ليس.. بين العبارة اللُّغَويّة..والإشارة النبويّة!

ليس.. بين العبارة اللُّغَويّة..والإشارة النبويّة!

 

د محمد عمر دولة

 

قال القشيري رحمه الله: "إنّ (النحو) عبارةٌ عن القصد، والناسُ مختلفون في المقاصد، ومفترقون في المصادر والموارد؛ فواحدٌ تقويمُ لسانِهِ مبلغُ عِلْمِه، وواحدٌ تقويمُ جَنانِه أكثرُ همِّه، فالأوّلُ صاحبُ عبارةٍ، والثاني صاحبُ إشارةٍ!"
وليس بغريبٍ عنكم أنّ ليس من أخوات كان! كما ليس يخفى عنكم: أنّ ليس عند أهلِ اللغة ناسخةٌ كما في قول الشاعر:

وليس بمُغنٍ في المودّةِ شافعٌ
إذا لم يكنْ بين الضُّلُوعِ شفيعُ!

وأنّ ليس في حقيقتها نافيةٌ وهي بتعبير الخليل بن أحمد "كلمةُ جُحودٍ، ومعناه (لا أَيْسَ)؛ فطُرِحَت الهمزة، وأُلْزِقَتْ اللامُ بالياء؛ ودليلُه قولُ العرب: (ائتني به من حيث أيْسَ وليْسَ)، ومعناه من حيث هو ولا هو".
وليس ـ مع ذلك ـ أداةُ استثناءٍ، كما في قولنا: "مَنْ توكّل على الله؛ هداه، ليس من جفاه"!
وليس أعجبَ هاهنا من صنيعِ بعضِ الشعراء؛ حيث جعل ليس اسماً؛ ومن ثَمَّ أعربها قائلاً:

@يا خيرَ من زان سُروجَ الـمَيْسِ!
@قد رُصَّتْ الحاجاتُ عند قيسِ!
@إذْ لا يَزالُ مُولَـعاً بـ(ليسِ)!

وأمّا اختلاف النحويين في ليس: أحرفٌ هي؟ أم فعلٌ؟ فليس يعنينا، كما قال ذلك الأعرابي:

لستُ للنحوِ جئتُكم
لا ولا فيه أرغبُ!
أنا مالـي ولامـريءٍ
أبدَ الدّهرِ يضربُ!
خَـلِّ زيـداً لشـأنِهِ!
أينما شاء يذهبُ!

فليس المقصودُ ـ أصالةً ـ بيانَ كلام النحاة، ولكنّ المرادَ بيانُ كلامِ علماءِ السُّنَّةِ الوُعاة؛ فليس في قواعد السنة النبويّة أوسعُ معنى وأبعدُ مدى من ليس في قواعد اللغة العربيّة! (وليس الخبر كالمعاينة)!
وليس يخفى على اللبيب أنّ القلبَ جوهرُ الإنسان؛ وهو لهذه الحياة بمثابة العنوان! فإذا سلِم سلِم صاحبُه، وإذا فُقِد مات الإنسان؛ وليس هذا بمستغربٍ حتى عند العرب أهل الجاهليّة؛ ذلك أنهم كانوا يُعِيرون البواطنَ الظواهرَ! ويعبّرون عن القلب بالثياب، كما قال عنترة:

فَشَكَكْتُ بالرُّمْـحِ الأَصَمِّ ثِـيابَه
لَـيْسَ الكَريمُ علـى القَنَا بِمُـحَرَّمِ!

"أَي قَلْبَه"،
ومن هنا فإنّ الداء الذي يصيب القلوب أفدح مما يصيب الأبدان وأفظع مما يُدمي الجوارح؛ لأنّ القلوب مستودعُ الأخلاق والمباديء؛ فليس تحريفُ المعاييرِ والمفاهيم، بأخفَّ ضرراً وأقلَّ خطراً على المسلمين من الفتك والاستلاب والقتل؛ (والفتنةُ أشدُّ من القتل)! وفي هذا الباب يتنزّل هديُ النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته حين قالوا: "المفلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع"! فبيّن لهم أنّ الأمر ليس كذلك! قائلاً: ((إنّ المفلس مِن أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة؛ ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا؛ فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيتْ حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه؛ أُخِذ من خطاياهم فطُرحتْ عليه، ثم طُرِح في النار))! فقد علّمهم صلى الله عليه وسلم أنّ الأمرَ ليس بالظواهر؛ ولكنْ بالحقائق والجواهر، فليس الإفلاسُ غيابَ المال، وقلّةَ الحال، وفقدان الوجاهات؛ ولكنه إفلاسُ القلب والجوارح من الحسنات! ولذلك نبّههم صلى الله عليه وسلم في موضعٍ آخر أنّ من غشّ النبي صلى الله عليه وسلم وكذب في ادّعائه مقتطعاً بذلك حقَّ أخيه؛ فإنما يأخذ قطعةً من النار: ((إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختصمون إليَّ؛ فمن قضيتُ له من حقِّ أخيه شيئاً؛ فلا يأخذْ منه شيئاً؛ فإنما أقطع له قطعةً من النار))!
فليس تغييرُ المفاهيم الشرعيّة وتبديلُ المعايير إلاّ تشويهاً للآداب النبويّة؛ ومن هنا تأتي ليس لإيضاح الحقيقة الناصعة بعد احتجابها، وإعادة الأمور إلى نصابها؛ فقد اقتضتْ الحكمةُ النبويّة تخليصَ المعايير الإسلاميّة من الشوائب الزائفة والمقاييس المادّيّة الزائلة؛ وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب واضحة المعاني ورائعةُ المعالم؛ وليس راءٍ كمن سمعا!
إنّ ((ليس الشديد بالصُّرَعَة! إنما الشديد الذي يملك نفسَه عند الغضب)) أصلٌ عظيمٌ في اعتبار القوّة النفسيّة ـ المقدَّمة على مجرَّد الاعتبارات البدنيّة ـ كـالصبر، والعفو والإعراض عن الجاهلين؛ ولذلك أخرجه النووي بحسن نظره رحمه الله في هذين البابين من . فالشديد بالمقياس النبوي هو الذي يغلب عاطفتَه، ويقهر نوازعَه، ويملك نفسَه، ويصرع غضبه، كما جاء صريحاً عند أحمد ((الصُّرَعَةُ كلُّ الصُّرَعة ـ كرّرها ثلاثاً ـ الذي يغضب فيشتدّ غضبُه، ويحمرّ وجهُه؛ فيصرع غضبَه)). وهذا هو الموافق لوصف القرآن للمتقين (الذين يُنفقون في السرّاء والضرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين) وهذا سرّ إخراج الإمام البخاريِّ الحديثَ مقترناً بالآية في .
و((ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض؛ ولكنّ الغنى غنى النفس))! قاعدةٌ عظيمةٌ في الزهد والقناعة؛ وقد ترجم به البخاري في باب . وتوسّط به بين بابين نفيسين: باب ، وباب . فليس كثرةُ المال هو الغنى؛ ولكنّ الغنى كثرةُ القناعة، وعفّة النفس، والاستغناء عن الناس، كما قال تعالى في صفة فقراء المهاجرين (يحسبهم الجاهلُ أغنياءَ من التعفُّف). وقد روى ابن حبّان قول النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذرٍّ أترى كثرة المال هو الغنى؟ قال: نعم. قال: وترى قلّة المالِ هو الفقر؟ قال: نعمْ؛ قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقرُ القلب)!
قال ابن حجر: "غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لأمره؛ علماً بأنّ الذي عند الله خيرٌ وأبقى؛ فهو مُعرضٌ عن الحرص والطلب، وما أحسنَ قولَ القائل:

غنى النفسِ ما يكفيك عن سدِّ حاجةٍ
فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا!

وقال الطيِّبي:" يمكن أن يُراد بغنى النفس: حصول الكمالات العلميّة والعمليّة؛ وإلى ذلك أشار القائل:

ومن يُنفق الساعاتِ في جمعِ مالِهِ
مخافةَ فقرٍ فالذي فعل الفقرُ!"

وتأمَّلْ قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان! ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يُغنيه، ولا يُفطَن به فيُتصدَّق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس))! فقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على المسكين المتعفف الذي يمنعه الحياء من طرق أبواب الأغنياء! ويُشير إلى حقيقة المسكين الذي له حقٌّ في مال الأغنياء؛ قال ابن بطّال: "معناه المسكين الكامل، وليس المراد نفيَ أصلِ المسكنةِ عن الطوّافِ؛ بل هي كقوله: ((أتدرون من المفلس؟)) الحديث، وقوله تعالى: (ليس البر) الآية".
وانظرْ ـ يرحمك الله ـ إلى قولِ النبي صلى الله عليه وسلم:((ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس؛ فينمي خيراً، أو يقول خيرا))! الذي أخرجه البخاري في كتاب باب ؛ فقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى إلغاء النظر في صحّة الكلام هنا اعتباراً للنيّة الصالحة والمصلحة الراجحة، وأهميّة الإصلاح بين الناس، "قال العلماء: "المراد هنا أنّه يُخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشرّ".
وتأمَّلْ روعة ليس المعياريّة في قوله صلى الله عليه وسلم:((ليس الواصل بالمكافيء! ولكن الواصلُ الذي إذا قُطعتْ رَحِمُهُ وصلها))؛ فقد أخرجه البخاريُّ في كتاب باب ! ويوضحه قول عمر عند عبد الرزاق: "ليس الوصلُ أن تصلَ من وصلك؛ ذلك القصاص! إنما الوصلُ أن تصلَ من قطعك"! قال الطيّبي: "ليست حقيقة الواصل ومن يُعتدُّ بصلته: من يُكافيء صاحبه على قدر بمثل فعله؛ ولكنّه من يتفضّل على صاحبه!" ولله درّ العراقي حيث قال: "هو من قبيل ((ليس الشديد بالصرعة)) و((ليس الغنى عن كثرة العرض))". ورحم الله من قال:

إذا مرضنا أتيناكم نعودكمُ
وتُذنبون فنأتيكم ونعتذرُ!

فليس في السنة النبويّة نافيةٌ للمعاني الدخيلة على الإسلام! ناسخةٌ لكلّ محاولات التحريف والتزييف لمعالم هذا الدّين! وهي رافعةٌ لمقاييس الحق الخالد في كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ناصبةٌ للعدل والإحسان بين الناس.
ورحم الله القشيري؛ فقد فطن إلى أنّ كان وأخواتها "لما ضاربتْ الأفعالَ أُجْريتْ مجرى الأفعال الحقيقيّة...فكذلك من تشبّه بقومٍ يُجرَى مجراهم، ويُحكَم له في الظاهر بحُكْمِهم؛ ولكنّه يُنادَى عليه بأنه متشبِّهٌ بهم وليس منهم حقا؛ قال الشاعر في هذا المعنى:

إذا انسكبتْ دموعٌ في خدودٍ
تبيّن من بكى ممّن تباكى!"

ولعلّك أدركتَ الآنَ الفرقَ بين اللغويّة، و النبويّة! بين النحويّة و المعياريّة! أليس كذلك؟
----------
نحو القلوب الصغير للقشيري ص 119-120. الدار العربيّة للكتاب. ليبيا وتونس. 1397هـ. تحقيق د.أحمد علم الجندي.
النحو الوافي لعبّاس حسن 1/560. دار المعارف بمصر. ط5.
قال الفيروزبادي والزبيدي: "ليس كلمة نفيٍ" تاج العروس 4/244.
وذكر ذلك الفيروزبادي في القاموس والزبيدي في تاج العروس على جواهر القاموس 4/244. دار الفكر.
كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي ص 891. دار إحياء التراث العربي. بيروت.
لسان العرب لابن منظور 6/213. والاستغناء في أحكام الاستثناء لشهاب الدين القرافي ص 105. مطبعة الإرشاد. بغداد. ومعجم لغة النحو العربي للدحداح ص 275. مكتبة لبنان ناشرون. ط1. 1413هـ.
الميس نوع من الشجر الجيّد الذي يصلح لصنعة الرّحال. لسان العرب 6/225.
اللسان 6/212.
رواه أحمد.
لسان العرب لابن منظور 4/506.
رواه مسلم.
متفق عليه.
رياض الصالحين للنووي ص 46-652.
أفاده الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري 12/149. دار الفكر. ط1. 1414ه.
آل عمران 134.
فتح الباري 12/148.
فتح الباري 13/45 وما بعدها.
البقرة 273.
المرجع السابق 13/57.
رواه البخاري في الزكاة. فتح الباري 4/104.
فتح الباري 4/108.
المرجع السابق 5/638.
المرجع نفسه 12/32.
نحو القلوب الصغير ص 148. وقد عزاها محقق الكتاب: أحمد علم الجندي إلى الأصول في نحو أرباب القلوب للقشيري باب (كان وأخواتها).

المصدر: http://www.meshkat.net/node/10846

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك