بناء الفكر بناء للحضارة

بناء الفكر بناء للحضارة

 

عبدالله أبو غالي

 

إنَّ الإنسان كائنٌ مكرمٌ منذ بدء خلْقه، فضَّله الله وأَسجَد له ملائكته، وحمَّله أمانتَه، واسْتخلَفه في أرضه: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، ثم جعَل أمَّة الإسلام خيرَ الأمم، وربَط خيريَّتَها بامتثالها لأوامره، وقيامِها بالأمانة المَنوطة بها: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، وقد سخَّر الله للإنسان الأرض وما حَوت، والسماءَ وما طَوت: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة﴾ [لقمان: 20]، ونَصيبُ الإنسان من تلك الخيريَّة والمُمكِنات الكامِنة مُتعلِّقٌ بوعيه الذاتي، الناشئِ عن بنائه الفِكري.

ولا يَخفى على عاقلٍ أنَّ الأمة قد ابتعَدتْ عن النَّهج الذي جاء به القرآن مُخاطبًا الإنسانية في أوَّل ما نَزَل بـ "اقرأ"، والتي كانت بمثابة دعوةٍ لإعمال الفكْر وتوجيهه للقراءة والفَهم، فغدتِ الأمة مُواجِهةً لمُنحدَرٍ فكْريٍّ وعر، حوَّلها من أمة مُنتِجة للعِلم والحضارة والنَّهضة، إلى أمَّة مُستهلِكة بالدرجة الأولى، أَعمَلت بها ثقافة الغرب المادية أنيابَها نهشًا، وغزتْها فِكريًّا بآلةٍ إعلامية فتَّاكة، أَخرجتِ الأمةَ من السِّباق الحضاري، ومن دورة النهضة إلى دورة الرُّكود والخمول، فلا نصيب لها من الخيرية؛ لابتعادها عن شروطها!

إنَّ المُتتبِّع لمسارات الحضارات والأمم ليرى أنَّ نهضة أية أمةٍ مُرتبِطٌ ارتباطًا وثيقًا ببنائها الفكري، والذي يُمكِننا أنْ نعرِّفه: بأنَّه عملية تَحصيل وتَراكم المعرفة؛ لِتفرِز أخلاقًا وحكمةً، وخبرةً ومهارةً في التعامل مع تلك المُمكِنات، وكأيِّ بناءٍ فالبناء الفكري له أُسسٌ يَنطلِق منها، ولَبِناتٌ تُكوِّنه، فأساس البناء الفكري هو تَراكمات المعارف والعلوم التي يَجمعُها الإنسان بعد خروجه إلى هذا العالم، بعد أنْ كانت منظومته المعرفية صفرًا؛ ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: 78]، ويُمكِن أنْ نُسمِّي هذه المرحلةَ بعملية التجميع؛ يَجمع فيها الإنسان الوحَدات المعرفية، والخبرات العمليَّة من مختلف الحقول والعلوم، ويُراكِمها لتكون أساسًا تَستندُ إليه بنيتُه الفكرية، وتلك التَّراكُمات مرتبِطةٌ بمدى سعْيه الحثيث للقراءة والعِلم والفَهم.

ولا تتوقَّف عمليَّة البناء الفكْري عند التجميع؛ لأنَّ الوقوف عندها أو الخَلط بينها وبين عملية البناء مُنزلَقٌ خطر؛ فالمعلومات التي تَنتمي إلى حقولٍ معرفيةٍ مُتباعِدة تتقاطع وتَتصادم، ولكثرتِها فإنَّها تَجعل البِنية العقلية لدى الشخص العادي عاجزةً عن استخلاص أيِّ شيءٍ كلِّي [أ.د. عبدالكريم بكّار "المسلمون بين التحدِّي والمُواجهة - حول التربية والتعليم"، بيروت، دار القلم، 2005، صفحة 118]؛ بل تَنتقل للمرحلة الأهم، وهي عملية البناء، والتي تنظِّم الجمْع، وتَستثمره وَفْق منهجيةٍ واضحةٍ للوصول إلى هدفٍ مرجوٍّ، فتصبح عملية جمْع الأفكار أكثر تنظيمًا وانتقاءً، وتأخذ دورة الإضافة والحذف والتنقية والغربَلة للأفكار دورَها، فعملية البناء الفكري عَمليةٌ مستمرةٌ ممتدةٌ بامتداد عمْر الإنسان، فبناء الفِكر يَعلو طابقًا فوق طابق، وكل فِكرةٍ تُضيف إلى البناء لَبنةً صغيرة، أو تَحل مَحل لبنةٍ فاسدة؛ حتى تُصبح المنظومة الفكرية بناءً متكامِلاً، أكثر ترتيبًا ووضوحًا، وببناء الفِكر تُبنى الأمم.

 

المصدر: موقع الألوكة.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك