عظمة القيادة النبوية

عظمة القيادة النبوية

د محمد عمر دولة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإنها والله أمانةٌ عظيمةٌ أن يتصدى العاجِزون القاصِرون لبيانِ عظمةِ أشرفِ المرسَلين وإمام المتقين وسيدِ الأولين والآخِرين! فهذه مُهِمةٌ لا يُعِينُ على تيسيرِها إلا ربُّ العالَمِين.
ولكنَّها خواطرُ من هَدْيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسُنَّتِه نؤدِّبُ بها أنفُسَنا، ودُروسٌ من سِيرَتِه وشَمائلِه نُعَطِّر بها أنفاسَنا، ونزدادُ بها صلاةً على رسولِنا العظيم وحُبًّا له وتوقيراً لِمَقامِه الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وليست الشمائلُ المحمدية والسيرةُ النبوية تأريخاً للسنوات وعداًّ للغزوات ومجرَّدَ قِصَصٍ وروايات. بل هي روائعُ من المكارِمِ الأخلاقية والكمالات النفسية والصِّلات الاجتماعية والسياسة الشرعية والإدارية والعسكرية.
وصدقَ (مونتغمري وات) حين قال في كتابه (محمد في مكة): "لا يكفي في ذِكرِ فضائلِ محمد أنْ نكتفِيَ بأمانتِه وعزيمتِه إذا أرَدْنا أن نفهَمَ كلَّ شيءٍ عنه"! وقال مايكل هارث في كتابه (الخالدون مائة) مُتحدِّثاً عن شخصيةِ النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذا الاتحادَ الفريدَ لا نظيرَ له للتأثيرِ الديني والدنيوي معًا يُخَوِّلُ محمدًا أن يُعتبَرَ أعظمَ شَخصية مفرَدة ذات تأثير في تاريخ البشرية".
فمِن جوانبِ العظمةِ النبوية ما جَمعَه الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم من مراتبِ الكمالِ النظرية والعملية.. الفِكرية والقِيادية. وهذه حقيقةٌ يعرفها حُذَّاقُ الإدارةِ وعظماءُ القادة الذين يُدرِكُون قيمةَ تكامل الأفكارِ وإيمان القيادة بها في صناعةِ النجاح، كما عبَّرَ عن ذلك (هتلر) في كتابه (كفاحي) فقد قرَّرَ ذلك بقوله: "من النادرِ أن يكونَ واضِعُ النظرياتِ قائدًا عظيمًا، أما الْمُحرِّك الاجتماعي أو السياسي فامتلاكُه لتلك الصفاتِ التي ترشِّحُه للقيادة أرجح إلى حدٍّ بعيدٍ، فهو دائمًا قائدٌ أفضل؛ فالقيادةُ تعني القدرةَ على تحريكِ جُموعِ البشر. والقدرةُ على تقديمِ الأفكارِ لا علاقةَ لها بالقدرةِ على القِيادة. إنَّ اتحادَ صفاتِ وَضْعِ النظرياتِ والتنظيمِ والقيادةِ في شخصٍ واحدٍ هي ظاهرةٌ من النادرِ جِدًا حُدُوثُها في هذا العالَم. وهنالك تكمنُ العَظمة"!
فقد قال مايكل هارت في كتابه (الخالدون مائة): "إنَّ اختياري لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ليأتي في المرتبة الأولى من قائمة أكثرِ أشخاصِ العالَم تأثيرًا في البشرية قد يُدهِشُ بعضَ القراء! وقد يعترِضُ عليه البعض، ولكنه كان الرجلَ الوحِيدَ في التاريخ الذي حقَّّقَ نجاحًا بارزًا على كلٍّ مِن المستوى الدينِي والدنيوي".
فالدعوة إلى الأفكار السامية منزلة ساميةٌ وتحقيق ذلك في واقع الناس منزلة أسمى وأرقى، كما عَبَّرَ عن ذلك اينين دينيه في كتابه (محمد رسول الله) تعبيراً حسناً، فقال: "لقد دعا عيسى إلى المساواة والأخوة، أما محمد فوُفِّقَ إلى تحقيقِ المساواة والأخوَّة بين المؤمِنين أثناء حياته".
وقد شهدَ بذلك المؤرخ البريطاني (توينبي) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) حين قال: "لقد كرَّسَ محمد حياته لتحقيقِ رسالتِه في كفالةِ هذين المظهَرَين في البيئة الاجتماعية العربية: وهما الوِحدانية في الفِكرة الدينية، والقانون والنظام في الحكم، وتم ذلك فعلاً بفِضلِ نظامِ الإسلامِ الشاملِ الذي ضَمَّ بين ظهرانَيه الوحدانية والسلطة التنفيذية معًا".
وقال الفيلسوف الفرنسي (كارديفو): "إن محمداً كان هو النبيَّ الملهَم والمؤمن، ولم يستطعْ أحدٌ أن يُنازِعَه المكانة العالية التي كان عليها! إنَّ شعورَ المساواةِ والإخاءِ الذي أسَّسَه محمدٌ بين أعضاءِ الكُتلة الإسلامية كان يُطبَّقُ عَملِياًّ حتى على النبيِّ نفسِه".
وشتانَ بين فِكرةٍ صغيرةٍ سرعان ما تضمَحلُّ وبين فِكرةٍ حَيةٍ باقيةٍ لا تزدادُ مع الأيام إلا نورا وضياءً. (وأما الزبدُ فيذهب جُفاءً وأما ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض). وقال الكاتب البريطاني ولز في كتابه (موجز تاريخ العالم): "لقد منحَ العربُ العالَمَ ثقافةً جديدةً، وأقاموا عقيدةً لا تزالُ إلى اليومِ مِن أعظمِ القوى الحيوية في العالَم، أما الرجلُ الذي أشعلَ ذلك القبسَ العربِي فهو محمد". وقال الكاتب النصراني اللبناني نصري سلهب: "هنا عظمة محمد؛ لقد استطاع خلال تلك الحقبة القصيرة من الزمن أنْ يُحدِثَ ثورةً خُلُقية ورُوحِيةً واجتِماعِيةً، لم يَستَطِعْها أحدٌ في التاريخ بِمِثلِ تلك السُّرعة المذهِلة".
وقال ديورانت في كتابه (قصة الحضارة): "إذا ما حَكَمْنا على العَظمة بما كان للعظيمِ مِن أثرٍ في الناسِ قُلنا: إنَّ محمدًا كان من أعظمِ عُظماءِ التاريخ، فلقد أخذَ على نفسِه أن يرفعَ المستوى الرُّوحِي والأخلاقي لِشَعبٍ ألقَتْ به في دياجيرِ الهمَجية حرارةُ الجو وجَدبُ الصحراء، وقد نجحَ في تحقيقِ هذا الغرضِ نجاحًا لم يُدانِهِ فيه أيُّ مُصلحٍ آخرَ في التاريخِ كلِّه. وقلَّ أنْ نجدَ إنسانًا غيرَه حقَّقَ ما كان يحلمُ به؛ ولم يكنْ ذلك لأنه هو نفسُه كان شديدَ التمسك بالدِّين وكفى، بل لأنه لم يكنْ ثمة قوةٌ غيرُ قوةِ الدِّين تدفعُ العربَ في أيامِه إلى سُلوكِ ذلك الطريقِ الذي سلَكُوه، وكانت بلادُ العرب لما بدأ الدعوةَ صحراءً جدباء، تسكنها قبائلُ من عبَدَةِ الأوثان قليلٌ عَدَدُها، متفرقةٌ كلمتُها، وكانت عند وفاتِهِِ أُمةً مُوحَّدةً مُتماسِكة. وقد كبحَ جِماحَ التعصُّبِ والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحيةِ ودينِ بلادِه القديمِ دِينًا سَهْلاً واضِحًا قويًا، وصَرْحًا خُلقيًا قِوامُه البَسالة والعِزةُ القومية. واستطاع في جيلٍ واحدٍ أن ينتصرَ في مائة معركة، وفي قرنٍ واحد أن يُنشِىءَ دولةً عظيمة، وأن يبقى إلى يومِنا هذا قوةً ذاتَ خطرٍ عظيمٍ في نصف العالم".
وإذا كان بعضُ المسلِمين اليومَ لا يدرُون مِن جوانبِ عظمةِ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا أنه صادقٌ أمينٌ؛ فقد أنطقَ الله عزَّ وجلَّ رِجالاً لا يَدِينُون بالإسلامِ بالشهادةِ لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم بأنه كان مُربِّياً صالِحاً ومُعلِّماً ناصِحاً ومُصلِحاً اجتماعياًّ ناجِحاً وقائداً حكيماً مُوَفَّقاً! وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) (الرعد 43)0 فقد قال مونتغمري وات في كتابه (محمد في مكة): "كلما فكَّرْنا في تاريخِ محمد وتاريخِ أوائل الإسلام تَملَّكَنا الذهولُ أمامَ عظمةِ مثلِ هذا العمل. ولا شك أنَّ الظروفَ كانت مُواتِيةً لمحمد؛ فأتاحت له فُرصًا للنجاح لم تُتِحْها لسوى القليلِ من الرجال غير أنَّ الرجلَ كان على مستوى الظروفِ تمامًا. فلو لم يكنْ نبيًًّا ورجلَ دولةٍ وإدارة، ولو لم يضَعْ ثِقَتَه بالله ويقتنِعْ بشكلٍ ثابتٍ أنَّ الله أرسلَه؛ لَما كتبَ فَصلاً مُهِمًًّا في تاريخِ الإنسانية. ولي أملٌ أنَّ هذه الدراسةَ عن حياةِ محمدٍ يُمْكِنُها أنْ تُساعِدَ على إثارةِ الاهتمامِ من جديدٍ برجلٍ هو أعظمُ رِجالِ أبناءِ آدم".
ورَحِم الله أبا العتاهية حيث قال:
وَالناسُ يَبتَدِعونَ في أَهوائِهِم ** بِدَعاً فَقَد قَعَدوا بِهِنَّ وَقاموا
وَمُحَمَّدٌ لَكَ إِن سَلَكتَ سَبيلَهُ ** في كُلِّ خَيرٍ قائِدٌ وَإِمامُ!

- - - -
محمد في مكة لمونتغمري وات ص94.
الخالدون مائة، مايكل هارت، ص33. تصنيف لأكثر الأشخاص تأثيراً في التاريخ. نيويورك شركة هارت للنشر سنة 1978.
محمد رسول الله لاينين دينيه ص 323.
مختصر دراسة التاريخ لأرنولد توينبي 10/381.
ذكره الكاتب المغربي إدريس الكنبوري في (النبي صلى الله عليه وسلم كما تحدث عنه المنصفون والعقلاء في الغرب:
الاعتراف بعالمية الإسلام وفضل رسوله على البشرية والحضارة الغربية). موقع صيد الفوائد.

موجز تاريخ العالم لولز ص200-201.
في خطى محمد لنصري سلهب ص 196. دار الكتاب العربي، بيروت 1970م.
قصة الحضارة لديورانت 13/47.
محمد في مكة لمونتغمري وات ص512.

المصدر: http://www.meshkat.net/node/12102

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك