الحضارة الغربية..ضجة عن الحرية وممارسة للهيمنة الثقافية!!

الحضارة الغربية..ضجة عن الحرية وممارسة للهيمنة الثقافية!!

 

.د جعفر شيخ إدريس

 

الحضارة الغربية حضارة يبوء كاهلها بالمتناقضات: تناقض في الأفكار، وتناقض في القيم، وتناقض في المواقف، وتناقض بين الأقوال والأفعال. لكنها رغم ذلك كله هي الحضارة السائدة التي يعُدُّها أهلها ويعدها بقية العالم -إلا من رحم ربك- حضارة العصر، الحضارة التي يجب أن يحذو حذوها كل من يريد مكانة محترمة ومقبولة في هذا العصر، وإلا كان فيه بجسده، وخارجَه بروحه وفكره.
ولعل من أبرز أنواع التناقض بين أقوال هذه الحضارة وأفعالها تناقضَها بين ضجتها الصوتية العالية عن حرية الأفراد والشعوب، وسلوكها كل سبيل لفرض قيمها الخُلُقيّة، وتجربتها السياسية، ونظمها الاقتصادية، بل ومعتقداتها الدينية على سائر شعوب الأرض، ووصم كل من يخالفها، بل كل من يتعارض مع مصالحها، بكونه انتهاكاً للحقوق الإنسانية، أو إضراراً بالمصالح العالمية، أو ممارسة للإرهاب، أو سبباً للتخلف، وما شئت من تهم جائرة، بل –وأحياناً- أقوال آفكة.
المتعصبون من أهل الحضارة الغربية ضد ثقافات الأمم الأخرى –وما كلهم كذلك- مصابون بنوع من المرض الثقافي الذي يجعل على بصر صاحبه غشاوةً تهوِّل له قيم ثقافته، بل وأباطيلها، حتى يراها هي القيم الإنسانية التي يجب على كل الأمم أن تؤمن بها وتطبق مقتضياتها، بل وهي المعيار الذي تقاس به إنسانية الأمم، ويحدَّد على أساسه استحقاقها للمصالحة والمساعدة أو المشاقَّة والإعنات. وقد عبّر عن شيء من هذا مندوب –أو مندوبة- باكستان في جلسة الأمم المتحدة الخاصة بقضية المرأة. قالت لهم المندوبة كلاماً نقلته بعض الصحف الأمريكية فحواه: أن مشكلة المرأة في باكستان أن تشرب ماءاً نقياً، لا أن تتزوج امرأة مثلها، ولا أن تكون لها حرية الاتصال بمن شاءت من الرجال.
هذا موضوع كبير نُشرت فيه أوراق وألفت فيه كتب منها كتاب مشهور للأستاذ إدوارد سعيد اسمه: (الاستعمار الثقافي)، لكن حديثنا اليوم عن آخر مظهرين شاهدهما الكاتب لهذه الهيمنة. أولهما: الاجتماع الخاص بالنساء الذي عقد بالأمم المتحدة والذي تحدثت عنه في مقال سابق. وثانيهما: كتاب لرائدة من رواد الحركة الأنثوية feminism.
من مظاهر الهيمنة الثقافية في اجتماع الأمم المتحدة أن المنظمات غير الحكومية التي شاركت فيه كان أعلاها صوتاً – وربما أكثرها عدداً – المنظمات الآتية من البلاد الغربية. وحتى التي أتت من البلاد غير الغربية كان كثير منها – إن لم يكن معظمها – من الجماعات الدائرة في فلك المنظمات الغربية، بل ربما كان بعضها مجرد صدى لها. وكان منها – مثلاً – منظمة من بلد من أكثر البلاد الأفريقية فقراً وجوعاً، لكن مستوى أدائه في الدعاية للقيم الغربية كن مضاهياً لأغنى المنظمات الغربية.
ومن مظاهرها: أن اللغة المسيطرة على الاجتماع كله كانت اللّغة الإنجليزية؛ فالذي لا يعرفها لا يستطيع أن يشارك مشاركة فعّالة.
ومن مظاهرها: أن كُبريات المتحدِّثات كنَّ من الشخصيات الأمريكية المرموقة؛ فقد تحدثت في اجتماع المنظمات غير الحكومية سيدة أمريكية أولى، وخاطبت الجمعية العمومية وزيرة خارجيتها، وكان معظم المتحدثين والمتحدثات غير الغربيين من أبواق الغرب، حتى أن عدد المتحدثين والمتحدثات من بلد أفريقي غير الذي ذكرته آنفاً لم يكن متناسباً قط مع أهميته ولا مع حجمه.
والقضايا التي أثيرت ونالت اهتماماً كبيراً كانت هي القضايا التي يهتم بها الغرب؛ أما لأنها من القضايا التي تشغل بال الناس فيه، أو لأنها مما يعترض عليه الغرب في ثقافات الآخرين. ومن ذلك ختان البنات، التي حوّلها الكُتَّاب والساسة الغربيون وأتباعهم من المستغربين إلى قضية كبرى تكاد تكون من أهم معاييرهم للولاء والبراء.
وهذا يقودنا إلى كتاب الرائدة الأنثوية الذي أسمته: المرأة الكاملة، أو المرأة بأكملها The Whole Woman تعرضت المؤلفة فيه لقضية الختان هذه، فذكرت أنها كانت وما زالت معترضة على ختان النساء، لكنها بعد أن سافرت واتصلت بالثقافات الأخرى، تبين لها أن اهتمام الغرب به هو تعبير عن احتقاره للثقافات غير الغربية. واستدلت على ذلك بأدلة لا تخلو من طرافة:
منها أنه لا فرق بين ختان الرجال وختان النساء؛ لكننا لا نعترض على الأول ولا نثير حوله زوبعة؛ لأنه يمارس في الغرب.
ومنها: أن النساء في الغرب يجرين عمليات جراحية تجميلية هي أشد غرابة من الختان. من ذلك العمليات التي تجريها بعض النساء لتصغير أثدائهن. قالت: إنها عندما ذكرت هذا لبعض النساء السودانيات كان استغرابهنّ له كاستغرابنا للختان، وأنها تعلمت منهنّ أن الختان أنواع، وأن منه ما لا ضرر فيه، وأنه لا يؤثر على الاستمتاع الجنسي؛ وأنه ليس أمراً يفرضه الرجال على النساء كما نظن في الغرب.
ومنها: أن بعض الناس في الغرب يغرقون ألسنتهم ليدخلوا فيها نوعاً من الحلق كالذي يدخل في الآذان. بل منهم من يفعل ذلك لعضو الرجل!
لنفترض أن الحديث عن أسوأ أنواع الختان، وهو مضر ما في ذلك شك؛ لكن أهو أضرُّ من هذا الذي ذكرته الكاتبة؟ أهو أضرُّ من شرب الخمر الذي يموت بسببه المئات بل الآلاف في الغرب في ليلة واحدة هي ليلة عيد الميلاد؟ أهو أضرُّ من حمل السلاح الذي يرخص به القانون الأمريكي، والذي يُقتل بسببه عدد من الأبرياء – وأحياناً الأطفال – في كل يوم وليلة؟ أهو أضرُّ من الجمع بين السُّكْر وحمل هذا السلاح؟ أهو أضرُّ من السفور، وما ينتج عنه من أنواع الاغتصاب؟ أهو أضرُّ من الزنا واللواط الذي تُحلّه القوانين الغربية والذي كان سبباً في مرض الإيدز وأمراض أخرى جسدية ونفسية؟ أهو أضرُّ من التدخين الذي صار من أسباب الموت الأولى في البلاد الغربية، والذي لا مسوِّغ لإباحته إلا استفادة بعض الشركات منه، كاستفادة شركات أخرى من إباحة حمل السلاح؟
كلا والله! ولكن كما قال ربنا: ((فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلب التي في الصدور)) .
إن قوة الغرب المادية صارت فتنة تعمي الناس – ومنهم المنتسبون إلى الإسلام – عن رؤية عيوبه وشروره. كما أن ضعف المسلمين صار فتنة تصد الناس عن رؤية ما عندهم من خير وعن قبوله.
((ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنّك أنت العزيز الحكيم)) .

المصدر: http://www.meshkat.net/node/10955

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك