من معالم التجديد والإصلاح عند الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله

من معالم التجديد والإصلاح

عند الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله

 

أ. عبد العزيز مصطفى الشامي*

 

الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ينيرون البصائر، ويفتحون المغلق من العقول والفهوم، يرشدون الضال، ويعلمون الجاهل، فهم على الحقيقة الهداة إلى الله وشرعه، المفسرون لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والعاملون على نفع الخلق ونصيحتهم وإرشادهم في الدنيا والآخرة، من أجل ذلك كانت لهم المكانة العلية والمنزلة الرفيعة. أما بعد..

 

الأمة في حاجة ماسة للقدوة الطيبة والمثل الأعلى:

مما لا شك فيها أن الحديث عن المثل الأعلى والقدوة الطيبة لهو شيء ضروري في هذه الأيام؛ لينشأ الصغار الكبار على سِيَر العلماء وأهل الفضل والخير من هذه الأمة، ممن جمعوا بين العمل الصالح وحب الخير ونفع الخلق، وحتى يتطلع الجميع إلى مثل عليا حقيقية أثَّرت في حياة الناس، وغيَّرت الاهتمامات والطموحات، فكثير من الشباب لا قدوة له إلا لاعبًا مشهورًا أو ممثلاً مغمورًا، أو حضارة غربية مفلسة مظلمة، فهؤلاء في حاجة ضرورية إلى أن يروا نماذج مشرقة ورجالاً نبلاء وفضلاء وما أكثرهم في تاريخ المسلمين، بدلاً من تعلق القلوب بأقدام لاعبين أو لهو اللاهين، وتفريط المفرطين.
إن إنارة الطريق للشباب الغريق، وبث الأمل في القلوب والنفوس؛ لمن الأعمال الموفقة التي تعود على الأمة بالنفع والخير، فيتخلص أبناؤها من الهزيمة النفسية، ويعتزوا بإيمانهم ودينهم العظيم، وتاريخهم المشرق، ورجالهم النبلاء وقادتهم العظماء، ويعرفون أن تاريخ أمة الإسلام به كنوز عظيمة فيها القدوة والأسوة الحسنة لمن قرأ وتدبر يا أمة (اقرأ)!!!
وفي هذه الوقفة الموجزة نتعرض لبعض الدروس والعبر من سيرة مجدد من المجددين بل هو أولهم بعد انقضاء الخلافة الراشدة، ألا وهو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وليس المقصود في هذه الوقفة سردًا تاريخيًَّا، وإنما المطلوب الوقوف على معالم التجديد في حياته المباركة، وأهم الدروس التي ينبغي لنا أن نتعلمها ونتدارسها من صفحات تاريخنا المشرق النبيل.

 

عمر بن عبد العزيز.. سيرة ومسيرة:

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، أمير المؤمنين، الخليفة الراشد أشج بني أمية، كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين، وكان حسن الأخلاق والخَلْق، كامل العقل، حسن السمت، جيد السياسة، حريصًا على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاهًا مُنيبًا قانتًا لله حنيفًا، زاهدًا مع الخلافة، ناطقًا بالحق مع قِلَّة المعين.

 

أسباب صلاح الأولاد واستقامتهم:

مما لا شك فيه أن الشجرة الطيبة ذات الجذور الراسخة التي تُسقى بماء صافٍ لا تُنبت إلا خيرًا، وكان عمر بن عبد العزيز غرسًا طيبًا لأسرة كريمة طاهرة، فوالده هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، من خيار أمراء بني أمية، شجاعًا كريمًا، بقي أميرًا لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لما أراد الزواج قال لخازنه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي؛ فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهي حفيدة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
إن زواجه من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحسن سيرته وخلقه، فقد كان حسن السيرة في شبابه، فضلاً عن التزامه وحرصه عل تحصيل العلم واهتمامه بالحديث النبوي الشريف، فقد جلس إلى أبي هريرة وغيره من الصحابة وسمع منهم، وقد واصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مُرَّة في الشام أن يبعث إليه ما يسمعه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من طريق أبي هريرة فإنه عنده..
وأما أمه فهي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووالدها عاصم بن عمر بن الخطاب، كان من نبلاء الرجال خيرًا صالحًا بليغًا شاعرًا فصيحًا، وهو جد الخليفة عمر بن عبد العزيز لأمه مات سنة 70هـ.
من هذا لا بد أن ننتبه إلى أن صلاح الأولاد والذرية مسئولية وأمانة، وأن لهذا الصلاح بعد توفيق الله تبارك وتعالى سببين ظاهرين: أولهما الحرص على الحلال الطيب في المطعم والمنكح، وثانيهما البحث عن الأسر الصالحة الطيبة عند الزواج، ليخرج الله لنا أبناء بررة غُذُّوا بالحلال، ونشأوا عليه وعلى تعظيم الشرع الحنيف، وهذا النبت هو أساس الشجر الوارف الظلال الذي ينتج للأمة ثمارًا نافعة، وأطفال اليوم هم قادة الغد. فيا ليتنا ننتبه إلى بداية الطريق الصحيح حتى لا نضل ولا ننسى، وهذا أول درس من حياة الخليفة الراشد.

 

النشأة الطيبة:

وُلد عمر بن عبد العزيز عام 61هـ، وهو قول أكثر المؤرخين بالمدينة، ونشأ بها وتخلق بأخلاق أهلها وتأثر بعلمائها، وأكبَّ على أخذ العلم من شيوخها، وكان يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابها، وما زال ذلك دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدَّمه على كثير منهم، وزَوَّجَه ابنته فاطمة بنت عبد الملك، وهي امرأة صالحة تأثرت كثيرًا بعمر بن عبد العزيز، وآثَرَت ما عند الله على متاع الدنيا.
إن البيئة الاجتماعية المحيطة لها دور فعال ومهم في صناعة الرجال وبناء شخصيتهم، فعمر بن عبد العزيز عاش في زمن ساد فيه مجتمع التقوى والصلاح والإقبال على طلب العلم، والعمل بالكتاب والسنة فقد كان عدد من الصحابة ما زالوا بالمدينة، فقد حدَّث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحًا شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم وأمّ أنس بن مالك، فقال: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، فكان للإقامة بالمدينة آثار نفسية، ومعان إيمانية وتعلق روحي، وكان لذلك المجتمع أثره في صياغة شخصية عمر بن عبد العزيز العلمية والتربوية.
تربى وتعلم عمر بن عبد العزيز على أيدي كثير من العلماء والفقهاء، وقد بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين، ثمانية منهم من الصحابة، وخمسة وعشرون من التابعين؛ فقد نهل من علمهم، وتأدب بأدبهم، ولازم مجالسهم حتى ظهرت آثار هذه التربية في أخلاقه وتصرفاته، فامتاز بصلابة الشخصية، والجدية والحزم في معالجة الأمور، وإمعان الفكر وإدامة النظر في القرآن، والإرادة القوية والترفع عن الهزل والمزاح.
كان من فضل الله على عمر بن عبد العزيز أن أحاطه بصحبة طيبة دائمًا تذكره بالله عند الغفلة، فيُروَى: أن عمر بن عبد العزيز حبس رجلاً فجاوز في حبسه القدر الذي يجب عليه، فكلمه مزاحم في إطلاقه، فقال عمر: ما أنا بمخرجه حتى أبلغ في الحيطة عليه بما هو أكثر مما مَرَّ عليه، فقال مزاحم: يا عمر بن عبد العزيز إني أحذرك ليلة تمخض بالقيامة، في صبيحتها تقوم الساعة، يا عمر! ولقد كدت أنسى اسمك مما أسمع: قال الأمير، قال الأمير؛ فقال عمر: فواللهِ ما هو إلا أن قال ذلك، فكأنما كشف عن وجهي غطاء..

 

نصوص العلماء في كون عمر بن عبد العزيز مجددًا:

إن المتتبع لأقوال العلماء والمؤرخين والمهتمين بدراسة الحركة التجديدية يرى إجماعًا تامًّا على عدِّ الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز المجدد الأول في الإسلام (1 )، وكان أول مَن أطلق عليه ذلك الإمام محمد بن شهاب الزهري، ثم تبعه على ذلك الإمام أحمد بن حنبل، فقال: يُروى في الحديث أنَّ الله يبعث على رأس كل مائة عام مَن يُصحح لهذه الأمة أمر دينها، فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز( 2).
قال الشيخ محمد رشيد رضا –رحمه الله-: ولما كان من طباع البشر أن يضعف تأثير الوحي في قلوبهم بطول الأمد على عهد النبوة ، فيفسقوا عن أمر ربهم ، ويتأولوا كتبه بأهوائهم ، أنعم عليهم بما يحيي هداية النبوة فيهم ، بأن يبعث فيهم بعد عصر النبوة مجددين ، وأئمة مصلحين ، يرثون الأنبياء بالدعوة إلى إصلاح ما أفسد الظالمون في الأرض ، ويكونون حجج الله على الخلق ، وقد بشرنا نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المصلحين ، بأن الله تعالى يبعث في هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ؛ ليكونوا خلفاءه فيما جدده من دين الله تعالى للأمم كلها { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ( النساء : 165 ) إذا طال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وفسقوا عن أمر ربهم .
إنما كان المجددون يبعثون بحسب الحاجة إلى التجديد لما أبلى الناس من لباس الدين ، وهدموا من بنيان العدل بين الناس ، فكان الإمام عمر بن عبد العزيز مجددا في القرن الثاني لما أبلى قومه بنو أمية وأخلقوا ، وما مزقوا بالشقاق وفرقوا ، وكان الإمام أحمد بن حنبل مجددا في القرن الثالث لما أخلق بعض بني العباس من لباس السنة ، ورشاد سلف الأمة ، باتباع ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وتحكيم الآراء النظرية في صفات الله وما ورد في عالم الغيب ، بالقياس على ما يتعارض في عالم الشهادة ، وكان الشيخ أبو الحسن الأشعري مجددا في القرن الرابع بهذا المعنى ، وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي مجددا في أواخر القرن الخامس وأول السادس لما شبرقت نزغات الفلاسفة وزندقة الباطنية ، والإمام أبو محمد علي بن حزم الظاهري في القرن السادس لما سحقت الآراء من فقه النصوص الشرعية ، وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم مجددين في آخر القرن السابع وأول الثامن لجميع ما مزقت البدع الفلسفية والكلامية والتصوفية والإلحادية ، من حلل الكتاب والسنة السنية ، في جميع العلوم والأعمال الدينية ، وحسبنا هؤلاء الأمثال في التجديد الديني العام .
وظهر مجددون آخرون في كل قرن ، كان تجديدهم خاصا انحصر في قطر أو شعب ، أو موضع كبير أو صغير ، كأبي إسحاق الشاطبي صاحب الموافقات والاعتصام في الأندلس ، و ولي الله الدهلوي والسيد محمد صديق خان في الهند ، والمولى محمد بن بير علي البركوي في الترك ، والشيخ محمد عبد الوهاب في نجد ، والمقبلي والشوكاني وابن الوزير في اليمن .
وهنالك مجددون آخرون للجهاد الحربي بالدفاع عن الإسلام ، أو تجديد ملكه وفتح البلاد له ، وإقامة أركان العمران فيه ، وهم كثيرون في الشرق والغرب والوسط ، ورجاله معروفون ، كبعض خلفاء العباسيين والأمويين ، ومنهم من جمع
بين أنواع من التجديد كالسلطان صلاح الدين الأيوبي الذي كسر جيوش الصليبيين من شعوب الإفرنج المتحدة ، وأجلاهم عن البلاد الإسلامية المقدسة وغيرها ، وأزال دولة ملاحدة العبيديين الباطنية من البلاد المصرية ، وكذلك فتح الترك لكثير من ممالك أوربة ، عرف فيها مجد الإسلام . (3 )
ونص على الحافظ السيوطي في أرجوزته المسماة تحفة المهتدين بأخبار المجددين على أن عمر من كبار المجددين وأولهم بعد عصر الخلافة الراشدة ، فقال:
 

مـنا عليها عالـما يجـدد    دين الهدى لأنه مجدد
فكان عند المائة الأولى عمر      خليفة العدل بإجماع وقر
والشافعي كان عـنـد الثانية      لما له من العلوم السارية

وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بعد سياق الخلاف في المجدّد : وهل هو فرد أم جماعة ؟ - : (ولكنّ الذي يتعين فيمن تأخر المحملُ على أكثر من الواحد ؛ لأن في الحديث إشارة إلى أن المجدّد المذكور يكون تجديده عاماً في جميع أهل ذلك العصر ، وهذا ممكنٌ في حقّ عمر بن عبد العزيز جداً ، ثم في حق الشافعي . أما من جاء بعد ذلك ، فلا يعدم من يشاركه في ذلك) [4 ] .
وقال أيضًا : (لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحدٌ فقط ؛ بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة ، وهو متجهٌ ؛ فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوعٍ من أنواع الخير ، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد ، إلا أن يدَّعي ذلك في عمر بن عبد العزيز فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير ، وتقدمه فيها ؛ ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه . وأما من جاء بعده ؛ فالشافعي - وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة - إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد ، والحكم بالعدل . فلعل هذا كل من كان متصفاً بشيءٍ من ذلك عند رأس المائة هو المراد ؛ سواء تعدَّد أم لا) [5 ] .

انطباق شروط المجدد وصفاته على عمر بن عبد العزيز:
نستطيع أن نحدد أهم شروط المجدد والصفات التي ينبغي أن تتوافر فيه حتى يعد من المجددين من خلال سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
أ- تميز بصفاء العقيدة وسلامة المنهج:
وذلك لأن من أخصِّ مهمات التجديد إعادة الإسلام صافيًا نقيًّا من كلِّ العناصر الدخيلة، وهذا لا يحصل إلا إذا كان المجدد من السائرين على منهج الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، ومن الطائفة الناجية المنصورة التي جاء وصفها بأنها فرقة من ثلاث وسبعين فرقة وأنها تلزم ما كان عليه الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في عقيدته، ومنهجه وتصوراته.

ب- كان عالمًا مجتهدًا:
وهذا الشرط تحقق في عمر بن عبد العزيز فقد واجه المشكلات التي تولدت في عصره واجتهد في وضع الحلول الشرعية لها، والمجدد يُشترط فيه أن يكون محيطًا بمدارك الشرع، قادرًا على الفهم والاستنباط مطَّلعًا على أحوالِ عصره، فقيهًا بواقعه، يقول المناوي: إن على المجدد أن يكون: قائمًا بالحجة، ناصرًا للسنة، له ملكة رد المتشبهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والنظريات، من نصوص الفرقان وإرشاداته ودلالاته واقتضاءاته من قلب حاضر وفؤاد يقظان. (6 )
ويقول المودودي: من الخصائص التي لا بد أن يتصف بها المجدد هي: الذهن الصافي، والبصر النفاذ، والفكر المستقيم بلا عوج والقدرة النادرة على تبيين سبيل القصد بين الإفراط والتفريط، ومراعاة الاعتدال بينهما، والقوة على التفكير المجرد عن تأثير الأوضاع الراهنة، والعصبيات الراسخة على طول القرون، والشجاعة والجرأة على مزاحمة سير الزمان المنحرف. (7 )

ج- شمل تجديده ميداني الفكر والسلوك في المجتمع:
وذلك لأن تصحيح الانحراف من أخص المهمات التي ينبغي أن يقوم بها المجدد، ومعلوم أن الانحراف يطرأ على السلوك كما يطرأ على الفكر، بل إن غالب الانحرافات السلوكية منشؤها الخرافات فكرية، فيقوم المجدد بتصويب الأفهام والأفكار، وتخليصها مما داخلها من شكوك وشبهات، ويحيي العلم النافع، والفهم الصحيح للإسلام، ويبثه بين الناس، وينشره بالتدريس، وتأليف الكتب، وغير ذلك من الوسائل المتاحة، ثم يعمد إلى إصلاح سلوك الناس وتقويم أخلاقهم، وتزكية نفوسهم، وإبطال التقاليد المخالفة للشريعة، وإعلان الحرب على البدع والخرافات، والمنكرات المتفشية في حياة الناس، ومواجهة الفساد بمختلف أشكاله وصوره، وخاصةً الفاسد في الحكم والإمارة، بهذا يكون المجدد قد جمع بين القول والفعل، والعلم والعمل، قد أثار السلف إلى هذا الشرط بقولهم عن المجدد إنه ينصر السنة ويقمع البدعة (8 ).

د- عمَّ نفعه أهل زمانه:
وذلك لأن المجدِّد رجل مرحلة زمنية، تمتد قرنًا من الزمن، فلا بد إذن من أن يكون منارة يستضيء بها الناس ويسترشدون بهداها، حتى مبعث المجدد الجديد على الأقل، وهذا يقتضي أن يعم علم المجدد ونفعه أهل عصره، وأن تترك جهوده الإصلاحية أثرًا بينًا في فكر الناس وسلوكهم، وغالبًا ما يتم تحقيق ذلك عبر من يربيهم من تلامذة، وأصحاب أوفياء، يقومون بمواصلة مسيرته الإصلاحية وينشرون كتبه وأفكاره ويؤسسون مدارس فكرية تترسم خطاه في الإصلاح والتجديد. (9 )

 

معالم التجديد عند عمر بن عبد العزيز: 

لا شك أنَّ عمر بن عبد العزيز خليق بأن يكون من المجددين، فقد كان عالمًا عاملاً، همه كله، وعزمه، وهمته، آناء الليل والنهار إحياء السنن وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان، والسنن.
استحق عمر بن عبد العزيز لقب المجدد الكامل؛ لما قام به من الأعمال التجديدية التي قام بها، والجهود الكبيرة التي بذلها لاستئناف الحياة الإسلامية، وإعادتها إلى نقائها وصفائها زمن الرسول- صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين تجعله على رأس المجددين الذين جاد بهم الزمان حتى يومنا هذا، وقد ساعده على ذلك موقعه الذي تبوأه على رأس خلافة قوية، منيعة الجانب، مترامية الأطراف.
ولكي ندرك حجم الأعمال التجديدية التي اضطلع بها هذا الخليفة، وقدر الإصلاح الذي أحدثه، ينبغي أن نقف على حجم الانحرافات التي طرأت على الحياة الإسلامية والتغيّر والانقلاب الذي حدث للخلافة الإسلامية، ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا حصرنا الانحراف في ذلك الوقت بنظام الحكم، وما نتج عن ذلك مظالم وفساد، وأما الحياة العامة فكانت أنوار النبوة لا زالت ذات أثر بالغ فيها، وكان الدين صاحب السلطان الأول في قلوب الناس (10 ).

1- محاولة عمر بن عبد العزيز إصلاح بعض الأمور في الدولة الأموية:
لقد حاول عمر بن عبد العزيز في عهد الوليد بن عبد الملك إصلاح بعض الأمور في الدولة الإسلامية، فمن ذلك نصحه للوليد بالحد من صلاحيات عُمَّاله في القتل، وقد نجح في بادئ الأمر في استصدار قرار يمنع أي والٍ من القتل إلا بعد علم الخليفة، وموافقته على ذلك.
في عهد سليمان بن عبد الملك تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير، فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد تولي سليمان الخلافة قرَّب عمر بن عبد العزيز، وأفسح له المجال واسعًا؛ حيث قال: يا أبا حفص إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمُرْ به، وجعله وزيرًا ومستشارًا ملازمًا له في إقامته أو سفره، وكان سليمان يرى أنه محتاج له في كل صغيرة وكبيرة، فكان يقول: ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل فما أجد أحدًا يفقه عني، وفي موضع آخر قال: يا أبا حفص ما اغتممتُ بأمر، ولا كربني أمر إلا خطرت فيه على بالي.
لقد كان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة من أهمها: عزل ولاة الحجاج، وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة خالد القسري، ووالي المدينة عثمان بن حيان، ومنها الأمر بإقامة الصلاة في وقتها، فأورد ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان كتب إلى الناس ـ عن رأي عمر بن عبد العزيز- : إن الصلاة كانت قد أُمِيتت فأحيوها، وهناك أمور أخرى أجملها الذهبي بقوله: مع أمور أخرى جليلة يسمع من عمر فيها..
كما كان لعمر بن عبد العزيز وقفته في السياسة الداخلية، ليعيد ما اعوج من الأمور إلى نصابه، ويحاول إصلاح ما رآه انحرافًا عن الجادة سواء في الناحية الإدارية أو المالية أو غيرها.

2- من إصلاحات عمر وأعماله التجديدية بعد استخلافه:
أ- الشورى:
في أول لقاء جمع بين عمر بن عبد العزيز والناس قام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم؛ فصاح الناس صيحةً واحدةً: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك: فَلِ أمرنا باليُمن والبركة ( 11) .
وبهذا يكون عمر قد قام بأول عملٍ تجديدي، حيث أعفى الناس من الملكِ العضوض، ولم يجبرهم على القبول بمن لم يختاروه، بل رد الأمر إليهم وجعله شورى بينهم. (12 ).

ب- الأمانة في الحكم وتوكيل الأمناء:
فقد تواترت النقول المفيدة أنه بلغ من حرصه على ذلك أقصى المراتب فقد استشعر عظم المسئولية وضخامة الحمل منذ اللحظة الأولى لاستلامه الخلافة، فقال لمَن سأله: مالي أراك مغتمًا؟ قال: لمثل ما أنا فيه فليُغتم، ليس أحد من الأمة إلا وأنا أريد أن أوصل إليه حقه غير كاتب إليَّ فيه، ولا طالبه مني. وقال: لستُ بخيرٍ من أحد منكم، ولكن أثقلكم حملاً. ( 13)
وكان يطالب عمَّاله باختيار أصحاب الكفاءة والدين فيمن يولونه شأنًا من شئون المسلمين، فقد كتب إلى أحد عمَّاله: لا تولين شيئًا من أمرِ المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم، والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيها استرعى (14 ).
ولم تكن سياسته في التورعِ عن أموال المسلمين سياسة طبقها على خاصةِ نفسه فقط بل أزم بها عمَّاله وولاته، فقد كتب إلى عامله أبي بكر بن حزم: أن أدق قلمك، وقارب بين أسطرك، فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به (15 ).
وقد ساس رعيته سياسةً رحيمة، وأمَّن لهم عيشًا رغيدًا وكفاهم مذلة السؤال، فقسم فضول العطاء في أهل الحاجات.
وقسَّم في فقراء أهل البصرة ثلاثة دراهم لكل إنسان، وأعطى الزمني خمسين خمسين، وطلب من عُمَّاله أن يجهزوا من أراد أداء فريضة الحج، وكتب إلى عماله: أن اعملوا خانات في بلادكم فمن مرَّ بكم من المسلمين، فاقروهم يومًا وليلةً وتعهدوا دوابهم فمن كانت به علّة فاقروهم يومين وليلتين، فإن كان منقطعًا به فقوُّوه بما يصل به إلى بلده (16 ).
وقد عزَّ في زمن عمر وجود مَن يقبل الزكاة يقول عمر بن أسيد: والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون، فما يبرح يرجع بماله كله قد أغنى عمر الناس ( 17).
وكانت حرمة المسلمين فوق كل الأموال فقد كتب إلى عماله: أن فادوا بأسارى المسلمين، وإن أحاط ذلك بجميع مالهم (18 ).
ولا تزال خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية، على كل أولئك الذين يشككون في إمكانيةِ إقامة نظامٍ اقتصادي إسلامي وبرهانًا ساطعًا على أنَّ الاحتكامَ للشريعة الربانية هو وحده الذي يكفل للناس السعادة في الدنيا والآخرة.

ج- مبدأ العدل:
فقد كان فيه لعمر القدح المعلاّة، وكان بحق وارثًا فيه لجدِّه لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد ضرب فيه على النقود عبارة: أمر الله بالوفاء والعدل (19 ).
وطلب أن لا يُقام على أحدٍ حدٌّ إلا بعد علمه (20 ).
وكتب لعامله الجراح بن عبد الله الحكمي أمير خراسان: يا ابن أم جراح: لا تضربن مؤمنًا ولا معاهدًا سوطًا إلا في حق، واحذر القصاص، فإنك صائر إلى مَن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقرأ كتابًا لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ( 21).
وأنصف أهل الذمة وأمر أن لا يُعتدى عليهم أو على معابدهم وكتب إلى عماله: لا تهدموا كنيسةً ولا بيعة، ولا بيت نار صُولحتم عليه ( 22).
وقد رفع المكس وحطَّ العشور والضرائب التي فرضتها الحكومات السابقة، وأطلق للناس حرية التجارة في البر والبحر، وقد تبرأ من المظالم التي كان يرتكبها بنو أمية وتبرأ من الحجَّاج وأفعاله وأنكر على عُمَّاله الاستنان بسنته.
د- إحياؤه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أخذت الخلافة تتراجع عن الغاية التي قامت من أجلها وهي حراسة الدين، فنهض عمر بهذا المبدأ ورفع لواءه وأعلى شأنه وجعله المهيمن والمقدَّم على ما سواه وما حقق عمر ما حققه من أعمال وإنجازات إلا انطلاقًا من خوفه الشديد من الله، وطلبه فيما فعله مرضاته، وقد ساعده على ذلك أنه كان من أجلة العلماء التابعين وأئمة الاجتهاد (23 ) حتى قال عنه عمر بن ميمون: كان العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة.(24 )
وقد كان لسلامةِ دينه وصدق عقيدته الأثر البالغ في تجديده وإصلاحاته، فقد حارب الأهواء والبدع، وشدد النكير على أهلها. (25 ) 
وقد نقل عنه الإمام الأوزاعي قوله: إذا رأيت قومًا يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيسِ ضلالة ( 26).
وكان يرى أنه لا قيمةَ لحياته لولا سنة يُحيها، أو بدعة يُميتها.
وقد اهتم اهتمامًا شديدًا بديانةِ الناس وأخلاقهم، فكتب إلى عمَّاله: اجتنبوا الأشغال عند حضورِ الصلوات فمَن أضاعها فهو لما سواها من شرائع الإسلام أشدُّ تضييعًا (27 ).
الناظرُ في رسائل عمر وخطبه ومواعظه وهي أكثر من أن تُحصى يرى إيمانًا قويًّا، ومراقبة جلية وخوفًا من يوم يقف فيه الناس بين يدي رب العالمين، وقد أثرت شخصية عمر وسياسته العادلة تأثيرًا بالغًا في حياةِ العامة وميولهم وأذواقهم ورغباتهم. (28 )
يدل على ذلك ما ذكره الطبري في تاريخه مقارنًا عهد عمر بعهود مَن سبقه من الحكام السابقين: كان الوليد صاحب بناء واتخذ المصانع والضياع وكان الناس يلتقون في زمانه، فكان يسأل بعضهم بعضًا عن البناء والمصانع، فولي سليمان فكان صاحب نكاحٍ وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم عن التزويج والجواري، فلمَّا ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وراءك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم، ومتى ختمت. وما تصوم من الشهر؟ ( 29)
ولم يكتفِ عمر بإقامة الدين داخل دولته، بل وجَّه عنايته إلى غير المسلمين، ودعاهم إلى الدخول في الإسلام، وراسل ملوك الهند وملوك ما وراء النهر، ووعدهم أنَّ لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فأسلم الكثير منهم وتسموا بأسماء العرب.(30 )
ولعل من أجَّل الأعمال التي خدم بها هذا الدين أمره بتدوين العلوم الإسلامية وخاصةً علم الحديث وإحياء الزهد في الأمة من أجل الأعمال العظيمة والإصلاحات الجليلة حققها عمر في مدة خلافته الوجيزة، فغدا درة للأمة، ومنارة يستهدي بنورها الملتمسون دروبَ التجديد والإصلاح (31 ).
فقد كان من أول ما بدأ به عمر بن عبد العزيز في خلافته هو عزله لبعض الولاة الجائرين ورفضه لمظاهر الأبهة والفخفخة التي جرى عليها الخلفاء الأمويون عند استخلافهم، ورد كل ما عرض عليه في ذلك الوقت من مراكب وسرادقات جديدة إلى بيت المال، وتغيرت سيرته في تلك الساعة، فكأنه لا يتصل بآبائه بصلة، ولا يعرف غير عمر بن الخطاب أسوة له.
رد الجواري إلى أهلهن وبلادهن، ورد المظالم، ورد المجالس التي أشبهت مجالس الأباطرة وتمسكت بسنن كسرى وقيصر إلى بساطتها الأولى ووضعها الإسلامي، فنهى عن القيام له، وابتدأ بالسلام، وأباح دخول المسلمين عليه بغير إذن، وخرج من ماله وعقاره، ورده إلى مال المسلمين، ووضع حلي زوجته في بيت المال، وبلغ من الزهد والشظف في الحياة والتقشف في المعيشة مبلغا يعجز عنه الزهاد فضلا عن الملوك والأمراء، فقد كان يتأخر في بعض الأحيان عن الخروج لصلاة الجمعة انتظارا لقميصه أن يجف، وقد يكون طعام بناته عدسا وبصلاً، فيبكي ويقول: يا بناتي ما ينفعكن أن تعشين الألوان ويمر بأبيكن إلى النار؟ ويشتهي الحج فيقول لمولاه: إني قد اشتهيت الحج فهل عندك شيء قال: بضعة عشر دينارًا! قال: وما تقع مني؟ ويمكث قليلاً فيقول له مولاه: يا أمير المؤمنين: تجهز فقد جاءنا مال سبعة عشر ألف دينار من بعض مال بني مروان، فيقول: اجعلها في بيت المال، فإن تكن حلالاً فقد أخذنا منها ما يكفينا؛ وإن تكن حرامًا فكفانا ما أصبنا منها، وكانت نفقته اليومية لا تزيد على درهمين، حين كان يفرض للعمال ثلاث مائة دينار لكل واحد ليغنيهم عن الخيانة، وكان يتورع عن تسخين الماء على مطبخ العامة، ويتورع عن شم مسك الفيء، وكان يطفئ الشمعة التي زيتها من بيت المال إذا شغله أحد بالسؤال عن شخصه، كراهة لإنفاق مال المسلمين في غير حاجاتهم.
فكانت معرفة قيمة الحياة واستحضار شعور الآخرة، والحب الذي امتلك قلبه واستولى شعوره على النفس، ولولا هذا الحذر الشديد من ملاذ الحياة والتمتع بالمباحات، لما استطاع مثل عمر بن عبد العزيز – وهو أكبر ملوك الأرض في عصره - وهو في دمشق- عاصمة العالم المتمدن يومئذ – أن يحفظ نفسه من الاندفاع إلى الترف، ويضرب مثلا عاليًا لأمرائه وعمال مملكته في الورع والزهادة والتحرز من الشبهات، وما استطاع أن يخفف غلواء المدينة المترفة ويحد من شدتها وشرتها.
ولم يكن تورعه مقتصرا على ذاته – كما يفعله كثير من الزهاد – بل كانت سياسة عامة كان يريد أن يطبقها تطبيقا دقيقا على الدولة ورجالها – فكان يطلب منهم و يعزم عليهم أن يكونوا أشحة على أنفسهم أسخياء على المسلمين – بخلاف ما تجري عليه الحكومات هذا اليوم – وكان حريصا على أن يوفر على المسلمين أموالهم، ويعتقد أن الدرهم دم فلا يجوز أن يجري في غير عروقهم، ولا يرى أن يضيع في " الكماليات " و " الشكليات "، كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم، - وكان والي المدينة :  " أما بعد فقد قرأت كتابك إلى سليمان تذكر فيه أنه كان يقطع لمن كان قبلك من أمراء المدينة من الشمع كذا وكذا يستضيئون به في مخرجهم، فابتليت بجوابك فيه، ولعمري لقد عاهدتك يا ابن أم حزم و أنت تخرج من بيتك في الليلة الشاتية المظلمة من غير مصباح، ولعمري أنت خير منك اليوم، ولقد كان في فتائل أهلك ما يغنيك والسلام ".
وكتب إليه أيضا وقد طلب من الخليفة قراطيس يكتب عليها في مصالح ولايته :
" أما بعد، فقد قرأت كتابك إلى سليمان تذكر أنه قد كان يجري على من كان قبلك من أمراء المدينة من القراطيس لحوائج المسلمين كذا و كذا، فابتليت بجوابك فيه. فإذا جاءك كتابي هذا فأرق القلم واجمع الخط واجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة فإنه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضر بيت مالهم والسلام عليكم " .

3- جمع السنة وكفالة العلماء:
ولم يقتصر تجديد عمر بن عبد العزيز على إصلاح نظام الحكم، وتحويل السياسة المدنية إلى الخلافة النبوية، بل تعداه إلى نواح كان لها أبعد الأثر وأعمقه في حياة المسلمين، ولا يزال المسلمون في أنحاء العالم مدينين له في حياتهم الدينية، فقد أقبل إلى تدوين العلوم الإسلامية التي هي من منابع الحياة في المسلمين، وقد تعرضت للضياع، لانصراف الناس إلى السياسة والإدارة والحروب، وأول ما عني به عمر بن عبد العزيز بعد ما تقلد الخلافة، هو علم الحديث، وقد أراد الله أن يكون له فضيلة السبق في هذا الميدان، كما كان لجده عمر بن الخطاب رضي الله عنه فضيلة السبق لجمع القرآن، فإنه هو الذي أشار وألح على خليفة الرسول صلى الله عليه سلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه بجمعه.
وقد كتب إلى أحد كبار علماء الحديث وأوعية العلم في عصره، أبي بكر بن محمد بن حزم:" انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء"، وأشار عليه بالعناية الخاصة بمجاميع عمرة ابنة عبد الرحمان الأنصارية، وقاسم بن محمد بن أبي بكر، لأهميتهما، ولم يكتف – رحمه الله- بأبي بكر بن حزم، بل كتب إلى عماله بالأقاليم: " انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه ".
ولم يكتف بالحث على ذلك، بل سعى في تيسير هذه المهمة فأجرى الرزق على العلماء ورتب لهم رواتب ليتوفروا على نشر العلم ويكفوا مؤونة الاكتساب، قال محمد بن الحكم:" وبعث عمر بن عبد العزيز يزيد بن أبي مالك والحارث ابن محمد إلى البادية أن يعلما الناس السنة، وأجرى عليهم الرزق، فقبل يزيد ولم يقبل الحارث، وقال:" ما كنت لآخذ على علم علمنيه الله أجرًا، فذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال: ما نعلم بما صنع يزيد بأسًا وأكثر الله فينا مثل الحارث ".
وفاة عمر بن عبد العزيز:
رحل هذا الخليفة الكريم إلى ربه العظيم في عام 101 للهجرة بدير سمعان، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر. ويدل بعض القرائن على أنه سم؛ لأنه بمقدار ما سعدت الأمة وسعد به المجتمع الإسلامي، شقي بنو أمية، أسرته التي كانت تنظر إلى الخلافة كطعمة أو ملك شخصي، ووقف عمر بن عبد العزيز حاجزًا بينهم وبين شهواتهم وتصرفاتهم، فكان ربح الإسلام فيه على حسابهم؛ فلا غرابة إذا تخلصوا منه، وحرموا الإسلام من هذه الثروة الغالية.
رحمه الله رحمة واسعة، وجمعنا به في مستقر رحمته. والحمد لله رب العالمين.

---------------------
( 1) عون المعبود (11/393) العظيم آبادي، جامع الأصول (11/322) . 
( 2) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص74 . 
( 3) مجلة المنار مجلد 32 جزء 1 ص 11.
( 4) توالي التأسيس ص 24 ب ، 25 ا.
( 5) فتح الباري 13/295.
( 6) فيض القدير للمناوي (1/14) . 
( 7) موجز تاريخ تجديد الدين للمودودي ص52.
( 8) عون المعبود(11/391)، التجديد في الفكر الإسلامي صـ48 . 
( 9) التجديد في الفكر الإسلامي صـ48 . 
( 10) عمر بن عبد العزيز للندوي ص10.
( 11) تاريخ الطبري (7/474).
( 12) سير أعلام النبلاء (5/588).
( 13) سيرة عمر لابن الجوزي ص120.
( 14) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص98.
( 15) تاريخ الطبري (7/474) . 
( 16) تاريخ الطبري (7/464) .
( 17) المصدر السابق (7/477) .
( 18) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي ص65.
( 19) التجديد في الفكر الإسلامي ص85.
( 20) سير أعلام النبلاء (5/518) . 
( 21) التجديد في الفكر الإسلامي 86 . 
( 22) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص83.
( 23) التجديد في الفكر الإسلامي 86 . 
( 24) التجديد في الفكر الإسلامي 86 .   
( 25) تاريخ الطبري نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي 87 . 
( 26) خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز للندوي ص30.
( 27) التجديد في الفكر الإسلامي 87 .
( 28) التجديد في الفكر الإسلامي د.عدنان محمد ص79.
( 29) سير أعلام النبلاء (5/586) . 
( 30) التجديد في الفكر الإسلامي ص81 . 
( 31) سير أعلام النبلاء (5/595) . 

المصدر: http://arabicenter.net/ar/news.php?action=view&id=380

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك