدالته.( )
15- يقول المستشرق الفرنسي أميل درمنغم:
الحق أن النبي []لم يعرف الراحة ولا السكون بعد أن أوحى إليه في غار حراء، فقضى حياة يعجب الإنسان بها، والحق أن عشرين سنة كفت لإعداد ما يقلب الدنيا، فقد نبتت في رمال الحجاز الجديبة حبة سوف تجدد، عما قليل، بلاد العرب وتمتد أغصانها إلى بلاد الهند والمحيط الأطلنطي. وليس لدينا ما نعرف به أن محمداً [] أبصر، حين أفاض من جبل عرفات، مستقبل أمته وانتشار دينه، وأنه أحسَّ ببصيرته أن العرب الذين ألّف بينهم سيخرجون من جزيرتهم لفتح بلاد فارس والشام وأفريقية وأسبانية.( )
إن تعظيم قدر النبي  عند المسلمين أمر راسخ في نفوسهم، بشتى طبقاتهم وأصنافهم، من العالم والمثقف والجاهل وجميع العوام، وذلك لأن محبته واتباعه ونصرته عبادة أمر بها الله تعالى ﴿فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه فأولئك هم المفلحون﴾ [الأعراف/157].
من أجل ذلك قامت بعض المؤسسات الدعوية والفئات المثقفة بترتيب برامج ولجان لنصرة نبي الرحمة  لتشمل رحماته البشرية جميعاً بالتبصير والتحذير والتذكير والترغيب والترهيب، ومن ذلك (البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة ) الذي تشرف عليه رابطة العالم الإسلامي، التي جعلت مؤتمرها السنوي لهذا العام بعنوان (نصرة نبي الأُمَّة ).

المبحث الثالث
مكانة نبي الرحمة  عند غير المسلمين
وكما أن مكانته عند المسلمين قد أخذت صدارتها في القلوب، وتشربت في عروقهم، فكذلك عند غير المسلمين من المعتدلين الذين تعاملوا مع نبي الحكمة  ودرسوا سيرته ، وعرفوا رحمته، فقد سطَّروا في كتبهم ومقالاتهم شهادات منصفة ملؤها العدالة والوسطية، تنطق بالواقعية والمصداقية، حتى أن بعضهم قد دخل في دين الإسلام لِما رأى من الحق والعدل والصدق، وقد سبق ذكرهم في المبحث السابق.
لا أقول فيما ذكر من الشهادات أن هذا حق أُريد به باطل، أو أنه استئناس للقارئ حتى يُمهد لترويج الاتهامات وبثِّ الإشاعات. بل أقول إن القول الحق، نأخذ به ونبني عليه لعلاج المشكلات بالتي هي أحسن لبيان الحق ولإزالة التصور المشوه عن نبي الرحمة ، وتصحيح هذا المسار خصوصاً أن الشهادات قد صدرت عن شخصيات مرموقة من أساتذة الجامعة ومن أرباب القانون ودهاقنة المستشرقين وقيادات التربية.( )
وقد جمعت شهادات كثيرة جداً، وبعض أصحابها دخل في الإسلام كما تقدم في المبحث الثاني فلا داعي لتكرارها، ومن تلكم الشهادات التي نصَّت على عظمة هذا الرسول  ما يلي:
1- يقول العالم الأمريكي مايكل هارث:
إن هذا الاتحاد الفريد لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معاً يخول محمداً [] أن يعتبر أعظم شخصية مفردة ذات تأثير في تاريخ البشرية.( )
2- ويقول أيضاً: إن اختياري لمحمد [] ليكون رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم أعظم تأثير عالمي في مختلف المجالات، ربما أدهش كثيراً من القراء،.. ولكن في اعتقادي أن محمداً [] كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي.( )
3- يقول المؤرخ المسيحي المصري د.نظمي لوقا: ما كان محمد [] كآحاد الناس في خلاله ومزاياه، وهو الذي اجتمعت له آلاء الرسل [عليهم السلام]، وهمَّة البطل، فكان حقاً على المنصف أن يكرم فيه المثل، ويحيي فيه الرجل.( )
4- يقول المؤرخ الأمريكي فيليب حتي:
إذا نحن نظرنا إلى محمد [] من خلال الأعمال التي حققها، فإن محمداً الرجل والمعلم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد يبدو لنا بكل وضوح، واحداً من أقدر الرجال في جميع أحقاب التاريخ. لقد نشر ديناً هو الإسلام، وأسس دولة هي الخلافة، ووضع أساس حضارة هي الحضارة العربية الإسلامية، وأقام أُمَّة هي الأُمَّة العربية( ). وهو لا يزال إلى اليوم قوة حية فعالة في حياة الملايين من البشر.
5- ويقول أيضاً: صفات محمد [] مثبتة في القرآن بدقة بالغة فوق ما نجد في كل مصدر آخر. إن المعارك التي خاضها، والأحكام التي أبرمها، والأعمال التي قام بها، لا تترك مجلاً للريب في الشخصية القوية والإيمان الوطيد والإخلاص البالغ، وغير ذلك من الصفات التي خلقت الرجال القادة في التاريخ. ومع أنه كان في دور من أدوار حياته يتيماً فقيراً، فقد كان في قلبه دائماً سعة لمؤاساة المحرومين في الحياة.( )
6- يقول الأستاذ السويسري في جامعة جنيف أدوار مونته:
كان محمد [] كريم الأخلاق حسن العشرة، عذب الحديث، صحيح الحكم صادق اللفظ، وقد كانت الصفات الغالبة عليه هي صحة الحكم وصراحة اللفظ، والاقتناع التام بما يعمله ويقوله.( )
7- ويقول أيضاً: لا مجال للشك في إخلاص الرسول [] وحماسته الدينية التي تشبعت بها نفسه وفكره...( )
8- ويقول أيضاً: إن طبيعة محمد [] الدينية تدهش كل باحث مدقق نزيه المقصد بما يتجلى فيها من شدة الإخلاص... ولقد جهل كثير من الناس محمداً [] وبخسوه حقه وذلك لأنه من المصلحين النادرين الذين عرف الناس أطوار حياتهم بدقائقها.( )
9- يقول العالم الألماني رودي بارت:
كان من بين ممثلي حركة التنوير من رأوا في النبي العربي [] أداة الله، ومشرّعاً حكيماً، ورسولاً للفضيلة، وناطقاً بكلمة الدين الطبيعي الفطري، مبشراً به.( )
10- يقول المؤرخ الفرنسي كوستاف لوبون:
إذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد [] من أعظم من عرفهم التاريخ، وقد أخذ علماء الغرب ينصفون محمداً [] مع أن التعصب الديني أعمى بصائر مؤرخين كثيرين من الاعتراف بفضله...( )
11- ويقول أيضاً: لا شيء أصوب من جمع محمد [] لجميع السلطات المدنية والحربية والدينية في يد واحدة أيام كانت جزيرة العرب مجزأة ما استطعنا أن نقدر قيمة ذلك بنتائجه، فقد فتح العرب العالم في قرن واحد بعد أن كانوا قبائل من أشباه البرابرة المتحاربين قبل ظهور محمد [].( )
12- يقول العالم الأمريكي ول ديورانت: يبدو أن أحداً لم يعن بتعليم [محمد ] القراءة والكتابة.. ولم يعرف عنه أنه كتب شيئاً بنفسه.. ولكن هذا لم يحل بينه وبين قدرته على تعرف شئون الناس تعرفاً قلما يصل إليه أرقى الناس تعليماً.
13- ويقول أيضاً: كان النبي [] من مهرة القواد.. ولكنه كان إلى هذا سياسياً محنكاً، يعرف كيف يواصل الحرب بطريقة السلم.
14- ويقول أيضاً: إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا أن محمداً [] كان من أعظم عظماء التاريخ، فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي... وقد كبح جماح التعصب والخرافات. واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة.
15- ويقول أيضاً: تدل الأحاديث النبوية على أن النبي [] كان يحث على طلب العلم ويعجب به، فهو من هذه الناحية يختلف عن معظم المصلحين الدينيين...( )
16- يقول الأستاذ الفرنسي جاك س.ريسلر: إذا ما عرفنا أن هذا العمل العظيم أدرك وحقق في أقصر أجل أعظم أمل لحياة إنسانية فإنه يجب أن نعترف أن محمداً [] يظل في عداد أعظم الرجال الذين شرف بهم تاريخ الشعوب والأديان.( )
17- يقول المفكر اللبناني المسيحي نصري سلهب: هنا عظمة محمد [] لقد استطاع، خلال تلك الحقبة القصيرة من الزمن، أن يحدث شريعة خلقية وروحية واجتماعية لم يستطعها أحد في التاريخ بمثل تلك السرعة المذهلة.( )
18- يقول المستشرق الفرنسي هنري سيرويا: محمد [] شخصية تاريخية حقة، فلولاه ما استطاع الإسلام أن يمتد ويزداد، ولم يتوان في ترديد أنه بشر مثل الآخرين مآله الموت، وبأنه يطلب العفو والمغفرة من الله عز وجل...( )
19- يقول المستشرق الإنكليزي سير هاملتون الكساندر روسكين جب:
ومهما نقل في قوة النـزعة الإسلامية نحو محمد [] وفي آثارها فإنا لا نوصف بالغلو. فقد كان إجلال الرسول [] شعوراً طبيعياً محتوماً في عصره وفيما بعده، غير أن ما نومئ إليه شيء يتجاوز الإجلال. فإن العلاقات الشخصية من الإعجاب والحب اللذين بعثهما في نفوس صحابته ظلِّ صداها يتردد خلال القرآن، والفضل في ذلك يعود إلى الرسائل التي أقرتها الأُمَّة لتستثير بها مجددين في كل جيل.( )
20- يقول المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسن الماركسي النـزعة:
إنني معجب بعظمة هذا الرجل وعبقريته.( )
21- يقول المستشرق الفرنسي لويس سيديو:
لقد حلَّ الوقت الذي توجه فيه الأنظار إلى تاريخ تلك الأُمَّة التي كانت مجهولة الأمر في زاوية من آسية فارتقت إلى أعلى مقام فطبق أسمها أفاق الدنيا مدة سبعة قرون. ومصدر هذه المعجزة هو رجل واحد، هو محمد []...( )
22- ويقول أيضاً: إن محمداً [] أثبت خلود الروح.. وهو مبدأ من أقوم مبادئ الأخلاق. ومن مفاخر محمد [] أن أظهره قوياً أكثر مما أظهره أي مشترع آخر...( )
23- يقول الكاتب الإنكليزي توماس كارلايل: لم يكن متكبراً ولا ذليلاً، فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله يخاطب بقوله الحر المبين أكاسرة العجم، وقياصرة الروم، يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة، والحياة الآخرة إلى أن يقول: ولولا ما وجدوا فيها من آيات النبل والفضل لما خضعوا لإرادته، ولما انقادوا لمشيئته، وفي ظني أنه لو وضع قيصر بتاجه وصولجانه وسط هؤلاء القوم بدل هذا النبي لما استطاع قيصر أن يجبرهم على طاعته، كما استطاع هذا النبي في ثوبه المرقع. ثم ينهي كلامه ويقول: هكذا تكون العظمة، وهكذا تكون البطولة، وهكذا تكون العبقرية. ( )
والحق أن ما أوتي النبي  أكبر من العبقرية ألا وهي الرحمة والحكمة والوحي.
24- يقول المستشرق البريطاني سير توماس أرنولد:
لعله من المتوقع، بطبيعة الحال، أن تكون حياة مؤسس الإسلام ومنشئ الدعوة الإسلامية []، هي الصورة الحق لنشاط الدعوة إلى هذا الدين. وإذا كانت حياة النبي [] هي مقياس سلوك عامة المؤمنين، فإنها كذلك بالنسبة إلى سائر دعاة الإسلام. لذلك نرجو من دراسة هذا المثل أن نعرف شيئاً عن الروح التي دفعت الذين عملوا على الإقتداء به، وعن الوسائل التي ينتظر أن يتخذوها. ذلك أن روح الدعوة إلى الإسلام لم تجيء في تاريخ الدعوة متأخرة بعد أناة وتفكر، وإنما هي قديمة قدم العقيدة ذاتها. وفي هذا الوصف الموجز سنبين كيف حدث ذلك وكيف كان النبي محمد [] يعد نموذجاً للداعي إلى الإسلام؟( )
25- يقول الكونت الفرنسي هنري دي كاستري:
إن أشد ما نتطلع إليه بالنظر إلى الديانة الإسلامية ما اختص منها بشخص النبي [] ولذلك قصدت أن يكون بحثي أولاً في تحقيق شخصيته وتقرير حقيقته الأدبية علني أجد في هذا البحث دليلاً جديداً على صدقه وأمانته المتفق تقريباً عليها بين جميع مؤرخي الديانات وأكبر المتشيعين للدين المسيحي.( )
26- يقول مونتكمري وات عميد قسم الدراسات العربية في جامعة أدنبرا سابقاً:
منذ أن قام كارلايل بدراسته عن محمد [] في كتابه (الأبطال وعبادة البطل) أدرك الغرب أن هناك أسباباً وجيهة للاقتناع بصدق محمد. إذ أن زعيمته في تحمل الاضطهاد من أجل عقيدته، والخلق السامي للرجال الذين آمنوا به، وكان لهم بمثابة القائد، وأخيراً عظمة عمله في منجزاته الأخيرة، كل ذلك يشهد باستقامته التي لا تتزعزع.( )
27- ويقول أيضاً: كلما فكرنا في تاريخ محمد [] وتاريخ أوائل الإسلام، كلَّما تملكنا الذهول أمام عظمة مثل هذا العمل. ولا شك أن الظروف كانت مواتية لمحمد فأتاحت له فرصاً للنجاح لم تتحها لسوى القليل من الرجال غير أن الرجل كان على مستوى الظروف تماماً. فلو لم يكن نبياً ورجل دولة وإدارة، ولو لم يضع ثقته بالله ويقتنع بشكل ثابت أن الله أرسله، لما كتب فصلاً مهماً في تاريخ الإنسانية. ولي أمل أن هذه الدراسة عن حياة محمد [] يمكنها أن تساعد على إثارة الاهتمام، من جديد، برجل هو أعظم رجال أبناء آدم.( )
28- ويقول العلامة الأستاذ (شيرل) عميد كلية الحقوق بجامعة (فينا) في مؤتمر الحقوقيين سنة 1927م:
إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد  إليها إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون - نحن الأوربيين - أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة.( )
29- يقول المستشرق الروسي بولشاكوف في آخر كتابه (تاريخ الخلافة) – باللغة الروسية -: محمد [] ترك لأتباعه نظاماً دينياً كاملاً مرتبطاً بشخصيته، يحتوي على كل ما يحتاج إليه الإنسان من معرفة حقيقة العبد والإله إلى العبادات المنظمة بدقة. ( )
30- يقول المستشرق الفرنسي هنري ماسيه: بفضل إصلاحات محمد [] الدينية والسياسية، وهي إصلاحات موحدة بشكل أساسي، فإن العرب وعوا بأنفسهم وخرجوا من ظلمات الجهل والفوضى ليعدوا دخولهم النهائي إلى تاريخ المدنية.( )
إضافة إلى هذه الشهادات فإن ثمة بشارات في كتب الهندوس والفرس، يقول فضيلة الشيخ أبو بكر محمد زكريا: كثير من المؤلفات في السيرة النبوية باللغة البنغالية تناولت بشارات الرسول  في الكتب الدينية القديمة، فقد أوردوا في كتبهم من النصوص الدالة على وجود بشارات الرسول  في التوراة والإنجيل وكتب الهندوس وكتب الفرس الدينية، وهناك مؤلفات مفردة في هذا الموضوع وقد وصلت هذه المؤلفات 25مؤلفاً، من أهمها ما يلي:
1- النبي الأخير في كتب الديانات القديمة، تأليف د.محمد شهيد الله، طبع سنة 1952م.
2- محمد  في الويد والبرانات وكلي أفتار( )، تأليف د.محمد قدرت الله، طبع سنة 1953م.
3- خاتم النبيين في كتب الهندوس، تأليف د.إسماعيل حسين، طبع سنة 1964م.
4- الله ومحمد في كتاب الديانات العديدة، تأليف إسماعيل حسين ديناجي.( )
إلا أن بعضهم وقع في الغلو والإطراء المفرط، فإن المؤرخ البنغالي كريشنا كومار ميترو في كتابه (سيرة محمد ) جعله مثل الإله.
كما أن المؤلفات في ولادة الرسول  بلغت 66 مؤلفاً باللغة البنغالية حافلة بالخرفات والمبالغات( )، التي نهى عنها النبي  بقوله "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح عيسى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله"( ).

الخاتمة
وبعد هذه الجولة أرى أن أختم بأهم النتائج والتوصيات والاقتراحات وهي كما يلي:
1- أن التعريف بنبي الرحمة والحكمة  وسيرته العطرة يفتح آفاقاً لسعادة البشرية في الدنيا والآخرة.
2- أن سيرة نبي الرحمة  لا زالت تحتاج إلى مزيد من استنباط الفوائد.
3- أن حكمة نبي الرحمة  ورحمته لم تقتصر على أمته بل تشمل البشرية، ولها القدرة على علاج المشكلات.
4- عظمة قدر نبي الرحمة  عند الله تعالى والملائكة والأنبياء والإنس والجن.
5- إن الإشاعات حول نبي الرحمة  هي افتراءات تعود أغلب جذورها إلى مشركي مكة المكرمة في العهد النبوي.
6- لا ينبغي الحكم على الغرب كله بالفساد وكراهية الإسلام والمسلمين، وكذلك لا ينبغي حكم الغرب على المسلمين أنهم إرهابيون.
7- التعاون مع البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة ؛ لتحقيق أهداف البرنامج.
8- إنشاء مركز أبحاث علمي للاهتمام بالسنة والسيرة النبوية، لاستنباط العلوم والفوائد، ولمتابعة الحديث عن نبي الرحمة  في المقررات الدراسية باللغات الأجنبية المختلفة، ورصد ما يستجد فيها.
9- تبليغ الغرب والشرق أن الأُمَّة الإسلامية تنتصر دائماً لدينها، ولا تقبل إهانة أي نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
10- دعوة الغرب إلى نبذ فكرة (صراع الحضارات) بين الأمم والشعوب، واستبدال ذلك بالمسابقة إلى الخيرات، والتدافع والتنافس الشريف من أجل إسعاد البشرية وسلامتها واستقرارها بالحوار الهادف الهادئ الخالي من التهديد والتشاؤم.
11- تفعيل الحوار بين الإسلام والنصرانية بواسطة الخبراء المعتدلين، والاستفادة من القنوات المتاحة مع النخب المثقفة.
12- التنسيق بين المؤسسات الإسلامية المعنية بالحوار.
13- السعي لإيقاف طباعة الكتاب المفترى (الفرقان الحق)، ومحاولة محاكمة المؤلف والمطبعة لما فيه من الاعتداء على كتاب الله تعالى، وهو اعتداء على التوراة والإنجيل؛ لأن كثيراً من الأحكام الشرعية متوافقة بين هذه الكتب السماوية الثلاثة، ولما فيه من السطو على آيات كثيرة من القرآن الكريم ونسبتها إلى المؤلف، وذلك عن طريق منظمة المؤتمر الإسلامي بواسطة رابطة العالم الإسلامي.
14- توجيه بعض الأساتذة الجامعيين المسلمين الذين يجيدون اللغات الغربية للإسهام في تدريس المقررات المتصلة بالإسلام في الجامعات الغربية.
15- تزويد مكتبات الجامعات الغربية المهتمة بتدريس الإسلاميات بانتظام، بالكتب والمراجع التي تسهم تدريجياً في تعديل مسار تدريس الإسلاميات.
16- ترجمة المراجع الإسلامية الأساسية ترجمات راقية إلى اللغات الأجنبية.
17- الاهتمام بحضور المؤتمرات العلمية الغربية التي تتناول الشؤون الإسلامية بالدراسة والتحليل.
18- تشجيع إرسال طلاب العالم الإسلامي الناضجين المزوَّدين بعلم ديني صحيح، ومنهجية سليمة في التعامل مع المخالف، لطلب العلم في الغرب.
19- تقديم استنكار لجامعة توينجين الألمانية لمنحها جائزة كلمة العام لبابا الفاتيكان على كلمته بنبي الرحمة .
20- تطوير إبراز الإعجاز العلمي في السنة النبوية.
21- دعم الجهود التي تبذلها الهيئات الدولية مثل: اليونسكو، والمعهد السويدي بالإسكندرية، وجامعة الدول العربية؛ لتنقية المناهج الدراسية في دول الغرب من الأخطاء الفادحة حول حقائق الإسلام ومبادئه وأهدافه وقيمه.
22- توجيه طلاب الدراسات العليا في تسجيل موضوعات ذات الصلة بموضوع نبي الأُمَّة .
تمَّ الكتاب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


فهرس بأهم المصادر والمراجع
- القرآن الكريم، برواية حفص عن عاصم، طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
- أبحاث مؤتمر مكة المكرمة السابع (نصرة نبي الأُمَّة )، والذي أقيم في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، في الفترة من 5-7/12/1427هـ.
- الأبطال، توماس كارلايل، ترجمة محمد السباعي، سلسة من الشرق والغرب، عدد11، الدار القومية، القاهرة.
- الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة، للإمام شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق د.ناجي محمد داود، رسالة دكتوراه من جامعة أُم القرى بمكة المكرمة 1405هـ، مطبوعة بالآلة الكاتبة.
- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، للأمير علاء الدين بن بلبان الفارسي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1408 هـ .
- أحسن الأجوبة عن سؤال أحد علماء أوروبة، عبد الله وليم كويليام، ترجمة معروف الرصافي، مطبعة الولاية، بغداد 1330م.
- الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ.
- أحكام أهل الذمة، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق سيد عمران، دار الحديث، القاهرة .
- آراء المستشرقين حول القرآن والتفسير، د.عمر إبراهيم رضوان، رسالة دكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض 1410هـ، مطبوعة بالحاسوب.
- الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية، د.قاسم السامرائي، دار الرفاعي للنشر والطباعة، الرياض، ط1، 1403هـ.
- الاستشراق في السيرة النبوية، عبد الله محمد النعيم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ.
- الإسلام خواطر وسوانح، هنري دي كاستري، ترجمة أحمد فتحي زغلول باشا، مطبعة الشعب، القاهرة 1911م.
- الإسلام على مفترق الطرق، ليوبولد (محمد أسد) فايس، ترجمة د.عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت، ط 6، 1965م.
- الإسلام في المناهج الغربية المعاصرة، د.محمد وقيع الله أحمد، طبعة جائزة الأمير نايف بن عبد العزيز العالمية، ط1، 1427هـ.
- الإسلام في مواجهة الاستشراق العالمي، عبد العظيم المطعني، دار الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة مصر، ط1، 1407هـ.
- الإسلام منهج حياة، فيليب حتي، تعريب د.عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت 1972م.
- الإسلام والحضارة العربية، محمد كرد علي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط3، 1968م.
- الإسلام والعرب، روم لاندو، ترجمة منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1977م.
- الإسلام والغرب والمستقبل، أرنولد توينبي، تعريب د.نبيل صبحي، دار العربية بيروت 1969م.
- الإسلام والمستشرقون، نخبة من العلماء المسلمين، مطبعة عالم المعرفة جدة، ط1، 1405هـ.
- الإسلام والمسيحية د.إليسكي جورافيسكي، كتاب رقم 215 من سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نوفمبر1996م
- الإسلام والوعي الحضاري، أ.د.أكرم بن ضياء العمري، دار الرسالة، بيروت.
- الإسلام، هنري ماسيه، ترجمة بهيج شعبان، منشورات عويدات، بيروت، ط2، 1977م.
- أشعة خاصة بنور الإسلام، إيتين (ناصر الدين) دينيه، ترجمة راشد رستم، سلسلة الثقافة الإسلامية رقم 17، المكتب الفني للنشر، بيروت1960م.
- الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، طبعة دار أحياء التراث العربي، بيروت.
- الأمير لنيقولا ميكافيلي، ترجمة فاروق سعد، طبعة دار الآفاق، بيروت 1979م.
- إنسانية الإسلام، مارسيل بوازار، ترجمة د.عفيف دمشقية، دار الأدب، بيروت 1980م.
- الانتصار للقرآن، د.صلاح الخالدي، مؤسسة الفرسان للنشر، عمّان، الأردن.
- الاهتمام بالسيرة النبوية باللغة الإنكليزية، أ.د.محمد مهر علي.
- الاهتمام بالسيرة النبوية باللغة البنغالية، أبو بكر محمد زكريا.
- الاهتمام بالسيرة النبوية باللغة الفرنسية، د.حسن إدريس عزوزي، هذه البحوث مقدمة لندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة النبوية، والتي أقيمت في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في الفترة 15-17/3/1425هـ.
- أهل الذمة في الإسلام أ.س ترتون، ترجمة وتعليق د.حسن حبشي، سلسلة المكتبة التاريخية، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1967م .
- البحث عن الله، إيفلين كوبولد، ترجمة عمر أبو النصر، المكتبة الاهلية، بيروت 1934م.
- بداية المجتهد، لابن رشد، دار الفكر، بيروت.
- البداية والنهاية، لابن كثير، مكتبة دار المعارف، بيروت، ط3، 1978م .
- البيريسترويكا، لميخائيل جورباتشوف، طبعة بيروت.
- تأثير الإسلام على أوربا في العصور الوسطى، مونتكمري وات، ترجمة د.عادل نجم عبّو، دار الكتب في جامعة الموصل، 1982م.
- تاريخ الأدب العربي، ريجس بلاشير، ترجمة د.إبراهيم الكيلاني، وزارة الثقافة، دمشق 1974م.
- تاريخ الأمم والملوك، للإمام الطبري، طبعة دار المعارف، مصر.
- تاريخ الحضارة الإسلامية، ف بارتولد، ترجمة حمزة طاهر، دار المعارف، القاهرة، ط4، 1966م.
- تاريخ العرب العام، ل.م. سيديو، ترجمة عادل زعيتر، دار أحياء الكتب العربية، القاهرة 1948م.
- تاريخ العرب والشعوب الإسلامية منذ ظهور الإسلام حتى بداية الإمبراطورية العثمانية، كلود كاهن، ترجمة د.بدر الدين القاسم، دار الحقيقة، بيروت 1972م.
- تراث الإسلام, تأليف جمهرة من المستشرقين بإشراف سير توماس أرنولد, تعريب وتعليق جرجيس فتح الله, دار الطليعة, بيروت, ط2, 1972م .
- تراث الإسلام، تأليف جماعة من الباحثين، تصنيف جوزيف شاخت، وس.أ.بوزورث، ترجمة محمد زهير السمهوري ورفاقه، سلسلة عالم المعرفة، الأعداد8و11و12، المجلس الوطني للثقافة، الكويت 1978م.
- تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير، تحقيق مجموعة من العلماء، طبعة دار الشعب.
- تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير، للإمام عبد الرحمن بن الجوزي، مكتبة الآداب، القاهرة ط1، 1975م.
- تهذيب التفسير الصحيح، أ.د.حكمت بن بشير ياسين، تحت الطبع في مطبعة مجلة الدراسات الفقهية المعاصرة، الرياض.
- الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط، جورج سارتون، تعريب د.عمر فروخ، مكتبة المعارف، بيروت 1952م.
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، طبعة دار أحياء التراث العربي، بيروت .
- جهود علماء المسلمين في دراسة الكتابات الاستشراقية حول القرآن الكريم، أ.د.علي بن إبراهيم النملة، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
- الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم متز، ترجمة محمد عبدالهادي أبو ريدة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط3، 1975م.
- حضارة العرب، كوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط3.
- الحضارة العربية، جاك.س ريسلر ترجمة غنيم عبدون، مراجعة د.أحمد الأهواني، الدار المصرية القاهرة.
- حقوق الإنسان في الإسلام وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية، د.سليمان عبد الرحمن الحقيل، مؤسسة الممتاز، الرياض ط1.
- الحوار المسيحي الإسلامي استناداً إلى تصورات المسيحية عن المسلمين، للباحثة دعاء محمود فينو، والمنشور في مجلة إسلامية المعرفة، العدد 44، ربيع 1427هـ/2006م
- حوار عن بعد حول حقوق الإنسان في الإسلام، لمعالي الشيخ عبدالله بن بيه، دار الأندلس الخضراء، جدة، ط1، 1424هـ.
- حياة محمد, واشنجتون إيرفنج، ترجمة علي حسين الخربوطلي, دار المعارف, القاهرة, ط2, 1962م.
- حياة محمد، إميل درمنغم، ترجمة عادل زعيتر، دار أحياء الكتب العربية، القاهرة، ط2، 1949م.
- خلاصة سير سيد البشر ، محب الدين أحمد بن عبدالله الطبري، تحقيق وشرح د.زهير بن إبراهيم الخالد، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، ط1، 1421هـ.
- الدافع لارتكاب جريمة القتل في الوطن العربي، د.عبدالله معاوية، المركز العربي للدراسات الأمنية، الرياض.
- دراسات أسبانية للسيرة النبوية، د.عبدالقادر براده، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
- الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، رودي بارت (المستشرقون الألمان منذ تيودور نولدكه), ترجمة د.مصطفى ماهر, دار الكاتب العربي, القاهرة, 1967م.
- دراسات في حضارة الإسلام، هاملتون جب، تحرير ستانفورد شو ووليم بولك، ترجمة د.إحسان عباس ورفاقه، دار العلم للملايين، (بالمشاركة مع مؤسسة فرانكلين)، بيروت 1964م.
- دراسة في مائة الأوائل، مايكل هارث، ترجمة خالد أسعد عيسى، وأحمد غسان سبانو، دار قتيبة، بيروت، ط2، 1979م.
- دستور الأخلاق في القرآن، للدكتور محمد عبد الله دراز، مؤسسة الرسالة بيروت، ط4، 1402هـ.
- الدعوة إلى الإسلام، سير توماس أرنولد، بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، ترجمة وتعليق د.حسن إبراهيم حسن ورفاقه, الطبعة الثالثة، مكتبة النهضة المصرية, القاهرة, 1971م.
- دفاع عن الإسلام، لورافيشيا فاغليري، ترجمة منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1976م.
- دين الإسلام، لايتنر، ترجمة عبد الوهاب سليم التنّير، المكتبة السلفية، دمشق، ط2، 1342هـ.
- رجال ونساء أسلموا، عرفات كامل العشّي، دار القلم، الكويت 1973-1983م.
- الرحيق المختوم، للشيخ صفي الرحمن المباركفوري، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت ط4، 1420هـ.
- الرسالة المحمدية للسيد سليمان الندوي، ترجمة محمد الندوي، المطبعة السلفية بالقاهرة 1372هـ.
- الرسول  في كتابات المستشرقين، نذير حمدان، دار المنارة، جدة، ط 2، 1406هـ.
- السلسة الصحيحة، للشيخ الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق، ط2، 1399هـ.
- سلوة الكئيب بوفاة الحبيب ، لابن ناصر الدين الدمشقي، تحقيق ودراسة صالح يوسف معتوق، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث بدبي.
- سنن أبي داود، للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، مراجعة وضبط وتعليق محمد محيي الدين بن عبد الحميد، المكتبة الإسلامية، تركيا، استانبول .
- سنن الدرامي، للإمام الدارمي، تحقيق وتخريج وفهرسة فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي، نشر دار الريان للتراث القاهرة، ط1، 1407 هـ .
- سنن النسائي بشرح الحافظ السيوطي وحاشية الإمام السندي، نشر دار الكتاب العربي، بيروت.
- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية، طبعة دار الكتاب العربية، بيروت.
- سير أعلام النبلاء، تأليف الإمام الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت ط4، 1406هـ.
- السيرة النبوية الصحيحة، أ.د.أكرم بن ضياء العمري، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1416هـ.
- السيرة النبوية، لابن هشام، طبعة الحلبي بتحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الأشبيلي، دار الفكر، بيروت.
- السيرة النبوية، للذهبي، تحقيق حسام الدين القدسي، دار الكتب العلمية، بيروت ط1، 1401هـ.
- شرح صحيح مسلم للنووي، دار أحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ.
- الشرق الأدنى مجتمعه وثقافته، تأليف جماعة من الباحثين، تحرير ت كويلر يونغ، ترجمة د.عبدالرحمن محمد أيوب، سلسلة الألف كتاب، عدد116، دار النشر المتحدة القاهرة.
- صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري، للألباني، مكتبة الدليل، السعودية، ط3، 1417هـ.
- صحيح الجامع الصغير، للشيخ الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق، ط3، 1402هـ.
- صحيح سنن ابن ماجه باختصار السند، للشيخ الألباني، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط3، 1408هـ .
- صحيح سنن أبي داود باختصار السند، للشيخ الألباني، نشر مكتب التربية العربي، ط1، 1409هـ.
- صحيح سنن الترمذي، باختصار السند، للشيخ الألباني، نشر مكتب التربية العربي،ط1، 1408هـ.
- صحيح سنن النسائي باختصار السند، للشيخ الألباني، نشر مكتب التربية العربي، ط1، 1406هـ.
- صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق الدكتور محمد فؤاد عبدالباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
- صحيفة ماينتشي Mainchi اليابانية بتاريخ 16/10/2006م.
- الطبقات الكبرى لابن سعد، دار صادر، بيروت.
- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن قيم الجوزية،راجعه أحمد عبد الحليم العسكري.
- العرب وأوربا، لويس يونغ، ترجمة ميشيل أزرق، دار الطليعة، بيروت 1979م.
- العقيدة الإسلامية، عبدالله وليم كوليام، تعريب محمد ضيا، مطبعة هندية، القاهرة 1897م.
- العقيدة والشريعة في الإسلام، كولد تسيهر، ترجمة د.محمد يوسف موسى ورفاقه، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط2، 1959م.
- علم التاريخ عند المسلمين، فرانز روز نثال، ترجمة د.صالح أحمد العلي، مراجعة محمد توفيق حسين، مكتبة المثنى (بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين)، بغداد 1963م.
- العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي, ألدو ميلي، ترجمة د.محمد يوسف موسى, ود.عبدالحليم النجار, إصدار الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية, دار القلم, القاهرة, 1962م.
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، طبعة دار الفكر، بيروت، نسخة مصورة عن الطبعة السلفية المصرية.
- الفصول في اختصار سيرة الرسول  لابن كثير، تحقيق محمد العيد الخطراوي، ومحي الدين مستو، دار القلم، بيروت، ط1، 1400هـ.
- فلسفة الفكر الإسلامي، هنري سيرويا، ترجمة محمد إبراهيم، سلسلة الثقافة الإسلامية، عدد 32، دار الثقافة العربية، القاهرة 1961م.
- في خطى محمد، نصري سلهب، دار الكتاب العربي، بيروت 1970م.
- في طريقي إلى الإسلام، أحمد نسيم سوسه، الجزء الأول، المطبعة السلفية، القاهرة 1936م، الجزء الثاني، مطبغة الغرى، النجف 1983م.
- قالوا عن الإسلام، د. عماد الدين خليل، الندوة العالمية للشباب الإسلامي الرياض ط1، 1412هـ.
- قاموس الكتاب المقدس، تأليف نخبة من أساتذة اللاهوت، دار الثقافة، القاهرة، ط8.
- القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، موريس بوكاي، (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة)، دار المعارف، القاهرة 1978م .
- القرآن الكريم والعلم العصري، مويس بوكاي، ترجمة فودي سوربيا كمارا، دار المآثر، المدينة النبوية، ط1، 1420هـ.
- القرآن والمستشرقون المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – القاهرة 1393هـ.
- قصة الإنسان، جورج حنّا، الطبعة الخامسة، دار العلم للملايين، بيروت، 1973م.
- قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة محمد بدران وآخرون، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط2، 1964-1967م.
- قطوف دانية من مآثر المسلمين وظلام الغرب، الشيخ إبراهيم النعمة، مطبعة الزهراء، الموصل، العراق سنة 1424هـ.
- لماذا يكرهونه؟! الأصول الفكرية لعلاقة الغرب بنبي الإسلام ، د.باسم الخفاجي، كتاب البيان، الرياض، ط1، 1427هـ.
- مؤتمرات المستشرقين العالمية د المحسن بن علي سويسي - رسالة دكتوراه – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – كلية الدعوة قسم الاستشراق بالمدينة المنورة.
- مجلة البيان، مجلة شهرية تصدر عن المنتدى الإسلامي بالرياض، العددان 230-231، شهري شوال وذو القعدة، 1427هـ.
- مجلة التوحيد، مجلة إسلامية شهرية تصدر عن جماعة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة، العدد418، شوال1427هـ.
- مجلة المستقبل، مجلة شهرية تصدرها الندوة العالمية للشباب الإسلامي، العدد 185، رمضان 1427هـ.
- مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، مطابع الرياض .
- محمد  في التوراة والإنجيل والقرآن, لإبراهيم خليل أحمد، مكتبة الوعي العربي, القاهرة, ط2, 1965م.
- محمد الرسالة والرسول، نظمي لوقا، الطبعة الثانية، دار الكتب الحديثة، القاهرة 1959م.
- محمد رسول الله، إيتين (ناصر الدين) دينيه، بالاشتراك مع سليمان إبراهيم الجزائري، ترجمة د.عبدالحليم محمد، ومحمد عبد الحليم محمود، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، ط3، 1959م.
- محمد في الكتاب المقدس، أ.د.عبد الأحد داود، ترجمة فهمي شمّا، طبعة رئاسة المحاكم والشؤون الدينية بدولة قطر، ط1، 1405هـ.
- محمد في المدينة، مونتكمري وات، تعريب شعبان بركات، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت.
- محمد في مكة، مونتكمري وات، تعريب شعبان بركات، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت.
- مختصر دراسة التاريخ، أرنولد توينبي، ترجمة فؤاد محمد شبل، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1960-1965م.
- مختصر سيرة الرسول  للإمام محمد بن عبدالوهاب، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
- المدخل لدراسة القرآن الكريم، د.محمد محمد أبو شهبه، الحديثة للطباعة القاهرة، ط2، 1973م.
- المستدرك على الصحيحين، للحافظ الحاكم، وبذيله التلخيص، للحافظ الذهبي صورة عن الطبعة الهندية.
- المستشرقون والسيرة النبوية، عماد الدين خليل، بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر، مونتكمري وات، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1985م.
- المستشرقون وترجمة القرآن، د.محمد صالح البنداق، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط2، 1403هـ.
- المستشرقون، نجيب العقيقي، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1964-1965م.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل، بتحقيق شعيب الأرناؤوط ومجموعة من العلماء، إشراف معالي الأستاذ الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1421هـ.
- معالم تاريخ الإنسانية هـ.ج. ولز تعريب عبد العزيز توفيق جاويد، مراجعة محمد مأمون نجا، ود.عبدالحميد يونس، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1947-1950م.
- من أجل معرفة العبادة والحب، بحث مقدم لندوة بناء المناهج: الأسس والمنطلقات بكلية التربية- جامعة الملك سعود- الرياض سنة 1424هـ.
- مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض 1405هـ.
- الموسوعة العربية الميسرة، مجموعة من الباحثين بإشراف محمد شفيق غربال، طبعة دار الشعب، القاهرة (بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر) ط2، 1972م.
- موسوعة المستشرقين، للدكتور عبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1984م.
- الموقع الإلكتروني BBC Arabic.com، منشور 15/9/2006م، 20:53:37 GMT .
- موقف المستشرقين من القرآن الكريم، أ.د.عدنان محمد الوزان، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
- نحو نظام نقدي عادل، د.محمد عمر شابرا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن.

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك