الوطن في التاريخ الإسلامي!

الوطن في التاريخ الإسلامي!

 

أ. محمد شعبان أيوب

 

ثمة مسار تصاعدي مطرد استمر طيلة تاريخنا الإسلامي، هذا المسار انتحى في شكله وأعماقه منحى النضوج والتنوع، ومن أوائل من لاحظوا هذا المنحى في العصر الحديث مجموعة من المستشرقين الذين عُنوا بنشر التراث التاريخي وتناوله منذ القرن التاسع عشر، والحق أن الدراسات العربية والإسلامية الحديثة استطاعت أن تجاري هذا العمل الاستشراقي الغربي بصورة لا تقل عنه، بل تزيد إبداعًا وجمالاً وعمقًا؛ وذلك لأسباب عدة منها معايشة الثقافة الإسلامية، ومعرفة حقائق التراث من خلال لغته، فضلاً عن الانتماء العقدي والتراثي واللغوي لهذه الجذور، ولكن يُحسب لأولئك المستشرقين فضل السبق، والتعاطي مع تراث كان في طور الانضواء والانطواء، فأعملوا عقولهم وطاقتهم وأموالهم لإخراج هذا التراث بل والحكم عليه أيضًا، مما أتاح لنا قاعدة لا بأس بها في إكمال هذا المشروع الثقافي الأصيل.

 

وإن هذا المسار يتمثل في "الشخصية التاريخية"، ولا أقصد بهذا المصطلح التجسيد البطولي للكلمة بقدر ما أعني حركة التاريخ الإسلامي المتمثلة في محاولة فهم الأحداث التاريخية الإنسانية ككل للوصول إلى علتها الكلية[1]، وإن فلسفة هذه الحركة لم يسجلها للأسف إلا مجموعة من علماء الإسلام في صورة لا تقترب من الكمال والنضوج الذي نلمسه ونعرفه اليوم، وإن كنا نُقدِّر لهم هذا الجهد طبقا لآليات عصرهم وأدواته؛ فما فعله علماء من مكانة الشمس السخاوي (ت 902هـ) في "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" والجلال السيوطي (ت911هـ) في "الشماريخ في علم التاريخ" و من قبلهما الشمس الكافيجي (ت879هـ) في "مختصر في علم التاريخ" لا يعدو كونه دفاعًا عن المؤرخ وكتابته ووظيفته بقدر ما كنا نرجو دفاعًا موضوعيًا عن حركة التاريخ والتأريخ وأبعادها وتنوعاتها ومضمونها اللهم إلا ما فعله العلامة ابن خلدون (ت808هـ) في المقدمة.

 

 وهذه المعرفة أو أداة الحكم على الأشياء ما كنا لنصل إليها، ونطمئن لمصداقيتها إلا من الكم المعلوماتي والتراثي الذي أُتيح لنا – نحن أبناء هذا العصر - من خلال دور النشر، والمؤسسات البحثية الموضوعية، والمدارس النقدية والثقافية والفلسفية التي استطاعت أن تُكوِّن في نهاية المطاف مجموعة من المعطيات المهمة عن التاريخ والمؤرخين.

 

وإن حركة التاريخ الإسلامي كانت بطبيعة الحال حركة مفعمة بالتنوع، وكما يقرر علماء الحياة والإنسان اليوم أن الحياة كيان مليء بالتنوع والاختلاف بل والمتناقضات عند البعض، فكذلك هي حركة التاريخ، فهذا التنوع الذي كوّن لنا حركة التاريخ يمكن أن نتلمس منه أحد مكوناته المهمة والرئيسة وهي "قضية الوطن"؛ فقضية الوطن هي التي عبّر عنها الدارسون لفلسفة وحركة التاريخ بما يُسمى بالمؤلفات التاريخية المحلية أو البلدانية، وهي مؤلفات تتناول الحديث عن بلد بعينه، فتتحدث عن مميزاته وسمات أهله وما يضيفه هذا البلد لمسار القضية الإسلامية الكبرى التي تُعنى بدولة الخلافة و الدعوة إلى الإسلام.

 

يقول المستشرق الألماني فرانز روزنثال: "لقد كان الاهتمام بالتواريخ المحلية في كل الأزمنة تعبيرًا أدبيًا محببًا عن شعور الجماعة، ولقد عبرت المجتمعات الإسلامية كافة عن الرباط الوثيق الذي يربط الناس بمكان مولدهم، ومع أن كثيرًا من التواريخ المحلية في الإسلام نشأت من الاعتبارات الدينية والفقهية، غير أن المفاخر الإقليمية كانت وراء مباحث العلماء"[2].

لقد صدق روزنثال فيما ذهب، إذ لم يكن عيبًا أن ينطلق المؤرخ صادحًا بمفاخر بلده وقومه، كاشفًا للقارئ مواطن العظمة والمكانة والقوة في هذا البلد، فالحديث عن بني جلدته وقومه هو حديث مطرب مفعم بالعاطفة، والحديث عن الجغرافيا هو حديث العالم الخبير الذي ارتأى أن صفات بلده هي الصفات التي قد لا توجد في بلد آخر، والحديث عن الثقافة والفكر وحركة الحياة هو حديث حضاري ممتع لأن واصفه ممن صنعوا هذه الحضارة التي هي أداة الثقافة المحلية لهذه البلد ومن ثم أحد الأجزاء الأصيلة في لوحة الثقافة الإسلامية الكلية.

 

ومن هنا نجد تأكيد كلا من السّلامي وابن الربيع القيرواني على ضرورة اهتمام المؤرخ بالكتابة عن إقليمه وأرضه قبل أي اعتبار آخر، فيذكر المؤرخ الحسين السلامي (ت374هـ) في كتابه "أخبار ولاة خرسان" أن "الواجب على صاحب المعرفة من أهلها أن يعلم جمل أبنائها، ويحفظ أيام أمرائها، لا شيء أزرى عليه من أن يجهل أخبار أرضه، ولعله يتطلب أخبار غيرها، ويكون كمن ترك الواجب وتبع النوافل"[3].

 

وإننا نجد رسالة شديدة اللهجة من المؤرخ التونسي الحسن بن محمد القيرواني إلى أهل الأندلس وفي مقدمتهم معاصره العلامة ابن حزم الأندلسي (ت456هـ) يعيب فيها عليهم تقصيرهم في الكتابة والتأريخ عن بلدهم، وقد جاء فيها: "ثم هم مع ذلك على غاية التقصير ونهاية التفريط؛ من أجل أن علماء الأمصار دونوا فضائل أمصارهم، وخلّدوا في الكتب مآثر بلدانهم، وأخبار الملوك والأمراء والكتاب والوزراء والقضاة والعلماء؛ فأبقوا لهم ذكرًا في الغابرين، يتجدد على مر الليالي والأيام، ولسان صدق في الآخرين يتأكد مع تصرف الأعوام؛ وعلماؤكم مع استظهارهم على العلوم، كل امرئ منهم قائم في ظله لا يبرح، وراتب على كعبه لا يتزحزح؛ يخاف إن صنف أن يُعنف، وإن ألف أن يخالف ولا يؤالف، أو تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، لم يتعب أحد منهم نفسًا في جمع فضائل أهل بلده، ولم يستعمل خاطره في مفاخر ملوكه، ولا بَلَّ قلما بمناقب كتابه ووزرائه، ولا سوّد قرطاسا بمحاسن قضاته وعلمائه"[4].

 

غير أن العلامة ابن حزم كعادته لم يسكت إزاء ما رآه من تجاهل القيرواني لحقيقة وجود المؤرخين المفلقين من رجالات الأندلس، فأرسل له على الفور رسالة تفنّد كل "المزاعم" التي جاءت في خطاب القيرواني الآنف بقوله: "إني لما احتللت بك، وجالت يدي في مكنون كتبك، ومضمون دواوينك، لمحت عيني في تضاعيفها درجاً فتأملته، فإذا فيه خطاب لبعض الكتّاب من مصاقبينا في الدار، أهل إفريقية، ثم ممن ضمته حضرة قيروانهم، إلى رجل أندلسي لم يعينه باسمه، ولا ذكر بنسبه، يذكر له فيها أن علماءَ بلدنا بالأندلس - وإن كانوا على الذروة العليا من التمكن بأفانين العلوم، وفي الغاية القصوى من التحكم على وجوه المعارف - فإن هِمَمَهم قد قَصَّرتْ عن تخليد مآثر بلدهم، ومكارم ملوكهم، ومحاسن فقهائهم، ومناقب قضاتهم، ومفاخر كتابهم، وفضائل علمائهم، ثم تعدَّى ذلك إلى أن أخلى أرباب العلوم منا من أن يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم، ويبقي علمهم .. فأما مآثر بلدنا فقد ألف في ذلك أحمد بن محمد الرازي التاريخي كتباً جمة منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها وأمهات مدنها وأجنادها الستة، وخواص كل بلد منها، وما فيه مما ليس في غيره، وهو كتاب مريح مليح. وأنا أقول لو لم يكن لأندلسنا إلا ما رسول الله r بشَّر به، ووصف أسلافنا المجاهدين فيه، بصفات الملوك على الأسرة، في الحديث الذي رويناه من طريق أبي حمزة أنس بن مالك أن خالته أم حرام بنت ملحان، زوج أبي الوليد عبادة ابن الصامت، رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين، حدثته به عن النبي r أنه أخبرها بذلك لكفى شرفاً بذلك، يَسُرُّ عاجله ويغبط آجله"[5].

 

وتنقسم المؤلفات التاريخية التي تتناول الحديث عن الوطن إلى قسمين، الأول منها يطلق عليه مؤلفات "التاريخ المحلي الدنيوي" وتعنى بالحديث عن الأقاليم والمدن وذكر أهم علمائها وساستها وقادتها، ويعتبر كتاب "تاريخ بغداد" لأحمد بن أبي طاهر طيفور (ت288هـ)، وكتاب "تاريخ الموصل" لأبي زكريا يزيد بن محمد الأزدي (ت334هـ) من أقدم ما أُلّف في تاريخ العراق. وأما مصر فإن أقدم ما وصلنا عنها والذي يعبر عن شعور التفاخر بماضيها وتراثها القديم كتاب "تاريخ مصر وفضائلها" لأبي محمد الحسن بن زولاق (ت387هـ)، وكتاب "تاريخ مصر" لمحمد بن عبيد الله المسبحي (ت420هـ) وذيله الذي كتبه محمد بن علي بن ميسر (ت677هـ)، كما ظهرت مؤلفات محلية تُعنى بالخطط والنواحي الطبوغرافية وأشهرها "خطط المقريزي" (ت845هـ) و كتاب "الدر المنظوم فيما ورد مصر من منظوم ومعلوم" لعلي بن داود الجوهري (ت900هـ). وفي بلاد الشام ظهرت أقدم أمثلة في الكتابة عن التواريخ المحلية منذ منتصف القرن السادس الهجري، فابن القلانسي (ت555هـ) خصص تاريخه لمدينة دمشق وما يدور حولها من أحداث، ومن أعظم ما كتب عن مدينة حلب الشهباء  ما ينسب للمؤرخ الشهير عمر بن أحمد بن العديم (ت660هـ) الذي خصص كتابه "زبد الحلب من تاريخ حلب" لدراسة التاريخ السياسي لهذه المدينة. وفي الأندلس نجد أسرة آل الرازي المشتهرة بالكتابة التاريخية، فأحمد بن محمد بن موسى الرازي (ت324هـ) يؤلف كتابًا في "تاريخ قرطبة" وخططها ومنازل الأعيان بها وهو كتاب في غاية الأهمية غير أنه مفقود للأسف، ومن المؤلفات المحلية المتأخرة في الأندلس كتاب ابن صاحب الصلاة عبد الملك بن أحمد الباجي المتوفى في أواخر القرن السادس الهجري وعنوانه "تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين بأن جعلهم الله أئمة وجعلهم الوارثين".

 

ونلاحظ في التواريخ الوطنية لبلاد فارس التنوع والكثرة ولعل ذلك يرجع إلى اعتداد أهل فارس بمورثهم الثقافي والساساني القديم، فمن أشهر الكتب البلدانية الوطنية نجد كتاب "تاريخ أصفهان" لحمزة الأصفهاني، و"تاريخ قُم" للحسن بن محمد القُمي، و"تاريخ طبرستان" لابن اسفنديار في القرن السابع الهجري، و"تاريخ طبرستان ومازندان" لظهير الدين المرعشي في القرن التاسع الهجري[6].

 

وأما القسم الثاني من مؤلفات الحديث عن الوطن المحلي، فهي ما أسماه المؤرخون باسم "التاريخ المحلي الديني"، وهي مؤلفات تأريخية للمدن لا يقصد من ورائها المؤرخ التعريف بالمدينة ورجالاتها وإنما يستهدف تمكين القراء من الاطلاع على التاريخ المقدس لهذه المدن، ومن أشهر هذه التواريخ، "تاريخ مكة" لأبي الوليد محمد بن عبد الله بن الأزرق (ت بعد 244هـ) و "الدرة الثمينة في تاريخ المدينة" لمحمد بن محمود النجار (ت647هـ)، و"تاريخ بيت المقدس" لابن الجوزي. ثم جرى تطور في هذه المؤلفات حيث بدأت تهتم بالحديث عن علماء المدن من رجال الفقه والعلوم الشرعية ثم الحديث عن رواة الحديث النبوي الشريف، ومن أقدم الكتب التي وصلتنا في هذا المضمار "تاريخ واسط" لأبي الحسن أسلم بن سهل (ت288هـ)، واللافت أن أقدم تاريخ محلي ديني رتبت تراجمه على أبواب المعاجم وفقا للترتيب الأبجدي والباقي حتى يومنا هذا كتاب "تاريخ علماء الأندلس" لأبي الوليد عبد الله بن الفرضي (ت403هـ)، ويدرج في هذا المضمار كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (ت463هـ)، و"تاريخ دمشق" للحافظ ابن عساكر (ت571هـ)، و"فضائل الإسكندرية" لأبي علي الحسن بن الصباغ المتوفى في منتصف القرن الخامس الهجري[7].

 

وإن القارئ الذي يراجع تلك المؤلفات التاريخية المحلية يجد أنها خير تعبير من أبناء الحضارة الإسلامية على اعتزازهم بالمحلة/الإقليم، الذي لم يكن يتعارض بدوره مع اعتزازهم بالوطن الإسلامي الكبير؛ في لفتة تدلل على مقدار التنوع الذي انصهر داخل مرجل هذه الحضارة حيث الحرية مكفولة للجميع!

 

 

باحث مصري في التاريخ والتراث.

 

 

[1] مصطفى النشار: فلسفة التاريخ ص22.

[2] فرانز روزنثال: علم التاريخ عند المسلمين، ترجمة صالح العلي ص206.

[3] السخاوي: الإعلان بالتوبيخ نص روزنثال.

[4] المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 3/157.

[5] رسائل ابن حزم، تحقيق إحسان عباس 2/173.

[6] راجع السيد عبد العزيز سالم: التاريخ والمؤرخون العرب من ص107 – 124.

[7] شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون الجزء الثاني، الملامح العامة للتدوين التاريخي لكل إقليم.

المصدر: http://arabicenter.net/ar/news.php?action=view&id=1576

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك