من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في العلاقات الاجتماعية

من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في العلاقات الاجتماعية
إعداد
د. عبد المجيد البيانوني

بيان من الدستور الخالد

يقول الله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللَّهِ ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ، وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ، وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) } النحل .
ويقول تعالى : { قُلْ : هَذِهِ سَبِيلِي ، أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ، أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ ، وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108) } يوسف .

الْحَمْدُ للهِ المتفضّلِ بإنزالِ القُرآنِ ، هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ، أنزله بأفصحِ لسانٍ ، وأوضح بيان ، وأبلغ حجّةٍ وأتمّ برهانٍ ، على قلب سيّد المرسلين ، وأفضل الأوّلين والآخرين ، محمّد بن عبد الله  خاتم النبيّين ، الذي أرسله للعالمين رحمةً ، وجعله داعياً إلى الله بإذنه ، وسراجاً منيراً ، ومنارَ الحقّ للأمّة ، وكاشفاً لكلّ غمّة ، فلم يزل  يجاهد في الله حقّ جهاده ، ويدعو إلى الله تعالى الثقلين من عباده ، ويدأب في إيضاح السبل ، ويصبر صبر أولي العزم من الرسل ، حتّى أنجز اللهُ وعده ، ونصر عبده ، وهزم الشيطان وجنده ، صلّى الله عليه وعلى آله الأطهار ، وصحابته الأخيار ، ودعاة دينه الأبرار ، ما تعاقب الليل والنهار ، وعلت دعوة الحقّ في الأمصار ، وبعد ؛ فإنّ الدعوة إلى الله تعالى هي سرّ حياة الأمَّة ، وروح كيانها القويم ، ومُنطلق نهضتها ، ومنبع سعادتها ، بها عزّت وسادت ، وفتحت القلوب والبلاد ، وقادت الأمم والشعوب ، وعندما فرّطت بها انفرط عقدها ، وتفرّقت كلمتها ، واضمحلّ أمرها ، وامّحى أثرها ، وأصبحت في ذيل الأمم ومؤخّرة الركبِ ..
وليست الدعوةُ إلى الله تعالى عصا غليظةً ، يحملُها فريق من الناس ، يخيف بها الآخرينَ ويتهدّدهم .. وليست أحكاماً حاضرة في كلّ مناسبة ولكُلّ موْقف ، تتّهم الناسَ في عقائدهم أو نيّاتهم ، وتُوزّع عليهم ألقاباً وصفَات ، باسم الغيرة على دين الله ، أو الدفاع عَن حرماته ..
وكذلك ليست الدعوةُ مواقف خطابيّة أو انفعالات آنيَّة ، تمليها ظروف من فورة الحماسة ، ثمّ تطفئها لجج الحياة ، كمَا تقضِي على الأمواج الهائجة حوافّ الشطآن ..
وليست الدعوةُ إلى الله تعالى فكرة فلسفيّة ، تحتاج إلى رصيد هائل ضخم ، من العلوم والثقافات والمعارف ، ليكون الإنسانُ ألحنَ بحجّته ، وأفصحَ ببيَانه من الآخرين ، ينازلهم في ميادين الفكْر والثقافة الواسعة ، كمَا ينازل المصارع في الحلبة خصمَه ، ويتحدّاه ويتهدّدُه ..
إنّما الدعوةُ إلى الله تعالى سلوك أخلاقيّ قبلَ كلّ شيء ، ينبع من أدب النفس وسجاياها الخيّرة ، التي تَحمل الدين منهجاً عمليّاً للحياة في جميع جوانبها ، فتتمثّلُ بهِ النفس في ذاتها بصدق وتجرّد عَن حظوظهَا ، ثمّ ترشح إلى علاقاتها مَعَ الآخرين على اختلاف تَوجّهاتهم ومشاربِهِم .
وإلى الله تعالى نشكو انحراف المفاهيم ، وفساد التصوّرات ، حتّى قست قلوبنا ، وتقطّع ذات بيننا ، وشاعت الأثرة البغيضة في صفوفنا ، ووهت الروابط ، وتبلّدت المشاعر ، وتباعدت المسافات النفسيّة والحسّيّة بين أقرب الأقربين ، فهم كالغرباء أو أشدّ بعداً ..
فكم من مصيبة تنزل بإنسان ، فلا يجد حوله من إخوان الصدق من يواسيه ، أو يخفّف عنه ، وربّما رأى من إخوانه من يلومه ويعذله ، بل ويقرّعه على ما نزل به من قدر الله وابتلائه .!
وكم من إنسان يعيش أزمةً من أزماتِ الحياة خانقة ، وقد يعلم به أقرب أقاربه ، فلا تتحرّك عواطفه ، ولا تهتزّ مشاعره ، ولا يواسيه ولا يخفّف عنه ، ولو بالكلمة الطيّبة ، وقد يأتيه البعيد مخفّفاً مواسياً ، يعرض خدمته ومواساته .. وربّما اعتذر القريب بجهله بحال قريبه ، وهذا لعمر الحقّ عذر أقبح ، وخطب أفدح :
فإن كنت تدري فتلك مصيبة
وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظمُ
وكم من إنسان قد يحيد عن الطريق قليلاً أو كثيراً فلا يجد من ينصحه ، ويخلص في نصحه .. ومنهم من إذا نصحه ناصح أمين جافاه وابتعد عنه ، وزهد في مجالسته ولقائه ..
لقد غلبت الأهواء ، وافتتن الناس بالدنيا ، وتنافسوا فيها .. فوا أسفا على مروءات السلف وحقوق الأخوّة ، التي كانت واحة خضراء في صحراء الحياة وجدبها ، ينعم الناس بخيراتها ، ويتفيّئون ظلالها ، إذا كان التأسّف يجدي أو ينفع .. ولن نيأس من روح الله ورحمته .. فلابدّ لنا من تشخيص الداء ، ومعرفة الدواء ، وتدارك الأمر واستئناف التربية ، والله وليّ العون والتوفيق .
تلك نفثة مصدور وشكوانا المريرة ( ) ، نبثّها على مستوى علاقات الأسرة الواحدة ، وما فيها من الرحم والقرابة .. وعلى مستوى أخوّة الإسلام ، والدعوة إلى سبيله ، وما فيها من الحقوق المؤكّدة الموثّقة ، الواسعة الشاملة .. وعلى مستوى الجوار والمواطنة ، وما لها من الحقوق والمبادئ ، التي هي جزء لا يتجزّأ من تشريعات هذا الدين وأحكامه ..
وبعد ؛ فهذه محاولةٌ أوّليّة للتعريف بركائز دعَويّة ، تعالج طرفاً من هذه المآسي والمشكلات .. كانت فكرة محدودة الأبعاد ، لا تتجاوز أسطراً من المداد ، ثمّ ترعرعت فكرتُها ، واتّسعت موضوعاتها ، ونمت زرعتها ، كما ينمو الجنين فيكون بشراً سويّاً ، ولا أدّعي أنّها استوت على سوقها ، أو آتت كلّ جناها وأكلها ، وإنّما أردتّ أن أفتح الطريق بها ، لتلتفت إليها أنظار العلماء والدعاة والباحثين ، فيتقدّم من يكمّل أو يستدرِك ، ويزيد وينقّح .
وأتمنّى أن تكون هذه الكتابة وأمثالها منهجاً للتربية الدعويّة القويمة ، التي ينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن يولوها اهتماماتهم ، ويوفّروا عليها جهودهم واجتهادهم ، ليتخرّج على أعينهم جيل من الدعاة ، الذين يملئون الفراغ ، ويسدّون الثغرات ، ولا يترك الأمر للاجتهادات الفرديّة ، والرغبات المتحمّسة في وقت دون آخر ..
والله تعَالى أسأل بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى : أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم ، ويكتب له القبول والمثوبة ، ويجزِل لي الأجر والجزاء ، إنّه أكرم مسئول ، وغاية المأمول ، وهو حسبِي ونعمَ الوكِيل .

في جدّة 20/5/1422هـ

وكتبه راجي رحمة ربّه وعفوه
عبد المجيد بن أسعد البيانوني





ونتكلّم في هذا التمهيد عن النقاط التالية :
1 ـ معنى الركائز ومَفهومها .
2 ـ صلة الركائز الدعويّة بالفطرة الإنسانيّة والأصول الشرعيّة .
3 ـ الكلمة الطيّبة منهج وعمل :
4 ـ السيرة النبويّة العطرة تترجم هذه الركائز وتجسّدها:
5 ـ وقفة مع قول الله تعالى : {وإنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ (4)} القلم .
6 ـ وقفة مع قول الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ .. (21) } الأحزاب .
7 ـ أوجه الحسن في التأسّي برَسُولِ اللهِ  .


ـ أوّلاً : معنى الركائز ومَفهومها :
الرَّكائز جمعُ رَكيزة ، وهي مِن فِعلِ : رَكَزَ يركُزُ شيئاً في شيء : أقرّه وأثبته ، ويقال : ركز السهمَ في الأرض : غرزه ، وركز اللهُ المعادنَ في الأرضِ أو الجبالِ : أوجدها في باطنها ، وهذا شيء مركوز في العقول .
وركّزه بمعنى ركزه ، وارتكز وتركّز : ثبت واستقرّ ، والرِّكزةُ ثباتُ العقلِ ومُسكتُه ، يقال : ما رأيت له رِكزةً أو رِكزةَ عقل .
والركيزة : ما يُرتكَز عليه ، والقطعة من جواهر الأرض المركوزة فيها ، جمع : رِكاز وركائز " ( ) .
ومن المعنى اللغويّ يظهر لنا أنّ ما يُرتكَز عليه : إمّا لقوّته المادّيّة ، أو مكانته المعنويّة ، وهو ما يناسب المعنى في هذا المقام .
وعلى ضوء ما تقدّم نعرّف الركائز اصطلاحاً بأنّها : " أصل عامّ جامع ، يعدّ من قواعد الشريعة ومقاصدها ، وكلّياتها ومبادئها ، وهي تغطي جوانب الحياة الإنسانيّة المختلفة وتشملها " .
ويمكن أن تأخذ الركائز منحى أيّ علم من علوم الشريعة على حسب الصفة ، التي تخصّصها ، فإذا قيل : الركائز الدعويّة ، فهي الخاصّة بالدعوة إلى الله تعالى ، وما يتّصل بها من مناهج وأساليب ووسائل ، وإذا قيل : الركائز العقديّة ، فهي الخاصّة بعلم التوحيد والعقيدة ، وإذا قيل : الركائز الفقهيّة ، فهي الخاصّة بعلم الفقه ، وإن يكن الشائع تسميتها بالقواعد الفقهيّة ، وهكذا .. فلكلّ علم ركائزه الخاصّة به .
ـ ثانياً : صلة الركائز الدعويّة بالفطرة الإنسانيّة والأصول الشرعيّة :
وتتّصل الركائز كلّها بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وتنطلق منه ، والعمل الصالح هو الوجه العمليّ لهذه الركائز على تنوّع صلاتها ، وعلى قدر رسوخ العقيدة في النفس ووضوحها ، وحسن فهم الإنسان لدينه وصدقه في التزامه ، ينشط الإنسان في العمل الصالح ، ويحرص على تنْويعه ، لأنّ شريعة الله شاملة لكلّ مناحي الحياة ، كما يحرص على إتْقانه ، لأنّ الله يحبّ من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه ، ولأنّ العمل الخالص المتقن هو الذي يرجى له أن يؤتي ثماره في الدنيا ، ويكتب له القبول في الآخرة .
وهذه الركائز هي ركائز إيمانيّة دينيّة ، وهي ركائز فطريّة أيضاً ، لأنّ النفس السويّة تتقبّلها ، وتحرص على التحقّق بها ، ومن ثمّ فهي حصن للنفس عن الخروج عن الفطرة ، والارتكاس في درك البهيميّة ، وربما كانت هذه الركائز أو بعضها سبب انقياد الإنسان إلى حظيرة الإيمان أو التوبَةِ ، ونجاته من وهدة الكفر أو العصيان .
فدعوة الإسلام تقوم على ركائز ، تعدّ بمثابة قواعد كلّيّة ، ومبادئ عامّة جامعة ، ينبغي على كلّ متصدّر للدعوة أن يفقهها ، ويأخذ بها ، لينجح في دعوته ، ويحقّق أهدافه ..
وتتداخل ركائز كلّ علم مع العلوم الأخرى نظراً لتداخل علوم الشريعة كلّها ، ووثيق اتّصال بعضها ببعض ، ممّا يمنحها صفة التنوّع في معانيها ، والشمول في حقائقها .
وأهمّ الركائز الدعويّة التي تقوم عليها الحيَاةُ الاجتماعيّةُ الراشدة :
1 ـ النصح والإخلاص ، وحبّ الخيرِ للناس جميعاً .
2 ـ الرحمة بالناس ، والرفق بهم ، والشفقة عليهم ، وبذل المعروف لهم .
3 ـ وحدة الأمّة واجتماع كلمتها ، ونبذ التفرّق والاختلاف .
4 ـ الاستزادة من العلم ، ونشر التعليم .
5 ـ الإحسان في أداء الحقوق والمطَالبة بهَا .
6 ـ فعل الخير والتعاون على البرّ والتقوى .
7 ـ المحافظة على قيم المجتمع وآدابه .
8 ـ الاجتهاد في فهم الدين ، وإقامة شرائعه في الحياة .
9 ـ الحكمة في سياسة الأمّة ، ومعالجة المواقف .
10 ـ وضوح المنهج الإسلاميّ بمبادئه وأحكامه ومقاصده .
ولا نجد أنفسنا بحاجة إلى الوقوف عند هذه الركائز للتدليل على كلّ واحدة منها ، إذ هي من نوع البدهيّات الشرعيّة ، المعلومة من الدين بالضرورة ، فلا تخفى على عامّة أبناء الأمّة ، وهي تمثّل قدراً من الثقافة الإسلاميّة العامّة ، ولكنّ الالتزام السلوكيّ بها هو ما نشكو منه ونعاني ، تحت شتّى التعلاّت ، ومختلف المبرّرات ..
والحقّ أنّ هذه الركائز هي ركائز إسلاميّة عامّة ، يمكن النظر إليها من الزاوية الإيمانيّة ، ويمكن النظر إليها من الزاوية الاجتماعيّة الإنسانيّة ، كما يمكن النظر إليها من الزاوية الدعويّة ، ونحن ننظر إليها هنا من الزاوية الدعويّة ، وهي من هذه الزاوية تجعل دعوة الإسلام : عالميّة واضحة، جامعة منفتحة ، بعيدة عن أيّ عصبيّة أو انغلاق .
ثمّ إنّ لهذه الركائز مُقتضياتٍ عامّة ، كما أنّ لكلّ ركيزة منْها مُقتضيات وآثاراً . فمنَ المُقتضيات العامّة لهذه الركائز :
1 ـ خروج الإنسان عن الأثرةِ الشخصيّة ودائرة التقديس " للأنا " ، والترفّع عن أهواء النفس وحُظوظها ، أوْ ما يوهمُ الانتصار لها .
2 ـ تحلّي الإنسانِ بالعدل والإنصاف ، في نَفسه وعلاقاته ، وحرصه على الترقّي للتحقّق بالفضل .
3 ـ الحرص على فعل الخير ، والتنافسِ فيه ، وأداء العمل على أحسن وجوهه .
4 ـ التحقّق بالأخوّة الإنسانيّة ، فَضلاً عن الأخوّة الإسلاميّة .
ثمّ إنّ هذه الركائز تَحكم الدعوة وعلاقاتها ومسارها ، وتضبط سلوك أبنائها ، وتسمو بهم عن أن تكون علاقتهم بالدعوة تبَعاً للأمْزجة والأهواء ، أو ابتغاء عرض زائل ، أو مطمع عاجل من مطامع الحياة ..
هذا ، وقد تمثّلت هذه الركائز في حياة النبيّ  وسيرته وهديه ، في كلّ العلاقات الاجتماعيّة ، التي واجهها وعالجها ، أو بناها وأقامها ، كما تمثّلت في فنّ دعوته إلى الله تعالى وأسلوبه فيها ..

ـ ثالثاً : الكلمة الطيّبة منهج وعمل :
الحديث عن الكلمة الطيّبة وَاسع متَشعّب ، ولا غرض لنا فيما يبدو هنا للدخول في ميادينه ، ولكنّ جَانباً منه يخصّ بحثَنا لابدّ أن نشير إليه ، ألا وهو ما يعود إلى العمل والسلوك ، وذلك أنّ الكلمة الطيّبة يمكن أن يُنظرَ إلَيْها مِن زاويتين :
ـ الزاوية الأولَى : أنّها كلام يعبّر عن منهج يجب على من يعلنه أن يكون أوّلَ الناس التزاماً به ، كما لو تحدّث الإنسان عن الأمانة ، أو الصدق في القول والعمل ،
أو دقّة الالتزام بالموعد .
وفيما يتّصل بهذه الزاوية جاء التحذير الشديد في الكتاب والسنّة من تناقض الأفعال مع الأقوال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3) } الصفّ .
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ  قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ  يَقُولُ : ( يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ ، فَيَدُورُ بِهَا ، كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى ، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَيَقُولُونَ يَا فُلانُ ! مَا لَكَ ! أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ .؟! فَيَقُولُ : بَلَى ، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ) ( ) .
ـ والزاوية الثانية : أنّها كلام يعدّ بحدّ ذاته جزءاً من المنهج ، كإلقاء السلام ، وكلمات المودّة والسؤال عن ظروف الإنسان وحاله ، ويشير إليها ما جاء في الحديث الصحيح : ( .. والكلمة الطيّبة صدقة .. ) ( ) .
والكلمة الطيّبة من هذه الزاوية لاصقة ببحثنا كلَّ اللصوق ، لأنّها في الحقيقة عمل اللسان فيما كُلّفَ به ، وهي جُزء من السلوك الاجتماعيّ السويّ في الإسلام ، وعليه يقوم منهج الدعوة إلى الله تعالى .
وهي مفتاح كلّ خير ومعروف في حياة المُؤمن ، ودريئة كلّ شرّ ومنكر ، ولها سرّ لا يُقدّر في امتصاص الغضب ، وتهدئة النفوس الثائرة ، كما أنّها عون للمؤمن على التزام المنهج ، والوقوف عند حدوده وآدابه .
والحقّ أنّ الْكَلِمة الطَّيِّبة تتوثّق بالعمل الصالح ، وتتّصل به ، بصورة لا تقبلُ أيّ تجزيء أو انفصال ، بدءاً وانتهَاءً ومَآلاً ، يقول اللهُ تعالى : {.. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ .. (10) } فاطر . وربّما حسن الوقوف عندَ هذه الآية الكريمة لاستجلاء بعض معنَاها .
وقفة عند قوله تعالى : {.. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ .. (10) } فاطر .
قال ابن كثير رحمه الله : " وقوله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } يعني الذكر والتلاوة والدعاء ، قاله غير واحد من السلف ..
قال المخارق بن سليم : قال لنا عبد الله بن مسعود  : إذا حدّثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى : " إنّ العبد المسلم إذا قال : سبحان الله وبحمده ، والحمد لله ، ولا إله إلاّ الله ، والله أكبر تبارك الله ، أخذهنّ ملك ، فجعلهنّ تحت جناحه ، ثمّ صعد بهنّ إلى السماء ، فلا يمرّ بهنّ على جمع من الملائكة إلاّ استغفروا لقائلهنّ ، حتّى يجيء بهنّ وجه الله عزّ وجلّ ، ثمّ قرأ عبد الله  : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } .
وقال كعب الأحبار : " إنّ لسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلاّ الله ، والله أكبر لدويّاً حول العرش كدويّ النحل ، يذكرن لصاحبهنّ ، والعمل الصالح في الخزائن " ، وهذا إسناد صحيح إلى كعب الأحبار رحمة الله عليه ، وقد روي مرفوعاً .
وروى الإمام أحمد عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ  : ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ مِنْ جَلالِ اللهِ : مِنْ تَسْبِيحِهِ وَتَحْمِيدِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ ، يَتَعَاطَفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ ، يُذَكِّرُونَ بِصَاحِبِهِنَّ ، أَلا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ لا يَزَالَ لَهُ عِنْدَ اللهِ شَيْءٌ يُذَكِّرُ بِهِ ) .
وقوله تعالى : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } ، قال عَليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما : الكلم الطيّب ذكر اللهُ تعالى ، يصعد به إلى الله عزّ وجلّ ، والعمل الصالح أداء الفريضة ، فمن ذكر الله تعالى في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله تعالى يصعد به إلى الله عزّ وجلّ ، ومن ذكر الله تعالى ، ولم يؤدّ فرائضه ردّ كلامه على عمله ، فَكان أولَى به ، وكذا قالَ مجاهد : العمل الصالح يرفع الكلام الطيّب ، وكذا قال أبو العالية وعكْرمة وإبراهِيم النخعيّ والضحّاك وَالسدّيّ والربيع بن أنس وشهر ابن حوشب ، وغير واحد ، وقال إياس بن معاوية القاضي :
" لو لا العمل الصالح لم يرفع الكلام ، وقال الحسن وقتادة : لا يقبل قول إلاّ بعمل " ( ) .
ـ رابعاً : السيرة النبويّة العطرة تترجم هذه الركائز وتجسّدها :
لاشكّ أن الدعوة إلى اللهِ تعالى تعني بداهةً أن تقوم للإنسان علاقات مع المجتمع الذي يقوم بدعوته ، وعندما تكون العلاقةُ حكيمةً حميمة ، ينجح الداعية في عمله ، وتثمر دعوته ، وإذا كانت العلاقة بعيدة عن الحكمة ، تنبعث منها رائحة الكراهية ، ويَستشعر المدعو من الداعية روح الاستعلاء والازدراء لَمْ يوفّق الداعية في دعوته ، وعانَى من انصراف الناس عَنه ، وانفضاضهم من حوله ، وربّما عزا ذلك إلى فساد الناس وعدم اسْتجابتهم للدعوة ، والعذر من نفسيّته وأخلاقه ، قبل أن يكون من إدبار الناس وإعرَاضهم ..
ومن هُنا فإنّ الدين الذي جاء به رسول الله  ، والمنهج الذي اختطّه لأمّته لَمْ يُكْتفَ به أنّه حقّ في كلّ مبادئه وأحكامه ، وإنّما كانَت الصورة التي قُدّم بها صورة أخلاقيّةً رفيْعة ، في كلّ جانب من جوانبها ، عدا عن أنّ مكارمَ الأخلاق بحدّ ذاتها جزءٌ لا يتَجزّأ من مبادئ هذا الدين ونظامه .. ومن ثمّ فإنّ البعد الأخلاقيّ والسلوكيّ يبقى أقوى الأبعاد تأثيراً ، وأحكمها نفاذاً في حياة الإنسان لبلوغ المقاصد وتحقيق الغاية .
والمتأمّل في سيرة النبيّ  وهديه يرى أنّ هذه الحقيقة تنتظم حياته كلّها بلا استثناء ، في علاقاته مع القريب والبعيد ، والعدوّ والصديق ، وفي حالة الرضا والغضب ، والسلم والحرب ، والقوّة والضعف ، ممّا يدخل في العصْر الحاضر تحتَ ما يسمّى : المنهجَ الاجتماعيّ الذي يختاره الإنسان ويحكم حياته ، وما يقوم عليه من فنّ التعامل مع الآخرين ، الذي يُحكَم في ضوْئه على رسالته ، وعلى نجاحه في تحقيقها في الحياة أو إخفاقه ..
ـ رابعاً : وقفة مع قول الله تعالى : {وإنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ (4) } القلم .
لقد لخّص القرآن الكريم شخصيّة النبيّ  : وهو الرسول المبلّغ للرسَالة ، والداعية المبشّر بالدعوة بآية جامعة ، تجْمع إعجاز القرآن البيانيّ إلى إعجاز شخصيّة النبيّ المصطفى  ، التي حازت الكمال الإنسانيّ من أطرافه ، وهي قوله تعالى : { وَإنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ } القلم .
لقد وصف الله تعالى رسوله  بعظمة الأخلاق ، ولم يصفه بكريم الأخلاق ، وعدّ العلماء أخلاقَ النبيّ  معجزَة من أعظم معجزَاته ودلائل نبوّتِه ، وبيان ذلكَ أنَّ الموصوفَ بالأخلاق الكريمة قد يكون على خلقٍ فَاضل في بعض أموره دون بعض ؛ فقد يكون سخيّاً كريماً ، ولا يكون متَواضعاً للناس ، ليّن الجانب ، أوْ لا يكون ذا عفوٍ عمّن يسيء إليهِ ، أو ينتقصه بعضَ حقّه .. وقد يكون رحيماً ، ولا يكون حكيماً ، وقد يكون خدُوماً للناس ، يَسعى فِي مصالحهم ، ويفَرّج كرباتهم ، ولا يكون عفيفاً عَنْ أموالهم وحقوقهم ..
وكثيراً مَا تكون أخلاق بعض الناس فاضلةً في حال دون حال .. فيعدّه الناس كريماً في أخلاقه ، ويوصف بذلك لتحلّيه بخلق واحد من الأخلاق الفاضلة ، بصورة تغطّي على شخصيّته كلّها ، وتستر جوانب ضعفها وقصورها ، بل واختلالها في كثير من الأحيان ، كما أنّ وصف الإنسان بكريم الأخلاق قد يوحي بغلبة جانب الضعف في شخصيّته، أو العجز عن القيام بالحقّ أو تحصيله ، وحاشا رسول الله  عن ذلك كلّه ..
وكثيراً مَا تغطّي بعض الأخلاق الكريمة عَلى كثير مِن صِفاتِ الخلل والنقصِ فِي شخصيّة الإنسَان وسلوكه ، فيتناسَاها الناس ، وتَصغر في عيونِهم ، وقد يكون فيها ما يشين الإنسان ، ويحطّ من قدره ..
أمّا الأخلاق النبويّة فقد جمعت عظمة الأخلاق منْ أَطرافها ، وملكت زمامها ، وأحكمت قيادها ، وذلك تقدير العزيز العليم وتكريمه .. و { .. اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ .. (124) } الأنعام .
وإنّ عظمة أخلاق النبيّ  ، التي شهدت بها هذه الآية ، تتجلّى في ثلاثة جوانب قد جمعها الله تعالى فيه على أكمل حال وأوفاه :
ـ الجانب الأوّل : الخروج عن حظوظ النفس ، وترك الانتصار لها ، مهما جهل عليه الجاهل ، أو تجاوز حدّه ، وأساء إلى مقامه الكريم صلوات الله وسلامه عليه .
ـ والجانب الثاني : العفو عند المقدرة ، والتسامي عن المؤاخذة بما سلف من جرائم ، بلا مَنٍّ ولا ترفّع .. والسيرة النبويّة الكريمة طافحة بذلك فيّاضة ..
ـ والجانب الثالث : اجتماع أمّهات الأخلاق والفضائل والكمالات فيه ، في جميع الأحوال ، وعلى أرفع مستوى ، وأكمل حال ، ووضع ذلك أحسن مواضعه ، بقدر حكيم ، ونظام كريم ، وبصورة لم تجتمع في غيره من الأنبياء والرسل ، فضلاً عن أحد من البشر .
فهذه الجوانب الثلاثة قد اجتمعت في رسول الله  على أكمل وجه ، فكانت سرّ عظمة أخلاقه ، ومعجزة من أجلى معجزاته : فالخروج عن حظوظ النفس ، وترك الانتصار لها ، لم يكن مرّة واحدة ولا مرّتين ، بل في كلّ مرّة .. والعفو عند المقدرة ، لم يكن في حال دون حال ، بل في جميع الأحوال .. واجتماع أمّهات الأخلاق والفضائل والكمالات لم يكن في موقف دون آخر بل في جميع المواقف والأحوال .
ومن أروع ما يدلّنا على سعة صدر النَّبِيِّ  ، وعظمة أخلاقه ، وجميل حلمه ، وعدم غضبه لنفسه أو انتصاره لها ، هذا الموقف من مواقف السيرة العطرة : فقد جاء أعرابيّ يوماً إلى النَّبِيِّ  يطلب منه شيئاً فأعطاه  ، ثمّ قال له : ( أحسنت إليك .؟ قال الأعرابيّ : لا ، ولا أجملت ! قال : فغضب المسلمون ، وقاموا إليه ، فأشار إليهم أن كفّوا ، ثمّ قام ودخل منزله ، وأرسل إلى الأعرابيّ وزاده شيئاً ، ثمّ قال : ( أحسنت إليك .؟ قال : نعم ! فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال له النَّبِيُّ  : ( إنّك قلتَ ما قلت ، وفي نفسِ أصحابي شيءٌ من ذلك ، فإن أحببتَ فقُل بين أيديهم ما قلتَ بين يديّ ، حتّى يذهبَ من صدورهم ما فيها عليك ) ، قال : نعم ، فلما كان الغد أو العشيّ جاء ، فقالَ النَّبِيُّ  : ( إنّ هذا الأعرابيَّ قال ما قال ، فزدناه فزعم أنّه رضي ، أكذلك ؟ فقال الأعرابيُّ : نعم ! فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال النَّبِيُّ  : ( إنّ مثلي ومثل هذا الأعرابيّ كمثل رجل كانت له ناقة ، شردت عليه ، فاتّبعها الناس ، فلم يزيدوها إلاّ نفوراً ، فناداهم صاحب الناقة : خلّوا بيني وبين ناقتي ، فإنّي أرفق بها وأعلم ، فتوجّه لها بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض ، فردّها هوناً ، حتّى جاءت واستناخت ، وشدّ عليها رحلها ، واستوى عليها ، وإنّي لو تركتكم ، حيث قال الرجلُ ما قال فقتلتموه دخل النار ) ( ) .
ويَأتي قوله تعالى : { وَإنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ } في مساق التدليل على صِدق النبيّ  فيما جاء بِه من دعوى النبوّة ، ونفي افتراءات المُشركين واتّهاماتهم له بالجنون أو غيره ، ممّا يتنافى مع مكارم الأخلاق التي كان عليها ، صلوات الله وسلامه عليه ..
وأيّ نوْع جليل مِن الأدلّة هذا الدليْل، وهو بهذا البيان يدحض مفتريات المشركين ، ويشيد دعائم الحقّ المبين .؟!
إنّه يحمِل من الدلالات النفْسيّة والروحيّة ، التي يطمئنُّ إليها القلب ، وينشرح لها الصدر ، وتسعد بها النفس ، مثلما يحمل من الدلالة العقليّة القطعيّة الرصينة ، التي تأبى أن يُكذَّبَ الصادق ، أو يصدّق الكاذب ، أو يُتّهم طاهر السيرة نقيّ السريرة ..
وهذه الأخلاقيّة القائمة على منهج الإسلام البيّن ، لا تقبل المراوغة والمكر ، أو الغدر والالتواء .. وبخاصّة في التعامُل مع الأعداء والخصوم .. بينما نجد في مقابلها الأديان المحرّفة أو النظم الوضعيّة ، تفتقد إلى هذهِ الأخلاقيّة الرفيعة في التعاملِ ، وتغيب عنها ولا تعرفها ، وليس الأمر دعوى تدّعى بغير حجّة أو برهان ، فالواقع الذي تضجّ منه أمم الأرض أوضح للعيان من كلّ بيان ، ومن أنكر أو كابر فقل له : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ ، وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ ، الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } الحجّ .
وإنّ أمّة الإسلام لهي أحوج ما تكون اليوم إلى إحياء منهج دينها الأخلاقيّ في التعامل فيما بينها ، والالتزام الدقيق بذلك ، قبل أن تعلن عنه للناس ، وتدعو إليه ، ثمّ يراها الآخرون بعيدة عمّا تَدعو الناس إليه ، مُفتقدة لأبسط ما يأمرها به دينها ، ويلزمها به ..
" لقَد رُويَت عن عظمة أخلاق النبيّ  في السيرة ، وعلى لسان أصحابه روايات كثيرة مُتنوّعة ، وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كلّ مَا رُوي عنه ، ولكنّ هذه الشهَادة من الله تعالى أعظمُ بدلالتها من كلّ شَيء آخر : أعظمُ بصدورها عن العليّ الكبير ، وأعظم بتلقّي محمّد  لها ، وهو يعلم مَن هو العليّ الكبير ، وبقائه بَعدها ثابتاً راسخاً مُطمئنّاً ، لا يتكبّر على العباد ، ولا يتعاظم ، وهو الذي سمعَ ما سمع من العليّ الكبير ..
والله أعلم حيث يجعل رسالته ، وما كان إلاّ مُحمّدٌ  بعظمة نفْسه هذه من يَحمل هذه الرسالة الأخيرة بكلّ عظمتها الكوْنيّة الكبرى ، فيكون كفئاً لها ، كما يكون صورة حيَّة منها ..
إنّ هذه الرسالة من الكمال والجمال ، والعظمة والشمول ، والصدق والحقّ ، بحيث لا يحملها إلاّ الرجل الذي يثني الله عليه هَذا الثناء ..
إنّ حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة ، وإنّ عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة ، وإنّ الحقيقة المحمّديّة كالحقيقة الإسْلاميّة لأبعد من مدى أيّ مجهر يملِكه بشر ، وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدّد مَداها ، وأن يشير إلى مسارها الكونيّ دون أن يحيط بآفاق هذا المسار ..
لقد كان رسول الله  عندما يثني على أحد أصحابه يهتزّ كيان صاحبه من وقع هذا الثناء العظيم ، وهو بشر .. وصاحبه يعلم أنّه بشر .. فأمّا هو ؛ فيتلقّى هذهِ الكلمة من الله .. وهو يعلم من هوَ الله .. ويعلم منه ما لا يعلمه سواه ..
وفي هذه الآية دلالة على تمجيد العنصر الأخلاقيّ في ميزان الله ، وأصالة هذا العنصر في المنهج الإسلاميّ كأصالته في شخصيَّة رسول الله  وهديه ..
والناظر في هذه العقيدة كالناظر في سيرة رسولها ، يجدُ العنصر الأخلاقيّ بارزاً فيها أصيلاً ، تقوم عليه أصولها التشريعيّة وأصولها التهذيبيّة على السواء .. الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة ، والأمانة والصدق ، والعدل والرحمة ، والبرّ وحفظ العهد ، ومطابقة القول للفعل ، ومطابقتهما معاً للنيّة والضمير ، والنهي عن الجور والظلم ، والخداع والغشّ ، وأكل أموال الناس بالباطل ، والاعتداء على الحرمات والأعراض ، وإشاعة الفاحشة بأيّة صورة من الصور .. والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقيّ في الشعور والسلوك ، وفي أعماق الضمير ، وفي واقع المجتمع ، وفي العَلاقات الدوليّة على السواء ..
والرسول الكريم  يقول : ( إنّما بُعِثتُ لأتمّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ ) ( ) فيلخّص رسالته في هذا الهدف النبيْل ، وتتوارد أحاديْثه تترى في الحضِّ على كلِّ خلق كريم ، وتقوم سيرته الشخصيّة مِثالاً حيّاً ، وصفحة نقيّة ، وصورة رفيعة ، تستحقّ من الله أنْ يقول عنْها في كتابِه الخالد : { وإنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ } ، فيمجّد بهذا الثناء نبيّه  ، كما يمجّد به العنصر الأخلاقيّ في منهجه الذي جاء به هذا النبيّ الكريم ، ويشدّ به الأرض إلى السماء ، ويعلّق به قلوب الراغبين إليه سُبحانه ، وهو يدلّهم على ما يحبّ ويرضى من الخلق الكَريم القويم ..
وهذا الاعتبارُ هوَ الاعتبار الفذّ في أخلاقيّةِ الإسلام ، فهي لم تَنبع من البيئة ، ولا من اعتبارات أرضيّة إطلاقاً ، وهي لا تستمدّ ولا تَعتمد على اعتبار من اعتبارات العُرف ، أو المصلَحة ، أو الارتبَاطات التي كانت قائمة ، وإنّما تستمدّ من السماء ، وتعتمد على السماء ، تستمدّ من هتاف السماء للأرض ، لكي تتطلّع إلى الأفق ، وتستمدّ من صفات الله المطلقة ، ليحقّقها البشر في حُدود الطاقة ، كيْ يحقّقوا إنسانيّتهم العليا ، وكي يصبحوا أهلاً لتكريم الله تعالى لهم ، واستخلافهم في الأرض ، وكي يتأهّلوا للحياة الرفيعة الأخرى : { في مَقْعَدِ صِدقٍ ، عِندَ مَلِيكٍ مُقتَدِرٍ (55) } القمر .
ومن ثمّ فهي غير مقيّدة ولا محدودة ، بأيّ اعتبارات قَائمة في الأرْض ، إنّما هي طليقة ، ترتَفع إلى أقصى ما يطيقه البشر ..
ثمّ إنّها ليْست فضائل مجرّدة : صدق وأمانَة ، وعدل ورحمة وبرّ .. إنّما هي منْهج متكامل ، تَتعاون فيه التربية التَهذيبيّة مع الشَرائع التنظيميّة ، وتقوم عليهِ فكرة الحياة كلّها ، واتّجاهاتها جميعها ، وتنتهِي في خاتمة المطاف إلى الله ، لا إلى أيّ اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة ..
وقد تمثّلت هذه الأخلاقيّةُ الإسلاميّة بكمالها وجمالها ، وتوازنها واستقامتها ، واطّرادها وثباتها في محمّد  ، وتمثّلت في ثناء الله العظيم عليه في قوله سبحانه : { وإنّكَ
لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ } " ( ) .
فلا عجب بعد ذلك أن جعله الله تعالى أُسْوَةً حَسَنَةً للمؤمنين ، وحثّهم على التأسّي به ، فقال سبحانه : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ، لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21) } الأحزاب .
وهنا نجد أنفسنا لابدّ لنا من وقفة عند هذه الآية الفذّة في كتاب الله تعالى ، نستجلي بعض حقائقها ومعانيها ، ونقف على شيء من أسرارها وأغوارها ..
ـ خامساً : وقفة مع قول الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ .. (21) } الأحزاب .
* محمّد رَسُولُ اللهِ  هو الأسوة العظمى :
إنّ الإنسان في هذه الحياة لابدّ له من تقليد من هو أكبر منه سنّاً ، أو قدراً في نظره ..
وهذا التقليد قد يأخذ طابع سلوك لا شعوريّ غير واعٍ ، وربّما كان في بعض الأحيان غير مقصود ، وقد ينكره الإنسان ظاهراً ويأباه ، ولكنّه في الواقع يتتبّع سلوك من يقلّده ، ويتابعه بغير شعور منه ، ولا قصد ظاهر ..
وقد يأخذ التقليد طابع سلوك واعٍ مقصود ، عندما يشترك العقل والفكر مع القلب والعاطفة ، ويتساوقان في دفع الإنسان إلى التقليد والتبعيّة ..
ونلاحظ في كثير من الأحيان أنّ التنازع يقع في حياة كثير من الناس بين السلوك الواعي ، والسلوك غير الواعي ، أو بين الشعور واللاشعور ، كما يسمّيهما علماء النفس .
وبيان ذلك أنّ السلوك الواعي : يستند إلى انسجام أحكام العقل والعاطفة ، واتّصال الفكر والقلب ، فإذا ضعفت قوّة العقل ، واختلّت موازين الفكر وأحكامه ، غلبت العاطفة ، وتحكّمت الأهواء بالقلب ، فجنح باتّجاه ما تمليه عليه ، فتغلب عندئذٍ دوافع اللاشعور على الإنسان ، وتوجّهه وتقوده ، وهي أنواع من العواطف المستكِنّة ، والرغبات الداخليّة ، التي تغذّيها في كثير من الأحيان أهواء النفس ودوافعها .. وكثيراً ما تصطدم مع أحكام العقل ولا تتّفق معها ..
وقد يعلن الإنسان موقفاً عقليّاً ، يبرّر فيه هذا الانسياق العاطفيّ غير الواعي ، ويظهر للناس أنّه يتّخذه عن وعي واقتنَاع ، والحقيقة غير ذلك ، ويدلّ على ذلك ويصوّره حديث النبيّ  : عَنْ حُذَيْفَةَ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ  : ( لا تَكُونُوا إِمَّعَةً ، تَقُولُونَ : إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا ) ( ) .
ونضرب على ذلك مثلاً نراه في حياة كثير من الناس :
عندما نرى شابّاً أو فتاة ، أو رجلاً أو امرأة يقلّد أحدهم بعض العادات الأجنبيّة الوافدة إلى بلاد المسلمين ، ممّا يتعارض مع قيم الإسلام وآدابه وهديه ، فإذا افترضنا أنّه يعلم ذلك التعارض ولا يجهله ، فإنّ حقيقة ما يجري في نفس هذا المقلّد أو المقلّدة : أنّ العقل الواعي بما فيه من أحكام يرفض له الانسياق وراء هذا السلوك ، ويطالبه بالكفّ عنه ، ويريد للعقل الباطن غير الواعي أن يستجيب إلى طلبه ، ولكنّ العقل الباطن إذا غلبت عليه دوافع الهوى والرغبة الجامحة في ذلك السلوك ، لم يستجب لنداء العقل الواعي ، وراح يلتمس المبرّرات لاندفاعاته ، ويلبسها لبوس الرأي والفكر ، وهي من دوافع الهوى ، ووساوس النفس ..
ولا يخفى أنّ نتيجة هذا الصراع المحتدم في النفس البشريّة وآثاره مريرة مدمّرة ، وهو يكون كذلك عندما يتعارض اقتناع الإنسان الفكريّ معَ دوافعه العاطفيّة ، وقد وقى الله المؤمنين ذلك عندما أكرمهم بالنبيّ المعصوم  ، وجعله لهم القدوة العمليّة في كلّ شأن من شئون حياتهم ، فقال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ، لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21) } الأحزاب .
وهذا ما يحقّق لهم الهدوء النفسيّ والاستقرار الفكريّ، والانسجام الروحيّ ، فلا يعيشون نهباً للقلق والاضطراب .
وقد وضع الله تعالى في هذه الآية الكريمة شرطين للتحقّق بالتأسّي بالرسول  :
ـ الشرط الأول : رجاءُ اللهِ وَرجاءُ الْيَوْمِ الآخِرِ .
ـ والشرط الثاني : ذِكرُ اللهِ كَثِيرًا .
ـ والشرط الأول : وهو رجاء الله ، ورجاء اليوْم الآخر هو شَرطٌ عامٌّ جامعٌ ..
فمعنى رجاء الله : رجاء مثوبة الله ورضاه ، وخَوف سخطه وعذابه .. وفي الآية ما يسمّيه علماء البلاغة اكتفاء : أي يَرجو الله ويخافُه ، ولكنّ النصّ قدّم الرجاء وذكره ، لخُصوصيّته الظاهرة في الاتّباع والطَاعة عن حبّ ورغبة
وإقبال ، وشوقٍ ونشاط نفس وحسنِ امتثال ..
ويدخُلُ في رجاء الله : إخلاص العَمل لله ، إذ كيفَ يرجو اللهَ تعالى ، ويتعلّق قلبه بمثوبته ومرضاته ، من لا يخلص عمله لله تعالى ؟!
ويدخُلُ في رجاء الله تعالى : تعظيم الله جلّ وعلا ، وتعظيم أسمائه وصفاته ، وتعظيم دينه وشرعه ، وتعظيم أمره ونهيه ، وتعظيم ما عظّم الله تعالى .. وأعظم ما عظّم الله سبحانه نبيّه المصطفى ، ورسوله المجتبى ، أشرف الأنبياء والمرسلين ، وسيّد الأوّلين والآخرين  ..
فقد شرح الله تعالى صدره ، ووضع وزره ، ورفع ذكره ، وغفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وجعل الإيمان بنبوّته ورسالته شطر شهادة التوحيد وشرطها ، فلا يقبل الله توحيد عبد لله تعالى ما لم يتّبع النبيّ  ويطيعه ، قال الله تعالى : { قُلْ : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي ، يُحْبِبْكُمْ اللهُ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) } آل عمران .
وقال سبحانه : { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ، وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) } النساء .
وبعد ؛ فما أغنى المؤمن بالله تعالى عندما يتعلّق قلبه بالله سبحانه ، ويتحقّق برجاء الله عزّ وجلّ ، فيستشعر من قرارة نفسه أنّ الله تعالى مولاه ، وهو معه ناصره ومعينه ..
ورجاء اليوم الآخر يعني الإيمان باليوم الآخر ، وما فيه من الأهوال العظام ، والاستعداد لذلك اليوم بتقوى الله والعمل الصالح ، وعندئذ فمن البدهيّ والطبعيّ المتّسق مع هذا السلوك أن يرجو المؤمن مثوبة الله تعالى في ذلك اليوم ، وحسن جزائه ، فكأنّه رجا اليوم نفسه ..
ولعلّ في ذكر اليوم الآخر ما يكْفي عن التخويف بسخط الله وعذابه ، ويحقّق الاكتفاء الذي حسن أيّما حُسنٍ في هذا المقام .
ـ وأمّا الشرط الثاني في هذه الآية وهو قوله تعالى : { وذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا } .
فإنّ حقيقة ذكر الله تعالى أن يعيش الإنسان حياته العامّة والخاصّة ، يذكر الله ولا ينساه ، وبستشعر قرب الله تعالى ورحمته ، ويأنس بالله سبحانه ، ويشهد عظمته ..
والذكر في مفهومه الصحيح يعني أشياء كثيرة ، أقلّها حركة اللسان ، وهو ما يَظنّه كثيرٌ من المسلمين اليوم أعلاها وأجلّها .. فيقف عند حركة اللسان العامّة والبسطاء ، ويزهد فيها من هم أعلى فكراً وثقافة ، لما يرون من قلّة جدواها في حياة هؤلاء ، وضعف أثرها ..
والذكر الحقّ حصن النفس حصين ، من سطوة الأهواء وهيجانها ، وهو زاد الروح ، وقوت النفس ، وسلاح المؤمن الماضي في مواجهة الشيطان ووساوسه ..
وهو غذاءٌ للروح ، وعلاج لها من عللها وأدوائها ، ولا علاج لها منها على الحقيقة سواه ( ) .
ـ وقفة عند قوله تعالى : " أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ .. "
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : " هذه الآية أصل كبير في التأسّي برسول الله  في أقواله وأفعاله وأحواله .. " .
ويقول الحكيم الترمذيّ : " الأسوة في الرسول  : الاقتداء به ، والاتّباع لسنّته ، وترك مخالفته في قول وفعل ، فمتابعة الرسول  تجب على كلّ مؤمن ، حتّى يتحقّق رجاؤه ، ويثمر عمله " .
فالأسوة هو القدوة ، وتنكير الأسوة في هذه الآية ووصفها بالحُسن يحمل دلالة عميقة شاملة .. تحتاج منّا إلى وقفة طويلة مستفيضة .. لا يتّسع لها المقام هنا ، ولكنّنا نقدّم منها ملامح عامّة عسى أن تدلّل على ما وراءها ، وتشحذ من الهمم ما يدعو إلى استجلاء آفاقها ، وسبر أغوارها ..
وإذا كان كلّ ما في شريعة الإسلام حسناً ، وكلّ ما كان عليه رسول الله  وما جاء به حسناً ، فما وجه تقييد الأسوة بهذه الصفة .؟
ـ إنّنا نلحظ في هذا أنّ من فطرة الإنسان أن يتطلّع إلى من يكون أحسن الناس في كلّ ما يريد التأسّي به والاقتداء ، وكأنّ الآية الكريمة تقول للناس : " إنّ من أراد منكم التأسّي والاقتداء بأحسن قدوة ، فدونه النبيّ المعصوم  بعصمة الله تعالى ، الذي وصفه ربّه بقوله : { ومَا يَنطِقُ عَنِ الهوَى (3) إن هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى (4) } النجم ، فالآية الكريمة تقدّم التوجيه والأمر مشفوعاً بالبيّنة والدليل ، وتعرض الدعوى مقرونة بالحجّة والبرهان .
ـ من المعلوم بالبداهة أنّ شريعة الإسلام حثّت على الأخذ بالأحسن في كلّ شأن : من الأقوال والأفعال ، والأحكام والأخلاق .. كما في قوله تعالى : { .. وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً .. (83) } البقرة ، وقوله سبحانه : { .. اِدفَعْ بِالتي هِيَ أحْسَنُ .. (34) } فصّلت ، وقوله تعالى : { .. وأمُر قَومَكَ يَأخُذُوا بِأحْسَنِهَا .. (145) } الأعراف .
والأحسن هو ما عبّر عنه القرآن الكريم بالأقوم في مناسبة أخرى ، فقال تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .. (9) } الإسراء .
ولكنّ شريعة الإسلام التي تقوم على الواقعيّة وإقرار الحقّ لذي الحقّ راعت أحوال الناس وواقعهم ، ولم تفرض عليهم المثاليّة التي لا يقدر عليها أكثرهم :
فالطلاق حقّ ، ولكنّه ليس حسناً ، وهو أبغض الحلال إلى الله ، إن لم يتعيّن الأخذ به في موقف ما ..
وضرب الزوجة الناشزة بظروفه الخاصّة ، وبشروط ذلك وقيوده مباح ، وليس فضيلة أو مطلوباً ، كما أنّه ليس الأحسن أو الحسن : لما جاء في الحديث الشريف ( .. ولا يَضرِبُ خِيارُكُم ) ..
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عَنْها قَالَتْ : ( مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ  شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ ، وَلا امْرَأَةً وَلا خَادِماً ، إِلاّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ ، إِلاّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ ) ( ) .
ومقاضاة المدين الماطل وحبسه حقّ للدائن ، ولكنّه ليس الحسن أو الأحسن دائماً ..
والمطالبة بالدين واستيفاؤه حقّ وحسن ، ولكنّ الأحسن منه إنظار المدين المعسر ، والعفو عن شيء من دينه، والتخفيف عنه : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ، وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) } البقرة .
وكثير من الأحكام المشروعة التي لا حرج فيها ولا تثريب ، وقد توصف بأنّها مندوبة في بعض الأحيان ، ولكنّها لا توصف بأنّها حسنة أو أنّها الأحسن في بابها .. وبخاصّة عندما يكون في فعلها تفويت ما هو أرجح منها من المصالح وآكد ، أو يكون في فعلها مفاسد متحقّقة غير موهومة .. والمؤمن العاقل لا ينظر إلى الأحكام الشرعيّة نظرة تجزيئيّة ، محدودة قاصرة ، فهذا شأن من لا فقه عنده بدينه ، وهذا النظر يفسد أكثر ممّا يصلح ، ويجرّ على صاحبه الابتلاء ، وعلى الآخرين الفتنة ، وقد يظنّ أنّه يحسن صنعاً .
ـ سادساً : أوجه الحسن في التأسّي برَسُولِ اللهِ  .
إنّ أوجُه الحُسنِ في التأسّي بالرسول  لا يمكن أن يحيط بها باحث ، أو يلمّ بها دارس ، ولكنّنا نستعرض أهمّ جوانبها ، التي تعدّ أنواعاً جامعة ، يقاس عليها ما سواها ، فمن ذلك :
1 ـ الجمع بين محاسن الدين وفضائله وآدابه في كلّ جانب من جوانب الحياة ، بإعطاء كلّ ذي حَقّ حَقّه ، وعدم الميل مع جانب على حساب آخر ، وهذا المبْدأ يقوم عليهِ الدين كلّه ، وقد أعلنه النبيّ  في قولهِ لبعض أصحابه: ( .. فأعطِ كلّ ذي حَقّ حَقّه ) ( ) .
وقد تجلّى ذلك في حال النبيّ  وسيرته ، ومنهجه وهديه : فلا تكاد ترى النبيّ  قائماً في الليل ، متبتّلاً بينَ يدي ربّه ، تتفطّر قدماه من طول القيام ، ويذرف الدموع من خشيته ، حتّى تراهُ مع المجاهِدينَ لأعداءِ الله تعالى في أوّل صفوف القتال ، يحتمي به أصحابه ، ويتّقون العدوّ .. ثمّ تراه داعياً إلى الله تعالى ، بالحكْمة والموعظة الحسنة ، يصدع بالحقّ ، ويقيم الحجَّة ، ثمّ تراه يتْلو آيات الله ، ويبلّغ دين الله ، ويتفقّد أصحابه ويرشدهم ، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم ، يرفق بالجاهل ، ويرشد الحائر ، ويبذل المعروف ، ويغيث الملهوف .. ثمّ تراه مُبَاسِطاً لأهله ومُؤانساً ، يخدمهم ويرعاهمْ ، ويعلّمهم ويؤدّبهم ..
حقّاً إنّه  الأُسوَة الحسنة ، والقدوة العظمى للمتّقين إلى يوم الدين ..
2 ـ ومن أوجُه الحُسنِ في التأسّي بالرسول  أنّ الله تعالى عصمه مِن الذنوب والأخطاء ، وأمدّه بالتأييد الإلهيّ في كلّ شأن ، كما قال تعالى : { ومَا يَنطِقُ عَنِ الهوَى (3) إن هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى (4) } النجم ، فأيُّ عاقل حريصٍ على مرضاة ربّه ، يخيّر بين الاقتداءِ بالمعصوم ، الذي يكفُل له السير على صراطِ الله المستقيم وبين الاقتداء بمن لا يُؤمن عثارُه ، ولا تُضمنُ استقامته على الحقِّ ونجاتُه ، ثمّ يختار المغامرةَ الخاسرةَ على التجارةِ الرابحة .؟!
وعلى مثل هدي النبيّ  وسيرته العطرة كان خلفاؤه الراشدون الكرام ، الذين جعلهم رَسُولُ اللهِ  قدوة للأمّة من بعده ، فقال  : ( .. فَعَلَيْكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ .. ) ( ) .
3 ـ ومن أوجُه الحُسنِ في التأسّي بالرسول  : أنّ النبيّ  كان يأخذ بالأحسن في كلّ شيء ، فمن اقتدى به  ، وأخذ بهديه كان عَلَى حقّ اليقيْنٍ أنّه على الهدي المُبين ، وعلى صراط الله المُستقيم ، بل على ما هو الأحبّ إلى الله تعالى الأقرب ، في ميدان الدعوة إلى اللهِ تعالى والعلاقة مع الناس ، وفي كلّ شيء ..
فما خُيّر رَسُولُ اللهِ  بين أمرين قطّ ، إلاّ أخذَ أيسرهما ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه ، كما تقول عَائشة رضي الله عنهَا ( ) .
4 ـ ومن أوجُه الحُسنِ في التأسّي بالرسول  أنّ أعمال النبيّ  وأحواله ، حتّى اجتهاداته  ، هي أكمل الأعمال والأحوال والاجتهادات وأجلّها ، وإذا قارنّا بين أقوال الناس وأفعَالهم رأينا أكثر الناس تنزل أفعالهم عَنْ مستوى أقوالهم ، وقد تتناقض معها .. أمّا النبيّ  فأقواله وحي وتَشْريع ، ومنَ التشريع ما هو مباح ، ومنه المشروْع والمستَحبّ ، وأمّا أحواله  ؛ فهي دائماً الأحبُّ إلى الله تعالى ، والأقرب إلى مرضاتِه ورحمته ..
ومن المسائل الأصوليّة التي بحثها العلماء واختلفوا حولها ، ولها أمثلة كثيرة في التشريع : أيّهما يقدّم في التشريع ويرجّح قولُ النبيّ  أم فعلُه .؟
فمن العلماء من رجّح قول النبيّ  على فعله ، ومنهم من رجّح فعل النبيّ  وقدّمه على القول ، كما في قرانه  في الحجّ ، وأمره لأصحابه بالتمتّع ، وذلك بالتحلّل من إحرامهم وجعلها عمرة ، والمسألة معروفة مشهورة ، ولها نظائر عديدة .
وعَلَى هدي النَّبِيِّ  الأكمل ، في الأقوال والأحوالِ والأفعال ، يجتهد ورّاثه الكمّل ، أن يكونوا كما زكّاهم النَّبِيُّ  ، وبَشّر بهم بقولِه : ( .. إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا ، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْم .. ) ( ) .
وبعد ؛ فإنّ العقلَ والرشد فِي الإنسان يفرضان عَلَيْهِ ألاّ يتأسّى إِلاّ بمن كان أُسوةً حسنةً .. وهُو حين يتأسّى بأحدٍ ، كأَنَّه يعلنُ للناس : أنْ هذه هي أسوته الحسَنة ..
فهل أسوة الناس دائماً حسنةً .؟ إِنّ الواقع يقول : إِنَّ أكثرَ الناس يتأسّون بآخرين بدوْن وعيٍ أو رشد .. وإنّمَا بدافع الهوى أو الاستهوَاء .. أَو بدافع الإعجاب بجانب منْ حياة المتأسَّى به ، ولو لم تكن أعماله الأخرى تدعو إلى الإعجَاب والقَبول ، وَإِنَّما يُزيَّن لَهُ ذلك العمَل فيراه حَسناً ، ولو كان تافهاً منكراً ..
كما نرى عَلَى ذلك حالَ كثير ممن يتّبع العاداتِ والتقَاليدَ الوافدةَ عَلَى بلاد المسلمينَ ، المتغيّرة المتقلّبة ، التي لا تعرف لا هي ولا أصحابها شيئاً من الثبات أو الاستقرار ..
لَقد جَعل اللهُ نبيّهُ  أسوَة حسنةً للمؤمنين ، لأنّه  جاء بالأَحسن والأكمَل في كلّ شَيء .. جَاءَ بالْعدلِ والإحسان ، والحقّ والبرّ وَالفضل .. فِي العقيدَة والعبَادة ، والتشريع والأخلاق .. جَاءَ بمكَارم الأخلاق ، ومحاسن العادات والآداب .. جاء بكلّ ما يشهد العقل بحسنه وكماله ، جَاءَ بمثاليَّة واقعيّة لا يعجز أحد عَنِ ارتقائهَا ، وتَسنّم ذراها شيئاً بعد شيء .. حَتَّى يبلغ أوج الكمالِ الإنسانيّ ، وينافس الملائكة المقرّبين في رقيّه وسموّه ..
ولو نظرَ العاقل بعيْنِ البَصيرة لرَأى أنَّ أحكامَ الشرع الشريف كلّها ذوقٌ ولطفٌ ، وحُسنٌ وجَمال .. فالذوقُ يَشملُ محَاسن الآداب والعادات ، واللطفُ هو الرفق فِي التعامل مع كلّ شيءٍ ، وفِي العلاقة مع كلّ شيءٍ .. والله تعالى رفيق يحبّ الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف .. والْجمال هُوَ الدين كلّه .. فإنّ الله تعَالى جميل يحبّ الجمال ، وكلّ ما جاء في شرع الله تعالى فهو حسن وجميل ، وكلّ ذلك ممّا جاء في الأحاديث ، وطفحت به النصوص والأدلّة .. ومن لم يفهم ذلك ، أو لم يدركه بعقله وذوقه ، فليتّهم عقله وفهمه ، وليسأل الله تعالى أن يرزقه الأدب وحسن الفهم ، فإنّ الله يقول : { وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ، وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ (43) }العنكبوت .


نماذج من الهدي النبويّ
في تحقيق الركائز الدعويّة وإقامتها

* أثر الأعمال الصالحة في إصلاح السلوك في الدنيا ، وتحقيق النجاة في الآخرة :

ينظر بعض الناس للأعمال الصالحة نظرة محدودة قاصرة ، تنحصر في نطاق الفرد ولا تتعدّاه ، ويمارسونها تبعاً لذلك ، معزولة عن أصولها وعلاقاتها ، بينما نرى الأعمال الصالحة في كتاب الله تعالى تأخذ بعداً أشمل وأعمق : فهي قرينة الإيمان ، وصاحبها مستثنى من جميع المحن والشدائد التي يتعرّض لها الإنسان ، سواء أكانت عقوبات ينالها نتيجة سلوكه وعمله ، أم كانت مصائب تنزل به لخروجه عن سنن الله في الحياة ، وتنكّره لقانونه .. والأعمال الصالحة أيضاً زاد المؤمن وسلاحه الماضي في مكابدته لأمانة التكاليف الإلهيّة ومشاقّها ومسئوليّاتها ، وهي من ثمّ عدّة الصراع بين الإنسان وقوى الشرّ ونوازعها ، التي لا تهادنه ، ولا تكفّ عن مناوشته حتّى آخر نفس من أنفاس حياته ..
فلا عجب إذن أن تكون الأعمال المبرورة الصالحة شعاراً للمؤمن في حياته ، وأنساً له بعد وفاته ، وسبباً لنجاته في آخرته ..
وبين أيدينا حديث شريف ، عمّا سيقع في الآخرة من مواقف ومشاهد ، وهو رؤيا نبويّة كريمة ، ورؤيا الأنبياء حقّ ووحي ، وفيه تدليل قويّ على مكانة الأعمال الصالحة في ميزان الله تعالى ، وتأثيرها بعد فضل الله سبحانه في نجاة الإنسان ، وزحزحته عن النار ، ودخوله الجنّة بإذن الله ..
ومن الأمورِ التي ينبغي التنبّه لها في تناولِ نصوص الشريعة وفهمها : تنوّع أبْعاد تلك النصوص ، واتّساع آفاقها ، وعدم اقتصار معناها على ما يعتاد الناس من الاستشهاد بها في موطن دون آخر ، ومن هنا تتعدّد المجالات التي تدخل فيها ، وتتنوّع أبعادها ، وكلّها صحيحة مقصودة ، ما دامت تُؤيّدها دلالات اللغة ، وتشهد لها مقاصد الشريعة ، فالاستشهاد بها في موطن ، لا يصادر حقّ الاستشهاد بها في موطن آخر ..
عن عبد الرحمن بن سمرة  قال : " خرجَ علينا رسولُ الله  ذاتَ يومٍ ، ونحنُ في مسجدِ المدينةِ فقالَ :
( إني رأيتُ البارِحةَ عَجباً :
1 ـ رأيتُ رجلاً مِن أمّتي قد احتوشَته مَلائكةُ العذابِ فجاءهُ وُضوؤه فاستنقذهُ مِن ذلكَ .
2 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي قد بُسِط عليهِ عذابُ القبرِ ، فجاءته صلاتُه فاستنقذته مِن ذلكَ .
3 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي قد احتوشَته الشياطينُ فجاءه ذكرُ الله فخلّصَه منهُم .
4 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي يلهَثُ عَطشاً فجاءه صِيامُ رمضانَ فسقاهُ .
5 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي مِن بين يديه ظُلمةٌ ، ومن خلفِه ظُلمةٌ ، وعن يمينِه ظُلمةٌ ، وعَن شمالِه ظُلمةٌ ، ومِن فوقِه ظُلمةٌ ، ومِن تحتِه ظُلمةٌ ، فجاءته حَجّتُه وعُمرتُه فاستخرَجاه مِن الظلمةِ .
6 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي جاءه ملَكُ الموتِ لِيقبِضَ رُوحَه ، فجاءهُ بِرّه بوالديهِ فردّه عنه .
7 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي يُكلّمُ المؤمنين ولا يُكلّمُونه ، فجاءته صلةُ الرحِمِ فقالت : إنّ هذا كانَ واصلاً لرحِمِه ، فكلّمَهُم وكلّمُوه وصارَ معهُم .
8 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي يَأتي النبيّينَ ، وهُم حِلَقٌ حِلَقٌ ، كلّما مَرّ على حَلقةٍ طُرد ، فجاءه اغتسالُه مِن الجنابةِ فأخذَ بيدِه فأجلسَه إلى جَنبي .
9 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي يَتّقي وهَجَ النارِ بيديهِ عَن وجهِه فجاءته صدَقتُه فصارَت ظِلاًّ على رأسِه ، وسِتراً عَن وجهِه .
10 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي جاءته زَبانيةُ العذابِ فجاءهُ أمرُه بالمعروفِ ، ونهيُه عَنِ المُنكرِ فاستنقذَه مِن ذلكَ .
11 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي هوَى في النار ، فجاءته دُمُوعُه اللاتي بكَى بِها في الدنيا مِن خشية الله فأخرجَته مِن النارِ .
12 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي قد هوَت صَحيفتُه إلى شمالِه ، فجاءه خَوفُه مِن الله تعالى فأخذ صحيفتَه فجعلَها في يمينِه .
13 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي قد خَفّ مِيزانُه ، فجاءَه أفراطُه فثقّلُوا مِيزانَه .
14 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي على شفيرِ جَهنّمَ ، فجاءه وَجَلُه مِن الله تعالى فاستنقذَه مِن ذلكَ .
15 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي يرعَدُ كما ترعَدُ السَّعْفَةُ ، فجاءَه حُسنُ ظنِّه بالله تعالى فسكّنَ رَعدتَه .
16 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي يزحَفُ على الصراطِ مَرّةً ، ويحبُو مَرّةً ، فجاءته صلاتُه عليّ ، فأخذَت بيدِه فأقامَته على الصِّراطِ حتّى جازَ .
17 ـ ورأيتُ رجلاً مِن أمّتي انتهى إلى أبوابِ الجنّةِ ، فغُلّقَت الأبوابُ دونَه ، فجاءته شهادة أن لا إلهَ إلاّ الله فأخذَت بيدِه ، فأدخلَته الجنّةَ ) ( ) .
* وقفات عند هذه الخصال :
1 ـ إنّ هذه الأعمال الصالحة ، التي كانت سبباً لنجاة أصحابها في الآخرة لم تكن كذلك اعتباطاً ، ولا ينبغي أن تفهم بصورة مجتزأة مبتورة ، بعيدة عن حياة الإنسان ككلّ ، ومسارها ومواقفها واتّجاهاتها ، وإنّما كانت سلوكاً دائباً في حياة صاحبها من جهة ، ثمّ كان لها أثرها التهذيبيّ ، ثمّ الاجتماعيّ ، على درجة من الدرجات ، من جهة أخرى ، سواء أكان ذلك على مستوى النيّة والدوافع الداخليّة ، وما تمليه على الإنسان من رقيّ واتّجاهات ، أم على مُستوى السلوك الشخصيّ ، وما يحمله من خير للنفس وللآخرين ، وسلوك إيجابيّ بنّاء .
2 ـ ولو تفكّرنا في كلّ فضيلة من هذه الفضائل ـ وكذلك كلّ فضائل الإسلام ـ لرأينا أنّها لا تقتصر خيريّتها ، إن صحّ تعبيرنا ، على ذاتها فحسب ، وإنّما تتّصل بما يشبهها ، وما يقاربها ، وفي أحيان أخرى بما لا يشبهها ، ولا يقاربها ، بل ولا يتّصل بها في ظاهر الأمر بأيّ سبب ..
فالنبيّ  عندما سمّى الله تعالى قبل أن يأكل من قطف العنب أمام الغلام النصرانيّ عدّاس ، في قصّة ذهابه إلى الطائف ، فكان ذلك سبب إسلام الغلام النصرانيّ ، كان يلتزم بذلك بفضيلة من فضائل دينه وشريعته ، ولم يخطر له على بال أن يكون هذا الموقف سبب إسلام ذلك الغلام ( ) .
ـ وكم كان كرم النبيّ  وجوده سبب إسلام بعض الناس ، حتّى قال قائلهم : " أسلموا يا قوم ! فإنّ محمّداً  يعطي عطاء من لا يخشى الفقر .! " .
ـ وكم كانت أخلاقه  الشريفة الزاكية سبباً في هداية الناس وإسلامهم ، وكلّ ذلك ممّا لا يحصى ، ولا يستقصى ..!
ـ وحدّثني بعض الإخوة ، الذين يسيرون بالدعوة إلى الله في شرق الأرض وغربها ، أنّهم صلّوا مرّة في بعض الساحات العامّة ، فوقف بعض الناس من غير المسلمين ينظر صلاتهم ، وبعد الصلاة تريّثوا قليلاً ، وهم يتلون أذكار الصلاة ، فأخذت بعضَهم سنةٌ من النوم وهو جالس ، فجاءهم أحد الحاضرين يتعرّف على الإسلام باهتمام ، ثمّ لم يلبث أن دخل في دين الله تعالى ، وعندما سئل عن سرّ مسارعته إلى الإسلام بهذه الصورة ، قال : إنّه رأى هذا الذي نام بعد العبادة بهذه الطريقة ، وهو منذ أشهر لا يستطيع النوم إلاّ بعد تناول الأدوية والمهدّئات ، فأيقن أنّ الدين الذي يمنح أصحابه مثل هذه السكينة هو دين حقّ ..
ـ وموقف من مواقف الأمانة كان سبباً لهداية امرأة إلى الإسلام ، وخروجها من ظلمات الكفر والضلال ..
ـ وما أكثر المواقف المشابهة ، ولعلّ كلّ قارئ يستحضر منها الكثير ، وفيما ذكر غنية وعبرة ..
3 ـ وعندما يحدّثنا النبيّ  عن هؤلاء الذين نجوا في الآخرةِ بهذه الأعمال ، إنّما يضع أيدينا على الأسس الصحيحة ، والمدخل الجادّ لإصلاحِ الحياة الاجتماعيّة ، فإصلاحُ الحياة الاجتماعيَّة في المنهج الإسلاميّ بما تشتمل عليه من عَلاقات وروابط ، لا يكون بقرارات شكليّة ، أو مظاهر هي أشْبه " بالديكور " التجميليّ الدعائيّ .. وإنّما المدخل إليها هو إصلاح الحياة الشخصيّة بجميع جوانبها : من سلامة العقيدة ، وصدقها ، وقوّة الصلة بالله تعالى والتوكّل عليه وحده ، وطهارة السلوك واستقامَته ، والحرص على أداء الحقوق ، والوفاء بها ، والتمسّك بالعمل الصالح ، ولو كان من نوع الفضائل والكمالات ، إذ إنّ لها تأثيرَها على مناحي السلوْك كلّها .
4 ـ وعندما يَندفع الإنسان ذاتيّاً في فعل هذه الأعمال والالتزام بها بصدق وإخلاص ، فحدّث ولا حرج عن آثارها الاجتماعيّة على سلوكه وعلاقاته ، إذ إنّ جزاء الحسنة حسنة بعدها ، وجزاء السيّئة سيّئة بعدها ، كما قال السلف ، فضلاً عن ثمرة ذلك في الآخرة من الأجر العظيم ، والمثوبة العليا ، ورضوان من الله أكبر .
5 ـ والدعاة إلى الله تعالى أحوج ما يكونون إلى التربية على أنواع الأعمال الصالحة ، والحرص على الاستزادة منها ، والمحافظة على قدر من الأعمال الصالحة ، يلتزمون بها ، ولا يتخلّون عنها مهما تكن الظروف ، فهي زادهم ورصيدهم ، وهي عدّتهم وسلاحهم ..
6 ـ وممّا يؤسف له أن نرى ممّن يحسبون من الدعاة ، أو نسمع عنهم تهويناً من شأن الالتزام بفضائل الأعمال ، واستهانة بها ، بحجّة التيسير على الناس ، والبعد عن التشدّد في الدين ، وليس الأمر في الحقيقة إلاّ تبريراً لضعف النفوس ، وقعود الهمم عن المجاهدة ، التي هي معيار صدق المؤمن في الإقبال على دين الله تعالى ، ونصرة دعوته ..


* ـ صورة سنيّة من مسئوْليّة النبيّ  الاجتماعيّة عن أصحابه وبرّه بهم :
قصّة زواج ربيعة بن كعب الأسلَمِيِّ 

كانت حياة النبيّ  مع أصحابه  صورة مثلى عن التوجيه القرآنيّ الكريم ، بقول الله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ .. (6) } الأحزاب . وقد جاء في الحديث الصحيح ما يقرّر هذا المعنى ويؤكّده فقد روى البخاريّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ :
( مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاّ وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ .. } ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاهُ ) ( ) .
وهذه الولاية النبويّة للمُؤمِنِينَ والأولويّة بهم لم تكن قاصرة على جانب دون آخر ، أو أمر دون أمر .. بل كانت شاملة عامّة ، عبّر عنها القرآن الكريم : بأنّه  أولى بِالمؤمنين من أنفُسِهِم ، فليس  أولى بهم من آبائهم وأمّهاتهم .. بل من أنفُسِهِم .. التي هي أقرب شيء إليهم ..
إنّ الإسلام يعدّ المسئوليّة الدعويّة والقياديّة مغرماً ثقيلاً ، وعبئاً كبيراً ، وليست مغنماً يتنافس فيه المتنافسون ، ويتزاحم عليه الطامعون الطامحون ، ومن ثمّ فلا يتقدّم إليها راغب ، ولو تقدّم لا يُعطاها .. وإنّما يرشّح لها الكفؤ ، ويكلّف بها .. وعندما يكلّف بها يصبح لمن هم تحت ولايته بمثابة الوالد : مسئولاً عن كبير أمورهم وصغيرها ، وخاصّها وعامّها ، ولا يعفيه أو يعذره غيبة شيء منها ، إذ عليه أن يباشر الأمور بنفسه ، ويسعه أن يتّخذ البطانة الصالحة ، والأعوان الناصحين ، ويشاور الأتقياء الصالحين ، وعلى قدر ما يتحقّق بالصدق والإخلاص في عمله ، وتخلص لله تعالى نيّتُه تأتيه المعونة والتوفيق مِن ربّه .
وبين أيدينا موقف من مواقف ممارسة النبيّ  للمسئوْليّة الاجتماعيّة عن أصحابه ، وبرّه بهم ، ومدى إحسانه  إليهم ، تتجلّى فيه الرعاية النبويّة الكريمة بأبهى صورها ، وأجمل مظاهرها ، ممّا يدعو الدعاة والقادة إلى التأسّي والاقتداء بنبيِّهم ، في تحمّل المسئوليّة ورعاية الأمّة .
روى الإمام أحمدُ في مسندِه عنْ رَبِيعَةَ بن كعب الأسلَمِيِّ  قَالَ : " كُنتُ أَخدُمُ رَسُولَ الله  فَقَالَ : يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ قَالَ : قُلتُ : وَالله يَا رَسُولَ الله مَا أُرِيدُ أَن أَتَزَوَّجَ ، مَا عِندِي مَا يُقِيمُ المَرأَةَ ، وَمَا أُحِبُّ أَن يَشغَلَنِي عَنكَ شَيءٌ ، فَأَعرَضَ عَنِّي فَخَدَمتُهُ مَا خَدَمتُهُ ، ثُمَّ قَالَ لِيَ الثَّانِيَةَ : يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ فَقُلتُ : مَا أُرِيدُ أَن أَتَزَوَّجَ ، مَا عِندِي مَا يُقِيمُ المَرأَةَ ، وَمَا أُحِبُّ أَن يَشغَلَنِي عَنكَ شَيءٌ ، فَأَعرَضَ عَنِّي ، ثُمَّ رَجَعتُ إِلَى نَفسِي ، فَقُلتُ : وَالله ، لَرَسُولُ الله  بِمَا يُصلِحُنِي فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ أَعلَمُ مِنِّي ، وَالله لَئِن قَالَ : تَزَوَّج لأقُولَنَّ : نَعَم يَا رَسُولَ الله ، مُرنِي بِمَا شِئتَ ، قَالَ : فَقَالَ : يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ فَقُلتُ : بَلَى ، مُرنِي بِمَا شِئتَ ، قَالَ : انطَلِق إِلَى آلِ فُلانٍ ، حَيٍّ مِنَ الأنصَارِ ، وَكَانَ فِيهِم تَرَاخٍ عَنِ النَّبِيِّ  ، فَقُل لَهُم : إِنَّ رَسُولَ الله  أَرسَلَنِي إِلَيكُم يَأمُرُكُم أَن تُزَوِّجُونِي فُلانَةَ لِامرَأَةٍ مِنهُم ، فَذَهَبتُ فَقُلتُ لَهُم : إِنَّ رَسُولَ الله أَرسَلَنِي إِلَيكُم ، يَأمُرُكُم أَن تُزَوِّجُونِي فُلانَةَ ، فَقَالُوا : مَرحَباً بِرَسُولِ الله ، وَبِرَسُولِ رَسُولِ الله  ، وَالله لا يَرجِعُ رَسُولُ رَسُولِ الله  إِلاّ بِحَاجَتِهِ ، فَزَوَّجُونِي ، وَأَلطَفُونِي ، وَمَا سَأَلُونِي البَيِّنَةَ ، فَرَجَعتُ إِلَى رَسُولِ الله  حَزِيناً ، فَقَالَ لِي : مَا لَكَ يَا رَبِيعَةُ ؟ فَقُلتُ : يَا رَسُولَ الله أَتَيتُ قَوماً كِرَاماً ، فَزَوَّجُونِي وَأَكرَمُونِي وَأَلطَفُونِي ، وَمَا سَأَلُونِي بَيِّنَةً، وَلَيسَ عِندِي صَدَاقٌ ، فَقَالَ رَسُولُ الله  : يَا بُرَيدَةُ الأسلَمِيُّ ، اجمَعُوا لَهُ وَزنَ نَوَاةٍ مِن ذَهَبٍ ، قَالَ : فَجَمَعُوا لِي وَزنَ نَوَاةٍ مِن ذَهَبٍ ، فَأَخَذتُ مَا جَمَعُوا لِي فَأَتَيتُ بِهِ النَّبِيَّ  ، فَقَالَ : اذهَب بِهَذَا إِلَيهِم فَقُل : هَذَا صَدَاقُهَا ، فَأَتَيتُهُم ، فَقُلتُ : هَذَا صَدَاقُهَا ، فَرَضُوهُ ، وَقَبِلُوهُ ، وَقَالُوا كَثِيرٌ طَيِّبٌ ، قَالَ ثُمَّ رَجَعتُ إِلَى النَّبِيِّ  حَزِينًا ، فَقَالَ : يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ حَزِينٌ ؟ فَقُلتُ : يَا رَسُولَ الله ، مَا رَأَيتُ قَوماً أَكرَمَ مِنهُم ، رَضُوا بِمَا آتَيتُهُم ، وَأَحسَنُوا ، وَقَالُوا كَثِيراً طَيِّباً ، وَلَيسَ عِندِي مَا أُولِمُ ، قَالَ : يَا بُرَيدَةُ ، اجمَعُوا لَهُ شَاةً ، قَالَ : فَجَمَعُوا لِي كَبشاً عَظِيماً سَمِينًا ، فَقَالَ لِي رَسُولُ الله  : اذهَب إِلَى عَائِشَةَ ، فَقُل لَهَا : فَلتَبعَث بِالمِكتَلِ الَّذِي فِيهِ الطَّعَامُ ، قَالَ : فَأَتَيتُهَا فَقُلتُ لَهَا مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ الله  ، فَقَالَت : هَذَا المِكتَلُ ، فِيهِ تِسعُ آصُعِ شَعِيرٍ ، لا وَالله إِن أَصبَحَ لَنَا طَعَامٌ غَيرُهُ خُذهُ ، فَأَخَذتُهُ فَأَتَيتُ بِهِ النَّبِيَّ  وَأَخبَرتُهُ مَا قَالَت عَائِشَةُ ، فَقَالَ : اذهَب بِهَذَا إِلَيهِم ، فَقُل : لِيُصبِح هَذَا عِندَكُم خُبزاً ، فَذَهَبتُ إِلَيهِم ، وَذَهَبتُ بِالكَبشِ ، وَمَعِي أُنَاسٌ مِن أَسلَمَ ، فَقَالَ : لِيُصبِح هَذَا عِندَكُم خُبزًا ، وَهَذَا طَبِيخاً ، فَقَالُوا : أَمَّا الخُبزُ ، فَسَنَكفِيكُمُوهُ ، وَأَمَّا الكَبشُ فَاكفُونَا أَنتُم ، فَأَخَذنَا الكَبشَ أَنَا ، وَأُنَاسٌ مِن أَسلَمَ ، فَذَبَحنَاهُ وَسَلَخنَاهُ ، وَطَبَخنَاهُ ، فَأَصبَحَ عِندَنَا خُبزٌ وَلَحمٌ ، فَأَولَمتُ وَدَعَوتُ رَسُولَ الله  ..
ثُمَّ قَالَ رَبِيعَةُ بنُ كعبٍ  : إِنَّ رَسُولَ الله  أَعطَانِي أَرضاً وَأَعطَانِي أَبُو بَكرٍ  أَرضًا ، وَجَاءَتِ الدُّنيَا فَاختَلَفنَا فِي عِذقِ نَخلَةٍ ، فَقُلتُ أَنَا : هِيَ فِي حَدِّي ، وَقَالَ أَبُو بَكرٍ : هِيَ فِي حَدِّي ، فَكَانَ بَينِي وَبَينَ أَبِي بَكرٍ كَلامٌ ، فَقَالَ أَبُو بَكرٍ : كَلِمَةً كَرِهَهَا وَنَدِمَ ، فَقَالَ لِي : يَا رَبِيعَةُ رُدَّ عَلَيَّ مِثلَهَا حَتَّى تَكُونَ قِصَاصاً ، قَالَ : قُلتُ : لا أَفعَلُ فَقَالَ أَبُو بَكرٍ  : لَتَقُولَنَّ أَو لأستَعدِيَنَّ عَلَيكَ رَسُولَ الله  ، فَقُلتُ : مَا أَنَا بِفَاعِلٍ ، قَالَ : وَرَفَضَ الأرضَ ، وَانطَلَقَ أَبُو بَكرٍ  إِلَى النَّبِيِّ  ، وَانطَلَقتُ أَتلُوهُ ، فَجَاءَ نَاسٌ مِن أَسلَمَ ، فَقَالُوا لِي : رَحِمَ الله أَبَا بَكرٍ ، فِي أَيِّ شَيءٍ يَستَعدِي عَلَيكَ رَسُولَ الله  ، وَهُوَ قَالَ لَكَ مَا قَالَ ؟ فَقُلتُ : أَتَدرُونَ مَا هَذَا ؟ هَذَا أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ ، هَذَا ثَانِيَ اثنَينِ ، وَهَذَا ذُو شَيبَةِ المُسلِمِينَ ، إِيَّاكُم لا يَلتَفِتُ فَيَرَاكُم ، تَنصُرُونِي عَلَيهِ ، فَيَغضَبَ فَيَأتِيَ رَسُولَ الله  ، فَيَغضَبَ لِغَضَبِهِ ، فَيَغضَبَ الله عَزَّ وَجَلَّ لِغَضَبِهِمَا ، فَيُهلِكَ رَبِيعَةَ ، قَالُوا : مَا تَأمُرُنَا ؟ قَالَ : ارجِعُوا ، قَالَ : فَانطَلَقَ أَبُو بَكرٍ  إِلَى رَسُولِ الله  فَتَبِعتُهُ وَحدِي ، حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ  فَحَدَّثَهُ الحَدِيثَ كَمَا كَانَ ، فَرَفَعَ إِلَيَّ رَأسَهُ فَقَالَ : يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ وَلِلصِّدِّيقِ ؟ قُلتُ : يَا رَسُولَ الله كَانَ كَذَا ، كَانَ كَذَا ، قَالَ لِي : كَلِمَةً كَرِهَهَا ، فَقَالَ لِي : قُل كَمَا قُلتُ ، حَتَّى يَكُونَ قِصَاصًا ، فَأَبَيتُ ، فَقَالَ رَسُولُ الله  : ( أَجَل ! فَلا تَرُدَّ عَلَيهِ ، وَلَكِن قُل : غَفَرَ الله لَكَ يَا أَبَا بَكرٍ ) ، فَقُلتُ : غَفَرَ الله لَكَ يَا أَبَا بَكرٍ ، قَالَ الحَسَنُ : فَوَلَّى أَبُو بَكرٍ  وَهُوَ يَبكِي ) ( ) .
وقفات عند هذا الحادثة :
1 ـ نلمس في هذا الحديث تلطّف النبيّ  في عرضه الزواج على ربيعة بن كعب  ، وتكرار العرض مرّة بعد مرّة دون إلزام ، ممّا يَدلّ على اهتمام النبيّ  باستقرار أصحابه النفسيّ والاجتماعيّ .
2 ـ إرسال النبيّ  لربيعة بن كعب  إلى حيّ من الأنصار كان فيهم تراخٍ عن رسول الله  .. أي لم يكونوا منَ المُكثرين لزيارة رسول الله  ، والحضور إلى مجالسه والتردُّد علَيها .. ومع ذلك فقد ظهر من إيمانهم ما ظهر ، وكان منهم تلك المبَادرة السريعةُ ، والاستجابة الفوريّة لتوجيه رسول الله  ، وتنفيذ رغبته ، فما بالك لو كانوا من خيار الصحابة الكرام  ، وأهل الفضل والخير والسابقة .؟!
3 ـ ثمّ إنّهم زوّجوا ربيعة  ولم يسألوه البيّنة على قوله .. ممّا يدلّ على مبلغ الثقة ، التي غرسها رسول الله  في المجتمع الذي ربّى أبناءه على عينه ، وأحكم علاقاتهم وروابطهم : فلا كذب ولا خِيَانة ، ولا افتراء ولا تزوير ، ولا تدليس ولا تغرير ، ولا مراوغة ولا التواء ..
4 ـ ويتجلّى الترابط الاجتماعيّ ، في هذه الحادثة بأرفع صوره ومظاهره ، وبأسلوب بعيد عن أيّ تكلّف أو اصطناع ، كما تتجلّى روح التعاونِ على البرّ والتقوى متأصّلةً متجذّرةً في نفوس الصحابة  ومجتمعهم ، في مواقف عديدة من هذا الحديث ؛ فبإشارة واحدة من النبيّ  إلى رجل من قوم ربيعة يُجمَعُ مهرُ العروس ، ويقدّم للزوج المقلّ ، ليدفعه إلى أهل زوجته .. وفي المقَابل نرى رضى هؤُلاء الأنصارِ الكرامِ  عمّا يقدّم من المهر القليل ، وهم يقولون عنه : كثير طيّب .! فما أجمل القناعة ! وما أكرم أهلها .! ثمّ بإشارة نبويّة أخرى ، تجمع قيمة كبشٍ عظيمٍ سمين ، ويقدّم للزوجِ ليقوم بوليمة العرس .. فما أجمل هذه الصورَ المشرقة من التعاون على البرّ والتقوى ، والتكافل الإيمانيّ الوثيق .؟!
5 ـ ويسهم النبيّ  بنفسه في وليمة العرس ، كما عوّد أصحابه في كلّ شأن ، أن يقدّم لهم القدوة من نفسه وعمله ، فيدفع لربيعة  كلّ ما في بيت عائشة رضي الله عنها من الطعامِ ، إيثاراً لصاحبه على أهل بيته وبرّاً به ، وإبرازاً للنموذج الأسوة الذي يأمر الناس ، ويكون أوّل المؤتمرين ، ويحثّ الناس ، ويكون أوّل المبادرين ، وقد تكرّر مثل هذه الصورة في مناسبات عديدة في السيرة .. وفي هذا الموقف النبويّ الكريم صورةٌ من الاتّصال الوثيق بين البيت النبويّ وبيوت الصحابة  ومشاركتهم لهمومهم ..
6 ـ وفي إعطَاء رَسُولِ الله  لربيعةَ بنِ كعب  أَرضاً ، وإعطَاء أَبي بَكرٍ  له أَرضاً دليل على حرص رسول الله  ، وحرص صاحبه الصدّيق  كذلك على تحسين أوضاع الصحابة الاجتماعيّة والمعيشيّة ، وتحقيق الكفاية لهم وإغنائهم ..
7 ـ وفي الخلاف الذي وقع بَينِ ربيعة بن كعب وَبَينَ أَبِي بَكرٍ الصدّيق  دليل على أَنّ الصحابة كانوا يختلِفون في بعض شئون الدنيَا ، فهم بشر ليسوا بمعصومين .! ولكن على أَيّ صورة كان يقع خلافهم .؟ إنّها صورة في غاية الأدب وحفظ الحقوق ، وصون الحرمات ، ومعرفة قدر ذوي الأقدار : لقد امتنع ربِيعة  عن ردّ الكلمة المسيئة بمثلها ، وأبى ذلك أشدّ الإباء ، ونظر له بعض قومه أنّه اعتدي عليه فمن حقّه أن ينتصر لنفسه .. ولكنّه لم يستجب لهم ، فلم يكن لينسى قدر الصدّيق  وسابقته في الإسلام وفضله ، حتّى على ربيعة ، وقد أعطاه من أرضه ، وأحسن إليه .. وإنّما يَعرِفُ الفضلَ لأهلِ الفضلِ أهلُ الفضلِ .. ويذهب ربِيعة  في إجلال الصدّيق  ومعرفة قدره ، مذهباً إيمانيّاً رفيعاً ، إذ يرى ، وهو محقٌّ فيما يرى ، أنّ في غضبِ الصدّيقِ  غضبَ رسولِ الله  ، وفي غضبِ رسولِ الله  غضبَ الله تعالى ، وفي ذلك هلاك ربيعة وشقاؤه .! وهل يسعه أن يعرّض نفسَه لذلك .؟!
إنّه يعرف قدر الصدّيق  ومنزلته عند رسول الله  ، ويعرف مقام رسول الله  عند ربّه جلّ وعلا ، ومن هنا فإنّ حرمة المؤمن من حرمات الله تعالى .
فأيّ سموّ في أدب العلاقات الاجتماعيّة أعلى من هذا السموّ وأرفع .؟! وأيّ موّدة تسبغها الأخوة الإيمانيّة بين المؤمنين ، وهم يحفظون حقّ الإنسان ويعظّمونه ، لأنّه يتّصل بحقّ الله تعالى ويتفرّع عنه .؟! وهل يمكن لمثل هذا المجتمع أن يخترق من أعدائه ، أو يهتزّ بمكرهم ومؤامراتهم .؟!
وبعد ؛ فما أوثق الانسجام وأجمله .! بين هذا الواقع المشرق ، والصورة الاجتماعيّة الزاهية ، وبين وصف القرآن الكريم للنبيّ  بقول الله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ .. (6) } الأحزاب .
ووصفه للصحابة الكرام  بقوله سبحانه :
{ .. وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ، رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ .. (29 ) } الفتح .
وتوجيهاته للمؤمنين وتحذيراته ، بقول الله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ! مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ ، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ .. (54) } المائدة .


* ـ رُسُلُ الإسلامِ الأوّلونَ المهاجرون إلى الحَبَشَةِ ، وحديثُ جَعفَرَ بنِ أَبِي طَالِبٍ  بين يدي النَّجَاشِيِّ :

لم يمض على انتشار نور الدعوة إلى الإسلام سوى سنوات قليلة .. حتّى كان المؤمنون والمؤمنات ، وقد اشتدّت عليهم وطأة الأذى والاضطهاد يحزمون متاعهم ، ويتّجهون إلى الحَبَشَةِ مهاجرين في سبيل الله ، فارّين بدينهم من الفتنة ، ومؤثرين عقيدتهم على كلّ شيء .. ولقد يحسب بعض الناس أنّ هؤلاء المهاجرين لم يكن تفكيرهم إلاّ في الأمان على أنفسهم ، والنجاة ممّا هم فيه من المحنة ، ولكنّ الحقيقة غير ذلك .. لقد حملوا من أوّل لحظة دعوة الحقّ بين جوانحهم ، وخالطت محبّتها وبشاشتها شغاف قلوبهم ، فأنّى لهم أن تتوارى عنهم في حياتهم الجديدة ، أو يتواروا عنها ، أو يغفلوا عنها ويتناسوا مسئوليّتها .؟! وهي جزء لا يتجزّأ من كيانهم كلّه ..
لقد كانت هذه الهجرة فتحاً جديداً للدعوة ، وبداية المدّ الإسلاميّ في إفريقيا ، وبالأخصّ فيما يسمّى القرن الإفريقيّ ، ذلك الفتح الذي كان فتحاً من فتوح الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وكان من أوّل المستجيبين له ملك الحبشة النجاشيّ .. وكانت أداته الأولى المخالطة والمعايشة ، والحوار الهادئ البنّاء ..
ولقد كان هؤلاء المهاجرون يعلمون أنّ لدعوة الحقّ مهراً لابدّ من دفعه ، وأنّ للصدق ثمناً لابدّ من بذله ، وأنّ دعاة الحقّ وأبناءه لا يسعهم إلاّ أن تكون دعوة الحقّ محور حياتهم ، وقبلة مسارهم ..
ومن ثمّ فقد كان لهؤلاء المهاجرين قصّة مليئة بالدروس والعبر ، يتجلّى فيها وضوح المنهج الإسلاميّ ، بمبادئه وأحكامه ، وقيمه ومقاصده بأجلى صورة ، وهي تكشف عن عظمة التربية النبويّة في صنع الرجال ، وإعداد الدعاة ، فإلى وقائع هذه القصّة ، وأهمّ ما فيها من العبر :
عَن أُمِّ المؤمِنينَ أُمِّ سَلَمَةَ ابنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ زَوجِ النَّبِيِّ  قَالَت : لَمَّا نَزَلنَا أَرضَ الحَبَشَةِ ، جَاوَرنَا بِهَا خَيرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا ، وَعَبَدنَا الله تَعَالَى ، لا نُؤذَى ، وَلا نَسمَعُ شَيئاً نَكرَهُهُ ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيشاً ، ائتَمَرُوا أَن يَبعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَينِ جَلدَينِ ، وَأَن يُهدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُستَطرَفُ مِن مَتَاعِ مَكَّةَ ، وَكَانَ مِن أَعجَبِ مَا يَأتِيهِ مِنهَا إِلَيهِ الأَدَمُ ، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَماً كَثِيراً ، وَلَم يَترُكُوا مِن بَطَارِقَتِهِ بِطرِيقاً إلا أَهدَوا لَهُ هَدِيَّةً ، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبدَ الله بنَ أَبِي رَبِيعَةَ بنِ المُغِيرَةِ المَخزُومِيَّ ، وَعَمرَو ابنَ العَاصِ بنِ وَائِلٍ السَّهمِيَّ ، وَأَمَرُوهُمَا أَمرَهُم ، وَقَالُوا لَهُمَا : ادفَعَا إِلَى كُلِّ بِطرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبلَ أَن تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِم ، ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ ، ثُمَّ سَلُوهُ أَن يُسَلِّمَهُم إِلَيكُم قَبلَ أَن يُكَلِّمَهُم .
قَالَت : فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ ، وَنَحنُ عِندَهُ بِخَيرِ دَارٍ وَخَيرِ جَارٍ ، فَلَم يَبقَ مِن بَطَارِقَتِهِ بِطرِيقٌ إلا دَفَعَا إِلَيهِ هَدِيَّتَهُ قَبلَ أَن يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ ، ثُمَّ قَالَ لِكُلِّ بِطرِيقٍ مِنهُم : إِنَّهُ قَد صَبَا إِلَى بَلَدِ المَلِكِ مِنَّا غِلمَانٌ سُفَهَاءُ ، فَارَقُوا دِينَ قَومِهِم ، وَلَم يَدخُلُوا فِي دِينِكُم ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبتَدَعٍ ، لا نَعرِفُهُ نَحنُ وَلا أَنتُم ، وَقَد بَعَثَنَا إِلَى المَلِكِ فِيهِم أَشرَافُ قَومِهِم ، لِنَرُدَّهُم إِلَيهِم ، فَإِذَا كَلَّمنَا المَلِكَ فِيهِم ، فَأَشِيرُوا عَلَيهِ بِأَن يُسَلِّمَهُم إِلَينَا ، ولا يُكَلِّمَهُم ، فَإِنَّ قَومَهُم أَعلَى بِهِم عَيناً ، وَأَعلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيهِم .
فَقَالُوا لَهُمَا : نَعَم ، ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُم إِلَى النَّجَاشِيِّ ، فَقَبِلَهَا مِنهُمَا ، ثُمَّ كَلَّمَاهُ ، فَقَالا لَهُ : " أَيُّهَا المَلِكُ ! إِنَّهُ قَد صَبَا إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلمَانٌ سُفَهَاءُ ، فَارَقُوا دِينَ قَومِهِم ، وَلَم يَدخُلُوا فِي دِينِكَ ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبتَدَعٍ ، لا نَعرِفُهُ نَحنُ وَلا أَنتَ ، وَقَد بَعَثَنَا إِلَيكَ فِيهِم أَشرَافُ قَومِهِم مِن آبَائِهِم وَأَعمَامِهِم وَعَشَائِرِهِم ، لِتَرُدَّهُم إِلَيهِم ، فَهُم أَعلَى بِهِم عَيناً ، وَأَعلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيهِم ، وَعَاتَبُوهُم فِيهِ .
قَالَت : وَلَم يَكُن شَيءٌ أَبغَضُ إِلَى عَبدِ الله بنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمرِو بنِ العَاصِ مِن أَن يَسمَعَ النَّجَاشِيُّ كَلامَهُم .
فَقَالَت بَطَارِقَتُهُ حَولَهُ : صَدَقُوا أَيُّهَا المَلِكُ ! قَومُهُم أَعلَى بِهِم عَيناً ، وَأَعلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيهِم ، فَأَسلِمهُم إِلَيهِمَا ، فَليَرُدَّانِهِم إِلَى بِلادِهِم وَقَومِهِم .
قَالَ : فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ ، ثُمَّ قَالَ : لا هَايمُ الله ، إِذاً لا أُسلِمَهُم إِلَيهِمَا ـ وَلا أَكَادُ ـ قَوماً جَاوَرُونِي ، وَنَزَلُوا بِلادِي ، وَاختَارُونِي عَلَى مَن سِوَايَ ، حَتَّى أَدعُوَهُم ، فَأَسأَلَهُم مَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمرِهِم ، فَإِن كَانُوا كَمَا يَقُولانِ أَسلَمتُهُم إِلَيهِمَا ، وَرَدَدتُهُم إِلَى قَومِهِم ، وَإِن كَانُوا عَلَى غَيرِ ذَلِكَ مَنَعتُهُم مِنهُمَا ، وَأَحسَنتُ جِوَارَهُم مَا جَاوَرُونِي .
قَالَت : ثُمَّ أَرسَلَ إِلَى أَصحَابِ رَسُولِ الله  فَدَعَاهُم ، فَلَمَّا جَاءَهُم رَسُولُهُ اجتَمَعُوا ، ثُمَّ قَالَ بَعضُهُم لِبَعضٍ : مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئتُمُوهُ .؟ قَالُوا : نَقُولُ وَالله مَا عَلِمنَا ، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا  كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ .
فَلَمَّا جَاءُوهُ ، وَقَد دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ ، فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُم حَولَهُ لِيَسأَلَهُم ، فَقَالَ : مَا هَذَا الدِّينُ ، الَّذِي فَارَقتُم فِيهِ قَومَكُم ، وَلَم تَدخُلُوا فِي دِينِي ، وَلا فِي دِينِ أَحَدٍ مِن هَذِهِ الأُمَمِ .؟
قَالَت : فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ  ، فَقَالَ لَهُ :
أَيُّهَا المَلِكُ ! كُنَّا قَوماً أَهلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعبُدُ الأَصنَامَ ، وَنَأكُلُ المَيتَةَ ، وَنَأتِي الفَوَاحِشَ ، وَنَقطَعُ الأَرحَامَ ، وَنُسِيئُ الجِوَارَ ، ويَأكُلُ القَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ ، حَتَّى بَعَثَ الله إِلَينَا رَسُولاً مِنَّا ، نَعرِفُ نَسَبَهُ وَصِدقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى الله تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعبُدَهُ ، وَنَخلَعَ مَا كُنَّا نَعبُدُ نَحنُ وَآبَاؤُنَا مِن دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالأَوثَانِ ، وَأَمَرَنا بِصِدقِ الحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسنِ الجِوَارِ ، وَالكَفِّ عَنِ المَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنِ الفَوَاحِشِ وَقَولِ الزُّورِ ، وَأَكلِ مَالِ اليَتِيمِ ، وَقَذفِ المُحصَنَةِ ، وَأَمَرَنَا أَن نَعبُدَ الله وَحدَهُ ، لا نُشرِكُ بِهِ شَيئاً ، وَأَمَرَنَا بِالصّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ ـ قَالَ : فَعَدَّدَ عَلَيهِ أُمُورَ الإِسلامِ ـ فَصَدَّقنَاهُ ، وَآمَنَّا بِهِ ، وَاتَّبَعنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ ، فَعَبَدنَا الله وَحدَهُ ، فَلَم نُشرِك بِهِ شَيئاً ، وَحَرَّمنَا مَا حَرَّمَ عَلَينَا ، وَأَحلَلنَا مَا أَحَلَّ لَنَا ، فَعَدَا عَلَينَا قَومُنَا ، فَعَذَّبُونَا ، فَفَتَنُونَا عَن دِينِنَا ، لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الأَوثَانِ مِن عِبَادَةِ الله ، وَأَن نَستَحِلَّ مَا كُنَّا نَستَحِلُّ مِنَ الخَبَائِثِ ، وَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا ، وَشَقُّوا عَلَينَا ، وَحَالُوا بَينَنَا وَبَينَ دِينِنَا ، خَرَجنَا إِلَى بَلَدِكَ ، وَاختَرنَاكَ عَلَى مَن سِوَاكَ ، وَرَغِبنَا فِي جِوَارِكَ ، وَرَجَونَا أَن لا نُظلَمَ عِندَكَ أَيُّهَا المَلِكُ .
قَالَت : فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ : هَل مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ الله مِن شَيءٍ ؟
قَالَت : فَقَالَ لَهُ جَعفَرٌ : نَعَم ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ : فَاقرَأهُ عَلَيَّ ، فَقَرَأَ عَلَيهِ صَدراً مِن : { كهيعص }، قَالَت : فَبَكَى وَالله النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخضَلَ لِحيَتَهُ ، وَبَكَت أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخضَلُوا مَصَاحِفَهُم حِينَ سَمِعُوا مَا تَلا عَلَيهِم .
ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ : إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخرُجُ مِن مِشكَاةٍ وَاحِدَةٍ ، انطَلِقَا ، فَوَالله لا أُسلِمُهُم إِلَيكُم أَبَداً ، ولا أَكَادُ .
قَالَت أُمُّ سَلَمَةَ رَضِي الله عَنهَا : فَلَمَّا خَرَجَا مِن عِندِهِ قَالَ عَمرُو بنُ العَاصِ : وَالله لآتِيَنَّهُ غَداً بما أَعِيبُهُم عِندَهُ ، ثُمَّ أَستَأصِلُ بِهِ خَضرَاءَهُم .
قَالَت : فَقَالَ لَهُ عَبدُ الله بنُ أَبِي رَبِيعَةَ ـ وَكَانَ أَتقَى الرَّجُلَينِ فِينَا ـ : لا تَفعَل ، فَإِنَّ لَهُم أَرحَاماً ، وَإِن كَانُوا قَد خَالَفُونَا .
قَالَ : وَالله لأخبِرَنَّهُ أَنَّهُم يَزعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابنَ مَريَمَ عَلَيهِمَا السَّلام عَبدٌ .
قَالَت : ثُمَّ غَدَا عَلَيهِ الغَدَ ، فَقَالَ لَهُ : أَيُّهَا المَلِكُ ! إِنَّهُم يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابنِ مَريَمَ قَولاً عَظِيماً ، فَأَرسِل إِلَيهِم ، فَسَلهُم عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ .
قَالَت أُمُّ سَلَمَةَ : فَأَرسَلَ إِلَيهِم ، يَسأَلُهُم عَنهُ ، قَالَت : وَلَم يَنزِل بِنَا مِثلُهَا ، فَاجتَمَعَ القَومُ ، فَقَالَ بَعضُهُم لِبَعضٍ : مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُم عَنهُ ؟ قَالُوا : نَقُولُ وَالله فِيهِ مَا قَالَ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ، وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا  ، كَائِناً فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيهِ قَالَ لَهُم : مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابنِ مَريَمَ ؟
فَقَالَ لَهُ جَعفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ  : نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا  : هُوَ عَبدُ الله وَرَسُولُهُ ، وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلَى مَريَمَ العَذرَاءِ البَتُولِ .
قَالَت : فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ عَلَى الأَرضِ ، فَأَخَذَ مِنهَا عُوداً ، ثُمَّ قَالَ : مَا عَدَا عِيسَى ابنُ مَريَمَ مَا قُلتَ هَذَا العُودَ ، فَنَخَرَت بَطَارِقَتُهُ حَولَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ ، فَقَالَ : وَإِن نَخَرتُم ، وَالله ، اذهَبُوا فَأَنتُم سُيُومٌ بِأَرضِي ـ وَالسُّيُومُ الآمِنُونَ ـ مَن سَبَّكُم غَرِمَ ، ثُمَّ مَن سَبَّكُم غَرِمَ ، ثُمَّ مَن سَبَّكُم غَرِمَ ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبرَ ذَهَبٍ ، وَأَنِّي آذَيتُ رَجُلاً مِنكُم ـ وَالدَّبرُ بِلِسَانِ الحَبَشَةِ الجَبَلُ ـ رُدُّوا عَلَيهِمَا هَدَايَاهُمَا ، فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهَا ، فَوَالله مَا أَخَذَ الله مِنِّي الرِّشوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلكِي ، فَآخُذَ الرِّشوَةَ فِيهِ ، وَمَا أَطَاعَ فِيَّ النَّاسَ فَأُطِيعَهُم فِيهِ .
قَالَت : فَخَرَجَا مِن عِندِهِ مَقبُوحَينِ ، مَردُوداً عَلَيهِمَا مَا جَاءَا بِهِ ، وَأَقَمنَا عِندَهُ بِخَيرِ دَارٍ مَعَ خَيرِ جَارٍ .
قَالَت : فَوَالله إِنَّا عَلَى ذَلِكَ ، إِذ نَزَلَ بِهِ يَعنِي مَن يُنَازِعُهُ فِي مُلكِهِ ، قَالَت : فَوَالله مَا عَلِمنَا حُزناً قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِن حُزنٍ حَزِنَّاهُ عِندَ ذَلِكَ ، تَخَوُّفاً أَن يَظهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِيِّ ، فَيَأتِيَ رَجُلٌ لا يَعرِفُ مِن حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعرِفُ مِنهُ .
قَالَت : وَسَارَ النَّجَاشِيُّ ، وَبَينَهُمَا عُرضُ النِّيلِ ، قَالَ : فَقَالَ أَصحَابُ رَسُولِ الله  : مَن رَجُلٌ يَخرُجُ حَتَّى يَحضُرَ وَقعَةَ القَومِ ، ثُمَّ يَأتِيَنَا بِالخَبَرِ ؟ قَالَت : فَقَالَ الزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ  : أَنَا ، قَالَت : وَكَانَ مِن أَحدَثِ القَومِ سِنّاً قَالَت : فَنَفَخُوا لَهُ قِربَة ، فَجَعَلَهَا فِي صَدرِهِ ، ثُمَّ سَبَحَ عَلَيهَا ، حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ ، الَّتِي بِهَا مُلتَقَى القَومِ ، ثُمَّ انطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُم ، قَالَت : وَدَعَونَا الله تَعَالَى لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ ، وَالتَّمكِينِ لَهُ فِي بِلادِهِ ، وَاستَوثَقَ عَلَيهِ أَمرُ الحَبَشَةِ ، فَكُنَّا عِندَهُ فِي خَيرِ مَنزِلٍ ، حَتَّى قَدِمنَا عَلَى رَسُولِ الله  ، وَهُوَ بِمَكَّةَ " ( ) .
ففي هذه الحادثة تتجلّى بعض ركائز الدعوة إلى الله تعالى بأبهى صورها ، وأجمل حقائقها :
1 ـ ففي الوقت الذي يتآمر المشركون على المؤمنين المهاجرين المستضعفين ، الفارّين بدينهم من الفتنة ، ويتّخذون كلّ حيلة لتحقيق ما يريدون ، فيعتمدون على معرفتهم بالنجاشيّ وصداقتهم معه ، نرى المؤمنين على قلب رجل واحد ، أمرهم شورى بينهم ، يتشاورون فيما نزل بهم ، ويحزمون أمرهم ، ويتّخذون قرارهم ، ويتوكّلون على الله تعالى وحده ، لا تأخذهم في الله لومة لائم .
2 ـ قارن موْقف المكر والغدْر الذي فكّر به عمرو بن العاص وأراده بهؤلاء المهاجرين ، الذين هم رسل الإسلام ، ورسلِ رسول الله  ، متوسّلاً إلى ذلك بما بينه وبين النجاشيّ من صداقة قديمة ، ومودّة وثيقة .. ثمّ قوله لصاحبه عَبدُ الله بنُ أَبِي رَبِيعَةَ : " وَالله لآتِيَنَّهُ غَداً بما أَعِيبُهُم عِندَهُ ، ثُمَّ أَستَأصِلُ بِهِ خَضرَاءَهُم ، فَقَالَ لَهُ صاحبه : لا تَفعَل ، فَإِنَّ لَهُم أَرحَاماً ، وَإِن كَانُوا قَد خَالَفُونَا " ، قارن هذا الموْقف بما يوجبه الإسلام من رعاية العهد ، وحفظ الذمّة ، وما يحثّ عليه من العفو عند المقدرة ، وهو ما فعله النبيّ  عندما تمكّن من مشركي قريش بعد فتح مكّة المكرّمة ، فعفا عنهم ، ولم يؤاخذهم .
3 ـ وفي كَلامِ جَعفَر بنِ أَبِي طَالِبٍ  بين يدي النجاشيّ ما يدلّنا على مبلغ الوضوح العقدي والفكريّ في نفوس الصحب الكرام  ، فهذا البيان الرائع الذي أدلى به جَعفَرَ بنَ أَبِي طَالِبٍ  ما أجمعه وأدقّه ! وما أشبهه بكلام النبوّة ، وكأنّه يخرج من مشكاة واحدة ، فلله درّه من تلميذ نجيب من تلاميذ مدرسة النبوّة .!
4 ـ ومرّة أخرى : تتجلّى المشورة في شئون الدعوة ومصلحة الدين بين الصحابة ، ويتجلّى اجتهاد الصحابة الحكيم ، وتكون نتيجة شوراهم : أنّهم لا يساومون في أمر العقيدة ، ولا يدارون ولا يدهنون ، ولا يورّون ولا ينهزمون أمام أيّ مبدأ أو دين .. ولا يلقون بكلام ضبابيّ غائم ، يكون فيه من الضرر المحقَّق على الإسلام والدعوة ، ما لايتناسب مع دفع الشرّ الموهوم .. وكان ذلكم هو الموقف الحقّ ، الذي يخرج من مشكاة الهدي النبويّ المعصوم .


وتتفاعل هذه الحادثة بفصولها ومشاهدها ، في نفس بعض أطرافها سنين عديدة ، فما كان لهذه المواقف أن تمرّ سدى .. إنّها تترك في اللاشعور بصماتها بصورة لا يدري عنها أصحابها أنفسهم .. وتمرّ السنوات .. وتكتسب دعوة الإسلام في كلّ يوم مواقع جديدة ، وتنتصر في كلّ ميدان ، ويحاصَر أولئك الزعماء الذين حملوا راية العداء بكلّ ما أوتوا من قوّة .. يحاصَرون في أقطار أنفسهم ، ويبحثون عن الملجأ والملاذ وكلّهم في دوّامة الورطة غارقون غارقون .. ويتذكّر ذلك الممثّل لطغيان قريش يوم تجشّم وعثاء السفر إلى صديقه النجاشيّ ، ليأتي بأولئك المهَاجرين موثّقين بالأغلال ، ليسوموهم سوء العذاب .. يتذكّر ذلك الصديق القديم وموقفهُ ، فيفكّر بجدّيّة أن يرتحل إليه ، ويكون عنده ، ويهرب ممّا هو فيه .. ذلك الرأي في ظاهر الأمر .. ولكنّ الحقيقة أنّه كان يلتمس رأياً من صديقه يخرجه من ورطته ، ويحفظ له ماء وجهه .. وكان ذلك سوق الحقّ والعناية الإلهيّة إلى سبيل الهداية ، وارتياد منهج جديد في الحياة .. من حيث لا يدري الإنسان ولا يحتسب : { واللهُ غَالِبٌ عَلَى أمْرِهِ ، وَلَكِنّ أكثرَ الناسِ لا يَعلَمُونَ (21) } يوسف .

* حديث عَمرُو بنُ العَاصِ  عند النَّجَاشِيِّ وإسلامه على يدي النجاشيّ :
عَن حَبِيبِ بنِ أَبِي أَوسٍ قَالَ : حَدَّثَنِي عَمرُو بنُ العَاصِ  مِن فِيهِ قَالَ : لَمَّا انصَرَفنَا مِنَ الأحزَابِ عَنِ الخَندَقِ ، جَمَعتُ رِجَالاً مِن قُرَيشٍ ، كَانُوا يَرَونَ مَكَانِي ، وَيَسمَعُونَ مِنِّي ، فَقُلتُ لَهُم : تَعلَمُونَ وَالله إِنِّي لأرَى أَمرَ مُحَمَّدٍ يَعلُو الأمُورَ عُلُوًّا كَبِيرًا مُنكَرًا ، وَإِنِّي قَد رَأَيتُ رَأياً فَمَا تَرَونَ فِيهِ ؟ قَالُوا : وَمَا رَأَيتَ ؟ قَالَ : رَأَيتُ أَن نَلحَقَ بِالنَّجَاشِيِّ فَنَكُونَ عِندَهُ ، فَإِن ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى قَومِنَا كُنَّا عِندَ النَّجَاشِيِّ ، فَإِنَّا أَن نَكُونَ تَحتَ يَدَيهِ أَحَبُّ إِلَينَا مِن أَن نَكُونَ تَحتَ يَدَي مُحَمَّدٍ ، وَإِن ظَهَرَ قَومُنَا ، فَنَحنُ مَن قَد عُرِفَ ، فَلَن يَأتِيَنَا مِنهُم إِلا خَيرٌ ، فَقَالُوا : إِنَّ هَذَا الرَّأيُ ، قَالَ : فَقُلتُ لَهُم : فَاجمَعُوا لَهُ مَا نُهدِي لَهُ ، وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهدَى إِلَيهِ مِن أَرضِنَا الأدَمُ ، فَجَمَعنَا لَهُ أُدماً كَثِيراً ، فَخَرَجنَا حَتَّى قَدِمنَا عَلَيهِ ، فَوَالله إِنَّا لَعِندَهُ إِذ جَاءَ عَمرُو بنُ أُمَيَّةَ الضَّمرِيُّ ، وَكَانَ رَسُولُ الله  قَد بَعَثَهُ إِلَيهِ فِي شَأنِ جَعفَرٍ وَأَصحَابِهِ ، قَالَ : فَدَخَلَ عَلَيهِ ، ثُمَّ خَرَجَ مِن عِندِهِ ، قَالَ : فَقُلتُ لأصحَابِي : هَذَا عَمرُو ابنُ أُمَيَّةَ الضَّمرِيُّ ، لَو قَد دَخَلتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَسَأَلتُهُ إِيَّاهُ ، فَأَعطَانِيهِ فَضَرَبتُ عُنُقَهُ ، فَإِذَا فَعَلتُ ذَلِكَ رَأَت قُرَيشٌ أَنِّي قَد أَجزَأتُ عَنهَا ، حِينَ قَتَلتُ رَسُولَ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : فَدَخَلتُ عَلَيهِ ، فَسَجَدتُ لَهُ كَمَا كُنتُ أَصنَعُ ، فَقَالَ : مَرحَباً بِصَدِيقِي ، أَهدَيتَ لِي مِن بِلادِكَ شَيئًا ؟ قَالَ : قُلتُ : نَعَم ! أَيُّهَا المَلِكُ ، قَد أَهدَيتُ لَكَ أُدماً كَثِيرًا ، قَالَ : ثُمَّ قَدَّمتُهُ إِلَيهِ فَأَعجَبَهُ وَاشتَهَاهُ ، ثُمَّ قُلتُ لَهُ : أَيُّهَا المَلِكُ ! إِنِّي قَد رَأَيتُ رَجُلاً خَرَجَ مِن عِندِكَ ، وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوٍّ لَنَا ، فَأَعطِنِيهِ لأقتُلَهُ ، فَإِنَّهُ قَد أَصَابَ مِن أَشرَافِنَا وَخِيَارِنَا ، قَالَ : فَغَضِبَ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ ، فَضَرَبَ بِهَا أَنفَهُ ضَربَةً ، ظَنَنتُ أَن قَد كَسَرَهُ ، فَلَوِ انشَقَّت لِيَ الأرضُ لَدَخَلتُ فِيهَا فَرَقاً مِنهُ ، ثُمَّ قُلتُ : أَيُّهَا المَلِكُ ، وَالله لَو ظَنَنتُ أَنَّكَ تَكرَهُ هَذَا مَا سَأَلتُكَهُ ، فَقَالَ لَهُ : أَتَسأَلُنِي أَن أُعطِيَكَ رَسُولَ رَجُلٍ يَأتِيهِ النَّامُوسُ الأكبَرُ ، الَّذِي كَانَ يَأتِي مُوسَى لِتَقتُلَهُ ؟ قَالَ : قُلتُ : أَيُّهَا المَلِكُ ! أَكَذَاكَ هُوَ ؟ فَقَالَ : وَيحَكَ يَا عَمرُو أَطِعنِي وَاتَّبِعهُ ، فَإِنَّهُ وَالله لَعَلَى الحَقِّ ، وَلَيَظهَرَنَّ عَلَى مَن خَالَفَهُ كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرعَونَ وَجُنُودِهِ ، قَالَ : قُلتُ : فَبَايِعنِي لَهُ عَلَى الإِسلامِ ، قَالَ : نَعَم ، فَبَسَطَ يَدَهُ ، وَبَايَعتُهُ عَلَى الإِسلامِ ، ثُمَّ خَرَجتُ إِلَى أَصحَابِي ، وَقَد حَالَ رَأيِي عَمَّا كَانَ عَلَيهِ ، وَكَتَمتُ أَصحَابِي إِسلامِي ، ثُمَّ خَرَجتُ عَامِداً لِرَسُولِ الله  لأُسلِمَ ، فَلَقِيتُ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ ، وَذَلِكَ قُبَيلَ الفَتحِ ، وَهُوَ مُقبِلٌ مِن مَكَّةَ ، فَقُلتُ : أَينَ يَا أَبَا سُلَيمَانَ ؟ قَالَ : وَالله لَقَدِ استَقَامَ المَنسِمُ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ ، أَذهَبُ وَالله أُسلِمُ ، فَحَتَّى مَتَى ؟ قَالَ : قُلتُ : وَالله مَا جِئتُ إِلاّ لأُسلِمَ ، قَالَ : فَقَدِمنَا عَلَى رَسُولِ الله  ، فَقَدِمَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ ، فَأَسلَمَ وَبَايَعَ ، ثُمَّ دَنَوتُ فَقُلتُ : يَا رَسُولَ الله ! إِنِّي أُبَايِعُكَ عَلَى أَن تَغفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِي ، وَلا أَذكُرُ وَمَا تَأَخَّرَ ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ الله  : ( يَا عَمرُو بَايِع ، فَإِنَّ الإِسلامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبلَهُ ، وَإِنَّ الهِجرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبلَهَا ) ، قَالَ : فَبَايَعتُهُ ، ثُمَّ انصَرَفتُ . قَالَ ابنُ إِسحَاقَ : وَقَد حَدَّثَنِي مَن لا أَتَّهِمُ أَنَّ عُثمَانَ بنَ طَلحَةَ بنِ أَبِي طَلحَةَ كَانَ مَعَهُمَا ، أَسلَمَ حِينَ أَسلَمَا " ( ) .
ويلفت نظرنا في سياق قصّة إسلام عمرو بن العاص وصاحبيه  ، جملة حقائق مهمّة ، تتّصل بالركائز الدعويّة التي نتحدّث عنها ، ونوجزها فيما يلي :
1 ـ موقف النجاشيّ من رسول الله  ، وإيمانه به ، على يد أولئك المهاجرين الأوّلين إلى الحبشة ، الذين مثّلوا الإسلام أحسن تمثيل ، وكانوا خير دعاة وسفراء لهذا الدين في الحبشة ، وقد روي أنّ فيه ، وفيمن أسلم من أتباعه ، نزل قول الله تعالى : { .. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ، الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّا نَصَارَى ، ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً ، وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ ، مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ ، يَقُولُونَ : رَبَّنَا آمَنَّا ، فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) } المائدة .
2 ـ إنّ العقلاء مهما حجبتهم الأهواء عن الحقّ ، وأعشت بصائرهم زمناً ، فإنّهم ترجى لهم الأوبة القريبة ، وحسن العاقبة بإذن الله ، وهذا ما يجعل الدعاة ذوي البصيرة الدعويّة النافذة ، لا يستيئسون من رحمة الله تعالى أن تدرك أعتى العتاة ، ليكون بين لحظة أو أخرى من جنود الهدى ، وحماة الحقّ .
3 ـ إنّ أعظم ما يرغّب الإنسان بدعوة الحقّ : أنّ الإسلام يجبّ ما كان قبله ، ويمحو ما سلف من السيّئات والموبقات بلا استثناء .. وكذلك التوبة .. فيقبل الإنسان حين يقبل على هذا الدين بروح جديدة ، لا تمتّ إلى حياته الماضية بأيّة صلة .
4 ـ وليس الأمر قاصراً على مغفرة الذنوب فحسب ، بل إنّ التخلّص من الشعور النفسيّ المكبّل بأوزار الماضي وسلبياته ، لمنْ يُقبِلُ عَلى ديْن الله تَعالى مهمٌّ إلى أبعد درجة .. وهي من آثار مغفرة الذنوب ، إذْ إنّ الإنسان لا يدخل في دين جديد على وجه العموم إلاّ وهو يرى نفسه على دين سابق وسلوك ، لا يُحرَص عليه ولا يُشرّف .. ويريد التبرّؤ منه ، والانفكاك من أسره ، فكيفَ يكوْن شعوره ، وهو يرى نفسه ينتقل إلى الدين الجديد محمّلاً بسيّئات الماضي ، ومخلّفاته وأثقاله ، التي يريد الهرب منها ؟! إنّه من الوجهة النفسيّة لا يرى نفسه قد فعل شيئاً بذلك ، ومن ثمّ فلا يرى ما يدفعه إلى هذا الانتقال والتحوّل ، ولا تكون لديه دافعيّة فاعلة ، تجعله يستجيب لمتطلّبات الدين الجديد ، ما لم يعش حياة جديدة كلّ الجِدّة .. تصبغه بصبغتها الخاصّة ، وتنشئه نشأة خاصّة .. فالمناسبة النفسيّة إذن بين دخول الإنسان في الإسلام ، وبين انقطاعه عن ماضيه مهمّة جدّاً ، وعميقة التأثير ..
ثمّ إنّ لهذا الانقطاع عن الماضي آثاراً بنّاءة ، وأبعاداً شاملة ، على كلّ مستوى في حياة الناس ، وهي على درجة كبيرة من الأهمّيّة ، على الدعاة إلى الله تعالى أن ينتبهوا إليها ، ويدقّقوا في فهمها ، ويستثمروها ، وأن يهتمّوا بها ، ولا يهملوها ..



* قصّة إسلام زيد بن سُعنة الحبر اليهوديّ :
بين يدي القصّة :
* نظرة عامّة عن الوجود اليهوديّ في المدينة :
بعيداً عن البحث التاريخيّ في زمن هجرة اليهود إلى المدينة ، واستيطانهم فيها ، فقد صحَت يثرب يوماً من الأيّام ، وفي غفلة من أمرها ، لتجد نفسها محاطة باليهود من كلّ جانب ، ووجدت أحداثها الكبيرة يصنعها اليهود ، ويحرّكها اليهود ، ووجد الأمّيّون أنفسهم مرتهنون للدخلاء الأغراب في كلّ شيء : فولاء الأطراف كلّها موزّع بين فرقاء اليهود ، وهم الهيئة العليا التي تحتكر العلم والفكر ، وتجود بالرأي والمشورة ، والتجارة لا شأن لها ولا وزن ما لم تمرّ عبر قنواتهم ، وتخطّط لها مداخلهم وأساليبهم .. وحتّى الزراعة التي توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد ، امتدّت إليها أيديهم ، وأصبح لهم فيها وجود لا يمنع ، وقدم لا ينزع .. كلّ ذلك ناهيك عن الهيمنة الدينيّة التي كانوا يتبجّحون بها على جيرانهم من العرب ، ويفتخرون : فهم أهل كتب سماويّة ، ومخصوصون بالرسل من دون الناس ، وهؤلاء العرب أمّيّون جهلة ، وكأنّ الله تعالى يأبى أن يقبلهم من عباده ، أو يجعلهم محلّ رحمته ووداده ..
لقد بلغ بهم الزهوّ والغطرسة غاية ما بعدها من غاية ، وكانت تزداد وتتفاقم ، عندما يذكرون عهد أنبيائهم عن النبيّ المنتظر ، فيملأ عليهم التيه على الناس والخيلاء إهابَهم ، ويتمادون في احتقار جيرانهم ، وشدّة الاستخفاف بهم ، ويتهدّدونهم بالنبيّ المنتظر ، الذي أظلّ زمانه ، وسيتّبعونه ، ويقتلونهم تحت لوائه قتل عاد وإرم ..
وعندما جاء الإسلام ، وسارع قادة الأوس والخزرج إلى الإيمان بالرسول  ، والاستجابة لدعوته ، وسبقت لهم الحسنى من الله ، انقلبت معادلة اليهود رأساً على عقب ، وكان يسعهم أن تبقى معادلتهم كما هي ، لو وفّوا بعهد أنبيائهم ، فسارعوا إلى الإيمان ، واستجابوا للحقّ ، كما سارع جيرانهم واستجابوا ، فنافسوهم في الخير ، وكانوا قبل ذلك أمناء على وحي الله وعهده ..
" ولقد كان اليهود يبنون عظمتهم المادّيّة والسياسيّة على تفرّق العرب قبائل متناحرة ، فلمّا دخل العرب في الإسلام ، وأخذت الحزازات القديمة تتلاشى ، وتتابعت الأيّام تؤكّد أنّ الإسلام سيصنع من العرب أمّة واحدة .. استشعر اليهود القلق ، وساورتهم الهموم ، وشرعوا يفكّرون في الكيد لهذا الدين ، والتربّص بأتباعه .. لقد كانوا يمثّلون في المدينة البيئة التي تتوافر فيها سوءات التديّن المصنوع ، والاحتراف السمج بمبادئ السماء ، وأبرز خلال هذه البيئات : الحقد والنفاق ، والتمسّك بالقشور ، والولع بالجدل ، ومن وراء ذلك قلوب خربة ، ونفوس معوّجة ..
ولقد كانوا ربّما اقتبسوا من جوارهم للعرب بعض فضائل الصحراء ، كالكرم والشجاعة ، بيد أنّ انطواءهم العنصريّ غلب على سيرتهم ، فالتصقت هذه الفضائل بنفوسهم كما تلتصق أوراق الزينة بالجدران المشوّهة ..
وكان المتوقّع أن يرحّب اليهود بالإسلام ، لما سبق من عهد الله عليهم وميثاقه ، فإذ لم يرحّبوا به ، فليكونوا أبطأ من الوثنيّين في عداوته ومخاصمته ؛ فإنّ محمّداً  يدعو إلى توحيد الله ، وإصلاح العمل ، والاستعداد لحياة أرقى في الدار الآخرة .. والإسلام وقّر موسى عليه السلام ، وأعلى شأنه ، ونوّه بكتابه ، وطلب من اليهود أن ينفّذوا أحكامه ، ويلزموا حدوده .. لكنّ اليهود صمتوا أوّلاً صمت المتجاهل المستريب ، ثمّ بدا لهم فقرّروا المعالنة بالجحود ..
وإنّك لتدهش ! إذ تجد الجرأة على الله ، والنفور من أحكامه ، ووصفه بما لا يليق شائعاً بين اليهود ، شيوعها بين المشركين .!
فإذا غضب الإسلام على من ينسب إلى الله ولداً : بشراً أو حجراً ، فماذا ترى فيمن يصف ربّ السموات والأرض بالفقر والبخل .‎؟! ويفتري على الله الكذب ، ويشتري بآيات الله ثمناً قليلاً .؟!
فمن ثمّ نالهم من غضب الله ومقته ما نالهم .!
لقد جاء رسول الله  إلى المدينة مهاجراً ، فمدّ يده إلى اليهود مصافحاً ، وتحمّل الأذى مسامحاً ، حتّى إذا رآهم مجمعين على التنكيل به ، ومحاولة محو دينه ، استدار إليهم ، وجرت بينه وبينهم من الوقائع ما هو معروف .. " ( ) .
لقد قرّروا بكلّ بساطة : أن يقفوا في صفّ الشرك والوثنيّة ، وينصروا الجهل والخرافة ، ويرجّحوا كِفّة الجبت والطاغوت في مواجهة الرسالة ، التي يحملها رجل من أولي العزم من الرسل ، وقد بشّر به جميع الأنبياء والمرسلين ، وعلى وجه الخصوص أنبياؤهم ..
لقد كانوا يعرفون محمّداً  بصفاته وأخباره ، وسيرته وأحواله ، كما يعرفون أبناءهم ، بل إنّ بعضهم صرّح واعترف أنّه يعرف محمّداً  أكثر ممّا يعرف ولده .. ولكنّ الحقّ يأبى أن تحجبه غشاوات الظلمات ، ونور الفطرة يستعصي على أن تجتاحه فتن الشهوات ، فمهما تواطأ الطغاة على محاربة الحقّ والمكر به ، فلابدّ أن يخترق نوره بعض النفوس ، لتحطّم ترّهات الباطل وطغيانه ..
فكان من هؤلاء : الحبرُ عبدُ الله بنُ سلام  ( ) ، الذي لم يتلبّث كثيراً ، ولم يتلجلج .. وكان أسرع يهود إلى اختراق حجب الباطل ، واعتناق نور الحقّ .. وكان له في إسلامه موقف فاضح لأخلاقيّات اليهود وطبائعهم ..
وإذا كانت الأخلاق النبويّة معلماً من أعظم معالم هداية الخلق إلى دين الله تعالى ، فقد أثبتت من جهة شهادة الحقّ سبحانه لنبيّه  : { وإنّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ (4) } القلم ، وهي أرفع شهادة ينالها بشر وأعلاها ، كما دلّلت من جهة أخرى على أنّ الإسلام دين الفطرة ، فالفطرة السويّة تحبّ مكارم الأخلاق ، وتنفر من سيّئها ، ويأسرها البرّ ، ويستميلها الإحسان ، ويسمو بها الخلق الرفيع ويزكّيها ، وما أحسن ما قال الشاعر في ذلك :
أحسِن إلى الناسِ تَستعبِد قُلوبهمُ
فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
ولا يستطيع الإنسان أن يحصي أو يستقصي أخبار أولئك الذين كانت الأخلاق النبويّة هي المدخل الأوّل إلى قلوبهم .. أمّا الذين كان للأخلاق النبويّة مدخل إلى قلوبهم بصورة غير مباشرة ، فهؤلاء ما لا يمكن أن يحصيهم عدّ ، أو يدخلون تحت حصر .. ولا نبعد القول لو قلنا : إنّه ما من رجل من الصحب الكرام  إلاّ وكان للأخلاق النبويّة تأثير في دخوله في الإسلام ، وتسبّبٌ بدرجة من الدرجات .
بل حتّى الأعداء شهدوا بعظمة أخلاق رسول الله  وكريم صفاته ، أما قال أبو سفيان للنبيّ  في فتح مكّة قبل أن يسلم : " بأبي أنت وأمّي ! ما أحلمك ! وأوصلك ! وأكرمك ! " . ويقول في ذلك الشاعر :
شهد الأنام بفضله حتّى العِدا
والفضل ما شهدت به الأعداءُ
وحبرٌ آخر من أحبار يهود ، سارع إلى الإيمان برسول الله  ، بعدما استيقن بنفسه صفاته ودلائل نبوّته ، وكانت الأخلاق النبويّة الكريمة ، هي المدخل إلى ذلك ، فقد أخرج الطبرانيّ عن عبد الله بن سلام  قال : " إنّ الله عزّ وجلّ لما أراد هُدى زيدِ بن سُعنة ، قال زيد بن سُعنة : " ما من علامات النبوّة شيءٌ إلاّ وقد عرفتُها في وجهِ محمّد  حينَ نظرتُ إليه ، إلاّ اثنتين لم أخبُرهُما منه : يَسبقُ حِلمُه جَهلَه ، ولا تَزيدُ شدّة الجهل عليه إلاّ حِلماً ".
قال زيد بن سُعنة  : " فخرج رسول الله  يوماً من الحجرات ومعه عليّ بن أبي طالب  ، فأتاه رجل على راحلته كالبدويّ ، فقال : يا رسول الله ، لي نفر في قرية بني فلان ، قد أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وكنت حدّثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغداً ، وقد أصابتهم سَنة وشدّة وقحط من الغيث ، فأنا أخشى ـ يا رسول الله ـ أن يخرجوا من الإسلام طمعاً ، كما دخلوا فيه طمعاً ، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلت ، فنظر إلى رجل إلى جانبه ـ أراه عليّاً ـ فقال يا رسول الله ما بقي منه شيء ، قال زيد بن سُعنة : فدنوت إليه فقلت : يا محمّد ! هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم ، إلى أجل كذا وكذا ، قال : لا تسمّ حائط بني فلان ، قلت : نعم ، فبايَعَني ، فأطلقت هِمياني ـ وهو كيس تجعل فيه النفقة ـ ويشدّ على الوسط ـ فأعطيتُه ثمانين مثقالاً من ذهب ، في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا ، فأعطاه الرجل ، وقال : " اعدل عليهم وأغثهم " .
قال زيد بن سُعنة : فلما كان قبل مَحِلّ الأجلِ بيومين أو ثلاثة ، خرج رسول الله  ومعه أبو بكر وعمر وعثمان  في نفر من أصحابه ، فلمّا صلّى على الجنازة ، ودنا إلى الجدار ليجلس إليه أتيته ، فأخذته بمجامع قميصه وردائه ، ونظرت إليه بوجه غليظ ، وقلت له : يا محمّد ، ألا تقضيني حقّي ؟ فوالله ما عُلمتُم بني عبد المطّلب إلاّ مُطلاً ، ولقد كان بمخالطتكم علم ، ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفِلك المستدير ، ثمّ رماني ببصره ، فقال : يا عدوّ الله ! أتقول لرسول الله  ما أسمع ؟ وتصنع به ما أرى ؟ فوالذي نفسي بيده ، لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك ، ورسول الله  ينظر إليّ في سكون وتؤدة ، فقال : ( يا عمر ! أنا وهو كنّا أحوجَ إلى غير هذا ، أن تأمرني بحسن الأداء ، وتأمره بحسن اتّباعه ، اذهب به يا عمر ، فأعطه حقّه ، وزِدهُ عِشرينَ صاعاً مِن تمرٍ مَكانَ مَا رُعتَه ) .
قال زيد : فذهب بي عمر ، فأعطاني حقّي ، وزادني عشرين صاعاً من تمر ، فقلت : ما هذه الزيادة يا عمر ؟ قال : أمرني رسول الله  أن أزيدك مكان ما رُعتك ، قال : قلت : وتعرفني يا عمر ؟! قال : لا ، قلت : أنا زيد ابن سُعنة ، قال : الحبر ؟ قلت : الحبر ، قال : فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله ما فعلت ، وقلت له ما قلت ؟ قلت : يا عمر ! لم يكن من علامات النبوّة شيءٌ إلاّ وقد عرفت في وجه رسول الله  حين نظرت إليه ، إلاّ اثنتين ، لم أخبُرهما منه : يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدّة الجهل عليه إلاّ حلماً ، وقد اختبرتهما ، فأشهدك يا عمر ! أنّي قد رضيتُ بالله ربّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمّد نبيّاً ، وأشهدك أنّ شطر مالي ـ فإنّي أكثرُها مالاً ـ صدقةٌ على أمّةِ محمّدٍ  ، قال عمر : أو على بعضهم ، فإنّك لا تسعهم ، قلت : أو على بعضهم ، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله  ، فقال زيد : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، وآمن به وصدّقه وبايعه ، وشهد معه مشاهد كثيرة ، ثمّ توفّي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر ، رحم الله زيداً " ( ) .
وفي هذه الحادثة تلتقي ركائز دعويّة عديدة على تحقيق الهدف المعلوم ، والغاية الكبرى ألا وهو نشر الدعوة ، ودخول الناس في دين الله تعالى ، فمن ذلك :
1 ـ بذل النبيّ  المالَ في سبيل نصرة الدين ، ونشر الدعوة ، وتثبيت المهتدين على دينهم ، ولو اقتضى ذلك استدانةَ المال لتحقيق هذه الغاية ، وقد تكرّر هذا الأمر من رسول الله  في مناسبات كثيرة .
2 ـ تعامل النبيّ  الماليّ مع اليهوديّ ، وذلك ممّا لا يمنع منه الإسلام ، بل قد يحبّذه إذا اقترن بهدف صحيح من أهداف الدعوة .
3 ـ أنّ التعامل الماليّ مع غير المسلمين يجب أن يكون محكوماً بشريعة الإسلام وأحكامه ، فقد بايع النبيّ  اليهوديّ بعد تصحيح عقد المبايعة ، وفق ما تقرّه الشريعة وترتضيه ، وعلى ذلك درج التجار المسلمون ونهجوا .
4 ـ شدّة غيرة عمر  على حرمات الله تعالى ، وحرمات رسوله  ، وحرصه على الانتصار لرسول الله  ، والدفاع عنه ، مع الأدب معه  في حضرته ، بألاّ يقوم بعمل قد لا يرضى عنه رسول الله  ولا يقرّه عليه .
5 ـ ظهور خلق النبيّ  العظيم في هذا الموقف ، الذي هو من دلائل نبوّته ورسالته : وهو أنّه يسبقُ حلمُه جهلَه ، ولا تزيدُه شدّة الجهل عليه إلاّ حلماً ، ممّا لم يكن قد خبره فيه زيد بن سُعنة ، بل قد زاد على ذلك النبيّ  بأن أمر عمر  أن يزيد صاحب الحقّ عشرين صاعاً ، لأنّه خوّفه وروّعه ، وهو مقدار من المال ليس بقليل .
6 ـ شدّة تواضع النبيّ  للحقّ ، ووضعه لنفسه موضع المساواة مع الخصم مع أنّ الخصم كان يهوديّاً مخالفاً له في الملّة والدين ، ويتجلّى ذلك في قوله  لعمر  :
" يا عمر ! أنا وهو كنّا أحوجَ إلى غير هذا ، أن تأمرني بحسن الأداء ، وتأمره بحسن اتّباعه " .
7 ـ حكمة النبيّ  العظيمة ، إذ أمر عمر  أن يقضي صاحب الحقّ حقّه ، فاستجاب عمر  طيّبةً بطاعة رسول الله  نفسه ، ممّا يثبت منقبة عظيمة لعمر  أنّه لم تحرّكه دوافع نفسه وحظوظها ، حين قال ما قال ، وإنّما حرّكته الغيرة الصادقة على حرمات الله تعالى وحرمات رسوله  ، وليستلّ من نفس ذلك المدعوّ إلى دين الله ما قد دخلها من ضغينة على عمر  إذ وقف منه هذا الموقف .
8 ـ ولقد كانت هذه الأخلاق النبويّة الكريمة من أداء الحقوق ، والتسامح في البيع والشراء ، منهج التجّار المسلمين في معاملاتهم وعلاقاتهم ، وكان شعارهم قول النبيّ  : ( فأعطه حقّه ، وزِدهُ عِشرينَ صاعاً مِن تمرٍ مَكانَ مَا رُعتَه ) ففتحوا قلوب العباد بهذا الدين وهديه المبين ، قبل أن يفتحوا البلاد ، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً .
9 ـ وبعدما حلّت الهداية قلب الحبر زيدِ بن سُعنة  ، طفحت بالخير جوانحه ، فسارع إلى إنفاق شطر ماله وبذله في سبيل الله ، حرصاً على فعل الخير ، وبلوغ مرضاة الله سبحانه ، ثمّ حضر المشاهد مع رسول الله  ، حتّى اختاره الله تعالى شهيداً في غزوة تبوك .
ـ وأخيراً : ما كان لهذه الأخلاق الحميدة إلاّ أن تنتجَ هذه الآثار الطيّبة ، حتّى ولو لم يكن زيدُ بن سُعنة  قد فعل ما فعل ، وهو يريد اختبار أخلاق النبيّ  ومعرفة دلائل نبوّته .



* ـ مِن بَركات سيّدِنا رَسُولِ اللهِ  ومُعجزَاتِه في الدعوةِ والجِهَادِ :

اليقين بالله تعالى من أعظم ما يؤتيه الله للعبد المؤمن ، فيعيش حياته وقلبُه معلّق بالله تعالى في كلّ شأن : فهو سبحانه المعطي المانع ، الضارّ النافع ، خالق السموات والأرض ، وله مقاليدها ، مالك الملك مسبّب الأسباب ..
ولقد كان أصحاب رسول الله  أعظم الناس يقيناً بالله تعالى ، لما رأوا من معجزات النبيّ  ، التي أكرمه الله تعالى بها في كلّ مناسبة .. وبخاصّة في حالات الجهاد في سبيل الله .. فازدادوا إيماناً بالله تعالى ويقيناً ، وإقبالاً على دين الله تعالى وفداءً ..
وما أكثر الوقائع في ذلك .! وما أغناها بالدروس والعبر .! وما قصّة جابر بن عبد الله  يوم الخندق بخافية على أحد ، وبين أيدينا مثلان ممّا جرى في بعض المواقف ، نتملاّهما ، ونقف عندهما بعض الوقفات .
عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ  يَقُولُ : قَالَ أَبُو طَلحَةَ  لأُمِّ سُلَيمٍ : " لَقَد سَمِعتُ صَوتَ رَسُولِ اللهِ  ضَعِيفاً ، أَعرِفُ فِيهِ الجُوعَ ، فَهَل عِندَكِ مِن شَيءٍ .؟ فَقَالَت : نَعَم ، فَأَخرَجَت أَقرَاصاً مِن شَعِيرٍ ، ثُمَّ أَخَذَت خِمَاراً لَهَا ، فَلَفَّتِ الخُبزَ بِبَعضِهِ ، ثُمَّ دَسَّتهُ تَحتَ يَدِي ، وَرَدَّتنِي بِبَعضِهِ ، ثُمَّ أَرسَلَتنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ  ، قَالَ : فَذَهَبتُ بِهِ فَوَجَدتُ رَسُولَ اللهِ  جَالِساً فِي المَسجِدِ ، وَمَعَهُ النَّاسُ ، فَقُمتُ عَلَيهِم ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ  : آرسَلَكَ أَبُو طَلحَةَ ؟ قَالَ : فَقُلتُ : نَعَم ، قَالَ : لِلطَّعَامِ ، فَقُلتُ : نَعَم ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ  لِمَن مَعَهُ : قُومُوا ، قَالَ : فَانطَلَقَ وَانطَلَقتُ بَينَ أَيدِيهِم ، حَتَّى جِئتُ أَبَا طَلحَةَ ، فَأَخبَرتُهُ ، فَقَالَ أَبُو طَلحَةَ : يَا أُمَّ سُلَيمٍ قَد جَاءَ رَسُولُ اللهِ  بِالنَّاسِ ، وَلَيسَ عِندَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطعِمُهُم ، فَقَالَتِ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ ، قَالَ : فَانطَلَقَ أَبُو طَلحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللهِ  ، فَأَقبَلَ رَسُولُ اللهِ  وَأَبُو طَلحَةَ مَعَهُ ، حَتَّى دَخَلا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ  : هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيمٍ مَا عِندَكِ ؟ فَأَتَت بِذَلِكَ الخُبزِ ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ  فَفُتَّ ، وَعَصَرَت عَلَيهِ أُمُّ سُلَيمٍ عُكَّة لَهَا ، فَآدَمَتهُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ  مَا شَاءَ اللهُ أَن يَقُولَ ، ثُمَّ قَالَ : ائذَن لِعَشَرَةٍ بِالدُّخُولِ ، فَأَذِنَ لَهُم فَأَكَلُوا ، حَتَّى شَبِعُوا ، ثُمَّ خَرَجُوا ، ثُمَّ قَالَ : ائذَن لِعَشَرَةٍ ، فَأَذِنَ لَهُم فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ، ثُمَّ خَرَجُوا ، ثُمَّ قَالَ : ائذَن لِعَشَرَةٍ ، فَأَذِنَ لَهُم فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ، ثُمَّ خَرَجُوا ، ثُمَّ قَالَ : ائذَن لِعَشَرَةٍ ، فَأَذِنَ لَهُم فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ، ثُمَّ خَرَجُوا ، ثُمَّ قَالَ : ائذَن لِعَشَرَةٍ ، حَتَّى أَكَلَ القَومُ كُلُّهُم وَشَبِعُوا ، وَالقَومُ سَبعُونَ رَجُلاً ، أَو ثَمَانُونَ رَجُلاً ) ( ) .
وعَن دُكَينِ بنِ سَعِيدٍ الخَثعَمِيِّ  قَالَ : " أَتَينَا رَسُولَ اللهِ  وَنَحنُ أَربَعُونَ وَأَربَعُ مِائَةٍ ، نَسأَلُهُ الطَّعَامَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ  لِعُمَرَ : قُم فَأَعطِهِم ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا عِندِي إِلاّ مَا يَقِيظُنِي وَالصِّبيَةَ ، قَالَ وَكِيعٌ : القَيظُ فِي كَلامِ العَرَبِ أَربَعَةُ أَشهُرٍ ، قَالَ : قُم فَأَعطِهِم ، قَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ سَمعاً وَطَاعَةً ، قَالَ : فَقَامَ عُمَرُ وَقُمنَا مَعَهُ ، فَصَعِدَ بِنَا إِلَى غُرفَةٍ لَهُ ، فَأَخرَجَ المِفتَاحَ مِن حُجزَتِهِ ، فَفَتَحَ البَابَ ، قَالَ دُكَينٌ : فَإِذَا فِي الغُرفَةِ مِنَ التَّمرِ شَبِيهٌ بِالفَصِيلِ الرَّابِضِ ، قَالَ: شَأنَكُم ، قَالَ : فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا حَاجَتَهُ مَا شَاءَ ، قَالَ : ثُمَّ التَفَتُّ ، وَإِنِّي لَمِن آخِرِهِم ، وَكَأَنَّا لَم نَرزَأ مِنهُ تَمرَة ( ) .
1 ـ ففي الحادثة الأولى نلحظ اهتمام الصحابة الكرام  بحال رسول الله  ، فعندما لحظ أبو طلحة  على رسول الله  شيئاً من الجوع والضعف سارع إلى زوجته أمّ سليم رضي الله عنها ، ليقدّم ما عندها من طعام .. واستجابت الزوجة بأسرع ما يكون ، فتلك قضيّة بدهيّة لا تحتاج إلى شيء من التفكير أو أخذ الرأي .. أوليس رسول الله  قد حلّ في القلوب محلّ الأرواح من الأجساد ، وفدته النفوس بالآباء والأمّهات .؟! فأيّ شيء لا يرخص دونه ، ولا يكون فداءه .؟!
2 ـ وعندما تكون القلوب بهذه الصورة من الحبّ والإكبار ، والتبجيل والتعظيم ، والصدق في الولاء لله ورسوله  ، فهل نعجب إذا أجزل الله تعالى جزاءها ، وأراها من آيات قدرته في عاجل أمرها ما تقرّ به عينها ، ويكون جزاء صدقها ، وكِفاء تضحيتها وبذلها .؟!
3 ـ والكرمُ النبويّ الذي لم يكن ليوازيه أيّ كرم ، لا يرتضي بحال من الأحوال : أن يختصّ النبيّ صلوات الله وسلامه عليه نفسه أو أهله دون أصحابه بشيء ، ولو كان قليلاً يسيراً ، إنّه الإيثار النبويّ والبذل ، الذي يتقاصر دونه كلّ كرم أو بذل أو إيثار .. إنّه الكرم الذي يرتكن إلى خزائن الله السحّاء بالليل والنهار ، الملأى التي لا تغيضها نفقة .! فكان النبيّ  ينفق ، ولا يخاف من ذي العرش إقلالاً ، ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر .. وعندما يكون البذل بهذا السخاء واليقين ، تأتي البركة من الله تعالى ، بصورة قد يعجب لها الإنسان ، وقد يستغرب ، ولكن لا غرابة بها عند المؤمنين ، الذين تزيدهم بالله تعالى إيماناً ويقيناً ، واطمئناناً وتسليماً .
4 ـ ونلمس الأدب الإيمانيّ الجمّ ، في قول السيّدة أُمِّ سُلَيمٍ رضي الله عنها لزوجها : " اللهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ " ..
إنّها امرأة مؤمنة تعايش حياة النبوّة ، وتنعم بآياتها في كلّ موقف ، وهي ترى بركات النبيّ  تعمّ بفضل الله تعالى حياة الناس في كلّ شيء .

1 ـ وفي الحادثة الثانية أراد النبيّ  إكرام عمر  ، وأن يريه آية من آيات الله في ماله ، تزيده يقيناً بالله تعالى ، وإيماناً بنبيّه  ، واستشكل عمر  أوّل الأمر ، وهو يرى أنّ هذا الوفد عددهم أَربَعُونَ وَأَربَعُ مِائَةٍ ، فكيف يكفيهم ما عنده من طعام .؟ ولكنّه وهو الجنديّ الصادق ، عندما سمع الأمر الجازم من رسول الله  ، أدرك ببديهة إيمانه ، وقوّة يقينه ، أنّه أمام آية من آيات النبوّة البيّنة ، وما أكثرها .! فسارع إلى القول  : " سمعاً وطاعة " ، وكأنّ مسارعته تلك تحمل معنى الاعتذار عن التردّد أوّل الأمر .!
2 ـ ولقد كان من هدي النبيّ  الدعويّ : أن يشرك أصحابه فيما يعرض له من شئون الدعوة ، وهمومها ومهامّها ، فكان  يكل إليهم بعض الأمور ، ويكلّفهم ببعض المهامّ ، ليعيشوا دعوتهم ، ويتفاعلوا معها ، بهُمومها ومسئوليَّاتها ومصالحها ، بصورة عمليّة فاعلة ، كما فعل مع عمر  في هذه الحادثة .. فما كان  يمسك زمام الأمور بيده بصورة مركزيّة ، قد يقع فيها كثير من الدعاة اليوم ، فيربكون أنفسهم ، ويعطّلون مصالح الدعوة ومصالحهم ، ويعطّلون الطاقات الحيّة ، التي التفّت حولهم .. وكأنّهم يفرضون على الدعوة وصاية ، تشكّك بإخلاص كلّ من عداهم ومواهبه ، ولا تنتهي إلاّ بموتهم ، أو بالخروج عليهم ، وتفريق صفّ الجماعة ، وتمزيق شملها .
3 ـ وتتجلّى البركة الإلهيّة بتكثير الطعام القليل ، فيما ذكره راوي الحادثة بقوله : " فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا حَاجَتَهُ مَا شَاءَ ، قَالَ : ثُمَّ التَفَتُّ ، وَإِنِّي لَمِن آخِرِهِم ، وَكَأَنَّا لَم نَرزَأ مِنهُ تَمرَةً " ، وهي آية من آيات الله تعالى ، تكرّرت للنبيّ  في مناسبات كثيرة ، حتّى بلغت حدّ التواتر في تحقيق كثير من العلماء ونظرهم ..
وإذا كانت هذه البركة الإلهيّة الظاهرة ، معجزةً للنبيّ  في حياته متكرّرة ، فإنّها وعدٌ للمؤمنين المتّقين في كتاب الله تعالى لا يتخلّف ، عندما يتّقون الله تعالى ، ويجاهدون ويجتهدون في نصرة دينه : { .. وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ .. (3) } الطلاق وهي نوع من أنواع النصر الإلهيّ للمؤمنين ، يقول الله تعالى : { .. وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) } الحجّ .
4 ـ وتخصيص النَّبِيِّ  لِعُمَرَ  بقَوله : ( قُم فَأَعطِهِم ) ، فيه إرشَاد لمن يلي أمراً للمسلمينَ : أن يكون ذا وعي دقيق ، ونظرٍ حصيف فيمن حوله من الرجال ، الذين يعتمد عليهم في البذل والتضحية ، والاستجابة والعطاء ، وفي مواطن الابتلاء تكتشف معادن الرجال .
فالنبيّ  لم يكلّف أيّاً من الصحابة ، وإنّما كلّف عمر  ، ومعروف من هو عمر  ، في إيمانه وسابقته ، ومكانته وفضله ..



* ـ مَن سَنَّ فِي الإِسلامِ سُنَّة حَسَنَة :

تظلّ مشكلة الفقر هاجساً مخيفاً للإنسان ، تقضّ مضجعه ، وتستولي في كثير من الأحيان على تفكيره ، وربّما أملت عليه ضغوطُها الشديدة اتّجاهاتٍ ومسالكَ لا يرتضيها لنفسه ، ولا تلتقي مع مبادئه وقيمه .. وتظلّ مشكلة الفقر كذلك تحدّياً عميقاً للمصلحين ، وما يحملون من دعوات ، ومحكّاً دقيقاً للمبادئ والشعارات ..
ولم تجد الإنسانيّة ولن تجد مثل دين الإسلام ، الذي وضع الأسس العمليّة الحكيمة ، لمعالجة هذه المشكلة ، بما يحقّق كرامة الفقير ، ولا ينتقص حقّ الغنيّ وخصوصيّته ، كما يحمّل وليّ أمر المسلمين مسئوليّة القضاء على هذه الظاهرة ، بكلّ الوسائل المشروعة والأساليب ..
* وتقوم تلك الأسس على مبدأين أساسيّين :
ـ المبدأ الأوّل : الإنفاق الواجب ، بكلّ صوره وأشكاله ، وأحكامه وشموله ، ومن المفترض أن يقوم به وليّ الأمر بنفسه ، أو بمن ينيبه ، فيشرف عليه جمعاً وإنفاقاً في مصارفه المقرّرة ، وتثميراً فيما يمكن تثميره وتنميته .
ـ والمبدأ الثاني : الإنفاق التطوّعيّ الذي لا حدّ له ولا حصر ، وهو متروك لنشاط الأفراد وتوجّهاتهم على حسب ما يرون في المجتمع من ثغرات يجب سدّها ، ولا مانع أن يتدخّل وليّ الأمر توجيهاً وإرشاداً ، وتوعية وتسديداً ..
وكلا هذين المبدأين يتّصل فيهما السلوك الفرديّ بالسلوك الاجتماعيّ ، وتتداخل فيهما مسئوليّة الدولة وأجهزتها المنفّذة لشريعة الله ، وكذلك أجهزتها الرقابيّة المختصّة ، مع مسئوليّة التقوى الفرديّة التي تصقل نفس المؤمن وتهذّبها ، وتدفعها في كلّ مناسبة إلى فعل الخير ، والحرص على التنافس والمزيد .. ونرى في ذلك سبيلاً لتحقيق التكامل في الحياة الاجتماعيّة من كلّ جَوانبها ..
كما أنّ كلا المبدأين من زاوية أخرى يربطان الإنسان بالهدف الأعلى الذي يعمل له في حياته : ألا وهو بلوغ مرضاة الله تعالى كما قال سبحانه : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ، مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ، لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) } الإنسان .
وبين يدينا صورة مشرقة من معالجة النبيّ  لواقعة حدثت أمامه ، يتجلّى فيها البعد الإيمانيّ لمعالجة مشكلة الفقر ، وسدّ حاجة المعوزين ، وهو أوثق بعدٍ وأهمّه .. ويتجلّى فيها البعد السلوكيّ الاجتماعيّ ، القائم على التعاون على البرّ والتقوى .. وفيها تعليم وإرشاد لمن يلي أمر الأمّة من بعده  ، على أيّ درجة من درجات المسئوليّة كان ، وفيها أيضاً أسلوب جماعيّ للمعالجة ، بصورة لم تقتصر على الأغنياء فحسب .. بل تشعر المجتمع كلّه بمسئوليّته المباشرة عن كلّ خلل يقع فيه ، فكلّ يتحمّل من المسئوليّة على قدر طاقته واستطاعته .. وفيها معالجة سريعة ، لم تأخذ سويعة من الوقت ، جمعت بين القلوب ، وسدّت الخلّة ، وأزالت الفاقة .. وتجلّت فيها الأخوّة الإسلاميّة ، والتكافل الاجتماعيّ في ظلال بيوت الله تعالى ، وفي جوّ روحانيّ لا تشوبه شائبة من حظّ النفس ، أو بروز الأنا المدّعية ، المعجبة المغرورة ، التي تتنافى مع إخلاص العمل لله تعالى ، وهي داء الأفراد والمجتمعات ، في كلّ زمان ومكان .. فإلى صورة هذه الواقعة الوضيئة :
عَنِ المُنذِرِ بنِ جَرِيرٍ عَن أَبِيهِ  قَالَ : " كُنَّا عِندَ رَسُولِ اللهِ  فِي صَدرِ النَّهَارِ ، قَالَ : فَجَاءَهُ قَومٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ ، مُجتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ ، عَامَّتُهُم مِن مُضَرَ ، بَل كُلُّهُم مِن مُضَرَ ، فَتَغَيَّرَ وَجهُ رَسُولِ اللهِ  لِمَا رَأَى بِهِم مِنَ الفَاقَةِ ، قَالَ : فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ ، فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ ، وَأَقَامَ فَصَلَّى ، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ! اتَّقُوا رَبَّكُمِ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ وَاحِدَةٍ } إِلَى آخِرِ الآيَةِ : { إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيباً } وَقَرَأَ الآيَةَ ، الَّتِي فِي الحَشرِ : { وَلتَنظُر نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ } ، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينَارِهِ ، مِن دِرهَمِهِ ، مِن ثَوبِهِ ، مِن صَاعِ بُرِّهِ ، مِن صَاعِ تَمرِهِ ، حَتَّى قَالَ : وَلَو بِشِقِّ تَمرَةٍ ، قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنصَارِ بِصُرَّةٍ ، كَادَت كَفُّهُ تَعجِزُ عَنهَا ، بَل قَد عَجَزَت ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ ، حَتَّى رَأَيتُ كَومَينِ مِن طَعَامٍ وَثِيَابٍ ، حَتَّى رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ  يَتَهَلَّلُ وَجهُهُ ، يَعنِي كَأَنَّهُ مُذهَّبَةٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ  : ( مَن سَنَّ فِي الإِسلامِ سُنَّة حَسَنَة ، فَلَهُ أَجرُهَا وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِهَا بَعدَهُ ، مِن غَيرِ أَن يُنتَقَصَ مِن أُجُورِهِم شَيءٌ ، وَمَن سَنَّ فِي الإِسلامِ سُنَّة سَيِّئَة ، كَانَ عَلَيهِ وِزرُهَا ، وَوِزرُ مَن عَمِلَ بِهَا بَعدَهُ ، مِن غَيرِ أَن يُنتَقَصَ مِن أَوزَارِهِم شَيءٌ ) ( ) .
* ونقف عند أهمّ الدروس والعبر ، التي نستفيدها من هذه الحادثة :
1 ـ إنّ التعاون على البرّ والتقوى سمة أصيلة من سمات المجتمع المسلم ؛ على مستوى الأسرة الواحدة ، وعلى مستوى الرحم والقرابة ، وعلى مستوى الحيّ الواحد ، والجيران والمسجد ، وعلى مستوى السوق ، ومختلف العلاقات الاجتماعيّة ، وعلى مستوى الدولة وأجهزتها ، في علاقتها بالأفراد ، وفي علاقة الأفراد بها ..
وعندما يتحقّق هذا التعاون بصورته المثلى ؛ هل يمكن أن نرى في المجتمع ظاهرة من الظواهر المرضيّة مستعصية على الحلّ أو المعالجة .؟!
2 ـ قول الراوي في هذه الحادثة : " فَتَغَيَّرَ وَجهُ رَسُولِ اللهِ  لِمَا رَأَى بِهِم مِنَ الفَاقَةِ " يدلّ على مبلغ شعور النبيّ  بالمسئوليّة عن أصحابه وأمّته ، وهذا ما لا يحتاج إلى تدليل أو برهان ..
3 ـ استفتاح النبيّ  حثّه على الخير ، ودعوته إلى البرّ بالآيات الواعظة ، المذكّرة بالله واليوم الآخر : فيه تعليم للعلماء والدعاة ، ولمن يأمر بالمعروف ، أو ينهى عن منكر أن يجعل أحدهم بين يدي حديثه ما يرقّق القلوب ، ويحدوها إلى الاستجابة للخير ، وقبول النصح والتذكير ..
4 ـ ألاّ ينبغي يستهين الداعية بالقليل من الخير ، كما نرى من قول النبيّ  في هذه الحادثة : ( .. تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينَارِهِ ، مِن دِرهَمِهِ ، مِن ثَوبِهِ ، مِن صَاعِ بُرِّهِ ، مِن صَاعِ تَمرِهِ ، حَتَّى قَالَ : وَلَو بِشِقِّ تَمرَةٍ .. ) ، فالقليل مع القليل كثير طيّب ، والقليل مع الإخلاص لوجه الله ، وابتغاء مرضاته ينفع بإذن الله لما فيه من البركة ، أكثر من الكثير الفاقد لذلك ، وسبق درهم ألف درهم .. وطلب القليل لا يدع عذراً لمعتذر ، أو حجّة لذي نفس شحيحة ..
5 ـ وفي هذه الحادثة سرعة استجابة الصحابة  لدعوة رسول الله  لهم إلى الخير ، ومبادرتهم إلى بذل ما يستطيعون ، طيّبةً بذلك أنفسُهم نشِطةً ، على الرغم ممّا كانوا عليه بعامّة من فقر وحاجة ، وشدّة وضيق عيش ، ولكنّ النفوس الكريمة تجود بالخير دائماً حبّاً ورغبة ، وإيثاراً وسماحة ، حتّى لكأنّها تملك الدنيا بحذافيرها ، ولا عجب في ذلك بعدما شهد لهم الله تعالى بقوله : { .. وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) } الحشر .
6 ـ وما أحسن هذه الخاتمة الطيّبة ، بعدما جرت هذه الواقعة ، بصورتها الجميلة المشرقة من بذل الخير ، والتعاون على البرّ والتقوى .. إذ يقرّر النبيّ  المبدأ العامّ الذي يعدّ قانوناً ، تسير على هداه الأمّة : ( مَن سَنَّ فِي الإِسلامِ سُنَّة حَسَنَة ، فَلَهُ أَجرُهَا وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِهَا بَعدَهُ .. ) ، وكأنّه  بذلك لا يكتفي بنفي أيّة خصوصيّة عن العمل الذي قام به ، وإنّما يرسم منهجاً للاتّباع والتأسّي ، ويحثّ على ابتكار الأساليب التي تحقّق الأهداف والغايات ، وتكتب للعمل الاستمرار والبقاء ، وأنّها لا حرج فيها ، ولا تثريب على من فعلها ، بل هي ممّا يشجّع عليه الشرع ويباركه ..
والمقابلة بين : ( مَن سَنَّ فِي الإِسلامِ سُنَّة حَسَنَة .. وَمَن سَنَّ فِي الإِسلامِ سُنَّة سَيِّئَة ، كأنّها تشير لنا إلى تقرير سنّة فطريّة واجتماعيّة ، لا ينبغي أن تغيب عن حسّ الدعاة ، ومنهجهم في الدعوة وأسلوبهم ، وهي أنّ الحياة متغيّرة متطوّرة ، ومن شأن الدعاة العقلاء ، الحكماء الألبّاء أن يواكبوا تطوّرها بابتكار ما يتلاءم مع قواعد الشرع وهديه وأحكامه ، ممّا يخدم دعوتهم ، ويرسّخ قواعدها ، ويحقّقُ أهدافها ، وليس ذلك من الابتداع في الدين من شيء ، إذ الابتداع إنّما يكون في جانب العبادات ، التي يجب فيها التوقيف والاتّباع ..
ولعلّ من أبرز نماذج ذلك وأمثلته إقامة الجمعيّات الخيريّة ذات النفع العامّ للمسلمين ، وتنظيم العمل الخيريّ ، بصورة تتلاءم مع مستجدّات العصر واحتياجاته .
وإن تقاعَسَ الدعاةُ عن الأخذ بالمستجدّات في باب الأساليب والوسائل ، فسوف يرون من دعاة الشرّ ، وأئمّة الضلال مبادراتٍ فَاسدةً منحرفةً ، يسنّون بها سنن الضلال والانحراف ، ويرسّخون قواعد الشرّ والمنكر .. ويحملون الناس عليها ، ليصدّوهم عن دينهم ، ويستميلوهم عن هدي نبيّهم  .. وعندئذٍ فلا يلومنّ الدعاة إلاّ أنفسهم على ما فرّطوا بسوء فهمهم في جنب الدعوة وضيّعوا .. لأنّ الفراغ لابدّ أن يملأ ، والثغرات يجبّ أن تسدّ .. والحياة ساحة صراع دائب بين الحقّ والباطل ، وتدافع في جميع الميادين ، بين أولياء الرحمن ، وجند الطاغوت والشيطان :
{ واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ ، وَلكِنّ أكثرَ الناسِ لا يَعلَمُونَ (21) } يوسف .



* ـ حكمة النَّبِيِّ  في الدعوة إلى اللهِ ومُعالجَةِ المُشكِلاتِ :
إنّ من أعظم صفات الداعية الحكيم أن يتحلّى بسعة الصدر ، وبعد النظر ، وجميل الصبر .. حتّى تثمر دعوته ، ويحقّق أهدافه ، ويبلغ غايته .. ويخطئ أفحش الخطأ من يظنّ أنّ المشكلات الفرديّة ، أو العادات الاجتماعيّة يمكن أن تعالج بجرّة قلم ، أو قوّة سلطان ، أو فورة غضب .. فإنّ تغيير السلوك الفرديّ أو الاجتماعيّ ليس كتغيير شيء من الجماد عن موضعه .. وإنّ فطم النفس عَنِ المَعصية إذَا ألفتها واعتادت عليها من أشقّ الأمور وأصعَبها .. إنّه يصطدم بعقبات كثيرة في النفس والمجتمع ، تمنع من أن تجري دعوة الحقّ وموجة الإصلاح على طبيعتها الهادية البيّنة ، الوادعة المرسلة .. فما لم يكن الداعية حكيماً ، واعياً لهذه العقبات والعراقيل ، عارفاً بدوافع النفوس وكوابحها ، قادراً على حسن توظيفها واستغلالها .. فإنّه سرعان ما تُفَلّ عزيمته ، ويدبّ اليأس إلى قلبه ، وينكص على عقبيه ، ويلقى على قارعة الطريق .. والحادثة التي بين أيدينا تعطينا صورة جليّة من المنهج النبويّ الحكيم ، في الدعوة إلى اللهِ تعالى ومُعالجَةِ المُشكِلاتِ ، وبالأخصّ المشكلات النفسيّة والسلوكيّة .
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ  قَالَ : " إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ  فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا ، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ ، قَالُوا : مَهْ مَهْ ، فَقَالَ  : ادْنُهْ ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيباً ، قَالَ : فَجَلَسَ ، قَالَ : أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ ؟ قَالَ : لا وَاللهِ ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ ؟ قَالَ : لا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ ؟ قَالَ : لا وَاللهِ ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ قَالَ : لا واللهِ ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ قَالَ : لا وَاللهِ ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاتِهِمْ ، قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ ) ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ " ( ) .
1 ـ إنّ قصّة هذا الشابّ المتوقّد شباباً وغريزةً ، تقدّم لنا نموذجاً رائعاً من الهدي النبويّ في الدعوة إلى الله تعالى ، ومُعالجَةِ مُشكِلاتِ الناس النفسيّة والسلوكيّة ..
لقد جاءه هذا الشابّ يطلب منه أن يأذن له بالزنى ، والزنى فعل قبيح مستَهجن ، دنيء وَضيع ، يدلّ على خسّة مرْتكبه ، وتفاهة فاعله ، وقد يأنف من التصريح به من يفعله ، ويَغرق في قاذوْراتِه ، فكيف تجرَّأ هذا الشابّ على أن يطلب من النَّبِيِّ  أن يأذن له به .؟ ولم تمنعه هيبة النَّبِيِّ  من ذلك .؟ فهلاّ مِنْ غيرِ النبيّ  .؟ من بعض أصحابه ، ولو من كبَارهم .؟!
إِنّ هذا الطلب المباشر من النبيّ  يدلّ على شدّة توقّد الغريزة في نفس هذا الشابّ ، أوْ على أنّه قد اعتاد في جاهليّته عليه ، فهو لا يستطيع عنه فكاكاً .. فكيف عالجهُ النبيّ  .؟ وكيف حرّرهُ منْ أسره وفَساده .؟
2 ـ لقد أدناهُ  منهُ دنوّاً شديداً ، وهذا ما يحمل دلالات متَنوّعة منَ الشفقة والرحمة ، إلى المودّة وبثّ الطمأنينة ، وإشعاره بالأنس بالنبيّ  ، ليكونَ التلقّي عنه على أكمل وجه ، وأقوى تأثير .. ثمّ افتتح معه النَّبِيُّ  حواراً صريحاً ، فماذا كانت سمة ذلك الحوار .؟ لقد كان حواراً فطريّاً عاطفيّاً ، إنّه يقوم على الاستنجاد برصيد الفطرة .. التي فطر الله الناس عليها ، التي تأبى على صاحبها أن يتمرّد عليها ، أو يشقى بها .. وليس من السهولة بمكان ـ كما يتصوّر بعض الدعاة ـ أن تفسد الفطرة فساداً مطلقاً ، وأن تنتكس ، وتنعكس إلى غير رجعة ، مهما غشيها القتام ، وعلاها الركام ، وأحاطت بها الخطايا والآثام ، حتّى ولو بلغت تلك الخطايا حدّ الكفر والإلحاد ..
فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ، يقلّبها كيف يشاء .. فهل نيأس من رحمة الله التي وسعت كلّ شيء .؟! ألا إنّ اليأس من الجهل والغفلة وضيق النفس ..
ألم يرجع رجال عن إلحادهم ، بعدما كانوا رءوساً فيه .؟ ألم يرجع أناس عن غيّهم وفسادهم بعدما أوغلوا في ظلماته وأوهامه .؟ ألم نشهد في حياتِنا مَنْ انقلبت حياتُه بلمحة أو نفحة ، من أقصى درجاتِ الشرّ والفساد إلى أروعِ صور الخير والاستقَامة .. ثمّ من غفلتنا نعجب كلّ مرّة عندما تتكرّر هذه المشاهد على أسماعنَا وأبصارنا .!
وأذكرُ في هذه المُناسبة أنّ بعض دعاة تحرير المرأة في عصرنا ، تكلّم في جمع من الناس داعياً إلى أفكاره ، مقرّراً حرّيّة المرأة فيما تختار وما تريد ، بلا ضوابط ولا حدود .! ومزدرياً الأفكار الرجعيّة ، التي لا يزال يتمسّك بها بعض الناس بزعمه ، فجاءه بعض الدعاة إلى منزله ، وعندما خرج إليه ، قال له : عفواً أريد أن أتحدّث إلى زوجتك بحديث خاصّ ، فدهش ذلك المتحرّر ، وفغر فاه ، واسْتنكر عليه طلبه وموقفَه ، فقال له الداعية : وأين أنت من الكلام الذي قلته للناس بالأمسِ .؟ فقال لهُ : " يا أخي نحن شرقيّونَ ، ولا يمكن أن نتخلّى عن عاداتنا .. " .
3 ـ ولا يزال هذا المبدأ النبويّ الحكيم : ( أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ .؟ ) ، وهو مبدأ من مبادئ الفطرة السويّة ، مبدأً مفيداً في الدعوة حاسماً ، مؤثّراً في جلّ الناس وأكثرهم .. ولا عبرة بمن انحرفت فطرهم ، أو حاولوا المعاندة والمكابرة للحقّ في بعض المواقف ، وقد يفعلون ذلك ، بل ويتَبجّحون به إلى حين .. ولكنّهم في قرارة أنفسهم ، لا يحبّون الفساد لأهليهم وذويهم ، ولا يرتضونه .. ولو قدّر لهم الداعية الحكيم لفاءوا إلى الحقّ ، وثابوا إلى رشدهم ..
4 ـ ومن الفوائد الدعويّة المهمّة في هذه الحادثة : خطر الانفصام بين الدعوة والفتوى ، ونزوع العالم إلى تحرير الفتوى ، دون أن يتحلّى بروح المعلّم المربّي .. إنّه لابدّ للعالم أن يكون داعياً مربّياً حكيماً ، قبل أن يكون مفتياً أو قاضياً .. وما أكثر ما أفسدت الفتوى المتجرّدة عن روح الدعوة والتربية ولم تصلح ، ونفّرت ولم تقرّب .!
5 ـ ما أحسن هذا التلطّف الذي يقطر رقّة وعذوبة ،
في معالجة النبيّ  لهذا الشابّ .؟! وفيه تعليم للدعاة من بعده  أنّ العاصي مهما لجّ في عصيانه وانحرافه ، فإنّ بين جوانحه قلباً ، يؤثّر فيه الرفق ، ويأسره التواضع والإحسان ، وتلك أسلحة بأيدي الدعاة ماضية ، لاتُفلّ ولا تُهزَم ..
6 ـ للدعاء أسرار لا تحصى ، وبركات لا تستقصى ، وآثار كبيرة تُذلّل مَا استعصى ، وهو مَعلم بارز في موقف المُصطفى  في هذه الحادثة ، فبعدما حاور النبيّ  ذلك الشابّ ، وأقرّ في كلّ مرّة : أنّه لا يرضى الزنى لأحدٍ من قرابته ورحمه ، وَضَعَ النبيّ  يَدَهُ عَلَى صدرهِ ، وَقَالَ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ ) ، فقامَ الشابّ وما شيء أبغض إليه من الزنى .. إنّه العلاجُ الإيمانيّ الروحيّ بعد العلاج الفطريّ العاطِفيّ .
وما أحرَى الدعاة إلى الله تعالى أن يتّخذوا من هذه الحادثة منهجاً يطوّرون به أساليبهم في الدعوة ، ومعاملة الناس ومعالجَة مشكلاتهم ، ولا يكونُوا مُنْغلقين علَى أنفسهم ، وما لديهم من الأفكار المسبقة عن الناس ..


* ـ حكمة النَّبِيِّ  في معاملة المُنافقين :

من أصعب الأمور التي تتعرّض لها الدعوة إلى اللهِ تعالى ، ويتعرّض لها الدعاة : الموقف من أولئك المراوغين المذبذبين ، أصحاب " الوَلاء المزدوج " إنّ صحّ التعبير ، وهم في الحقيقة أصحاب ولاء واحد ، ولكنَّهُ في ظَاهر الأمر مزدوج .. إنّهم في المصطلحِ الإسلاميّ : " المنافقون " ، الذين هم أخطر على المجتمع المسلم من الكافرين ، لأنّهم مدسوسون في المجتمع ، منبثّون بين أبنائه ، ويعدّون جزءاً من كيانه ، ومع ذلك فولاؤهم لمن هم خارج بنيانه .. ومن ثمّ فقد كان جزاؤهم أنّهم في الدرك الأسفل من النار ..
ومن رحمة الله بنا أن لم يترك شيئاً ممّا تحتاجه الأمّة من أصول دينها ، ومهمّات أمورها إلاّ وبيّنه الله تعالى في كتابه ، وجلاّه النبيّ  في سنّته ، ممّا يجعل الأمّة على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنهَا إلاّ هالك ..
وبين أيدينَا موقف من مواقف السيرة العطرة ، يتجلّى فيه المنهج النبويّ بأجلى صورة وأوضح بيان ، في التعامل مع هذا النموذج الخطير من الناس ، ممّا لا يعفي أيّ إنسان مهما بلغ شأنه أوْ عَلا قدره ، أن يتجاوز هَذا المنهج أو يتجاهله .
فكيف بأولئك الذينَ يعاملونَ إخوانهم المؤمنين بأسوأَ ممّا يُعامَلُ به المنافقون .؟! ويناصبونهم العداء والشقاق أكثر ممّا يرى منهم المنافقون الوالغون في تمزيق صفوف الأمّة وخلخلة بنيانها .. إنّ على هؤلاء أن يعيدوا النظر في فهمهم لدينهم ، ويحاسبوا أنفسهم على اندفاعاتهم الرعناء ، التي يحسبونها غيرة على دين الله ، وهي ليست إلاّ انتصاراً لأهواء النفس وعللها ..
عَن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ  يَقُولُ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ  فِي غَزوَةٍ ، قَالَ : يَرَونَ أَنَّهَا غَزوَةُ بَنِي المُصطَلِقِ ( ) ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ ، فَقَالَ الأَنصَارِيُّ : يَا لَلأَنصَارِ ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ : يَا لَلمُهَاجِرِينَ ، فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ  فَقَالَ : مَا بَالُ دَعوَى الجَاهِلِيَّةِ !؟ فَقِيلَ : رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ  : دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنتِنَةٌ ، قَالَ جَابِرٌ  : وَكَانَ المُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا المَدِينَةَ أَقَلَّ مِنَ الأَنصَارِ ، ثُمَّ إِنَّ المُهَاجِرِينَ كَثُرُوا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ فَقَالَ : فَعَلُوهَا .! وَاللهِ لَئِن رَجَعنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنهَا الأَذَلَّ ، فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ  ، فَأَتَى النَّبِيَّ  فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ دَعنِي أَضرِبُ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ  :
( يَا عُمَرُ دَعهُ ، لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّداً يَقتُلُ أَصحَابَهُ ) ( ) .
وفي سيرةِ ابن هشام : " أوقد فعلوها .؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، واللهِ ما أعدّنا وجَلابيب قريش ( ) إلاّ كما قال الأول : " سمّن كلبك يأكلك " أما وَاللهِ لَئِن رَجَعنَا إِلَى المَدِينَةِ ..
وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ـ ولد المنافق ، وكان مؤمناً صادقاً ـ إلى رَسُولِ اللهِ  بعد أن رجعوا إلى المدينة فقال : إنّه بلغني أنّك تريد قتل أبي ، فيما بلغَك عَنْه ، فإن كنت لابدّ فاعلاً ، فمرني فأنا أحمل إِلَيك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها منْ رجل أبرّ بوالده منّي ، وَإِنّي أخشى أن تأمر غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس ، فأقتله ، فأقتل مؤمناً بكافر ، فأدخل النار .. فقال رَسُولُ اللهِ  : ( بل نَترفّق به ، ونحسِنُ صُحبتَه ما بقيَ معَنا ) .
وجعل بعد ذلك إذا حدّث عبد الله بن أبي بالحديث كان قومه هم الذين يعاتبونه ، ويعنّفونه ، فقال رَسُولُ اللهِ  لعمر بن الخطّاب  : ( كيفَ ترى يا عمر .؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي : اقتله ، لأرعدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ) ، فقال عمر  : قد واللهِ علمتُ لأمرُ رَسُولِ اللهِ  أعظم بركة مِنْ أمرِي .
ونلحظ من فقه هذه الحادثة ما يلي :
1 ـ لقد وصف النبي  الدعوى التي تنادى بها الأنصار والمهاجرون بقوله : " مُنتِنَة " باعتبار مبدأها ودوافعها ، وآثارها ونتائجها ، وهي كذلك أيضاً باعتبار تعارضها معَ الغاية من الوجود الإنسانيّ القائم على الابتلاء بأنواع التكاليف في هذه الحياة ، ليتبيّن أيّنا أحسن عملاً .. مع أنّها كانت دعوى بوصف الهجرة والنصرة ، وهما من الأعمال الصالحة ، المبرورة الشريفة ، ولكنّ النبيّ  رفضها لأنّها قيلت على وجه العصبيّة ، والتحزّب لفئة من المسلمين على أخرى ، فكيف لو كانت دعوى جاهليّة بحتة ، تقوم على العصبيّة ، وتنصر العصبيّة ، وبغير وصف العمل الصالح المبرور .؟!
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى : " سمع النبي  في بعض غزواته ، قائلاً يقول : " يا للمهاجرين " وآخر يقول : " يا للأنصار " فقال : ما بال دعوى الجاهلية ، وأنا بين أظهركم ؟ هذا ، وهما اسمان شريفان سماهم الله تعالى بهما في كتابه ، فنهاهم عن ذلك ، وأرشدهم إلى أن يتداعوا : بـ " المسلمين " و " المؤمنين " و " عباد الله " وهي الدعوى الجامعة ، بخلاف المفرقة ، كـ " الفلانية " و " الفلانية " فالله المستعان " ( ) .
2 ـ ونلحظ في هذه الحادثة : استغلال المنافقين والكافرين للفرص التي تتيح لهم تفريق صفّ المؤمنين ، وزعزعة استقراره ، وزلزلة كيانه .. ومن ثمّ فإنّ كلّ من عمل على تفريق صفّ المؤمنين ، وإشاعة الفرقة في صفوف الجماعة المسلمة ، ففيه خصلة من خصال المنافقين ، وهو يسعى إلى تحقيق أهداف الكافرين ، من حيث يدري أو لا يدري .. وإذا لم يدر فتلك مصيبة أكبر ! ولا يستهين بذلك مؤمن صادق الإيمان والولاء لله ورسوله  والمؤمنين .
3 ـ ومن فقه هذه الحادثة : ما نرى من غيْرة عمر  لله ورسوله  ، وكذلك أهل الإيمان في كلّ زمان ومكان ، ولكنَّ غيرة بعض الناس قد لا تعني بالضرورةِ أن تأخذ منحىً سليماً ، وتسلك مَنهجاً عدلاً في مواقفها ، ولا يُبرّر لتلك الغيرة كذلك ، أن تخرج عَنِ المنهج النبويّ والشرعيّ المرسوْم ، فالله تعالى أغير على دينهِ ، ورسوله  أغير من كلّ أحَد .
4 ـ وفي قول رَسُولِ اللهِ  : ( يَا عُمَرُ دَعهُ ، لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّداً يَقتُلُ أَصحَابَهُ ) تعلِيم لنا أن ننْظر إلى مآلات الأمور وعواقبها ، وألاّ ننظر إلى الأمور نظرة مُبتسرةً قاصرة ، كشأن بعض القصّر من عديمي البَصيرة ، مرضى القلوب ، الذيْن قال قائلهم : " أفعل كذا وكذا .. وليكن بعد ذلِك الطوفان .. " إِنَّ منْ يريد للأمّة أن يكون من بعْده الطوفان ، لا يؤتمن على دين الله تعَالى ودعوته ، وليس أهلاً أن يكُون جنديّاً برّاً ، فضلاً عن أن يكون قائداً مطَاعاً ، وآمراً ناهياً ..
5 ـ وفي موقف عبد الله ولد رأس المنافقين عبد الله ابن أبي ، ذلك المؤمن الصادق في إيمانهِ وولائه ، الغيور على دين الله ورسوله  صورة من الجنديّة الصادقة المنضبطة بأمر قيادتها وتوجيهها .. ثمّ في تأكيد رَسُولِ اللهِ  ما يدلّ عَلى وضوح المنهج النبويّ ودقّته ، ذلك المنهجُ الذي كان يتّبعه النبيّ  في معاملة هَذِهِ الفئة منَ الناس ، مهمَا اشتدّ كيدها ، وتمادت في مَكرها ..
وقد قَال الله تعالى : { والعاقبة للمتّقين (128) } الأعراف . إنّ تلك الكلمة الربّانيّة تمثّل حقيقة راسخة مطلقة ، تبدّت آثارها في موقف النبيّ  من هذا المنافق بخاصّة ، ومن المنافقين بوجه عامّ .. لقد جهد ذلك المنافق جهده طول حياته ، وجنّد قواه وقوى الكفر معه ، واستعان بأوليائه من شياطين الإنس والجنّ ، وتآمر معهم على الإسلام وأهله ، ولم يدّخر وسعاً في الكَيد والمكر .. ثمّ ماذا كانت عاقبة مكره .؟!
لقد فلّ الله كيدَه ، وأبطل سعيه ، ونقض له ما أبرم منْ جهته ، وصدق الله جلّ وعلا فيما قال فيه وفي قبيله : { وَقَدْ مَكَرُوا مَكرَهُم ، وَعِندَ اللهِ مَكرُهُم ، وإنْ كَانَ مَكرُهُم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبَالُ (46) } إبراهيم .
6 ـ وقد يقول قَائل : ألا يُخشى باتّخاذ مثل الموقف الذي وقفه النبيّ  من المنافقين أنْ يؤدّي إلى خلخلة صفّ المُؤمنين ، وزعزعة الاستقرارِ في المجتمع ، لأنّ هؤلاء المنافقين يشيعون الأراجيف ، ويستجرّون إلى صفّهم ضعاف العقول والنفوس ، فكان من المصلحة الأخذ بسياسة الحزم معهم ؟!
فنقول : إنّ السياسة النبويّة الحكيمة الراشدة قامت على الاهتمام ببناء القوّة الذاتيّة للمؤمنين ، معنويّاً ومادّيّاً ، وتحصين جبهتهم الداخليّة ، فتلك هي الحصن الحصين ، والركن المكين ، والقوّة التي يُفَلّ أمامها الحديدُ ، ولا تُفلّ بإذن الله وعنايته .. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله ممتنّاً على نبيّه  : { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) } الأنفال .
7 ــ تَطابق المنهج النبويّ مع الهدي القرآنيّ : ومنْ خلال هذه الحادثة وأمثالها في أسلوب تعامل النبيّ  مع المنافقين ، يتبدّى لنا التَّطابق التامّ بين المنهج النبويّ والهدي القرآنيّ بهذا الخصوص ، إذ يقول الله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ، إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ ، وَسِرَاجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ، وَدَعْ أَذَاهُمْ ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ، وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً (48) } الأحزاب .
إنّه منهج يقوم على الأخذ بظواهرهم ، ومعاملتهم معاملة المسلمين ، والحرص على تأليف قلوبهم على الإسلام ، وغَضّ النظر عن كثير من مكرهم وأذاهم ، مع اتّخاذ أسباب الحيطة والحذر منهم ، والتوكّل على الله تعالى في دفع شرّهم ، فإنّهم لن يضرّوا المؤمنين إلاّ أذىً ، ولن تكون عاقبة مَكرهم إلاّ عليهم .. : { واللهُ مُتِمُّ نُورِهِ ، ولَو كَرِهَ الكافِرُونَ (8) } الصفّ .
ولا يتعارض هذا الموقف النبويّ الكريم ، مع قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) } التحريم ، والتوبة (73) . فهاتان الآيتان تشيران إلى جهاد الكلمة ، بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والوعظ البليغ لهم ، والزجر والتخويف من عاقبة الأمر ، وسوء المآل في الآخرة ، إن لم يتوبوا إلى ربّهم ، ويتداركوا أنفسهم بالأوبة الصادقة ، والإنابة الخالصة ، وقد كان هدي النبيّ  في هذا النوع من الجهاد لا يخصّص أحداً بعينه ، ويغلب عليه قوله  : ( ما بالُ أقوامٍ يَفعلُون كذا وكذا .؟! ) .
8 ـ قول النبيّ  لعمر  في نهاية الحادثة : ( كيفَ ترى يا عمر .؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي : اقتله ، لأرعدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ) ، وجواب عمر  : قد واللهِ علمتُ لأمرُ رَسُولِ اللهِ  أعظم بركة مِنْ أمرِي " يدلّنا على الفرق البعيد بين نظر النبوّة الممدود بوحي الله تعالى ، وعنايته وتسديده ، وبين نظر سائر البشر ، مهما كانوا عليه من عقل وذكاء .
ونستفيد من ذلك : أنّ من يوفّقه الله تعالى لاتّباع النبيّ  في هديه وسنّته ، يكُن أعقل الناس ، وأذكى الناس وأرشد الناس ، فضلاً عمّا يحظى به من فضل الله تعالى ومثوبته ، بتحقّقه بفضيلة الطاعة والاتّباع للنبيّ  ، الذي هو أعظم حقّ لرسول الله  على أمّته .
نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لاتّباع النبيّ  ، في أقواله وأفعاله وأخلاقه ، وجميع هديه وسنّته .

* ـ تطييب النَّبِيِّ  للقلوب :

إنّ من أعظم معايير نجاح الداعية في دعوته : أن تجتمع عليه القلوب بالحبّ والمودّة ، وأن يجد الناس في قربه الأنس والطمأنينة ، وارتياح النفس ، وانشراح الصدر ، وهذا ما يجعلُ مسئوليّةَ الداعيةِ كبيرةً واسعةً ، ومتابعتَه لأتباعِه دائبةً مُستمرّةً ، كما يحتاج إلى قدر متميّز من الذكاء والحكمة ، وفقه التعامل مع النفوس ، ومعرفة دوافعها ومؤثّراتها .. وقبل ذلك كلّه لابدّ له من القرب من أتباعه ، لمعرفة أحوالهم عن كثب ، ومُتابعة أمورهم بنفسه ، لا بالبطانة والوسطاء الذين قد ينقلون انطباعاتهم الخاصّة وتفسيراتهم ، فيفسدون أكثر ممّا يصلحون .! فما أكثر ما تعطي الأخبار المنقولة صورة مغلوطة عن الأتباع ، وتترتّب عليها مواقف بعيدة عن الحقّ والعدل ،والحكمة والصواب ..
ومَن أحقّ الناس من الدعاة القادة ، أن يتحرّوا في اتّخاذ مواقفهم ، كيلا يندموا على قراراتهم وتصرّفاتهم مع أتباعهم .؟! فربّما كان الندم أشبه بعدمه ، والاعتذار أدلّ على فشل القائد وخطله ..
ومن أهمّ ما يجب على الدعاة القادة : أن يتداركوا الهواجس والوساوس ، قبل أن تكون حقائق مُسلّمة ، وأن يعالجوا الظنون والأوهام قبل أن تتمكّن من النفوس ، وتوغر الصدور ، وينفث الشيطانُ فيها سمومه ، فتستعصي على التدارك ، كما يستفحل الداء العضال ويتمكّن ..
وبين أيدينا موقف نبويّ من أعظم المواقف النبويّة المتفرّدة ، بما فيها من الدروس والعبر والعظات ، ما أحوج الدعاة إلى الله أن يتباروا في فقهها ، واستيعاب ما فيها .!
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ  قَالَ : لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللهِ  مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ : لَقِيَ رَسُولُ اللهِ  قَوْمَهُ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ  ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَاماً فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ شَيْءٌ ، قَالَ : فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ .؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! مَا أَنَا إِلاّ امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي ، وَمَا أَنَا .؟! قَالَ : فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ ، قَالَ : فَخَرَجَ سَعْدٌ ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ ، قَالَ : فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ ، فَدَخَلُوا ، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ : قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ ، قَالَ : فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ  ، فَحَمِدَ اللهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ .؟! وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ .؟! أَلَمْ آتِكُمْ ضُلاّلاً فَهَدَاكُمُ اللهُ ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ .؟! قَالُوا : بَلِ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ ، قَالَ : أَلا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ .؟ قَالُوا : وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ .؟ وللهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ ، قَالَ : أَمَا واللهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ ، فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ : أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ ، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ ، وَطَرِيداً فَآوَيْنَاكَ ، وَعَائِلاً فَأَغْنَيْنَاكَ ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْماً لِيُسْلِمُوا ، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ ، أَفَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ  فِي رِحَالِكُمْ ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا ، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ ، قَالَ : فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ ، وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ قِسْماً وَحَظّاً ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ  وَتَفَرَّقْنَا ) ( ) .
وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم : ( الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ .. إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً ، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ) .
وعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ  قَالَ : لَمَّا كَانَ يَومُ حُنَينٍ ، أَقبَلَت هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيرُهُم بِذَرَارِيِّهِم وَنَعَمِهِم ، وَمَعَ النَّبِيِّ  يَومَئِذٍ عَشَرَةُ آلافٍ ، وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ ، فَأَدبَرُوا عَنهُ حَتَّى بَقِيَ وَحدَهُ ، قَالَ : فَنَادَى يَومَئِذٍ نِدَاءَينِ لَم يَخلِط بَينَهُمَا شَيئاً ، قَالَ : فَالتَفَتَ عَن يَمِينِهِ فَقَالَ : يَا مَعشَرَ الأَنصَارِ ! فَقَالُوا : لَبَّيكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبشِر نَحنُ مَعَكَ ، قَالَ : ثُمَّ التَفَتَ عَن يَسَارِهِ فَقَالَ : يَا مَعشَرَ الأَنصَارِ ! قَالُوا لَبَّيكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبشِر نَحنُ مَعَكَ ، قَالَ : وَهُوَ عَلَى بَغلَةٍ بَيضَاءَ ، فَنَزَلَ فَقَالَ : أَنَا عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، فَانهَزَمَ المُشرِكُونَ ، وَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ  غَنَائِمَ كَثِيرَة ، فَقَسَمَ فِي المُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ ، وَلَم يُعطِ الأَنصَارَ شَيئاً ، فَقَالَتِ الأَنصَارُ : إِذَا كَانَتِ الشِّدَّةُ فَنَحنُ نُدعَى ، وَتُعطَى الغَنَائِمُ غَيرَنَا ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ ، فَجَمَعَهُم فِي قُبَّةٍ فَقَالَ : يَا مَعشَرَ الأَنصَارِ! مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنكُم .؟ فَسَكَتُوا ، فَقَالَ : يَا مَعشَرَ الأَنصَارِ ! أَمَا تَرضَونَ أَن يَذهَبَ النَّاسُ بِالدُّنيَا ، وَتَذهَبُونَ بِمُحَمَّدٍ ، تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُم ، قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ! رَضِينَا ، قَالَ : فَقَالَ : لَو سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً ، وَسَلَكَتِ الأَنصَارُ شِعباً لأَخَذتُ شِعبَ الأَنصَارِ ) ، قَالَ هِشَامٌ : فَقُلتُ : يَا أَبَا حَمزَةَ ! أَنتَ شَاهِدٌ ذَاكَ ؟ قَالَ : وَأَينَ أَغِيبُ عَنهُ ؟ " ( ) .
* ملامح من سياسة النبيّ  في الدعوة :
لقد قامت سياسة النبيّ  للناس على بذل الدنيا لنصرة دين الله تعالى ، وكانت المعادلة في ذلك : أنّ الإنسان كلّما قوي إيمانه ، وعظم يقينه ، كان من أهل البذل والعطاء ، والتضحية والفداء ، فكان بذلك من أهل اليد العليا ، الذين تعتمد دعوة الله عليهم ، لأنّهم يخِفُّون عند الفزع ، ويقلّون عند الطمع ، ويحرصون أن تخفى أعمالهم ، ولا يعرف مكانُهم ، وَهُم خير من تقوم عليهم الدعوات وتُعلى ، وتنهض بهم الرسالات وتَقوى ، وتُؤسّس بهم الحضارات وتبنى .. وهل كان المهاجرون والأنصار  إلاّ من هؤلاء الأبرار الأطهار ..؟
وإنّ الدنيا بحذافيرها لأتفه وأقلّ ، من أن تكون جزاء عملٍ واحدٍ من أعمال أحدهم وجهاده ، فأنّى لها أن تكون جزاء أعمالهم ، وكفاء تضحياتهم .؟!
وكلّما ضعف إيمان الإنسان ، أو كان حديث عهد بهذا الدين كان أحوج إلى تأليف قلبه على دين الله ، حتّى يقوى إيمانه ، ويترسّخ يقينه ، فيلحق بأهل البذل والعطاء .. وإنّها لسياسة حكيمة رشيدَة ، تثبت خلوص دعوة الحقّ لله تعالى ، وتجرّدها عن المطامع المادّيّة ، والأغراض الدنيويّة ، وبعدها عن ابتغاء الحظوظ العاجلة ..
وتتبدّى لنا الحكمة النبويّة بأجلى صورها ، في قول بعض هؤلاء المؤلّفة قلوبهم : " لقد أعطاني رسول الله  وإنّه لأبغض الخلق إليّ ، فما زال يعطيني ، حتّى إنّه لأحبّ الخلق إليّ .. " ، وإذا عرفتَ أنّ وراء هذا وأمثاله من يأتمر بأمره ، وينتهي بنهيه ، ولا يسأله لم فعل .؟ ولم ترك .؟ عرفتَ حكمة النبيّ  العظيمة في عطائه ومنعه .. " فما ظنّك بعطاء قوّى الإسلام وأهله ، وأذلّ الكفر وحزبه ، واستجلب به قلوب رءوس القبائل والعشائر ، الذين إذا غضبوا غضب لغضبهم أتباعهم ، وإذا رضوا رضوا لرضاهم ، فإذا أسلم هؤلاء ، لم يتخلّف عنهم أحد من قومهم ، فلله ما أعظم موقع هذا العطاء .! وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله .! .. " ( ) .
ثمّ إنّ الصغير يعطى ما يناسب تفكيره ولهوه ، ويعطى العاقل اللبيب ما يناسب عقله ورشده ، وهمّته وغايته .. ومن السخرية بالعاقل أن يعطى لعبة الطفل الصغير ، كما أنّ من العبث أن يعطى الصغير ما لا يدرك قيمته إلاّ الكبير .. فأيّ عطاء إذن يفي من كانت همّته الآخرة ، وكان قلبه معلّقاً بها ، وعمله ابتغاء مرضاة الله فيها .؟!
هذه مقدّمة لابدّ منها بين يدي هذه الحادثة .. وقبل أن نتحدّث عن فقهها ، ينبغي أن نقف قليلاً عند دوافع قول الأنصار  ، فيما قالوه من كلام ، وهل كان شيء منه متشابهاً مع ما مرّ بنا في الحادثة السابقة من قول عبد الله بن أبيّ ابن سلول رأس المنافقين .؟
لقد كان دافع الأنصار أوّلاً وآخراً فيما قالوه : ضنّهم برسول الله  ، وشدّة حبّهم له ، وخوفهم من أن يفقدوه من ديارهم ، ويحرموا من بقائه عندهم ، بعدما فتحت عليه مكّة المكرّمة ، وقد جاء التصريح بذلك في بعض الروايات ، ولعلّ بعضهم قد فسّر إعطاء النبيّ  المؤلّفة قلوبهم هذا العطاء السخيّ ، بل وقسمة الفيء كلّه فيهم ، وعدم إعطاء الأنصار منه شيئاً ، بما يقوّي هذا الظنّ ويرسّخه ..
وشتّان بين هذا الدافع النبيل المحبّ ، لكلام الأنصار الكرام ، وبين دافع من في قلبه مرض الشكّ والنفاق .! والعياذ بالله تعالى .
ثمّ آن لنا أن نجمل ما نرى في هذه الحادثة من الركائز الدعويّة ، والمعاني الإيمانيّة في النقاط التالية :
1 ـ المصارحة النبويّة اللطيفة الرقيقة ، المجملة الرفيقة ، المعاتبة عتاباً ، كلّه حبّ وذوقٌ ، ومودّة ووفاء .. وإنّما العتاب بين الأحباب ، كما قالوا ..
فالحبّ الفيّاض ، والشفقة البالغة ، والرقّة والعذوبة ، تنضح بها هذه الواقعة ، من أولها إلى آخرها .. من أوّلها حيث يقول النبيّ  : ( يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ! مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ .؟! وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ .؟! ) إلى آخرها حيث : ( .. بَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ ، وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ  قِسْماً وَحَظّاً .. ) .
وقد جمعت تلك المصارحة بهذه الصفات ما ينبغي أن يظلّل العتاب من رقّة ولطف ، واحترام وتقدير ، وإشعار للطرف الآخر بما له من مودّة صادقة في نفس من يعاتبه ..
ومن اللطف النبويّ في هذه الواقعة : أنّ النبيّ  لم يعاتب الأنصار على ملأ من الناس ، وإنّما خصّهم بالحديث إذ جمعهم في مكان واحد ، تكريماً لهم ، وتقديراً لمشاعرهم ودوافعهم .. إذ ربما أساء فهمَ كلام النبيّ  بعضُ المنافقين ، وهذا ما يتوقّع منهم ، فاتّخذوا منه وقوداً لفتنة يُضرمون نارَها ، وينفخون في رمادها ..
وتبقى النصيحة على ملأ فيها شيء من الفضيحة ، والنصيحة في السرّ هي الأصل ..
وقارن هذه المصارحة النبويّة الكريمة ، والمعاتبة اللطيفة الرقيقة ، بما قد يدّعيه بعض الناس ، من معاتبة من يحبّ بزعمه ، ولكنّ تلك المعاتبة ما إن تبتدئ حتّى تكون خصومة ومشاجرة ، وتبادلاً للاتّهامات بغير أدب ، ولا ضوابط ، ولا احترام ولا عرفان لفضل ذي الفضل ، ومكانة ذي الشيبة والسنّ .. وكثيراً ما انتهت أمثال تلك المعاتبات إلى هجران وقطيعة ، وفسادٍ في ذات البين لا يقف عند حدّ أو أمد .. وليس الأمر قاصراً على أهل الدنيا وللأسف ، بل هو داء مستشرٍ في بعض أهل الدين ، والمنتسبين إلى العلم والدعوة .. والعلم رحم بين أهله ، فما أكثر ما تختلط حظوظ النفوس ورعوناتها ، بدعاوى الغيرة على دين الله تعالى ، والدفاع عن العقيدة والدين .! ويؤتى الإنسان من قلّة فقهه وخبرته ، فيسرع في إطلاق الأحكام ، وتوزيع الاتّهام ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم .. ومناط الأمر هو التربية الإيمانيّة التي تهذّب النفس ، وترقى بها ، فيكون عليها من قوّة الحقّ وسلطانه ما يحملها على إنصاف الآخرين وتقديرهم ، والاعتراف بحقوقهم واحترامهم ، والتماس العذر لهم إذا أخطأوا ، لا اتّهامهم والتشهير بهم ..
2 ـ التماس العذر للمخطئ ، بما يغنيه عن الدفاع عن نفسه ، ونلحظ ذلك في قوله  : ( أَلا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ .؟ قَالُوا : وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ .؟ وللهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ ، قَالَ : أَمَا واللهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ ، فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ : أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ ، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ ، وَعَائِلاً فَأَغْنَيْنَاكَ ) .
وما أجمل هذا الالتماس لعذر الطرف الآخر ، قبل أن يوضّح المتكلّم موقفه ، فذلك أدعى إلى أن يُقابَل كلامُه بالإنصات ، وحجّته بالتفهّم والقبول ، فكيف إذا كان المتكلّم رسول الله  بأبي هو وأمّي .؟!
وقد حمل لنا هذا الالتماس لعذر الطرف الآخر شهادةً وأعظم بها من شهادة .! وبياناً لفضل الأنصار ذوي السابقة والفضل ، وتعداداً لمناقبهم ومحاسنهم  ، بما لا يستطيعونه لأنفسهم ، ولا يحسن منهم ..
فأيّ تربية أكرم من هذه التربية .؟! وأيّ معالجة للنفوس أنجع وأنفع من هذه المعالجة .؟ وأيّ منهج دعويّ وهداية ربّانيّة .؟! لا عجب ولا غرابة ، إنّه منهج المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلاّ وحي يوحى ..
3 ـ وممّا نلاحظ في هذه الحادثة : صراحة الصحابة  مع رسول الله  ، إذ صارح سعد بْنُ عُبَادَةَ  رسول الله  بما وجد قومه الأنصار في أنفسهم ، وعندما سأله رسول الله  : ( فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ .؟ ) ، كان صريحاً أيضاً ، فقَالَ : " يَا رَسُولَ اللهِ ! مَا أَنَا إِلاّ امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي ، وَمَا أَنَا .؟! " ، وهذه الصراحة ظاهرة صحّيّة تدلّ على قرب الصحابة من النبيّ  ، وقوّة علاقتهم به ، والمستوى السامي للتربية المثلى التي تلقّوها من النبيّ  ، كما أنّها تدلّ على فنّ القيادة النبويّة في تعاملها مع القاعدة .
4 ـ قوله  : ( فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ! لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ .. ) دليل صريح على أنّ الهجرة أعلى وأجلّ من الإيواء والنصرة .. لأنّ الإنسان بفطرته يبذل في سبيل أرضه ووطنه نفسه وماله ، ولكنّه يبذل في سبيل دينه : وطنه ونفسه وماله .. فلا يهاجر في سبيل الله من يهاجر إلاّ ودينه أعزّ عليه من كلّ شيء .. وكلّما تجدّد في نفسه الحنين إلى وطنه ، تجدّد له من الأجر بإذن الله ما يخفّف عنه ويسلّيه ، وأمّا ما يفقد الإنسان من مال بأيّ سبب كان ، فلا يجد له في نفسه الحنين غالباً .. وإنّما يتأسّف على فقده إلى حين ، ثمّ سرعان ما ينساه ..
5 ـ دعاء النبيّ  للأَنْصَارِ وَأَبْنَاءِ الأَنْصَارِ ، وَأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ ، هل يعني ذلك أنّ الخير يتوارث عن الآباء والأجداد .؟ يمكننا أن نقول : نعم ! إنّ الخير يتوارث وينتقل بالحبّ الفطريّ للآباء والأجداد .. ذلك الحبّ الذي يقتضي العمل والاتّباع لما كانوا عليه من منهج ، هم باتّباعه قد حازوا الفضل والسبق .. ولا يورث الخير وراثة مادّيّة ، كما يورث المتاع وينتقل ، وكما يتوهّم بعض الناس فيتغنّون بأمجاد آبائهم وأجدادهم ، وهم قاعدون كسالى ، ودون أن يكونوا على سيرتهم وهديهم ..
6 ـ قوله  : ( .. وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ .. ) : من المعلوم أنّ الأنصار كانوا أهل زرع ومال ، فكيف وصفهم النبيّ  بالفقر ، وأنّ الله أغناهم به  ، كما جاء في رواية .؟ ثمّ قال لهم  : ( أَمَا واللهِ ! لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ ، فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ : أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ .. وَعَائِلاً فَأَغْنَيْنَاكَ ) فكيف يجمع بين هذين القولين .؟
ـ والجواب ـ والله تعالى أعلم ـ : أنّ ما كانوا فيه من الغنى كان مستهلكاً بتكاليف الحرب التي لم تهدأ نارها بينهم إلاّ لتثور بأشنع ممّا كانت عليه وأفظع ، ولم تطفأ تلك الحرب إلاّ بقدوم رسول الله  .. أو أنّ ما كانوا فيه ليس إلاّ غنى الظاهر ، وغنى الظاهر ليس بالغنى الحقيقيّ ، وإنّما الغنى غنى النفس ، كما جاء في الحديث الصحيح ، وهذا ما لا يكون إلاّ بالإيمان بالله تعالى ، والثقة به سبحانه .
ومن الغنى الذي تحقّق لهم بالنبيّ  : أنّ المدينة قبل قدومه إليها  كانت موبوءة كثيرة الأمراض ، فدعا لها النبيّ  بالبركة فيها وفي أرزاقها ، وأن ينتقل عنها الوباء إلى الجحفة ، فطابت المدينة ، وصارت طيبة الطيّبة ، وطابة كما سمّاها النبيّ  .. ولا يخفى أنّ السلامة من الأمراض والأوبئة غنى وأيّ غنى ..!
7 ـ كأنّ لسان حال الأنصار  ، يقول بعد هذه الحادثة : " ربّ ضارّة نافعة " ، فقد كانت هذه الحادثة سبباً لبيان مزيد فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى ، وعند رسوله  ، وما لهم من الخصوصيّة برسول الله  ممّا تغبطهم عليه أرجاء الدنيا ..
8 ـ وما أجمل هذه الوصيّة في ختام هذه الحادثة : ( إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً ، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ) ..
لقد علم النبيّ  بنور النبوّة : أنّ هذا المنهج الذي يختطّه لأمّته من : " التماس العذر ، ومعرفة فضل ذوي الفضل ، وتعداد محاسنهم ، وإنزالهم منازلهم .. " أمر لا يلتزمه أكثر الناس ، لبعدهم عن منهج النبوّة ، وسيكون من وراء ذلك إهدار لحقوق ذوي الفضل والسابقة في الإسلام ، ومن ثمّ فقد جاءت وصيّته الكريمة للأنصار بالصبر على ذلك ، فالملتقى بحبيبهم رسول الله  على الحوض قريب .
فما أعظم هذه السلوى .! وما أدعاها إلى التحلّي
بالصبر والمصابرة .! فالعمر أعزّ من أن يضيع في عراك مع أحد من المسلمين ، ما دام الأجر عند الله جزيل مذخور ، والفضل لا تمحوه الأيّام والدهور ..
9 ـ وفي الرواية الأخرى : " يلتَفِتُ النبيّ  عَن يَمِينِهِ وعَن يَسَارِهِ ، ويقول : يَا مَعشَرَ الأَنصَارِ ! فَيقولونَ في كلّ مرّة : " لَبَّيكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، أَبشِر نَحنُ مَعَكَ .. " ، وهذا ما يصوّر لنا صدق الأنصار  ، وسرعة مبادرتهم واستجابتهم لأمر رسول الله  ، وهذا ما برّر لهم أن يروا لأنفسهم حقّاً في الفيء ، واستغربوا أن يمنعوا منه ، ويشير إلى ذلك قولهم : ( إِذَا كَانَتِ الشِّدَّةُ فَنَحنُ نُدعَى ، وَتُعطَى الغَنَائِمُ غَيرَنَا .. ) .
إنّها ـ ولاشكّ ـ كانت ساعةَ ضعفٍ عابر من بعضهم ، تداركه النبيّ  بحكمته البالغة ، فغسل ما علق بالنفوس من وهم ووضَر ، وكشف عن فضل من آوى وآثر ونصر ..



* ـ الاستزادة من العلم ، ونشر التعليم :
لقد أوجد النبيّ  في مجتمع العرب الأمّيّين نهضة فكريّة وتعليميّة شاملة ، ونفخ في الأمّة روحاً في الإقبال على العلم والتعليم بدافع من الحقّ الشرعيّ ، الذي هو أعظم الحقوق في نفس المسلم وأجلّها ، وهذا سرّ نجاح الإسلام في نقل الأمّة من ظلمات الجاهليّة إلى نور العلم في زمن قياسيّ ..
ولقد نقل النبيّ  العرب من أمّيّة اليد والفكر إلى مستوى الأستاذيّة في أنواع العلوم والفنون ، التي تجلّت في الاجتهاد في جميع العلوم ، والإبداع في شتّى مجالات الحياة ، وفي اكتشاف أنواع من العلوم لا عهد للبشريّة بها ، وتأسيس المنهج التجريبيّ ، الذي قامت عليه علوم الحياة ، ثمّ أخذته أوروبا عن المسلمين ، فأقامت عليه نهضتها .. وهذه النقلة النوعيّة التي شهد بها القاصي والداني ، كان العلم والتعليم هو الركن الركين فيها .. ومن ثمّ " فإنّ النبيّ  تدين لتعليمه وتربيته أمم كثيرة ، وتبجّله شعوب وأقوام مختلفة ، في شتّى أنحاء المعمورة ، تعدّ بمئات الملايين ، تخضع لقوله ، وتسترشد بهديه ، وتلتمس رضوان الله تعالى في اتّباعه والاقتداء به .. ومَن تأمّل حسن رعايته للعرب ، مع قسوة طباعهم ، وشدّة خشونتهم ، وتنافر أمزجتهم ، وكيف ساسهم ، واحتمل جفاءهم ، وصبر على أذاهم ، إلى أن انقادوا إليه ، والتفّوا حوله ، وقاتلوا أمامه ودونه أعزّ الناس عندهم ، وآثروه على أنفسهم ، وهجروا في طاعته ورضاه أحبّاءهم وأوطانهم ، وعشيرتهم وإخوانهم ، وكان كلّ ذلك منهم ، وأعظم منه له  ، وهو لم يمارس الكتابة والقراءة ، ولم يطالع كتب الماضين ، ولا أخبار المربّين السالفين .. من تأمّل هذا تحقّق له بنظر العقل أنّه  هو المعلّم الأوّل ، والنبيّ المرسل ، وأنّه سيّد الأنبياء والمرسلين ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
يقول كارليل في حقّ العرب : " هم قوم يضربون في الصحراء ، لا يؤبه لهم عدّة قرون ، فلمّا جاءهم النبيّ العربيّ أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والعرفان ، وكثروا بعد القلّة ، وعزّوا بعد الذلّة ، ولم يمضِ قرن حتّى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم " ( ) .
وتأسيساً على هذا البعد الشرعيّ ، فإنّ حملات مكافحة الأمّيّة تفشل في كثير من مجتمعاتنا ، لأنّها لا تنطلق من هذا البعد الشرعيّ ، الذي يعدّ العلمَ عبادةً ، يُتقرّبُ بها إلى الله تعالى ، والخروجَ عن ربقة الجهل خُروجاً عن الإثم والمعصية .
لقد أثبت التاريخ أنّ رسول الله  كان معلّماً ، وأيّ معلّم .؟! فنظرة يسيرة إلى ما كانت عليه البشريّة قبل رسول الله  ، وإلى ما آلت إليه بعد رسالته ، تعطينا أوضح شاهد ودليل على تأييد ذلك وثبوته .
وإذا لاحظنا النماذج المعلّمة الهادية ، من النوع الإنسانيّ ، التي شهدتها البشريّة بعد الرسول المعلّم  رأيناها تدلّ أقوى الدلالة على عظم هذا المعلّم المربّي الكبير ، الذي تتقاصر أمامه أسماء كلّ الكبار ، الذين عُرفوا وذُكروا في عالم التعليم والتربية وتاريخهما ..
فأيّ معلّم من المربّين تخرّج على يديه عدد أوفر وأهدى من هذا الرسول الكريم ، الذي تخرّج به هؤلاء الأصحاب والأتباع .؟ فانظر كيف كانوا قبله .؟ وكيف صاروا بعده .؟ إنّ كلّ واحد من هؤلاء الأصحاب دليل ناطق على عظم هذا المعلّم المربّي ، الفريد الأوحد ، وهذا ما يذكّرنا بكلمة طيّبة جدّاً لبعض الجهابذة الأصوليّين ، يقول فيها :
" لو لم يكن لرسول الله  معجزة إلاّ أصحابه ،
لكفوه لإثبات نبوّته " ( ) .
وبين أيدينا حديث من أعظم الأحاديث تعبيراً عن منهج الإسلام في الحثّ على الاستزادة من العلم ، ونشر التعليم بين مختلف فئات الأمّة ، وتحقيق اندفاعها في هذا السبيل بصورة ذاتيّة ، تحدوها مخافة الله تعالى من الوقوع في إثم كتمان العلم ، والتقصير في تعلّمه وتعليمه ونشره .. فإلى هذا الحديث وما فيه من الحقائق والمعاني :
عن عبد الرحمن بن أبزى  ، قال : ( خطب رسول الله  ذات يوم ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثمّ ذكر طوائف من المسلمين ، فأثنى عليهم خيراً ، ثمّ قال : ( ما بال أقوام لا يفقّهون جيرانهم ، ولا يعلّمونهم ، ولا يفطّنونهم ، ولا يأمرونهم ، ولا ينهونهم .؟! والله ! ليعلّمَنّ قومٌ جيرانهم ، ويفقّهونهم ، ويفطّنونهم ، ويأمرونهم ، وينهونهم ، وليتعلّمَنّ قومٌ من جيرانهم ، ويتفقّهون ، ويتفطّنون ، أو لأعاجلنّهم العقوبةَ في الدنيا ، ثمّ نزل ، فدخل بيته ، فقال قومٌ : من ترونه عنى بهؤلاء .؟! قالوا : نراه عنى الأشعرييّن ، هم قوم فقهاء ، ولهم جيران من أهل المياه والأعراب ، فبلغ ذلك الأشعرييّن ، فأتوا رسول الله  ، فقالوا : يا رسول الله ذكرت قوماً بخير ، وذكرتنا بشرّ ، فما بالنا .؟! فقال : ليفقّهنّ قوم جيرانهم ، وليفطّننّهم ، وليأمرنّهم ، ولينهوُنّهم ، وليتعلّمَنّ قوم من جيرانهم ، ويتفطّنون ، ويتفقّهون ، أو لأعاجلنّهم العقوبة في الدنيا ، فقالوا : يا رسول الله أنفطّن غيرنا .؟ فأعاد قوله عليهم ، فأعادوا قولهم : أنفطّن غيرنا .؟ فقال ذلك أيضاً ، فقالوا : أمهلنا سنة ، فأمهلهم سنة ، ليفقّهوهم ، ويعلّموهم ، ويفطّنوهم ، ثمّ قرأ رسول الله  : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا ، وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ، لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) } المائدة ( ) .
1 ـ أثنى النبيّ  في هذا الحديث على طوائف من الناس ، وإذ كان الحديث عن العلم والتعليم فيبدو أنّ من أثنى عليهم كانوا من أهل الجدّ الخاصّ في العلم تعلّماً وتعليماً
وحرصاً واهتماماً ..
2 ـ ولقد استنكر النبيّ  على الأشعريّين في هذه الخطبة إهمالهم لجيرانهم ، وترك تعليمهم وتفقيههم ، وتعجّب من أمرهم ، ثمّ هدّد وتوعّد .. ولولا أن يكون هذا الأمر معلوماً لدى عامّة الصحابة  ، وأنّ اجتنابه سيرة لهم معروفة في علاقات بعضهم ببعض ، وعلاقاتهم بجيرانهم على وجه أخصّ .. لما استنكره  ، وهدّد من خالفه وتوعّده ..
3 ـ إنّ العلم الشرعيّ الصحيح ، هو سبيل العمل والاستقامة ، والجهل عدوّ الإسلام الأكبر .. وإنّ أيّ انحراف في السلوك عن صراط الله المستقيم وراءه الجهل بدين الله تعالى ، أو الأمّيّة الفكريّة أو التربويّة ، وهي أشدّ وأخطر من أمّيّة القراءة والكتابة ، لأنّها خفيّة لا يكتشفها أكثر الناس ، ولا يحسّون بها ، بل قد تقترن مع دعوى العلم والمعرفة ، والتبجّح وادّعاء السبق والنبوغ .. وقد يكون أصحابها ممّن يحملون ألقاباً علميّة برّاقة ، ويتبوّءون مناصب اجتماعيّة مرموقة ، تنسيهم ما هم فيه من الجهل المربّع أو المكعّب ..
وربّما كان الإنسان على أمّيّة في القراءة والكتابة ، ولكنّه على صفاء في فطرته ، وحكمة في منطقه ، وبصيرة في دينه ، وحرص على مجالسة العلماء والانتفاع بهم ، ممّا يجعله أعلى شأناً من كثير من حملة الألقاب والشهادات ..
وقد رأيت من هذا الصنف كثيراً من الناس في اليمن ، ممّا يصدّق شهادة رسول الله  فيهم ، وبشارته لهم : (الإيمانُ يمَانٍ ، والحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ .. ) ( ) .
4 ـ يقدّم لنا النبيّ  في هذا الحديث خطّة عمليّة لمحو الأمّيّة من المجتمع ، وتقوم هذه الخطّة على تحميل كلّ فرد من أفراد المجتمع المسئوليّة عن غيره ـ وبالأخصّ جيرانه ـ إن كان متعلّماً ، والمسئوليّة عن نفسه إن كان جاهلاً أن يسعى إلى من يعلّمه ، ويجتهد في إنقاذ نفسه من ظلمات الجهل وغشاوته .. وهل المجتمع مهما كبر واتّسعت أرجاؤه إلاّ مجموعة من علاقات الجوار ، تتواصل ويتداخل بعضها ببعض .؟ فلو أنّ كلّ متعلّم تحمّل مسئوليّة تعليم بعض جيرانه لامّحت الأمّيّة خلال سنة كما أشار هذا الحديث .



* ـ التربية على الحرص على العلم والاجتهاد في الدين :
لم تعرف البشريّة ديناً رفعَ مكانة العلم ، وأعلى من شأنه مثل الإسلام ويكفي أنْ نعلم أنّ الله تعالى جعل شهادة أولي العلم بعْد شَهادة الحقّ سبحانه ، وشهادة الملائكة المقرّبين ، فقال تَعالى : { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ ، وَالْمَلائِكَةُ ، وَأُوْلُوا الْعِلْمِ ، قَائِمًا بِالْقِسْطِ ، لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } آل عمران ، ولقد كانت تَربية النبيّ  لأصحابه تقوم على الاعتناء بالعلم غاية الاعتناء ، وحثّ الأمّة على التعلّم والتعليم ، ولا يسعنا في هذه المُناسبة أن نتحدّث عن ذلكَ أو نفصّل فيه ، وهو معدودٌ من بدهيّات هذا الدين ، التي لا تخفى على من له أدنى معرفة أو ثقافة ..
وممّا ينبغي أن يعلم في هذا المقام أنّ التعمّقَ في العلم بالدين وفهمه أساس الاجتهاد ، والاجتهاد نوع من الإبداع الفكري ، الذي يقوم عليه التجديد في الحياة ، ولذا فقد جاء في الحديث الصحيح عَنْ مُعَاوِيَةَ  قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ  يَقُولُ : ( مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ .. ) ( ) ، ولم تقم حضارة ، ولم تؤسّس نهضةٌ بغير ذلك ..
وقد قامت تربية النبيّ  العمليّة لأصحابه على التدريب لهم على الاجتهاد في كلّ مناسبة ، وتشجيعهم على ذلك ، ويتبدّى لنا هذا الأمر جليّاً فيما قرّر النبيّ  من الأجر للمجتهد على اجتهاده ، ولو أخطأ ، وفي الثناء على المجتهد وتشجيعه ، وعدم لومه أو تعنيفه ، ولا يخفى أنّ تقرير الأجر ، ينفي المؤاخذة والوزر ، والأدلّة والأمثلة في ذلك معروفة مشهورة ..
وفي هذا الحديث الذي بيْن أيدينا موقف نبويّ عميق الدلالة ، واسع المعاني ، إنّه حديث عدّه العلماءُ أصلاً من أصول التشريع الإسلاميّ ، ودليلاً من أوضح الأدلّة على مشروعيّة الاجتهاد في الدين ، والحثّ عليه ، فلا يكاد يخلو منه ، ومن الحديث عنه ، كتاب من كتب أصول الفقه والتشريع ، وقد أسهب الإمام ابن القيّم رحمه الله في كتابه إعلام الموقّعين في شرحه وبيانه ..
ولن ندخل في بيان هذا الحديث من حيث المعاني الفقهيّة والتشريعيّة ، إلاّ بقدر ما تتّضح معاني الحديث ، وأمّا التفصيل فتلك مهمّةُ الفقهاء والأصوليّين ، وإنّما نبقى في الإطار الذي وضعناه لأنفسنا من الحديث عن الركائز الدعويّة التي قام عليها المجتمع الإسلاميّ الأوّل .. فلنقف عند هذا الحديث بعض الوقفات ، نستجلي بها بعض الركائز الدعويّة التي نحن بصدد الحديث عنها .
عَنْ مُعَاذ بن جبلٍ  ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ له : ( كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ قَالَ : أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ ؟ قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ  ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ  ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي لا آلُو ، قَالَ : فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ  صَدْرِي ، ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ  لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ  ) ( ) .
1 ـ أرسل النبيّ  معاذ بن جبل  إلى اليمن داعياً إلى الله تعالى ، ومعلّماً لأهلها شرائع الإسلام ، وقاضياً بينهم فيما يقع من خلاف .. ولاشكّ أنّ أشقّ هذه المهمّات الثلاث هي مهمّة القضاء ..
والقاضي كما سبق أن قلنا يجب أن يحمل روح الداعية إلى الله تعالى ، والمعلّم المربّي ، وهذه الروح هي التي تفرض على القاضي أن يردّ المتخاصمين إلى الصلح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، أخذاً بهدي الله تعالى : { وَالصُّلحُ خَيرٌ .. (128) } النساء . وقد أراد النبيّ  في هذا الحديث أن يطمئنّ إلى منهج معاذ  عندما يعرض له شيء من القضاء ، كيف يقضي .؟
وأمّا منهج معاذ  في الدعوة فقد وضّحه له النَّبِيُّ  فيما جاء في الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ  أَنَّ النَّبِيَّ  لَمَّا بَعَثَ مُعَاذاً إِلَى الْيَمَنِ قَالَ :
( إِنَّكَ تَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ، فَإِنْ أَطَاعُوا لَكَ فِي ذَلِكَ ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ فِي ذَلِكَ ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ فِي ذَلِكَ ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ حِجَابٌ ) ( ) .
وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الدعوة إلى
الإسلام ، وما يجب اتّخاذه من سبيل مرسوم ، ومنهج معلوم ، في مجادلة أصحاب الأديان والمبادئ الأخرى ، وعندما يُغفِلُ الدعاة إلى الله تعالى الأخذَ بما يرتّبه هذا الحديث وأمثاله من تدرّج في الدعوة إلى الأصول والبرهنة عليها ، وإقناع الناس بها ، ثمّ الانتقال إلى ما بعدها ، يجنون على دعوتهم ، ويجدون أنفسهم مستغرقين في اللهاث خلف سراب الوهم ، من الجدل فيما لا يجدي ، ثمّ لا يعودون إلاّ عطاشاً ظامئين ..
إنّ المعركة القائمة بين الإسلام وخُصومه معركة يستجرّ فيها المسلمون إلى قضايا فرعيّة هَامشيّة ، يَطول فيها الخلاف ، ويحتدم الجدل ، ويتمادى بالناسِ القيل والقال ، ثمّ لا يصل فيها الجدال إلى أدنَى نتيجة أو ثمرَة .. والسبب في ذلك : أنّها لا تبتدئ البداية المنطقيّة الصحيحة ، وخصوم الإسلام يريدون لها ذلك ، لأنّ تلك الميادين الفرعيّة الهامشيّة لا يمكن أن يحسم فيها الرأي لأيّ واحد من الطرفين ، لطبيعتها الفرعيّة الدقيقة بالدرجة الأولى ، ولما تتشعّب إليه من فروع وتَفصيلات لا تقف عند حدّ ، فكان المجادل فيها كأنّه يدور مع خصمه في حلقة مفرغة ، بينما القضايا الكبرى الرئيسة ، وأوّلها : قضيّة الإيمان بالله تعالى ، فالأدلّة عليها الفطريّة والوجدانيّة ، والعقليّة والعلميّة كثيرة ، وهي تتّصل ببدهيّات العقل الأولى ، إن لم تكن أوّلها ، فكان الحديث فيها لابدّ أن يقود المتجادلين إلى نتيجة حاسمة ، وإلاّ فإنّ المكابر المراوغ سيبوء بالخيبة الظاهرة ، والخذلان المبين ، وسينكشف خداعه للناس ، وإذا أقرّ بالحقيقة ، فسيقاد منها إلى ما يليها ، إن كان متجرّداً عن العصبيّة واتّباع الهوى أو التقليد ، وهكذا حتّى يجد نفسه في رحاب الإيمان واليقين .
على أنّ العلمانيّين وهم يتقنون فنّ الخوض في تلك الفروع التي لا تنتهي ، والتنقّل إلى مثيلاتها ، يمزجون غثاءهم بفنّ آخر ، يتقنونه ويبرعون فيه ، ألا وهو السخرية والاستهزاء ، وكأنّه رديف الموضوعيّة والبحث العلميّ ، وحسبنا في هذا المقام أن نقدّم نموذجاً واحداً ، من أسلوب العلمانيّين الذي يتكرّر في كلّ موضوع يتناولونه .
فالعلمانيّون يتّهمون الإسلاميّين أنّهم " أسرى القوالب الفكريّة الأخلاقيّة القديمة الجامدة ( .!! ) ، فهم أصحاب مشروع قديم (!) .. ويصرّون على فكرة أنّ نظامهم الاجتماعيّ العتيد هو تطبيق للشريعة المقدّسة التي لا تتبدّل .. لكن ليس هناك إلاّ المحلّلون الاجتماعيّون السذّج (!) الذين يؤخذون بما يعلنه الناس عن أنفسهم ، ويعتقدون أنّه حقيقتهم .. فلابدّ لفهم طبيعة الحركات السياسيّة الاجتماعيّة ، من التمييز بين الخطاب المعلن ، وهو وسيلة تعبئة سياسيّة ، وبين ما تضمره الممارسة الفعليّة ، ولابدّ كذلك ، وبشكل أساسيّ من التمييز بين القيم الحقيقيّة التي تحرّك الناس والمجتمعات ، وبين أنماط تمثّل هذه القيم أو تصوّرها عندهم .. " .
وإذا كان مثل هذا المنطق العلمانيّ منطقاً موضوعيّاً ، فمن حقّ الإسلاميّين أيضاً أن يقابلوا تلك الموضوعيّة ( الرفيعة ! ) بمثلها ، وأن يصموا العلمانيّين بالتبعيّة الفكريّة العمياء ، وأنّهم أصحاب فكر تغريبيّ ، طفوليّ أو صبيانيّ مقلّد ، يتقنون فنّ التنقّل بين المبادئ ، والتلوّن بألوانها الحربائيّة المتنوّعة ، وأنّهم لم يقدّموا لأمّتهم خلال قرن كامل سوى التغريب والضياع ، ومنذ تولّوا زمام الأمور في بلادهم لم تجن منهم الأمّة إلاّ التخلّف على كلّ صعيد ..
إنّ لغة السخرية والاستهزاء لا يعجز أحد عن إتقان مفرداتها ، والتفنّن في أساليبها ، وربّما كان بعض الرعاع والغوغاء أكثر إتقاناً لها ، ثمّ لا يكون من ورائها بلوغ هدف ، أو نصرة مبدأ ..
2 ـ وفي هذا الحوار بين النبيّ  وبين معاذ  نرى
الوضوح العلميّ والفكريّ ، الذي كان عليه أصحاب النبيّ  ، وهذا الوضوح لم يكن عفويّاً ، ولم يأت من فراغٍ ؛ وإنّما كان أثراً عن التربية ، التي تلقّاها الصحابة  من النبيّ  ، وتلك التربية جزء من المهمّات الكبرى ، التي بعث بها النبيّ  ، إذ يقول الله تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ، وَيُزَكِّيهِمْ ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) } الجمعة .
3 ـ وفي إجابات معاذ  المسدّدة في هذا الحديث ما يشير إلى فضله  ، وسبقه العلميّ والفقهيّ لكثير من الصحابة  من جهة ، وهو ما جَاء في ثناء النبيّ  عليه بقوله : ( .. وَأَعْلَمُ أمّتي بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ) ( ) ، ومن جهة ثانية ففي إجاباته  للنبيّ  ما يدلّ على عمْق التربية النبويّة للصحابة  ، العلميّة والفقهيّة منها على وجه الخصوص .
لقد كان معاذ  نسيج وحده في العلم ، وهو الذي يروي لنا حديثاً مطوّلاً في فضل العلم والحثّ عليه ، يدلُّنا على مدى شغفه  بالعلم ، وتقديره لمنزلته وفضله ، ويقول عنه الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله : " إنّه حديث حسن جدّاً " ، يقول معاذ  في حديثه : " تعلّموا العلم ، فإنّ تعلّمه لله تعالى خشية ، وطلبه عبَادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلم صدقة ، وبذله لأهله قربة ، لأنّه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبل أهل الجنّة ، والأنس في الوحشة ، والصاحب في الغربة ، والمحدّث في الخلوة ، والدليل على السرّاء والضرّاء ، والسلاح على الأعداء ، والزين عند الأخلاّء ، يرفع الله تعالى به أقواماً ، ويجعلهم في الخير قادةً وأئمّة ، تُقتبَسُ آثارُهم ، ويُقتدَى بِفعالهم ، ويُنتهَى إلى رأيهم ، تَرغبُ الملائكةُ في خُلّتهم ، وبأجنحتها تمسحُهم ، يَستغفرُ لهم كلُّ رَطبٍ ويابس ، حتّى الحيتانُ في البحرِ وهوامّه ، وسباع البرّ وأنعامُه ، لأنّ العلمَ حياةُ القلوب مِن الجهل ، ومصبَاح الأبصار من الظلم ، يَبلغُ العبد به مَنازلَ الأخيار ، والدرجةَ العليا في الدنيا والآخرة ، والتفكّرُ فيه يَعدلُ الصيامَ ، ومُدارستُه القيامَ ، به تُوصَلُ الأرحامُ ، ويُعرفُ الحلالُ مِن الحرام ، وهو إمامُ العمل ، والعملُ تابعُه ، يُلهَمُه السعداءُ ، ويحرمُه الأشقياءُ " ( ) .
وإذا كانَ تعلّم العلم لله تعالى خشية ، كما يقول معاذ  ، فقد كان هو من أهل الخشيةِ الشديدة من ربّه سبحانه ، ومن ذوي الوَجَل والشفقة ، وهو الذي بكى لمّا حضره الموت ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : " والله لا أبكي جزعاً من الموت ، ولا دنيا أخلّفها بعدي ، ولكنّي سمعت رسول الله  يقول : ( إنّما هما قبضتان : فقبضة في النار ، وقبضة في الجنّة ) ، ولا أدري في أيّ القبضتين أكون .؟ " ( ) .
وفي رواية أنّه قال لمّا حضره الموت : " أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار ، مرحباً بالموت مرحباً ! زائر مُغِبّ ، حبيب جاء على فاقة ، اللهمّ إنّي قد كنت أخافك ، فأنا اليوم أرجوك ، اللهم إنّك تعلم أنّي لم أكن أحبّ الدنيا ، وطول البقاء فيها لجري الأنهار ، ولا لغرس الأشجار ، ولكن لظمأ الهواجر ، ومكابدة الساعات ، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر " ( ) .
4 ـ وممّا يستفاد من هذا الحديث أنّ تحكيم شرع الله تعالى في مختلف جوانب الحياة ، عصمة للحاكم والمحكوم : عصمة للحاكم ألاّ يزيغ عن الحقّ والهدى ، فيحكم بما تمليه عليه الأهواء والشهوات ، وعصمة للأمّة من أن تحكم بالأهواء التي ليس لها أمد ، ولا تقف عند حدّ .
5 ـ وإنّ أيّ فئة تجتمع على منهج للدعوة إلى الله تعالى لابدّ لها أن يحكم منهجَها وحياتَها الفقهُ بدين الله تعالى ، المنضبط بقواعد الشريعة وأصولها ، وأن يكون له التقديم في برامجها التربويّة والثقَافيّة ، إذ إنّ العلم هو المنار لها في كلّ حركة منْ حركاتها ، والمصدر لكلّ تصرّفاتها واجتهاداتها ، وما لم تكن أيّ جماعة على مثل ذلك فهي على خطر عظيم ، إذ كيف يرتجى لمن جاوز سبيل العلم أن يكون على خير أو رشد .؟!
6 ـ ولابدّ للداعية الذي ينطلق بمهمّة مّا من أن يعي مهمّته ومسئوليّته غاية الوعي ، ويعرف هدفه بوضوح ودقّة ، كيلا تلتبس عليه الأمور وتشتبه ، أو يتجاوز الحدود المكلّف بها ، ويخرج عنها ، ولابدّ لمن يرسله أو يكَلّفه من أن يطمئنّ على ذلك بالوسائل المناسبة ، وهنا نرى النبيّ  بعدما عقد مع معاذ  هذا الحوار الجامع الشامل ، واطمأنّ إلى وعيه بمهمّته ومسئوليّته ، حمد اللهَ تعالى الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ  لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ  .
7 ـ وينبغي أن يعلم : أنّ الاجتهاد المنضبط بأدلّة الشريعة ونصوصها ، وقواعدها وأصولها ، إذا بلغ حدّ القطع في الدلالة ، يُعدّ جزءاً من الشريعة لا تنزل قيمته واعتباره عن الأدلّة التي يصدر عنها ، ويستندُ إليها ، وإذا تأيّد بالإجماع أصبح حجّة قطعيّة ، لا يجوز لأحد الخروج عنه أو تجاوزه ، كائناً من كان ، وتأتي حجّيّته بعد نصوص الوحيين الشريفين ، وأمّا إذا لم يبلغ حدّ القطع في الدلالة ، فللمجتهد حقّ مخالفته بما يستند إليه من الأدلّة الشرعيّة المعتبرة ، وليس ذلك الحقّ لأيّ من الناس ، ممّن هم ليسوا بأهل للاجتهاد والنظر في الأدلّة .. وهذا بخلاف ما يدّعيه بعض المعاصرين من إهدارٍ قيمة اجتهادات المجتهدين ، وانتقاص مكانتها مهما بلغت قوّة أدلّتها ، وفتح الباب على مصراعيه لإهمالها وتجاوزها ، بحجّة أنّها أفهَام بشريّة تحتمل الخطأ والصواب ، وقد اتّخذ ذلك بعض مرضى القلوب ذريعة إلى الخروج باجتهادات فاسدة شاذّة ، لا تعرف حدوداً شرعيّة ، ولا ضوابط علميّة ، بتلك الحجّة تارة ، وبحجّة التجديد تارة أخرى ، والهدف من وراء ذلك كلّه : التفلّت من أحكام الشريعة ، والتبرير لترك تحكيمها والاحتكام إليها في جميع جوانب الحياة .
يقول الإمام الشافعيّ رحمه الله في " الرسالة " : " .. فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه ، ممّا تعبّدهم به ، لما مضى من حكمه جلّ ثناؤه من وجوه ، فمنها ما أبانه لخلقه نصّاً ، مثل جمل فرائضه في أنّ عليهم صلاة وزكاة وحجّاً وصوماً ، ومنه ما أحكم فرضه بكتابه ، وبيّن كيف هو على لسان نبيّه  مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها ، ومنه ما سنّ رسول الله  ، ممّا ليس فيه نصّ حكم ، ومنه ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه " ( ) .
فقد بيّن الإمام الشافعيّ رحمه الله أربعة أنواع من البيان القرآنيّ ، وما يتّصل به من بيان السنّة النبويّة ، ثمّ ما يتّصل بهما من الاجتهاد أو القياس :
ـ النوع الأوّل : البيان القرآنيّ المجمل ، وهو يشمل نوعين من البيان : بيان أعيان وبيان مقاصد ، فمن بيان الأعيان التكليف بالصلاة والزكاة والحجّ والصوم ، ومن بيان المقاصد أنّ النبيّ  بعث بإباحة الطيّبات وتحريم الخبائث ، ونهيه  عن كلّ مسكر ومفتّر .
ـ النوع الثاني : التفصيل النبويّ لما أجمل في القرآن من بيان الأعيان ، ممّا يحتاج إلى تفصيل وبيان .
ـ النوع الثالث : ما سنّ رسول الله  ، ممّا ليس فيه نصّ قرآنيّ ، ولكنّه يدخل تحت بيان المقاصد ،
ويعود إليها .
ـ النوع الرابع : الأحكام المستنبطة من مجملات القرآن والسنّة عن طريق الاجتهاد ، وتدخل فيها تفصيلات الأقسام الثلاثة السابقة ، وأحكامها الجزئيّة ممّا يحتمل الاجتهاد ، وما يستجدّ من أمور تشبهها أو تماثلها .



* ـ فضل النيّة الصالحة وخطر النيّة السيّئة :
إنّ من أعظم مسئوليّات الدعاة إلى الله تعالى التربية على الإخلاصِ لله تعالى في كلّ عمل ، وكذلك تربية الإخلاص في نَفس الإنسان ، وتعهّده دائماً ، ليكون زاداً مغذّياً لروحه وكيانه ، ووقوداً ممدّاً له بالطاقة الفكريّة ، والحيويّة النفسيّة في كلّ وقت ، وكيلا تأتيَ عليهِ جوائح الدنيا المختلفة ، ولا تغتاله فتن الشبهات والشهوات ، فتلقي به على قارعةِ الطريق ..
فإذا غَرسُوا الإخلاص وتعهّدُوه ، فلنْ يكون بعد ذلك من صاحبه إلاّ أنْ يرقى في مدارج كماله ، حتّى يكون من أهل البرّ والاحتساب ، والحرص على فعل المعروف ، والتنافس في أبوَاب الخير ..
والحديث عن النيّةِ واسع متشعّب ، وكثير منه يعدّ منَ الثقافة الشائعة لدى جمهور الأمّة وعامّتها ، فضلاً عن نخبتها وخاصّتها .. ومع ذلكَ فيبقى الحديث عنها له أهمّيّته المتميّزة المتجدّدة ، لاعتبارات كثيرة ، لعلّ من أهمّهَا : أَنّ النيّة تفرض نوْع السلوك الذي يتلاءم معها ، وعلى حسب قوّتها أو ضعفها ، يكون اندفاع الإنسان في اتّجاه السلوك الذي تمليه ، أو فتوره ، وهي كالروح لكلّ عمل ، تدخل كلّ عملٍ ، وتتجدّد معه : فهي تسبق العمل وتتقدّم عليه ، ثمّ تواكبه وتصاحبه ، ثمّ تتبعه وتحافظ عليه ، ثمّ تهيّئ النفس لمثله ، أو لأفضل منه وأحسن ..
ومن هنا فإنّ النيّة الصالحة نعمَ الحَارسَ لشَخصيّة الإنسانِ ، المطوّر لهَا ، وهي الوقود لتغذية اتّجاهات الخير فيه وتنميتها ، وفرض الرقابة الدقيقة عليه في كلّ موقف ، والمُحاسبة الدائبَة ، على سرّه وعلانيَته ..
ولا يقتصر أثر النيّةِ الصالحة ، على عملِ الإنسان حين يعمله ، بل إنّ أثرها يمتدّ ، وإن لم يتيسّر العمل نفسه ، فهي تحفّز الهمّة للعمل وتحرّضها عليه ، وتجدّد العزيمة ، وتبعث النشاط في الإنسانِ ، ليغتنم أيّة فرصة مواتية لِيقوم به .. إنّها تبعث في نفس الإنسان شوقاً إلى العمل عجيباً ، واسترواحاً إليه ، ونشاطاً متنامياً ورغبة لفعله ، ممّا يجعل العمل مَنشطاً يجد الإنسان حلاوته في قلبه ، كلّما أدّاه وقام به ..
ولعلّ قَائلاً يقول : لم أخّر الحديثَ عَنْ فضل النيّة الصالحة ، وخطر النيّة السيّئة هذا التأخير ، مع أنّ النيّة مقدّمة على العمل وسابقة ، فكان من حقّ هذا الحديث أن يكون أوّلاً ، وقد دأب العلماء قديماً وحديثاً على تقديم
الحديث عن النيّة في كتبهم ومصنّفاتهم على ما سواهَا .؟
وأَقول في الجواب عن ذلك : صحيح أنّ النيّة مقدّمة على العمل وسابقة عليه من جهة ، ولكنّهَا من جهة أخرى هي البديل عن العمل ، الذي لا يعفى الإنسان منه ولا يعذر ، عندما لا يستطيع العمل ، أو لا يقدر عليه لأيّ سبب من الأسبَاب .
وهي من جهة ثانية : تشفع للعمل عندما يقع في غير موقعه المطلوب شرعاً ، لخطأ في الاجتهاد والتقدير ، أو لغفلة ونسيان ، أو لجهلٍ يعذر به صَاحبه ، فيكتب له الأجر كاملاً بفضل الله غيْر منقوص ، كما لوْ قام بالعمل ، ووَقَعَ موقعه المطلوب المحبوب .
ومن جهة ثالثة : في تقديم مَا قُدّم ، وتَأخير ما أخّر أردتّ لفت الأنظَار إلى أهمّيّة العمل والسلوك ، والأخلاق والقيم ، التي ينبغي أن تحكم علاقات الناس ، وتجمع بينهم ، وكلّ ما سبق كان من قبيل المواقف والحوادث ، وإذ تَحقّق لنا ذلك فيما سبق ، فلابدّ لنا من تناوُل داخل الإنسان ، والحديث عن إرادته ودوافعه ، حيْث يطبخ العمل ويهيّأ ، وتتفاعل أجزاؤه ومكوّناته ، قبلَ أن يظهر لنا في صورته الخارجيّة .. بل إنَّ الصورة الخارجيّة الصالحة إن هيَ إلاّ أثر عن صلاح الباطن وسلامته ، وقد جاء في الأثر عن سلمان الفارسيّ  : " إنّ لكلّ امرئ جَوّانيّاً وبرّانيّاً ، فمن يصلح جَوّانيّه يصلحِ اللهُ برّانيّه ، ومن يفسد جوّانيّه ، يفسد الله برّانيّه " .
قال في النهاية : " أي باطناً وظاهراً ، وسرّاً وعلانية ، وهو منسوب إلى جوّ البيت ، وهو داخله ، وزيادة الألف والنون للتأكيد " ( ) .
وبين أيدينا حديثان عن النيّة :
ـ الحديث الأوّل يفتح للمؤمن آفاقاً رحبةً واسعة ، ليبلغَ مراتب عالية رفيعة ، عندما تصدق نيّتُه ، وتتحفّز عزيمته للعمل الصالح ، ولكنّه لا يقدر عليه ، لأنّ أسبابه لم تتيسّر له ، كما يحذّر المؤمن من النيّة السيّئة : أن تنعقد عليها همّته ، أو تتحكّم بعزيمته .
ـ والحديث الثاني يقدّم لنا أثر النيّة ، ويعالج لنا خطأ العملِ عندما تصلح النيّة ، ويحكم الإنسان أمرها .
فإلى هذينِ الحديثين الشريفين ، وما فيهما من دروس وعبر ..
الحديث الأوّل : عَنْ أَبي كَبْشَةَ الأنمَارِيّ  أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله  يَقُولُ : ( ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثاً فَاحْفَظُوهُ ، قَالَ : مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ ، ولا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلاّ زَادَهُ الله عِزًّا ، ولا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلا فَتَحَ الله عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثاً فَاحْفَظُوهُ ؛ قَالَ : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأرْبَعَةِ نَفَرٍ : عَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالاً وَعِلْماً ، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَيَعْلَمُ لله فِيهِ حَقّاً ، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله عِلْماً ، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً ، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالاً ، وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً ، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، لا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، ولا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَلا يَعْلَمُ لله فِيهِ حَقّاً ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ الله مَالاً ولا عِلْماً ، فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلانٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ) ( ) .
1ً ـ قبل أن يتحدّث النبيّ  عن أمر النيّة ، يُقسم على ثلاثة أمور ، وهو الصادق المصدوق  :
1 ـ مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ ..
2 ـ ولا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً ، فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلاّ زَادَهُ الله عِزًّا ..
3 ـ ولا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلا فَتَحَ الله عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ ..
وهذه الأمور الثلاثة مبادئ وحقائق إيمانيّة وعقديّة ، تتّصل بسلوك الإنسان وحياته العمليّة ، وهي على درجة كبيرة من الأهمّيّة ؛ فالاعتقاد الجازم بأنّ المال لا ينقص بالصدقة يدفع المؤمن إلى البذل والسخاء ، والإنفاق في سبيل الله .. وهل شحّ من شحّ ، وأمسك من أمسك إلاّ لظنّه الواهم أنّ الصدقة ستنقص ماله ، وربّما أتت عليه وأتلفته ؟!
ـ والأمر الثاني : ( ولا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلا زَادَهُ الله عِزًّا ) ، وفي رواية : ( وَمَا زَادَ اللهُ عَبْداً بعَفوٍ إلاّ عِزًّا ) : إنّه تحلّي المؤمن بالحلم وكظم الغيظ ، والصبر على أذى الناس ، وبخاصّة إذا كان في سبيل دعوته ودينه ، وقد يظنّ بعض الناس أنّ في ذلك مهانة للإنسان وذلاًّ ، ولكنّ الحقيقة خلاف ذلك تماماً .. إنّ من فعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى ، يعزّه الله سبحانه ، ويعلي جاهه ، من
حيث يحسب الناس أنّه يعرّض نفسه للذلّ والهوان ..
ـ والأمر الثالث : أنّ من فَتَحَ على نفسه بَابَ مَسْأَلَة الناس فَتَحَ الله عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ ، إذ يظنّ أنّه بذلك يهرب من الفقر ، ويتخلّص منه ، ولا يدري أنّه يزداد فقراً وفاقة ، لأنّ الغنى الحقيقيّ هو غنى النفس ، ولا يتحقّق للإنسان إلاّ بالتعفّف عن الناس ، وإنزال الحاجات بالله تعالى .
2ً ـ يصنّف النبيّ  الناس من حيث العمل إلى فريقين : أهل عمل صالح ، وأهل عمل سيّءٍ فاسد ، كما يصنّف الناس من حيث النيّة إلى فريقين : أهل نيّة صالحة ، وأهل نيّة سيّئة فاسدة ، ويتفرّع عن هذه الفرقاء : أربعة أنواعٍ بيّنها النبيّ  من حيث العمل والنيّة كما يلي :
1 ـ عَبْدٌ رَزَقَهُ الله مَالاً وَعِلْماً ، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَيَعْلَمُ لله فِيهِ حَقّاً فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ .
2 ـ عَبْدٌ رَزَقَهُ الله عِلْماً ، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً ، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ .
3 ـ عَبْدٌ رَزَقَهُ الله مَالاً ، وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً ، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، لا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، ولا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَلا يَعْلَمُ لله فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ .
4 ـ عَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ الله مَالاً ولا عِلْمًا ، فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلانٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ .
فقد لا يتعجّب أحد السامعين من أحد النوعين : الأوّل والثالث ، وإنّما محلّ العجب والغرابة هو في النوعين الثاني والرابع .. إذ إنّ صاحب النوع الثاني لم يعمل بعمل صاحب النوع الأوّل ، ولم يستطع ذلك ، لضيق ذات يده ، ولكنّه صادق النيّة فيما يقول ويعزم ، فهو ينال مثل أجره ومثوبته ، ولا ينقص من أجره شيء بفضل الله تعالى .. وصاحب النوع الرابع لم يعمل بعمل صاحب النوع الثالث ولم يستطع ذلك ، لضيق ذات يده ، ولكنّه جازم النيّة فيما يقول ، فهو يتحمّل مثل وزره ، وينال مثل عقوبته بعدل الله وحكمته ، ولا ينقص من وزره شيء ..
ويزول العجب ويتلاشى عندما نعلم أنّ أصحاب كلا النوعين الثاني والرابع عندما كانت لديهما تلك النيّة إن في الإيجاب أو السلب ، إنما كان لديهم في الحقيقة موجّه للسلوك ومحرّك ، وأيّ موجه ومحرّك .! إنّه موجّه للسلوك باتّجاه بوصلة النيّة الإيجابيّة أو السلبيّة ، فإذا لم يقدر السلوك على نوع من العمل لسبب من الأسباب ، فإنّه سيكون له حضوره واندفاعه في نوع آخر ، أو أنواع أخرى .. ومن هنا ينتفي الإشكال القائل : " كيف يكتب للإنسان وزر عمل بمجرّد النيّة ، دون القيام بالعمل وتنفيذه .؟ " .
فأيّ أثر للنيّة وخطر أعظم من هذا الأثر والخطر الذي يصوّره لنا هذا الحديث .. الذي يقدّم له النبيّ  بما يدعو إلى الاهتمام به غاية الاهتمام بقوله  : ( .. وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ .. ) .
3ً ـ وإنّ من أهمّ ما نستفيده من هذا الحديث أنّ على الدعاة إلى الله تعالى أن يحرصوا على إحكام أمر النيّة وتصفيتها في أنفسهم ، وفيمن يدعونهم إلى الله تعالى ، فأمر النيّة عظيم وكبير ، وهو سهل يسير على من يسّره الله عليه ، ووفّقه إليه وهداه ..
ـ فكم من ميّت على فراشه ، معدود عند الله في المجاهدين الشهداء .!
ـ وكم من نائم هو في القائمين المتهجّدين .!
ـ وكم من مُقِلّ لا يجدُ قوت يومه ، وهو عند الله في الأسخياء المنفقين في سبيل الله .!
ـ وربّ أشعثَ أغْبرَ ، ذي طمرين ، لا يؤبه له مدفوعٍ بالأبوابِ ، لو أقسمَ على الله لأبرّه .. ( ) .
إنّما المعوّل عند الله تعالى على ما في القلوب من صدق النيّة ، وصدق الإرادة ، فلا تغرّنكم المظاهر عن الحقائق ، ولا تحجبنّكم الرسوم عن الدوافع الخفيّة ، التي لا يطّلع عليها إلاّ من يعلم السرّ وأخفى سبحانه ، ولا يحيط بها إلاّ القائل جلّ جلاله : { وَأسِرُّوا قَولَكُم أوِ اجْهَرُوا بِه ، إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) } الملك .
وفي الحديث الصحيح ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ  : ( إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ) ( ) .
ولعلّ من المفيد هنا أن نذكر أنّ بعض الفقهاء قد نصّوا أنّ على المسلم أن يعقد العزم أوّل بلوغه سنّ التكليف أن يفعل جميع ما أوجب اللهُ عَلَيْهِ من الفرائض ، وأن يترك جميع ما نهاه الله عنه من المحرّمات والكبائر ، وأن يعزم على أن يتقرّب إلى الله تعالى بجميع الطاعات والقربات ، وأن يبتعد عن جميع المخالفات والسيّئات ، فلتلك النيّة الصالحة الجازمة أثر عظيم في النفس ، وبركة لا توصف ولا تقدر ، في استدرار توفيق الله تعالى وعنايته ، فضلاً عمّا يحظى به الإنسان من أجور عظيمة على أعمال لم يعملها ، ومنهيّات قد لا يفعلها في حياته كلّها ، ولكنّه لعدم استحضاره للنيّة قد لا يكتب له الأجر على تركها .


ويصل بنا القول إلى الحديث الثاني وهو : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ، عَنِ النَّبِيِّ  قَالَ : ( قَالَ رَجُلٌ : لأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ : تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ ، قَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ : تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ ، قَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ : تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ ، وَعَلَى غَنِيٍّ ، وَعَلَى سَارِقٍ ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ : أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ ، أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا ، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ ) ( ) .
1 ـ لقد عقد العزم هذا الرجل الصالح أن يتصدّق بصدقة ، لا يعلم بها أحَد من الناس ، فخرج بصدقته ليلاً ، والليل لباس ساتر ، فتوسّم في وجوه الناس وتفرّس ، ثمّ دفع صدقته إلى من يظنّه من أهل الفقر والحاجة .. دون أن يعرفه أحد ، حتّى ذلك الذي أخذ منه الصدقة .. وفي صبيحة اليوم التالي شاع الخبر بين الناس : تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ ، فمن الذي أشاع الخبر عنه .؟ الله أعلم ، وبلغ الخبر ذلك المحسن فقال : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ .
ثمّ عقد العزم على الصدَقة مرّة أخرى ، إنّه يرجو مثوبة الله تعالى وفضله ، ولم يُثنه عن عزمه ما وقع منه من خطأ ، ما كان يريده ولا يقصده .. فخرج ليلاً ، وتوسّم في وجوه الناس وتفرّس ، ثمّ دفع صدقته إلى من يظنّه من أهل الفقر والحاجة .. وفي صبيحة اليوم التالي شاع الخبر بين الناس مرّة أخرى : تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ ، فقال ذلك المحسن : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ ..
ثمّ عقد العزم على الصدَقة مرّة أخرى ، ولم يُثنه عن عزمه ما وقع منه من خطأ في المرّتين ، فخرج ليلاً ، وتوسّم في وجوه الناس وتفرّس ، ثمّ دفع صدقته إلى من يظنّه من أهل الفقر والحاجة .. وفي صبيحة اليوم التالي شاع الخبر بين الناس مرّة أخرى : تُصُدِّقَ الليلة عَلَى سَارِقٍ .. فقال ذلك المحسن : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ ..
إنّها العزيمة على الخير والرشدِ ، التي لا يثنيها عن المضيّ في فعل الخير شيء ، ولا يصدّهَا عن غايتها شبهة .. فماذا كان جزاؤه فيما عمل .. لقد أتاه ملك في النوم من قبل الحقّ جلّ وعلا ، فبشّره بقبول صدقته ، وعلّل ذلك له تعليلاً جميلاً بقوله : " أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا ، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ " .
2 ـ إنّ التقوى محلّها القلب ، وهي سرّ خفيّ بين العبد وربّه ، وهي مصدر النيّة الصالحة ومبعثها ، وقد جَعلها الله غَاية الأعمال الصالحة ولبَّها فَقَال تعالى :
{ .. لَن يَنَالَ اللهَ لحُومُها وَلا دِمَاؤُها ، وَلَكِنْ يَنالُهُ التّقْوَى مِنكُم .. (37) } الحجّ .
3 ـ ولقد رأينا كثيراً من الناس يصدّهم الشيطان عن العمل الصالح خوف الخطأ فيه ، فيتوقّف أحدهم عن العمل ، ويحجِم بهذه الحجّة الوَاهية ، ومثل هذا الحديث فيه الجواب الشافي ، والحجّة الدامِغَة لهذه الوساوس الشيطانيّة ، الصادّة عن العمل ، المثبّطة عنْ فعل الخير .. اللهمّ إلاّ إذا كان الإنسان يريد أن يتّخذ تُكَأة ، يستر بها عرجة شحّه وبخله ، ويبرّر لنفسه بين الناس ما لا يخفى على العليم بذات الصدور ، من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .
4 ـ وإنّ للأعمال المنبعثة عن الصدقِ والإخلاص تأثيراً في الآخرين ، لا ينكره ذو عقل ولبّ ، فالإخلاص كالنور النافذ ، يحمل الأعمال ، ويكتب لها القبول ، ويدخل بها على القلوب بغير اسئتذان ولا انتظار .. ويدلّ عَلى ذلك من هَذا الحديث : تعليل الملك لقبول صَدقة العبد في المرّات الثلاث ، بما قد تتركه الصدقة من أثر ، يعتمل في نفس هؤلاء الثلاثة ، فيتوبوا عمّا هم فيه : منْ شرّ وإثم ، أو منع لحقوق الناس ، أو اعتداء عليها ..
5 ـ يشير هَذا الحديث إلى قوّة التفاعِل ، والتأثير المتبادَل بيْنَ فئَات المجتَمع ، عَلَى اختلاف توجّهات تلك الفئات ، ولَوْ لم نلاحظ ذلك بالنظرة المحْدودة العجلى ؛ فالمتصدّق المخلص في صدقته ، يؤثّر في الشحيح الممسك ، وفي السارق المعتدي ، وفي المتاجرة بعرضها ، الناشرة للإثم والفساد في الأرض ، وتحاول بعض الفئات ألاّ تعترف بذلك التأثير أو تقرَّه ، ولا ينفعها ذلك ولا يجْديها .. وأثر هذه الفَائدة : ألاّ ييأس الدعاة إلى الله من الواقع الذي يُعَايِشُونه ، وفئَات الناس المختلفة التي يفرض عليهم التعامل معهَا ، إنّهم أطبّاء المجتمع ، وليس للطبيب إلاّ أن يتعامل مع المرضى ، فينبغي أن تكون ثقتهم بالله تعالى كبيرة ، وأملهم بهداية الخلق إلى الله لا يقف عندَ حدّ ..!
والله تعالى وليّ التوفيق والهداية ..



* ـ أثر أعمال البرّ في نجاة الإنسان من الشدائد :
التربية بالقصّة ، والتوجيه من خلالها ، كان من الأساليب النبويّة المتميّزة ، التي اتّبعها النبيّ  ، لتعزيز القيم والمبَادئ التي جاء بها ، ودعا إليها ..
والقصّةُ القرآنيّةُ أو النبويّة تَمتاز على غيرها أنّها واقعيّة في أصلها .. واقعيَّة في جميع تفصيلاتها ، وأدقّ جُزئيّاتها ، فليس فيها شيء من اصطناع الأحداث المكمّلَة بقصد تحقيق الإثارة ، أو إحكام حُبكةِ القصّة ، أو أيّ قصد آخر ، من المقاصد التي يتواضع عليها الناس ، ويعدّونها جزءاً من الفنّ الأدبيّ .. ومنْ هنا فإِنَّ استفَادة العبر والدروس الإيمانيَّة والتربويّة والدعويّة من قصص أحد الوحيين لا يقفُ عندَ صورتها المجملة ، وإنّمَا يتناول أدقّ تفصيلاتها ووقائعها ، حتّى تلك الحركات العابِرة التي قد لا يؤبه لها ( ) .
والقصّةُ القرآنيّةُ أو النبويّة تَمتاز أيْضاً بتقديم الأسبَاب الحقيقيّة للوَقائع ومقدّماتها ، وآثارها ونتائجها دون تكهّن أو ظنون ، كما تكشف الدوافع النفسيّة للحوادث والوقائع بصورة دقيقة ، لا قدرة لأحد من البَشر عليها ولا طَاقة ..
وما أكثر القصصَ القرآنيّ والنبوِيّ عَمّنْ قبلنا ، في مختلف جَوانب الحياة .! وهي تُعلّمنا كثيراً منَ العبر والدروس العامّة والخَاصّة .. وممّا نتعلّم منْها : أهمّيّة توظيف أحداث الحيَاة ووقائعها لنصرة الحقّ ، وتأييد دعوته ، وضرورة اتّخاذ الأساليب المناسبة لجذب انتباه الناس لما يدعون إليه من حقائق ، والتأثير في عقولهم وقلوبهم ، وتَصحيح مفاهيمهم وأفكَارهم ..
وقد أذنَ لنا النبيّ  أن نحدّثَ عَمّنْ قبلنا ، وعن بني إسرائيل بخاصّة ، فقدْ كانت فيهم الأعَاجيب ، ففي الحديث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو  أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ : ( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ) ( ) .
ولم يكن هذا الإذن إلاّ لما في القصص والأخبارِ من عبرٍ وعظات ، وتأثيرٍ بالغ في النفوس ، يفوت بإهمالها ، ولا يدرك بغيرها ..
وبين أيدِينا قصّة نبويّة عن بني إسرائيل جاءت في الصحيح ، هي من أروع القصص المؤثّرة ، التي يحدّثنا بها الصادق المصدوق ، صلوات الله وسلامه عليه ، وهي مليئة بالعبر والعظات ، وأهمّها تلكَ الدروس ، التي تشير إلى بعض الركائز الدعويّة ، وتؤكّد على أهمّيّتها ..
عَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ  قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ  يَقُولُ : ( انْطَلَقَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَتَّى آوَاهُم الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ ، فَدَخَلُوهُ ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ ، فَقَالُوا : إِنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاّ أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ : اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ ، وَكُنْتُ لا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلا مَالاً ، فَنَأَى بِي طَلَبُ الشَّجرِ يَوْماً ، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا ، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا ، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً ، فَلَبِثْتُ ، وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا ، حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئاً لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ ، قَالَ النَّبِيُّ  : وَقَالَ الآخَرُ : اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ ، كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا ، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي ، حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ ، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ ، عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا ، فَفَعَلَتْ ، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ : لا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاّ بِحَقِّهِ ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا ، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا ، وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا ، قَالَ النَّبِيُّ  : وَقَالَ الثَّالِثُ : اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي ، فَقُلْتُ لَهُ : كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ ، فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللهِ لا تَسْتَهْزِئ بِي ، فَقُلْتُ : إِنِّي لا أَسْتَهْزِئُ بِكَ ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا : اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ ) ( ) .
وفي رواية مسلم : ( .. وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ) . وفيها : ( .. فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ : يَا عَبْدَ اللهِ ! اتَّقِ اللهَ ، وَلا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلاّ بِحَقِّهِ ، فَقُمْتُ عَنْهَا .. ) .
وفي هَذا الحديث من العبر والركائز الدعويّة ما نوضّحه فيما يلي :
1 ـ الدعاء بشروْطه وآدابه باب عظيم مِنْ أبواب العبوديّة لله تعالى ، والتقرّب إليه سُبحانه ، وبخاصّة عند نزول الشدائد والكروب ، وإذا اقترن بالتوسّل إلى الله تعالى بصَالح الأعمال فذلك أدعى إلى القبول ، وأوثَق في حصولِ المأمولِ .
فعلى المؤمن أن يكون كثير الدعاء ، ملحاحاً على الله تعالى في كلّ حال ، دائم اللجوء والضراعة إليه سبحانه ، وعلى الدعاة إلى الله تعالى أن يعتمدوا في مناهجهم الدعويّة ، وأساليبهم التربويّة ، وبرامجهم الدوريّة غرس الاهتمام بالدعاء في النفوس ، وتربية الناس القريبين والبعيدين على ذلك ، وأن يكون حالهم في هذا الأمر أبلغ من قولهم ، وأعظم تأثيراً ..
2 ـ دعَاءُ اللهِ والتوسّل إليه بِصَالِحِ الأَعْمَالِ : كثيراً ما يلتفِتُ الإنسان عندَ الشدائدِ والملمّات فلا يرى حوله من اعتاد أن يراه في ساعاتِ الرخاء والنعمة ، ويحسُّ عند ذلك بغفلته عن ربّه ، وتقصيره في جنبه ، وتعلّقه بالمخلوقين ، وأَنَّه ضعيفُ اللجوء إليه سبحانه ، ضعيف التعلّق به ، والتذلّل بينَ يديه .. وتدفعُه الشدّةُ أن يلتَمِسَ لنفسه حَبلاً يَتعلّقُ بِه ، ينْفعه عند الله ، ويشفع له ، ولا يجِد مَا يرضي
ربّه سبحانه من ذلكَ سوى الإيمان والعَمل الصالح ..
فعلى المؤمن العَاقل أن يكون له مِنَ العمل الصالح في الرخاء ما يدّخره ، ويكون له ذخراً في أوقات الشدّة والبلاء ، وأن يجتَهد في ذلكَ ما استطاع ، فإنّ الأَعمال الصالحة منجاة من شدائد الدنيا ، كما أنّها منجاة من أهوال يوم القيامة ..
3 ـ وإنّ دعَاء اللهِ تعالى بِصَالِحِ الأَعْمَالِ في الشدائد ، لا يتنافى مع إخلاص العمل لله تعالى ، فقد ذكر النبيّ  حال هؤلاء الثلاثة ، في معرض الثناء والتنويه بعملهم ، ممّا يدلّ على ألاّ حرج في ذلك ولا تثريب .. ويقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ، وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ، وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) } المائدة ، والْوَسِيلَة المأمورون بِها في هذه الآية هي كلّ عمل صالح .
وينبغي أن يعلم أنّ التوسّل إلى الله بصالح الأعمال ليس فيه ادّعاء واعتداد بالعمل ، وإنّما هو محض افتقار ، وتحقّق بالذلّ والانكسار بين يدي الله سبحانه ، فعلى المُؤمن أن يسْتشعرَ أنّ عمله مهما بلغ فإنّه لا يليق بحقّ العبوديّة ، ولا يبْلغ شيئاً من جلال الربوبيّة .
4 ـ وإنّ أعمال البرّ ، وعلى رأسها برّ الوالدين ، وأَداء حقوق عباد اللهِ ، وحفْظ حرماتهم ، وترك المحَرّمات مخافة اللهِ وخشيته .. كلّ ذلك من أهمّ الأَعمال الصالحة ، والركائز الدعويّة الحيويّة ، التي ينبغي على الدعاة إلى الله تعالى أن يعتنوا بها ، ويولوها اهتمامهم ، ويؤكّدوا عليها في خطابهم للناس ، سواء في برامجهم التربويّة والتعليميّة لأبنَاء الدعوة أنفسهم ، أو برامجهم الدعويّة ، التي يخَاطبون بها الناس عامّة ، ويعرّفونهم فيها مبَادئ الإسلام ومحاسنه ، وما جاء به من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الآداب ، وما دعا إليه من حفظ لحقوق الناس ، ورعاية لحرماتهم ..
وينبغي أن يعلم : أنّ البرّ وأَداء الحقوق وحفْظ الحرمات ، وترك المحَرّمات ، لا يقف شيء من ذلك عند حَدّ ، وإنّما لا يزال يرقى بالمؤمن ويَرتقي به ، حتّى يبلغ مقام الصدّيقين والصالحين ، ويكون عند الله في الملأ الأعلى المقرّبين ، فعلى المؤمن والداعية إلى الله تعالى أن يحرص على المنافسة في الخير ، وتسنّم ذرى البرّ ، وأن يحذَر الوقوع في شيء من الظلم ولو قلّ ..
5 ـ وممّا يستفاد من هذا الحديث : أنّ البرّ والأدب لا يقفان عند حدّ ، ولا تنتهي نماذجهما ، وقد يقول قائل : وهل نكلّف بمثل ما فعل الرجل الأوّل من البرّ مع والديه .؟ وهل مثل هذه الصورة من البرّ أحبّ إلى الله تعالى من أن يسقي أولاده من اللبن ، وبخاصّة أنّهم صبية صغار ، وقد جاء وصفهم في رواية : ( .. وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ) .؟
أليس من الرحمة بهؤلاء الضعفاء ، والله تعالى يحبّ الرحمة بعباده والرحماء أن يسقيهم ، ويترك نصيب والديه إلى أن يستيقظا .؟
والجواب ـ والله تعالى أعلم ـ : أنّ من رحمة الله بنا ألاّ نكلّف بمثل هذه الصورة من البرّ ، ولكنّ الحديث دلّ على أنّ من فعل ذلك بنيّة البرّ ، ودافع البرّ كان ذلك من البرّ ، ويؤجر عليه ويشكر ، ومن سقى أولاده بدافع الرحمة يؤجر ، ولكنّ أجره قد لا يكون من أجر الأوّل أكبر .!
والسبب في التفريق بين الصورتين أنّ دافع البرّ دافع إيمانيّ خالص ، أمّا الدافع نحو الأولاد فهو دافع تشترك فيه الرغبة النفسيّة مع دافع الرحمة ، فمن ثمّ لم يكن أتمّ وأكمل .
وقد روي عن الحسن البصريّ  أنّه كان لا يأكل مع والدته من قصعة واحدة ، وعندما سئل عن ذلك قال :
" أخاف أن تسبق يدي إلى لقمة سبقت إليها عينها ، فآكلها ، وقد اشتهتها أمّي .! " .
ـ وقد سألني بعض الشباب المقبل على الله تعالى ، الحريص على برّ والديه ، برّاً يقرّبه إلى الله ، ويسلكه في زمرة أهل البرّ : كيف السبيل إلى ذلك .؟ فقلت له ما أقوله هنا باختصار : إنّ كلّ مؤمن يجد مرآة هذا النوع من البرّ في نفسه ، وهو من أبواب توفيق الله تعالى للعبد ، ولا ينفع الولد أن يسأل الوالدين أو أحدهما عن برّه ، إذ كثيراً ما يثني الوالدان على أولادهم بالبرّ ، وهم لا يكونون على هذا المستوى المطلوب ، فعلى المؤمن أن يستفتي قلبه ، ويتّهم نفسه ، ولا يرضى عن أحوالها مهما كانت ، لتكون همّته ساميةً دائماً صُعُداً ، ويسأل الله تعالى العون والتوفيق ، والله تعالى وليّ التوفيق والسداد " .
6 ـ وعلى المؤمن أن يعلم : أنّ وقوع الابتلاء وشدّته ليس دليلاً على غضب اللهِ تعَالى أو سخطه ، كما يسوّل الشيطَان ذلك لبعض ضعاف الإيمان ، ليوقعهم في التسخط على أقدار الله ، ويصدّهم عن الحياة في رياض الرضا ، والتقلّب في نعيم التسليم ، ويحملهم على اليأس من رحمة الله وقرب فرَجه ، فيزيدهم بذلك بعداً عن الله على بعدهم ، ويقطع عليهم سبيل الأجر والمثوبة ، بل إنّ الابتلاء ربّما كان دليلاً للمؤمن على محبّة الله تعالى وعنايته ..
وقد جاء في ذلك حديث صريح عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ  قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟ قَالَ : ( الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ ، حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ ، لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ) ( ) .
ومع ذلك فعلى المؤمن أن يسأل الله تعالى العافية ، إذ إنّ التعرّض للبلاء ربّما لا يقوى عليه الإنسان ، ولا يصبر ، فيكون فتنةً مضلّة له عن صراط الله المستقيم .
7 ـ ومن أهمّ الفوائد في هذه القصّة : ما نلاحظ فيها من سرعة استجابة الله تعالى لدعاء هؤلاء الداعين ، والتفريج عنهم ممّا نزل بهم من البلاء ، ولا عجب في ذلك فهم في حال من الاضطرار لا يعلم بها إلاّ الله ، والله تعالى أحقّ أن يستجيب لعباده إذَا بلَغوا مثل هذا الحال ، وهو القائل سبحانه : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ، أَإلَهٌ مَعَ اللهِ .؟! قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) } النمل .
ويقول تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ، فَإِنِّي قَرِيبٌ ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ، وَلْيُؤْمِنُوا بِي ، لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) } البقرة .
فليعلّق المؤمن قلبه بالله تعالى على كلِّ حال ، وليقوّ رجاءه ، فما خاب عبد لجأ إليه ، أو طرق بابه ، فربّ بلاء ساقه القدر ، يرقى بالعبد ، ويجعلُه يحسن الفرّ والكرّ .!
وسبحان من أرغم الرجال على التذلّل لسلطانه ، وتعفير الوجوه في التراب تعظيماً لشأنه .!



* ـ التربية على العمل وعزّة النفس :
الإِسلام دين العزّة والكرامة ، حفظ كرامة الإنسان وأعزّ كيانه ، بمبادئه المثلى وأحكامه ، وهو دينٌ يعدّ العمل عبادة أَفضل من صلاةِ النافلة ، وأحبّ إلى الله تعالى ، وكيف لا .؟ وهو من فروض الكفَايات ، التي تَأثم الأمّة كلّها إذا تركتها أو قصّرت فيها .؟!
والعمل المثمر البنّاء في الإسلام لا يكون عفواً ولا اعتباطاً ، إنّه لابدّ فيه من التربية على الجدّيّة وتحمّل المسئوليّة ، ولابدّ فيه من العلم الشرعيّ بأحكام العمل وشروطه ، وحدوده وآدابه ، ليكون عبادة يتقرّب بها صاحبها إلى الله ، ويؤجر عليها ..
وإذا فهم المسلم حقيقة إسلامه وجد من داخل نفسه باعثاً يدعوه إلى الجدّ والعمل في مجالات الحياة المختلفة ، ليقوم بمهمّ الاستخلاف لعمارة الأرض ، وقيادة البشريّة إلى الهدى والرشاد ..
وإنّ سنن الله في الدنيا تعطي العاملين المجدّين ثمرة عملهم ، وقطوف جدّهم واجتهادهم ، وهيهات أن يجني قاعدٌ أو كسول غير مرّ الندم ، وخيبة الأمل ..
وأولى الناس بالنجاح في الحياة المؤمنون ، إذ يدعوهم الإيمان إلى الأخذ بسنن الله في الحياة ، ويحثّهم على إخلاص العمل وإتقانه ، والكدح والمُثابرة ، والاعتماد على الله ، والتوكّل عليه وحده ..
فالطالب والتاجر ، والموظّف والصانع ، والمدرّس والطبيب ، والصانع والمزارع .. يدعوهم الإسلام أن يكونوا متقنينَ لعملهم ، مخلصين في أدائه ، إذ يقول النبيّ  : ( إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) وفي رواية : العمل ( ) .
ولقد كان أصحاب النبيّ  يتقنونَ مهن الحياة المختلفة : من صناعة وتجارة وزراعة ، ولم يقعد بهم إيمانهم بالآخرة عن العمل للدنيا وعمارتها ، فقد أرشدهم رسول الله  أنْ يَأخذوا بأسباب عمارَة الأرض إلى آخر رمق من حياتهم ، بل إلى آخر لحظة من عمر الدنيا كلّها ، وليس هذا إلاّ تمثيلاً عَنْ شأن المسلم في الاجتهاد في كلّ شيء ، مع ابتغاء وجه الله تعالى ، فقد جاء في الحديث الشريف : ( إذا قامت الساعةُ ، وفي يد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع ألاّ
تقُومَ حتّى يغرسها فليغرسْها ) ( ) .
ويبلغ تمجيد الإسلام للعمل ورفعه لمكانته حدّاً لا يوصف عندما يجعل النبيّ  الأكلَ مِنْ عَمَلِ اليَدِ من أعظم القربات إلى الله تعالى ، إذ يقول النبيّ  كما في الحديث عَنِ الْمِقْدَامِ  عَنْ رَسُولِ اللهِ  قَالَ : ( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ) ( ) .
وهل أحد من الناس أعزّ من الأنبياء وأكرم .؟! ونَبِيُّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وكلّهم كانوا أصحاب مهن وصنائع ، فما بال الناس يستهينون بالعمل ويحتقرونه .! ويزهدون به ويهملونه .؟!
وبين أيدينا موقف من مواقف النبيّ  فيه التربية العمليّة على الجدّ والعمل ، والبعد عن التواكل والكسَل ، والتحرّر من الاعتماد على الآخرين ، فإلى هذا الموقف ، وما فيه من التوجيهات النبويّة ، والدروس الدعويّة المتنوّعة .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ  أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ  يَسْأَلُهُ ، فَقَالَ : ( أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ ؟ قَالَ : بَلَى ، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ ، وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ ، قَالَ : ائْتِنِي بِهِمَا ، قَالَ : فَأَتَاهُ بِهِمَا ، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللهِ  بِيَدِهِ ، وَقَالَ : مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ ؟ قَالَ رَجُلٌ : أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ ، قَالَ : مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا ، قَالَ رَجُلٌ : أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ ، وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ ، وَقَالَ : اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ ، وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُوماً فَأْتِنِي بِهِ ، فَأَتَاهُ بِهِ ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللهِ  عُوداً بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ ، وَلا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ ، يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْباً ، وَبِبَعْضِهَا طَعَاماً ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ  : هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَصْلُحُ إِلاّ لِثَلاثَةٍ : لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ ) ( ) .
وفي هَذا الحديث من العبر والركائز الدعويّة ما نوضّحه فيما يلي :
1 ـ التعليم العمليّ للعلماء والدعاة إلى اللهِ تعالى ، وكذلك ولاة أمور المسلمين : كيف تحلّ مشكلاتُ الناس الاجتماعيّة والاقتصاديّة ، بصورة واقعيّة عمليّة .؟ وكيف تفتح للناس أسواق العمل ، ويدعون إلى ولوجها ، وهم متسلّحون بوسائل العمل وكفايته .. فالنبيّ  سلك بهذا الأنصاريّ هذا السبيل خطوة خطوة حتّى بلغ به حدّ الكفاية لنفسه ، والاستغناء عن الناس ، بل ربّما أصبح بعد مدّة يسيرة من ذوي اليد العليا ، يقدّم النفقة لفقراء الأمّة ومحتاجيها .
وفي المثَل الصينيّ المشهور : " خير للفقيرِ من أن تعطيه سمكةً ، علّمهُ كيفَ يصطَاد السمك " ، فهل هذا المثل من بقايا الحكمة النبويّة ، الدارسة في بلاد الصين .؟ والله تعالى يقول : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ (24) } فاطر ، لا نستبعد ذلك بل نرجّحه ..
2 ـ عندَما سأل النبيّ  ذلك الأنصاريّ عمّا عنده صرّح له بما يدلّ على شدّة فقره وحاجته ، ممّا يحلّ له أخذ الصدقة ، فالرجل بيته قاعٌ وحيطان ، ليس فيه إلاّ حلس ( ) وقعب يشرب فيه الماء ، فلا فرش ولا أثاث ، ولا زينة ولا رياش ، إنّها صورة بليغة مؤثّرة ، ومع ذلك فلم يرتض له النبيّ  أن يسألَ الناس ، ويطلب منهم ، وإنّما رسم له سبيل العفّة والعزّة ، وسلّكه إيّاه حتّى بلغه ..
فكيف لو رأى النبيّ  حالَ بعض المسلمين اليوم .؟ من التواكليّة والكسل ، وقعود الهمّة وإيثار البطالة ، ثمّ يسألون الناس الدنيا ، ويستكثرون منها ، وقد يقترن ذلك في كثيرٍ من الأحيان بدعوى باطلة : أنّهم متوكّلون على الله سبحانه ، زاهدون في الدنيا ، راغبون في الآخرة ، ويدّعون أنّ ذلك ما يريده الإسلام منهم ، ويرتضيه لهم .. ألا إنّ ذلك من الصور المشوّهة عن مفاهيم الإسلام وقيمه ..
3 ـ ( .. اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ ، وَلا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً .. ) ، وصفة نبويّة دقيقة ، تشير إلى أنّ الجادّ في عمله ، تبدو ثمرة جدّه خلالَ خمسةَ عشرَ يوماً ، فميدان الجدّ والعمل لا يقبل الزيف والمحاباة والعبث ، ومن لم تبد جدّيّته خلال ذلك فأجدر ألاّ يعرف الجدّ ولا يعرفه ، ولا يكون من أهله بسبيل ، وهذا في أكثر الأحوال .. وإذ غلب على الناس التصنّع ، والتزيّن بما ليس فيهم فقد احتاج الناس في أعمالهم التجاريّة وشركاتهم : أن يجرّبوا العامل شهرين أو ثلاثة ، حتّى تتبدّى لهم خبرته وخلائقه ، ويكتشفوا كفايته للعمل أو عدمها ، ولا يخلو ذوو الخبرة بالناس والبصارة ، من القدرة على اكتشاف الإنسان منذ اللقاءات الأولى ، ومنهم من يكتشف الإنسان منذ اللقاء الأوّل ، ويعرف إمكاناته وقدراته ، ولكنّ ذلك ليس القاعدة المطّردة .
4 ـ وفي ختام هذه الحادثة يأتي تقرير المبدأ بدقّة وصرامَة ، بعد نجاح تلميذ النبوّة في الدورة المُقرّرة ، واجتيازه التربية النبويّة بكفاية واقتدار ، لتتعلّم الأمّة والأجيال الآتية : كيف تُرعَى المبادئ ، وكيْف تُطبّق وتُصان ، فيقول النبيّ  للأنصاريّ : ( هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .. )
ويقرّر النبيّ  هذه الحادثة بصورة مبدأ حازم دقيق ، يأخذ صفة العموم والشمول ، فيقول كما في الحديث عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ  عَنِ النَّبِيِّ  قَالَ : ( لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَيَبِيعَهَا ، فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ
النَّاسَ ، أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ ) ( ) .
وفي رواية للبخاري : ( والذي نفسي بيده لأَنْ يَأْخُذَ .. وفي رواية لأحمد زيادة : ( .. وَلأَنْ يَأْخُذَ تُرَاباً فَيَجْعَلَهُ فِي فِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِي فِيهِ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ ) .
5 ـ ولم يستثن النبيّ  من تحريم سؤال الناس إلاّ ثلاث حالات تعدّ أشدّ حالات حاجة الإنسان ، التي إن نزلت به نغّصت عليه حياته ، وكدّرت عيشه ، فإن لم يجد المسلمين متعاونين معه في سدّ تلك الشدّة الشديدة ، فذلك من علائم تفكّك مجتمعهم ، وذهاب ريحهم : ( إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَصْلُحُ إِلاّ لِثَلاثَةٍ : لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ ) ( ) .
وبعد ؛ فما تخلّفت أمّة الإسلام عن ركب الحضارة والقيادة ، وسبقتها الأمم التي كانت وراءها بآماد ، وكانت تلتمس العلم في رحاب مدارسها وجامعاتها .. إلاّ عنْدما استهانت بالعَمل الجادّ ، وضرب عليها الكسل والخمول أطنابه ، وانصرفت إلى اللهو والبطالة ، وقعدت همّتها عن البحث الجادّ ، والتنافس العلميّ والعمليّ في كلّ ميدان ..
فهل لنا أن نصحو على أمرنا ونستدرك .؟ لنبلغ ما فاتنا ، ونلحق من سبقنا ، إنّا لنرجو ذلك ونتمنّاه ، وما ذلك على الله بعزيز ، والله الموفّق والمستعان .



* ـ مسئوليّة الأمّة في المحافظة على قيم المجتمع وآدابه :
جعل الله الحياة بحكمته صراعاً بين الحقّ والباطل ، والخيرِ والشرّ ، وأرسل سبحانه الرسل ليضعوا للناس قواعد الحقّ وموازينه ، ويعرّفوهم الحقّ من الباطل ، والخير من الشرّ ، ويدعوهم إلى ذلك ويبيّنوه لهم ، فما لم تقم في الناس دعوةٌ إلى الخير ، وأمرٌ بالمعروف ، ونهيٌ عن المنكر ، فلا قيام للحقّ في حياة الناس ، ولا سلطان لأهله وأتباعه ..
وقد اصطفى الله تعالى أمّة الإسلام ، وجعلها خير أمّة أخرجت للناس ، وأناط هذه الخيريّة بركيزتين أساسيّتين :
ـ الأولى : الأمرُ بالمعْروف ، والنهي عن المنكر .
ـ والثانية : الإيمان بالله تعالى .
ولا يخفى أنّ النفوس بطبيعتها تحبّ التفلّت من القيود ، وتميل إلى التسيّب وعدم الانضباط ، وتلحّ على صاحبها لمجاراتها في أهوائها ونزواتها ، وفي الحياة أسباب كثيرة للغواية والانحراف ، فلابدّ من قوّة تكبح جماح النفوس وطيشها ، وتقوّم اعوجاجها ، حتّى تقوى على أهوائها ، وتستقيم على الحقّ ، وتعنو لسلطانه ، وتلك القوّة هي الأمر بالمعْروف ، والنهي عن المنكر .. وهي تستمدّ سلطانها من قوّة الحقّ ، التي لا يقوم للحياة الإنسانيّة الفاضلة كيان بدونِه ، ومن ثمّ فقد جاء الثناء الإلهيّ على هذه الأمّة لاتّصافها بهذه الصفة المميّزة لها ، والمحدّدة لطبيعة رسالتها في الحياة ، يقول الله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ .. (110) } آل عمران .
وأوجب الله عليها ذلك وجوباً مؤكّداً ، كيلا يظنّ ظانّ أنّ هذه الصفة تدلّ على فضيلة مرغوبة ، لا فريضة محتومة .. يقول سبحانه : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ، يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104) } آل عمران .
وفي بيان مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعظيم أثره في الحياة ، وخطر تركهِ وإهمَاله ، يقول الإمام الغزاليّ رحمه الله : " .. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظمُ في الدين ، وهو المهمّ الذي ابتعث الله له النبيّين أجمعين ، ولو طوي بساطه ، وأهمل علمه وعمله لتعطّلت النبوّة ، واضمحلّت الديانة ، وعمّت الفترة ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتّسع الخرق ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ، ولم يشعروا بالهلاك إلاّ يوْم التنَاد ، وقد كان الذي خفنا أن يكون ، فإنّا لله ، وإنّا إليه راجعون ، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه ، وانمحق بالكلّيّة حقيقته ورسمه ، فاستولت على القلوب مداهنة الخلق ، وانمحت عنها مراقبة الخالق ، واسترسل الناس في اتّباع الهوى والشهوات استرسال البهائم ، وعزّ على بساطِ الأرض مؤمن صادق ، لا تأخذُه في الله لومة لائم ، فمن سعى في تلافي هذه الفترة ، وسدّ هذه الثلمة ، إمّا متكفّلاً بعملها ، أو متقلّداً لتنفيذها ، مجدّداً لهذه السنّة الدائرة ناهضاً بأعبائها ، ومتشمّراً في إحيائها كان مسْتأثراً من بين الخَلق بإحياء سنّة أفضى الزمان إلى إماتتها ، ومستبدّاً بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها .. " ( ) .
وممّا يدل على خطر التفريط بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ما جاء عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ  أَنَّ رَسُولَ اللهِ  قَالَ :
( مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلاّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ ، يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ ، وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ ، يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ، وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرُونَ ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ) ( ) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ  قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ  يَقُولُ : ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ) ( ) .
وإذا كان المسلمون كالجسد الواحد ، فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ ، كما جاء في الحديث الصحيح ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ  : ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) ( ) ، فإنّ هذا يقتضيهم ألاّ يسكتوا عن منكر أو شرّ يقترف بين ظهرانيهم ، لأنّ ذلك من محبّة المؤمن لأخيه ما يحبّ لنفسه ، وهو كذلك يحبّ للجماعة وللأمّة ما يحبّ لنفسه ، ويكره لها ما يكره لنفسه ..
وإنّ دائرة المعروف والمنكَر تشمل كلّ جوانب الحياة ، على حسب مراتب الأحكام التكليفيّة ، كما يتأكّد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، على حسب حكم الفعل ودرجته في الأحكام التكليفيّة .
وإنّ النظر في مجموع الأدلّة والنصوص الشرعيّة ليؤكّد على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على كلّ مكلّف ، على حسب قدرته واستطَاعته ، ولا عذر لمكلّف أن ينزل إنكاره عَنْ درجة الإنكار بالقلب ومفارقة المجلس الذي فيه المنكر ، وقد نصّ القرآن الكريم صراحة على ذلك ، بقول الله تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا ، وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا ، فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ، إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) } النساء .
ولا يشترط لمفارقة المجلس أن يكون المنكر من درجة الكفر أو الكبائر أو ما يقاربهما ، وإنّما يتأكّد إنكار كلّ شيءٍ على حسب شدّته ، وتطلب مفارقة المجلس كلّما كان
المنكر أخطر ، وأثره أكبر .
ـ ومن الملاحظات المهمّة في هذا الباب : أهمّيّةُ سبقِ الدعوة إلى الخير : الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر ، فبعد أن تأخذ الدعوة إلى الخير مداها تعريفاً بالحقّ ، وتوضيحاً لمعالمه ، وإقامة لأدلّته ، وبياناً لآثاره ، فيقبل من يقبل عليه على بيّنة ، ويعرض من يعرض ، وقد قامت عليه الحجّة تأتي مسئوليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لتكون سياجاً للحقّ فلا تنتهك حرماته ، ولا تستحلّ محارمه ، ولا يتجاوز حدوده المستهترون ، الذين لا يردعهم عن غيّهم إلاّ قوّة الحقّ وسلطانه .
ـ على أنّ مسئوليّة الدعوة إلى الخير لا تقف عندما تبدأ مسئوليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل ينبغي أن تستمرّ وتتطوّر ، بما يتاح لها من الوسائل والأساليب ، وعلى حسب ما يستجدّ في حياة الناس ، من أوضاع ومتغيّرات ، لأنّ في الأمّة دائماً من يحتاج إلى الدعوة : من جيل ناشئ جديد ، أو من لم تبلغه دعوة الحقّ أصلاً ، أو لم تبلغه على الوجه المطلوب ، وبالصورة المؤثّرة ، أو من يحتاج إلى الموعظة والتذكير ..
والدعوة إلى الخير تحمل حقيقة الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر لا صورته ، إذ هي نوع من الأمر أو النهي غير المباشر ، الذي يأخذ جانب الحثّ والترغيب ، والتلطّف وحسن العرض ، وتقديم الأسوة الحسنة في السلوك ، قبل عرض الدعوة باللسان .
فما أحسن أن يمتزج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدعوة إلى الخير ، فيحمل قوّة الحقّ وبرهانه ، مع ما يملك من نصاعة الخير وبيانه .!
وبين أيدينا حديثان شريفان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يكشفان لنا عَنِ البعد الاجتماعيّ الكبير لهذه الفريضة ، وعَن خطرِ الاستهتار بها ، كما يقدّمان الإجابة الحاسمة عن تساؤل بعض الناس واستغرابهم ، لما ينزل في بلاد المسلمين ومجتمعاتهم من فتن ومصائب ، سببها الرئيس هو إهمال هذه الفريضة أو التقصير فيها .
الحديث الأوّل : عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ  عَنِ النَّبِيِّ  قَالَ : ( مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ الله وَالْوَاقِعِ فِيهَا ، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا ، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ ، فَقَالُوا : لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً ، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا ، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً ، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا ) ( ) .
1 ـ ففي هذا الحديث تمثيل دقيق رائع ، لمسئوليّة جميع من في المجتَمع ، تلك المسئوليّة التضامنيّة المشتركة ، التي لا يستطيع التنصّل منها أحد ، تحت أيّ تعليل أو تبرير ، فليس الأمر تطوّعاً متروكاً لأرْيحيّة الإنسان ورغبته ، كما أنّه ليس فضولاً من القائم به أو تدخّلاً فيما لا يعنيه .. إنّه سعي من الإنسان في إنقاذ نفسه أوّلاً ، ونصح للآخرين ثانياً ، ودفاع عَنِ الوجود الاجتماعيّ للأمّة بقيمها وآدابها ، وما تمثّله من أهداف إنسانيّة ومثل عليا ثالثاً ، وليس لأحد أن يستنكر على من يأمر بالأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وهو إنّما يأمر وينهى بدافع من أحد هذه الأمور الثلاثة ..
2 ـ وإنّ فعل المعصية في أيّ مجتمع هو عدوان على المجتمع كلّه ، وخرق معنويّ لسفينته ، وليس سلوكاً فرديّاً خاصّاً ، يتحمّل هو نتائجه وعواقبه ، وإنّما يتحمّل مسئوليّة الإنكار عليه وتقويمه جميعُ أبناء المجتمع ، لأنّ شرّه وآثاره السيّئة تطالهم جميعاً .
3 ـ وإذا تكرّرت المعاصي في المجتمع نوعاً وكمّاً ، وطولاً وعرضاً ، ولا إنكار لها ، ولا وقوف في وجهها ، فقد اتّسع الخرق على الراقع ، وابتدأ العدّ التنازليّ لقوّة الأمّة وشبابها ، وجاءتها نذر الهرم والشيخوخة ، ثمّ الموت والزوال .. فإذا أرادت التدارك فعليها أن تدرك أنّ مهمَّة الإصلاح عسيرة شاقّة ، تحتاج من الناهضين بها إلى حلم وبعد نظر ، وصبر ومصابرة ، وتقديم للأولويّات في الإنكار ، على إنكار ما هو أدنى وأخفّ ، لأنّ ما تراكم خلال عقود أو قرون من السنين لا يمكن أن يمحى خلال أيّام أو شهور ..
4 ـ ومن باب الإشارة في هذه الجملة من الحديث : ( خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً ) أقول : ما أكثر الأفكار الخرقاء ، والآراء الخرقاء ، تلك التي يعلنها أصحابها ، وربّما يتبجّح بعضهم بخرقها ، ويقول : إنّها لا تعني أحداً سواي .. وربّما تُزيّن لأصحابها ، فيعجبون بها ، ويسارعون في نشرها بين الناس ، والدعوة إليها ، وهي فارغة تافهة ، لا خير فيها ولا دليل عليها .. وإنّما معيار ما يكون إصلاحاً ورتقاً ، أو يكون خَرْقاً وفتقاً ما يشهد له كتاب الله تعالى ، وسنّة نبِيّه  أو يأباه .. فليتّق الله كلّ امرئ بلسانه وقلمه ، وليحذر أن تغرّه بهارج الدنيا ، فيأتي يوم القيامة بأوزاره ، وأوزار مع أوزاره ..
5 ـ إنّ اقتراف المنكر لا يُبرّر لأحد من الناس ، مهما كان موقِعه في المجتمع ، ولا عبرة بانتفاء الضرَر الظاهر المباشر آنيّاً عن الآخرين ، فربّما كان الضرر غيرُ الظاهر المباشر أعمَّ وأخطر وأفدح ، ولو كان غير عاجل ، ولا ناجز ، فالإيذاء للأمّة بالمنكر حاصل لاشكَّ فيه ولا ريب ، ولا عبرة بتقدير المقترف للمنكر ، الواقع في مستنقعه ..
ـ ومن الملاحظات المهمّة في هذا الحديث : أنّ ما يدندن حوله كثير من الناس في هذا العصر : من الدعوة إلى قدر أكبر من حرّيّة الفرد السلوكيّة والاجتماعيّة ، ينبغي أن يكون مقيّداً بالبداهة بضوابط الشريعة وحدودها وآدابها .. فلا يقبل في أيّ نظام في الدنيا عاقل ، أن ينفلت الإنسان في المجتمع ، بلا ضوابط ولا حدود ، فيعتدي على عقيدة الأمّة وقيمها ومقدّساتها ، بدعوى ممارسة الحرّيّة الشخصيّة .!
وبعد ؛ فإنّ وقوع المنكر في المجتمع خرق في سفينته ، التي هي سفينة أمنه ونجاته ، واستقراره وسعادته ، وهو نار تشبّ في حيّه وسوقه ، فهل لعاقل أن يقول : " إنّ الحريق في بيت جاري أو في دكّانه ، وهو لا يعنيني .؟! " هل له أن
يقول ذلك ثمّ يجلس ساهياً لاهياً .؟
والحديث الثاني : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ  : ( إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ ، فَيَقُولُ : يَا هَذَا ! اتَّقِ اللهَ ، وَدَعْ مَا تَصْنَعُ ، فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَكَ ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ ، فَلا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ، ثُمَّ قَالَ : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ .. } إِلَى قَوْلِهِ : ( فَاسِقُونَ ) ثُمَّ قَالَ : ( كَلاّ وَاللهِ ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْراً ، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْراً ، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ )( ) .
والآيات في سورة المائدة وتتمّتها : { ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ، لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ، وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) } .
1 ـ إنّ أهمّ ما يقرّره هذا الحديث : أنّ اعتياد المنكر وإلفَه ، وضعف الشعور بخطره وضرره على الفرد والأمّة ، علّة قاتلة ، وظاهرة خطيرة ، تودي بالأمّة إلى تدنٍّ دينيّ وأخلاقيّ لا يقف عند حدّ ، وأخطر آثار هذه الظاهرة أنّ اعتياد المنكر يساهم في تحريف الأحكام والمفاهيم الشرعيّة ، ويوقع الأمّة في اختلالات عجيبة ، وتناقضات مضحكة ؛ إذ تهتمّ ببعض النافلات والفضائل ، وكثيراً ما تكون شكليّة ظاهرة ، فتتمسّك بها ، وتنافح عنها ، وتتحوّل إلى نوع من عاداتها الموروثة ، وهي في الوقت نفسه تجاهر بترك فرائض محكمة ، لا يسع مسلماً تَركُهَا ، ثمّ يتمادى بها الأمر ، فتقرّ ما لا يقرّ ، وتستنكر ما لا يستنكر ، فتأمر بالمنكر وتحسّنه ، وتنهى عن المعروف وتقبّحه ، وهو ما أشارت إليه بعض أحاديث الفتن في آخر الزمن : ( كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكراً ، والمنْكر معروفاً .؟! كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف .؟! ) ، والضمانة الأكيدة التي تحفظ من هذه الظواهر ، ولا ضمانة سواها : هي دوام اليقظة الإيمانيّة ، والوعي الشرعيّ ، وما يمليه ذلك على المؤمن ، من القيام بحقّ الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والتواصي بالحقّ ، والتواصي بالصبر ، بصورة يوميّة دائبة ، من خلال جميع علاقاته الاجتماعيّة وصِلاته .
2 ـ إنّ العلاقات الاجتماعيّة في الإسلامِ يجب أن تحكم بموازين الإسلام وقيمه ، ويجب أن تتوثّق على أساس من أحكام الإسلام وآدابه ، فالعبوديّة لله تعالى ليست في الإسلام محصورة بعبادة فرديّة يؤدّيها المسلم ، ثمّ يكون في علاقاته الاجتماعيّة مائلاً مع الأهواء ، منفلتاً كمَا يشاء ، يهدم بتلك العلاقات ما بنته العقيدة وتعهّدته زمَناً طويلاً ، ويفسد بها جوهر العقيدة وحقيقتها ، ثمّ يظنّ بعد ذلك أنّ ما هو عليه هوَ قصارى ما يطلبه منه الدين أو يدعوه إليه .!
3 ـ وممّا يشير إليه هذا الحديث : أنّ ترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والإصرار على ذلك ، يعدّ مدخلاً كبيراً ، ومنزلقاً خطيراً إلى اختلال الولاء والبراء في حياة الناس ، وذلك بمودّة الكافرين ، والتقرّب إليهم ، والحرْص على مرضاتهم ، ومجاراتهم في فسادهم وأباطيلهم ، وفي مقابلِ ذلك ضعف الولاء لله ورسوله  والمؤمنين ، إذ إنّ الولاء والبراء ككفَّتي ميزان لا ترجح إحداهما إلاّ على حساب خِفّة الأخرى وضعف وزنها ..
4 ـ يشير هذا الحديث إلى أنّ مجرّدَ شعور الإنسان بحقّ المجتمع في الرقابة على سلوكه ، ومحاسبته على أعماله يعدّ بحدّ ذاته ضمانة من ضمانات التقويم للإنسان ، وحمله أدبيّاً على محاسبة نفسه ، ومراجعة سلوكه ، بل والحرص على الالتزام بقيم المجتمع وآدابه ، إن لم يكن رغبة واحتساباً ، فمراعاة لمشاعر الآخرين وقيمهم .
5 ـ وممّا ينبغي أن نؤكّد عليه : أنّ الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ليس سلوكاً متسلّطاً من فرد أو فئة على فئات أخرى في المجتمع ، كما يطيب لبعض الناس أن يروّجوا ويشيعوا ، فليس في الإسلام رجال دين ، ولا من يملك الوصاية عليه ، وإنّما هذه الفريضة مسئوليّة كلّ مسلم في المجتمع على حسب قدرته واستطاعته ، وبشروط ذلك وضوابطه وآدابه ..
6 ـ وإذا كانت الممارسات المخطئة من بعض الناس ، في بعض المجتمعات الإسلاميّة قد أعطت في أذهان كثير من الناس انطباعاً خاطئاً عن هذه الفريضة المحكمة ، فإنّ السلوك الخاطئ ، الذي لا يقرّه المبدأ نفسه ولا يرتضيه ، ما كان للمبدأ في نظر جميع المنصفين ، أن يتحمّل أخطاءه وسلبيّاته ، وأوزاره وتبعاته ، على أنّنا نبدي كثيراً من الشكّ والتحفّظ على كثير من الروايات المذكورة في ذلك ، لما أنّها لا تخلو من مبالغات وتزيّدات ، وهي قيل وقال ، لا خطام لها ولا زمام ، وليست منقولة عن عدول يوثق بهم ، وتحمل عنهم الأقوال ..
7 ـ ثمّ إنّ من أفدح الخطأ : أن يؤخذ مبدأ من مبادئ الإسلام معزولاً عمّا سواه ، فيكون من ذلك التشويه والتحريف ، وسوء الفهم وسوء التطبيق ، إذ إنّ مبادئ الإسلام لا ينفكّ بعضها عن بعض ، ولا يمكن تناول جزء منها بمعزل عن الكلّ ، ومن ثمّ فإنّ الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لا يمكن أن يؤخذ بمعزل عن الأصل الإيمانيّ الذي ينطلق منه ، وطبيعة العلاقة التي تربط المسلم بأخيه المسلم : إنّها الأخوّة الإسلاميّة ، التي تفرض على المسلم أن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ، ويكره لأخيه ما يكره لنفسه ، وعندما يأتي الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر من خلال هذا السياق ، وفي إطار هذه الصورة بأخلاقيّاتها السامية الرفيعة ، فلا يمكن أن يقع بصورة تحدث شيئاً من نفرة القلوب وتجافيها ، أو الخلل في العلاقة واضطرابها ، بل إنّ القيام به بشروطه وآدابه سيزيد من محبّة المسلمين وترابطهم ، وسيعمّق من وحدة مفاهيمهم ومشاعرهم .
8 ـ وإنّ الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر عندما يكون مسئوليّة كلّ فرد في المجتمع على حسب استطاعته وقدرته ، فهذا يعني : أن تكون الأمّة بمجموعها على درجة كبيرة من الوعي بدينها ، والعلم بأحكام الله تعالى ، ممّا يؤهّلها للقيام بهذه المسئوليّة على خير وجه .
9 ـ وفي هذا الحَديث تهديد شديد ، ووعيد مُخيف للأمّة كلّهَا ، إن لم تَحكُم هذه الفريضةُ المحكمة ، مجتمعاتها وعلاقاتها ، أن يضرب الله قلوب الناس بعضهم ببعض ، وأن يلعنهم كما لعن من قبلهم من اليهود والنصارى .. إذ إنّ إقامة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على الوجه الشرعيّ الصحيح لهو من أقوى الأسباب ، التي تحقّق التلاحم الاجتماعيّ بين مختلف فئات الأمّة ، وتزيد من تماسك أبنائها ، وتزيل أسباب التمايز الاجتماعيّ لفئة من الفئات على ما سواها ..
10 ـ وتأصيلاً على ذلك نقول : إنّ كلّ ما يقع بين أبناء الأمّة من تناكر واختلاف ، وقطيعة وتدابر ، وتحزّب وتفرّق : إنّما سببه الأوّل تلك العقوبةُ الإلهيّةُ التي يهدّد بها النبيّ  الأمّة إن فرّطت بهذه الفريضة وأهملتها ، وقد وقع التفريط في مجتمعات المسلمين وللأسف ، وبنسب متفاوتة .
فالمجتمع المفرّط بهذه الفريضة بعيد عن رحمة الله ، مهدّد بعذابه وعقوبته ، فأيّ مقت وشرّ وبلاء ، يطال الأمّة ويحلّ بها يكون أعظم من بعدها عن رحمة الله تعالى ، وبعد رحمة الله عنها .؟!
وأيّ راحة وسكينة ، وأنس وطمأنينة ، تطمع فيها ، وهي ممقُوتة عند ربّها ، لأنّها لا تقيم دين الله فيما بينها ، ولا تغار على حرمات الله ، ولا تنتصِرُ لدين اللهِ .؟!
نسْألُ اللهَ تعالى أن يجعلنا من الآمرين بالمعروف ، الناهين عن المنكر في أنفسنا وأهلينا ومجتمعاتنا ، وأن يرزقنا الحكمة ، ويمدّنا بعونه وتوفيقه ، إنّه سميع مجيب .



* ـ أثر الصدق مع الله في تحقيق الأمانيّ :
إنّ دين الله تعالى كلّه قام على الصدق ، فرسول الله  كان معروفاً في قومه أنّه الصادق الأمين قبل بعثتِه ، ثمّ قدّم الله تعالى ذلك للناس دليلاً بيّناً ، من أوضح الأدلّة على صدقه في نبوّته ورسالته ، فقال سبحانه : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ، وَصَدَّقَ بِهِ ، أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (33) } الزمر .
والعلاقة التي يريدها الإسلام بين المؤمنين ، هي علاقة تقوم على الصدق في كلّ شأن من شئونها ، ونجد مصداق ذلك في حديث صحيح يرويه عَبْدُ اللهِ بْنُ مسعود  عَنِ النَّبِيِّ  أنّه قَالَ : ( إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقاً ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّاباً ) ( ) .
والْبِرُّ والْفُجُورُ من المصطلحات الشرعيّة الجَامعة لخصال الخير أو الشرّ ، وفي هذا الحديث يرسم النبيّ  للإنسَانِ أحَد مسارين في الحياة : فهو إمّا أن يختار طريق الصدق مع نفسه ، ومع ربّه ، وفي علاقاته مع الناس جميعاً ، فيكون بذلك قد اختار سبيل البرّ ، بما يجمع من خصال الخير وخلاله وأبوابه ، وما يقود إليه من جنّة الله ورضوانه .. وإمّا أن يختار طريق الكذبِ مع نفسه ، ومع ربّه ، وفي علاقاته مع الناس ، فيكون بذلك قد اختار سبيل الفجور ، بما يجمع من خصال الشرّ وخلاله وأبوابه ، وما يقود إليه من سخط الله ونيرانه .. ومن خلط بين السبيلين لابُدَّ أنْ يئول إلى أحدِهما بما يغلب عليه من خلال وخصال ، وأمره إلى الخطر أقرب ، إلاّ أن يتوب الله عليه فيتوب ..
يؤيّد ذلك ما جاء في القرآن الكريم في آية البرّ ، إذ ربط الله تعالى بينه وبين الصدق ، فقال سبحانه : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ، وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ، وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (177) } البقرة .
ومن ثمّ فإنّ الصدق قيمة إيمانيّة وأخلاقيّة كبرى ، لها تجلّياتها في عَالم السلوك والعلاقات بما لا يسمح للإنسان أن يخدَعَ عَنْ نفسه ، أو يراوغ فيها ويُداور : { بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه (15) } القيامة .. وهُو أعظم دافعٍ للإنسان ورادعٍ ورافع .. يَدفع الإنسْان لفعل الخير ، ويردعُهُ عَنْ فعل الشرّ ، ويرفعُ وتيرة التغيير في حياتهِ ويُغذّيهَا ، فيعترِف بأخطائه وهفواته عندمَا يخطئ ، ويسعى إلى تداركها ، ولا يرضى لنفسه التبرير والتأويل ، كما يرفعُ همّته ليتعامل مع الله تعالى بشفافيّة وبصيرة في التدقيق عَلى النفس ومحاسبتها ، ممّا يجعَله في رقيّ دائم ، وسموّ لا يقف عند حدّ ..
وفي بيان سعة مفهوم الصدق وفضلِه وقوّة تأثيره ، ومنزلته عند الله تعالى ومثوْبته ، وتعدّد أبعاده ومجالاته وعلاقاته ، يقول الإمام ابن القيّم رحمه الله : " وهو منزل القوم الأعظم ، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين ، والطريق الأقوم ، الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين ، وبه تميّز أهل النفاق من أهل الإيمان ، وسكّان الجنان من أهل النيران ، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلاّ قطعه ، ولا واجه باطلاً إلاّ أرداه وصرعه ، من صال به لم تردّ صولته ، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته ، فهو روح الأعمال ، ومحكّ الأحوال ، والحامل على اقتحام الأهوال ، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال ، وهو أساس بناء الدين ، وعمود فسطاط اليقين ، ودرجته تالية لدرجة النبوّة ، التي هي أرفع درجات العالمين ، ومن مساكنهم في الجنّات : تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصدّيقين ، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متّصل ومَعين " ( ) .
" يقول الله تعالى : { .. فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) } محمّد .
" ويقول سبحانه : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ، وَصَدَّقَ بِهِ ، أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (33) } الزمر . فالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هو النبيّ  ، ومن يكون شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله ، فالصدق في هذه الثلاثة .
" فالصدق في الأقوال استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها ، والصدق في الأعمال استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد ، والصدق في الأحوال استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص ، واستفراغ الوسع ، وبذل الطاقة ، فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق ، وبحسب كمال هذه الأمور فيه ، وقيامها به تكون صدّيقيّته ، ولذلك كان لأبي بكر الصدّيق  ذروة سنام الصدّيقيّة ، سمّي : " الصدّيق " على الإطلاق ، و " الصدّيق " أبلغ من الصدوق ، والصدوق أبلغ من الصادق " ( ) .
وبين أيدينا حادثةٌ في الصدق ، بليْغةُ الدلالة ، عميقةُ المعاني ، تكشف لنا منْ أسرار الصدق سجفاً من عالم الغيب ، يفسّر لنا اختلاف كثير من الأعمال المتشابهة في ظاهرها ، لماذا لا تتشابه آثارها وثمراتها .؟ ويعطينا صورة عن جزاء الأعمال : أنّ معيارَه صدق النيّات والأحوال ..
فإلى هذا الحديث ، وبعض ما يمنحنا من الإرشادات والتوجيهات .
عَنْ شَدَّادِ بْنِ الهَادِ : أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ  فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ، ثُمَّ قَالَ : أُهَاجِرُ مَعَكَ ، فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ  بَعْضَ أَصْحَابِهِ ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ  سَبْيًا ، فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ  ، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ  فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : قَسَمْتُهُ لَكَ ، قَالَ : مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا ـ وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ ـ بِسَهْمٍ ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ ، فَقَالَ : إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ ، فَلَبِثُوا قَلِيلاً ، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ  يُحْمَلُ ، قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ  : أَهُوَ هُوَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ ، ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ  فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ  ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلاتِهِ : ( اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ ، خَرَجَ مُهَاجِراً فِي سَبِيلِكَ ، فَقُتِلَ شَهِيداً ، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ ) ( ) .
* ـ ومن الحقائق المهمّة التي توحي بها هذه الحادثة المؤثّرة :
1 ـ أثر الصدق في إخلاص العمل وابتغاءِ وجه الله : لقد آمَنَ هذا الأعرابيّ بالنَّبِيِّ  وَاتَّبَعَهُ ، وصدق في إيمانه ، فكان إيمانه الصادق خير موجّه له إلى إخلاص العمل لله تعالى وابتغاءِ وجهه ،
2 ـ وللصدق آثاره العميقة ، وبركاته الكبيرة في الخروج عن حظوظ النفس ومطَامع الدنيا ، فعندما قُدّم لهذا الأعرابيّ ، حظّه من الغنائم كانت همّته قد سمت إلى آفاق الآخرة الرحبَة ، وما فيها من الأجر الجزيل ، النعيم المقيم ، فأبى أن يأخذ قسمه ، وأعلن ما انعقدت عليه نيّته وعزمه ، فجاءه الجواب النبوِيّ الكريم ليس تزكية لشخصهِ ، وثناء عليه قبل أن يقدّم البرهان ، وإنّما لفتاً له إلى تحقيق الصدق في أمنيّته ، وتعليماً أنّ صدق العبد لابدّ أن يعقبه عطاء الله وتوفيقه : ( إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ .. ) .
3 ـ ثمّ إنّ قول النبيّ  : ( إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ .. ) وقوله  : ( صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ ) يعدّ تعبيراً عَن سنّة إلهيّة ماضية في أقدار الله تعالى لعباده ، ما أحرى المؤمن أن يتقن فنّ التعامل معها ، ليكون من المفلحين الفائزين في
الدنيا والآخرة ..
4 ـ وللصدق أثره في الثبات أمام فتن الدنيا وزينَتِها ، والزهد فيها ، فحظّ هذا الأعرابيّ من الغنيمة مهما بلغ فهو من فتنة الدنيا وزينَتِها ، فقد زهد في ذلك كلّه لما علم وأيقن من مثوبة الله تعالى وفضله في الآخرة .
5 ـ والصادق مع الله سبحانه ممدود بتوفيق الله تعالى وعنايته الخاصّة ، لبلوغ ما يصبو إليه من الغايات والمقاصد ، ولذا فهو يشهد توفيق الله في جميع حركاته ، ويدرك من آماله بسعيه ما لا يدركه غيره باجتهاده وكدّه ، وقد يكون غيره أكثر ذكاءً ، وأعظم حيلة وجهداً .
وفي مثله يقول الشاعر :
عجبت من سيرك المذلّلِ تمشي رويداً وتجي في الأوّلِ
ويقول الشاعر أيضاً :
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأوّل ما يقضي عليه اجتهاده
5 ـ وللصدق أثره الكبير في تحقيق الإيجابيّة في حياة الإنسان وعلاقته بالآخرين ، فليس الصدق مفهوماً سلبيّاً ، يفرض على الإنسان نوعاً من العزلة ، والانكفاء على الذات ، وإنّما هو دافع داخليّ عميق ، ممدود بروح من الله تعالى ، يحدو صاحبه إلى أن يكون محبّاً للناس كلّ الناسِ ، نفّاعاً لهم ، حريصاً على خيرهم ، ففي الحديث الشريف : ( الخلقُ كلُّهم عِيالُ اللهِ ، فأحبُّ الخلقِ إلى اللهِ مَن أحسَنَ إلى عِيالِه ) ( ) .
نسأل الله تبارك وتعالى ، بأسمائه الحسنى وصفاته ، أن يجعلنا من الصادقين ومع الصادقين ، قولاً وفعلاً ، وحالاً وسلوكاً ، إنّه سميع قريب مجيب ، والحمد لله ربّ العالمين .



الخاتمة :

وبعد ؛ فلقد كان ما سبق غيضاً من فيض ، ونماذج محدودة معدودة ، من الفقه الدعويّ للنصوص ، ولا يخفى على أيّ مسلم يفقه دينه ، أنّ في السنّة النبويّة الكريمة ، والسيرة العطرة ما يشبهها ويقاربها ، وما يفوقها ويزيد عليها ، وما يتناول جوانب غفلتُ عن تناولها ، ولم أنتبه إليها ، وحسبي أنّ هذا النوعَ من الدراسةِ قليلٌ مادّةً وموضوعاً ، وأنّ الحاجةَ إليه متأكّدةٌ ملحّة ، لما نعاني منه في حياتنا الفكريّة والدعويّة من الانفصام بين الفكر والنصوص ، وبين الآراء التي تطرح ويتحمّس لها ، وبين ما يصدّقها ويؤيّدها من فقه الشريعة وأدلّتها ، وإنّ مثلها في عاقبتها ، وما تئول إليه كالفرخ الطائر ولمّا يقوَ جناحاه على الطيران ، فلابدّ أن يقع ، وربّما كانت هذه المحاولة هي التجربةَ الأولى والأخيرَةَ في حياته ، وهي في حالتنا التي نعانيها ، لا يقتصر شرّها وخطرها على الفرد ، وأعظم به من خطر .! ولكنّها تحمل من التأثير في الآخرين ما يوجب الحذر وخوف الضرر ..!
إنّ الأزمة التي تعاني منها أكثر المجتمعات الإسلاميّة ،
هي أزمة التباين الكبير بين فئتين من الناس : فئة تعيش حياة اللاّمبالاة بدينها ونفسها ، ومستقبل حياتها الحقيقيّة ، تعيش لا همّ لها إلاّ التكاثر بالمأكل والمشرب ، والتفاخر باللهو واللعب ، والتفنّن في قضَاء أوقات الفراغ المزعومة في مزيد من اللهو واللعب ، إنّها تعيش حياة أشبه بحياة السائمة بين القطيع التائه في بادية الضياع ، حياة تقوم على الاستهلاك واللهاث خلف المتاع ، ولا تليق بمسلم يعرف غاية وجوده ، وهدف حياته ..
وفئة تعرف هدف حياتها ، وغاية وجودها ، ولكنّها تؤثر السلبيّة والانسحاب من ميادين الحياة الاجتماعيّة الفاعلة ، وتنشد السلامة للنفس من منطلقات شتّى ، وتبريرات مختلفة ، منها التشاؤم من المجتمع ومن فيه ، وتغليب سوء الظنّ بالناس ، وتوزيع أنواع التهم ، وتعميم المواقف الشاذّة ، وتضخيم الصور السلبيّة ، وربّما جنحت تلك السلبيّة إلى تطرّف هدّام ، يحمل فكراً ينبو عن قيم الشرع ، ويلوي أعناق النصوص ، كما يشاء له الهوى ، ولكنّها تتأبّى عليه ولا ترتضيه ..
وبين الفئتين أمّة وسط ، يهدون بالحقّ ، وبه يعدلون ، هي الأحكم في منهجها ، الأقوم في هديها وأعدل ، ولكنّها مغمورة في أمواج كلتا الفئتين ، تجاهد وقد لا يثمر جهادها ، وما تبنيه في سنة ربّما تهدّم عليها بين عشيّة وضحاها ، وما تبذل فيه جهدها وطاقاتها ربّما عبثت به أيدٍ صبيانيّة فبدّدته وخرّبته ، ولمّا يؤت شيئاً من ثمراته ..
وأخيراً ؛ فإنّ الحياة الإسلاميّة التي ننشدها لا يحقّقها الرأي المنشور ، ولا الفكر المنثور ، وإنّما تبنيها السيرة المتضوّعة ، والخلق الحسن .. ولو أردنا أن نُلخّص ما امتلأت به الصفحات السابقة ، لما رأينا أجمع ولا أمتع من كلمة الرحمة .. مبدأ ومنهجاً ، وهي التي اشتقّ منها أعظم أسماء الله تعالى وصفاته ، وهي صفة النبيّ المرسل  : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } الأنبياء . وهي عنوان دينه وشريعته ، وكلّ ما فيها من هدي وأحكام ..
وقد كان من دعائه  : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ ، تَهْدِي بِهَا قَلْبِي ، وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي ، وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثِي ، وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي ، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي ، وَتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي ، وَتُلْهِمُنِي بِهَا رُشْدِي ، وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي ، وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ .
اللَّهُمَّ أَعْطِنِي إِيمَانًا وَيَقِينًا لَيْسَ بَعْدَهُ كُفْرٌ ، وَرَحْمَةً أَنَالُ بِهَا شَرَفَ كَرَامَتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْفَوْزَ فِي الْقَضَاءِ ، وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ ، وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ ، وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاءِ .
اللَّهُمَّ إِنِّي أُنْزِلُ بِكَ حَاجَتِي ، وَإِنْ قَصُرَ رَأْيِي ، وَضَعُفَ عَمَلِي ، افْتَقَرْتُ إِلَى رَحْمَتِكَ ، فَأَسْأَلُكَ يَا قَاضِيَ الأُمُورِ ، وَيَا شَافِيَ الصُّدُورِ ، كَمَا تُجِيرُ بَيْنَ الْبُحُورِ ، أَنْ تُجِيرَنِي مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ، وَمِنْ دَعْوَةِ الثُّبُورِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقُبُورِ .
اللَّهُمَّ مَا قَصُرَ عَنْهُ رَأْيِي ، وَلَمْ تَبْلُغْهُ نِيَّتِي ، وَلَمْ تَبْلُغْهُ مَسْأَلَتِي ، مِنْ خَيْرٍ وَعَدْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ ، أَوْ خَيْرٍ أَنْتَ مُعْطِيهِ أَحَدًا مِنْ عِبَادِكَ ، فَإِنِّي أَرْغَبُ إِلَيْكَ فِيهِ ، وَأَسْأَلُكَهُ بِرَحْمَتِكَ رَبَّ الْعَالَمِينَ .
اللَّهُمَّ ذَا الْحَبْلِ الشَّدِيدِ وَالأَمْرِ الرَّشِيدِ ، أَسْأَلُكَ الأَمْنَ يَوْمَ الْوَعِيدِ ، وَالْجَنَّةَ يَوْمَ الْخُلُودِ ، مَعَ الْمُقَرَّبِينَ الشُّهُودِ ، الرُّكَّعِ السُّجُودِ ، الْمُوفِينَ بِالْعُهُودِ ، إِنَّكَ رَحِيمٌ وَدُودٌ ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ مَا تُرِيدُ .
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هَادِينَ مُهْتَدِينَ ، غَيْرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ ، سِلْماً لأَوْلِيَائِكَ ، وَعَدُوًّا لأَعْدَائِكَ ، نُحِبُّ بِحُبِّكَ مَنْ أَحَبَّكَ ، وَنُعَادِي بِعَدَاوَتِكَ مَنْ خَالَفَكَ .
اللَّهُمَّ هَذَا الدُّعَاءُ وَعَلَيْكَ الإِجَابَةُ ، وَهَذَا الْجُهْدُ وَعَلَيْكَ التُّكْلانُ .
اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي نُوراً فِي قَلْبِي ، وَنُوراً فِي قَبْرِي ، وَنُورًا مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ ، وَنُوراً مِنْ خَلْفِي ، وَنُوراً عَنْ يَمِينِي ، وَنُوراً عَنْ شِمَالِي ، وَنُوراً مِنْ فَوْقِي ، وَنُوراً مِنْ تَحْتِي ، وَنُوراً فِي سَمْعِي ، وَنُوراً فِي بَصَرِي ، وَنُوراً فِي شَعْرِي ، وَنُوراً فِي بَشَرِي ، وَنُوراً فِي لَحْمِي ، وَنُوراً فِي دَمِي ، وَنُوراً فِي عِظَامِي ، اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي نُوراً ، وَأَعْطِنِي نُوراً ، وَاجْعَلْ لِي نُوراً .
سُبْحَانَ الَّذِي تَعَطَّفَ الْعِزَّ وَقَالَ بِهِ ، سُبْحَانَ الَّذِي لَبِسَ الْمَجْدَ وَتَكَرَّمَ بِهِ ، سُبْحَانَ الَّذِي لا يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ إِلاّ لَهُ ، سُبْحَانَ ذِي الْفَضْلِ وَالنِّعَمِ ، سُبْحَانَ ذِي الْمَجْدِ وَالْكَرَمِ ، سُبْحَانَ ذِي الْجَلالِ وَاْلإِكْرَامِ ) ( ) .
رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا.
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، وَتُبْ عَلَيْنَا ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ .

وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ونبيّه ، النبيّ الأمّيّ الطاهر الزكيّ ، سيّدنَا محمّد ، وعلى آله وأصحابه والتابعين ، وعنّا معهم بفضلك يا أرحم الراحمين .

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين




ركائز دعويّة من هديّ النبيّ  في العلاقات الاجتماعيّة
الموضوع الصفحة
* ـ الإهداء : 5
* ـ بيان من الدستور الخالد : 7
* ـ  : 9
* ـ  : 15
أثر الأعمال الصالحة في إصلاح السلوك في الدنيا وتحقيق النجاة في الآخرة
53
صورة سنيّة من مسئوْليّة النبيّ  الاجتماعيّة عن أصحابه وبرّه بهم : حديث زواج ربيعة بن كعب الأسلَمِيِّ 

62
رُسُلُ الإسلامِ الأوّلونَ المهاجرون إلى الحَبَشَةِ ، وحديثُ جَعفَرَ بنِ أَبِي طَالِبٍ  بين يدي النَّجَاشِيِّ
72
حديث عَمرُو بنُ العَاصِ  عند النَّجَاشِيِّ وإسلامه على يدي النجاشيّ
83
قصّة إسلام زيد بن سُعنة الحبر اليهوديّ 89
مِن بَركات سيّدِنا رَسُولِ اللهِ  ومُعجزَاتِه في الدعوةِ والجِهَادِ
101
مَن سَنَّ فِي الإِسلامِ سُنَّة حَسَنَة 108
حكمة النَّبِيِّ  في الدعوة إلى اللهِ ومُعالجَةِ النفُوسِ 116
حكمة النَّبِيِّ  في معاملة المُنافقين 122
تطييب النَّبِيِّ  للقلوب 132
الاستزادة من العلم ، ونشر التعليم 147
التربية على الحرص على العلم والاجتهاد في الدين 154
فضل النيّة الصالحة وخطر النيّة السيّئة 169
أثر أعمال البرّ في نجاة الإنسان من الشدائد 184
التربية على العمل وعزّة النفس 196
مسئوليّة الأمّة في المحافظة على قيم المجتمع وآدابه 205
أثر الصدق مع الله في تحقيق الأمانيّ 222
الخاتمة : 231
المحتويات : 237

* صدر للمؤلّف *
1 ـ ضرب الأمثال في القرآن أهدافه التربويّة وآثاره .
2 ـ وجوب وحدة المسلمين .
3 ـ رسالة المعلّم وآداب العالم والمتعلّم .
4 ـ اعرف نبيّك محمّداً  يا بنيّ .!
5 ـ ومضات من هدي النبيّ الخاتم  .
6 ـ البيّنات في تفسير سورة الحجرات .
7 ـ المنهج القويم للداعية الحكيم .
8 ـ مشاهد الأتقياء في الصبر على الابتلاء .
9 ـ رسالتان في التربية .
10 ـ قصص وعبر من لطائف القدر . المجموعة الأولى .
11 ـ قصص وعبر من عجائب القدر . المجموعة الثانية .
12 ـ حديث القلب .
12 ـ النصائح الذهبيّة لتربية الأولاد ورعايتهم .
13 ـ قبسات من نور النبوّة لصاحبي الفضيلة : الشيخ أحمد عزّ الدين البيانوني ، والشيخ عبد الفتّاح أبو غدّة رحمهما الله تعالى . بعناية د. عبد المجيد البيانوني ، وفي ختامه رسالة : " ومضات من هدي النبيّ الخاتم  " .
14 ـ تذكرة العابد بحقوق المساجد .
15 ـ أساليب تربويّة ومفاهيم دعويّة من حياة الشيخ أحمد عزّ الدين البيانوني .
16ـ ركائز دعويّة من هدي النبيّ  في العلاقات الاجتماعيّة .
17 ـ نجاوى واستغفارات .
18 ـ تفسير سورة " يس " .

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك