الرواية بين المؤرخين والمحدثين

الرواية بين المؤرخين والمحدثين

أ. محمد شعبان أيوب*

  

 ولذلك أصبح التاريخ مرجلاً لكل أنواع الأخبار الصحيحة والضعيفة والموضوعة، وكل ما استطاع المؤرخون الأولون أن يقدموه لنا، أنهم جعلوا عهدة هذه الروايات على رواتها، ولذلك حرصوا على إيراد سلسلة الرواة وإن طالت، ولم يشذ عن هؤلاء إلا القليل ممن تعمد أو أغفل ذلك، واعتبروا ذكر رواة الأخبار أمرا مقدسا، فاطمأنت نفوسهم إلى ذلك؛ من حيث إن المدققين في هذه الروايات يستطيعوا أن يقبلوا الأخبار من الرواة الثقاة، ويرفضوا ما دونها.

 

 

نهج المؤرخون الأولون[1] في جمع الأخبار وتدوينها نهجا اتسم بالاهتمام بالجانب الجمعي دون غيره؛ فمن الملاحظ أن مجال التدوين التاريخي في القرون الثلاثة الأولى انصب على جمع الروايات وتدوينها وتصنيفها في كتب دون التدخل في نقدها وتمحيصها[2]، ولذلك استشعر بعض المؤرخين ذلك العيب الخطير أثناء التدوين ذاته؛ فنرى العلامة الطبري ( ت310هـ) يعبر عن ذلك في تاريخه بقوله: "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا"[3].

 

ولم يكن الطبري الذي أعلن صراحة عن منهجه في جمع الروايات دون تمحيصها هو وحده الذي انتهج ذلك النهج دون غيره، إذ كان أمرا عاما بين الأخباريين وبعض المؤرخين، لكن جل ما عمله هؤلاء الأخباريون أنهم جمعوا الروايات المتعلقة بالموضوع الواحد ووضعوها في كتب مفردة، وكان أبرز هؤلاء الزهري وأبو مخنف وسيف بن عمر والواقدي والمدائني[4].

 

ولذلك أصبح التاريخ مرجلاً لكل أنواع الأخبار الصحيحة والضعيفة والموضوعة، وكل ما استطاع المؤرخون الأولون أن يقدموه لنا، أنهم جعلوا عهدة هذه الروايات على رواتها، ولذلك حرصوا على إيراد سلسلة الرواة وإن طالت، ولم يشذ عن هؤلاء إلا القليل ممن تعمد أو أغفل ذلك، واعتبروا ذكر رواة الأخبار أمرا مقدسا، فاطمأنت نفوسهم إلى ذلك؛ من حيث إن المدققين في هذه الروايات يستطيعوا أن يقبلوا الأخبار من الرواة الثقاة، ويرفضوا ما دونها.

 

ومن ثم يأتي السؤال المهم، هل يمكن تنقيح هذه الروايات التاريخية؟ وأي المناهج أسلم وأنجع؟ وهل حقا يمكن أن يكون بين أيدينا تاريخا صحيحا نقيا من كل عيب، مستصفى من كل شائبة؟

 

إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب منا أن نوضح أمرا مهما حقا، وهو إذا تراءى لدى بعض القراء أن المؤلفات التاريخية تحمل فجوات وثغرات خطيرة ومهلكة، فيجب التنبيه على أن طريقة الإسناد وإيراد كافة الروايات المتعلقة بالموضوع الواحد، ليعد من الابتكارات الحقيقية للعقلية الإسلامية، فليس هناك مثل هذه الدراسات والقواعد في أي تاريخ أو شريعة أخرى، ولذلك تنبه الإمام ابن حزم ~ إلى هذا الأمر، فعبر عنه قائلا: "نقل الثقة عن الثقة حتى يبلغ به النبي r  شيء خص به المسلمون دون جميع الملل والنحل، أما مع الإرسال والإعضال[5] فيوجد في اليهود لكن لا يقربون به من موسى قربنا من نبينا، بل يقفون حيث يكون بينهم وبينه أكثر من ثلاثين نفسا، وإنما يبلغون إلى نوح وشمعون، وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق.."[6].

 

ولذلك فمع هذه الثغرات والفجوات التي وجدت في تاريخنا الإسلامي، إلا أنه لا توجد مقارنة من حيث المنهجية ومن ثم الدقة مع ما كتبه اليهود والنصارى في كتبهم المقدسة، وشرائعهم، فضلا عن تاريخهم وتراثهم الإنساني، ولذلك يقول عالم الاجتماع الأمريكي هاري بارنز: "في عهد الإمبراطورية الرومانية المتأخر أبدى بعض أبناء الكنيسة شكوكهم في صحة أفكار تقليدية معينة عن تأليف الكتاب المقدس، ولكن أول دارس أثار مسائل على جانب كبير من الأهمية من ناحية الآراء التقليدية كان عالم العهد الوسيط ابن عزرا الذي تحدى في سنة 1150م فكرة تأليف موسى (u ) للأسفار الخمسة. وفي القرن السابع عشر أبدى الفيلسوف الناقد الشهير توماس هوبز شكه في تأليف موسى (u ) للأسفار على أساس اعتبارات منطقية ومفاهيم الإدراك العام لا على أساس الدراسة التاريخية للنصوص، وأشار إلى أنه ليس من المألوف أن يشير مؤلف وهو يكتب سيرته الذاتية إلى موته ويفخر بأنه قد أحسن دفنه إلى حد أنه لم يستطع أحد لمدة سنوات عدة أن يعرف موضع قبره!"[7] 

 

إن هذه الأسئلة والاستنتاجات المشروعة التي حيرت عقول علماء الغرب لمدة طويلة - ولا زالت – تؤكد لنا أن أخباريي المسلمين ومؤرخيهم تحروا قدر طاقتهم – وفق الحد الأدنى من الاحتياط والحذر – الدقة والصواب في إيراد الروايات المتعددة، وجعلوا الإسناد المحك الرئيس في قبول رواية ما أو رفضها، ولأهمية الإسناد في علم الحديث بصفة خاصة، وبقية العلوم بصفة عامة، نرى ابن المبارك يقول: "الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"[8]، ولهذا يعجب المستشرق الألماني سبرنجر من هذه المنهجية، فيقول: "لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشئونهم"[9]

 

وبعد هذه التوضيحات المهمة التي تؤكد لنا أن ما فعله أخباريونا ومؤرخونا كان بمثابة المقياس والمثال الذي لطالما تمنى الغربيون أن يكون في شرائعهم وتراثهم، ويبقى أن نعود إلى الإجابة على ذلك التساؤل الآنف، وهو ما المنهج الذي نستطيع من خلاله أن ننقح تاريخنا، ونطمئن إليه؟

 

 لا ريب أن الأمر يتعلق بالراوية – أيا كانت هذه الرواية – لأنه لما كان جل العلم في القرن الأول الهجري وعقود لا بأس بها في القرن الثاني الهجري يتم عن طريق المشافهة والنقل من أشخاص إلى آخرين، وكانت العلوم الشرعية هي الحائز الأكبر على اهتمام المسلمين، وكان علم الحديث من أشرف هذه العلوم وأقدسها – لما يترتب عليه من أحكام تشريعية وحياتية غاية في الأهمية – فقد كان من الطبيعي أن يتشدد المسلمون في قبول الأحاديث – وهي من الناحية الشكلية روايات متناقلة – مما ترتب على ذلك أن وضع علماء الحديث وحفاظه - من خلال العقل الجمعي لهم، والخبرة المتراكمة عبر الأيام والسنين – مجموعة من القواعد والمعايير المهمة في قبول الحديث أو رفضه، وبدأت تظهر قواعد لنقد الأخبار، والسؤال عن الرجال، والرواة وأخبارهم منذ بداية التدوين، ونتج عن ذلك ما أطلق عليه علم الجرح والتعديل، التي ألفت فيه الكتب الكثيرة التي تبين طرق نقد الأخبار، وكيفية الموازنة والترجيح بينها عند التعارض، ونقد متونها وبيان عللها[10].

 

وظل الحديث النبوي ميدانا نشطا كتبت حوله الكثير من كتب المصطلح وكتب التراجم، مما أدى إلى ظهور مكتبة ضخمة معنية بتراجم الرواة وبيان أحوالهم[11]، وإمكان التقائهم ببعضهم أو عدمه، والحكم عليهم من خلال استقراء مروياتهم بالإضافة إلى رأي معاصريهم فيهم، وقد ساهم كل هذا في حفظ السنة النبوية، وبيان الصحيح منها والزائف، مما نتج عنه علما عظيما نشأ لخدمة الأحاديث النبوية، بينما لم تحظ الرواية التاريخية بنفس القدر من الاهتمام والنقد[12].  

 

            لكن اللافت للنظر أن علم التاريخ وعلوما أخرى[13] قد استفادت من القواعد التي وضعت لضبط الحديث الشريف[14]، وإن ضمن رجال الحديث في كتبهم بعض الأبواب المتعلقة بالمغازي والسير، مثل كتاب المغازي في صحيح الإمام البخاري[15]، وكتاب الجهاد والسير عند الإمام مسلم[16] وكتاب السير في سنن الترمذي[17]، وغيرها من الكتب الأخرى، إلا أن هذه الأبواب والكتب كانت قليلة المادة مقارنة بكتب التاريخ والمغازي والسير؛ ويرجع ذلك لحيطة المحدثين وأهل الجرح والتعديل للمادة التاريخية ورواتها.

 

            وقد اختلفت نظرة أهل الجرح والتعديل وبعض المؤرخين المتأخرين لرواة الأخبار، فمنهم من تشدد في قبول الرواية من الأخباري كتشدده في راوي الحديث؛ وهؤلاء يرون الأخباريين ضعاف العقول، سراع التصديق، من حيث قبول الخبر على علاته ووهنه، ومن هؤلاء الكافيجي (ت879هـ) الذي يقول: "ينبغي أن يشترط في المؤرخ ما يشترط في راوي الحديث من أربعة أمور: العقل والضبط والإسلام والعدالة"[18].

 

            والحق أنه عند المقارنة اليسيرة بين علم التاريخ وعلم الحديث نجد أنه من العسير تطبيق منهج النقد عند المحدثين بكل خطواته على جميع الأخبار التاريخية؛ لأن الأخبار التاريخية لا تصل في ثبوتها وعدالة رواتها، واتصال أسانيدها إلى درجة الأحاديث النبوية إلا فيما يتعلق ببعض المرويات في السيرة والخلافة الراشدة مما تأكدت صحته عن طريق مصنفات السنة، أما أكثر هذه المرويات فمحمول على الأخباريين بأسانيد منقطعة يكثر فيها المجاهيل والضعفاء والمتروكون[19].

            ولقد فطن كثير من علماء المسلمين لهذا الفرق الواضح، لكنهم جعلوا قبول المرويات بحسب أهميتها، فإذا كان المروي يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بأحد من الصحابة (رضي الله عنهم)  فإنه يجب التدقيق في رواة الخبر ونقدهم، "أما إذا كان الخبر المروي لا يتعلق بشيء من ذلك فإنه وإن كان الواجب التثبت في الكل إلا أنه يتساهل فيه (الإسناد)"[20].

 

            فممن تساهل في قبول مرويات المؤرخين وتشدد في قبول الرواية من رواة الأحاديث نجد الإمام ابن حجر العسقلاني، ففي الوقت الذي يقرر فيه رفض رواية محمد بن إسحاق إذا (عنعن) ولم يصرح بالتحديث، ويرفض رواية الواقدي لأنه متروك عند جمهور علماء الجرح والتعديل، وبعض روايات المدائني لأنه ليس بالقوي وغير هؤلاء من الأخباريين، إلا أننا نجده يستشهد برواياتهم في شرحه للأحاديث الصحيحة، ويستدل بها على بعض التفصيلات المكملة للحدث التاريخي، ويحاول الجمع بينها وبين الروايات الصحيحة الأوثق منها سندا، فقد ذكر ابن حجر في فتح الباري في كتاب المغازي عدد غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدد بعوثه وسراياه، وعدد الغزوات التي وقع فيها قتال، فنراه يستشهد بأقوال أهل السير والمغازي مثل: ابن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي وابن سعد والمسعودي، وسماهم أهل المغازي، وذكر خلافهم، وجمع بين أقوالهم، وأقوال من هم أوثق منهم، من رواة الصحيح، وفعل عند حديثه عن عدد أهل بدر، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وأخبارها[21].     

 

            وما فعله الإمام ابن حجر وغيره من علماء المسلمين ومحدثيهم في قبول كثير من الروايات التاريخية من الأخباريين والمؤرخين يدلل على المكانة المرموقة التي كانت لهؤلاء الأخباريين، فعالم السنة الإمام البخاري يعمد إلى أقوال أهل المغازي والسير فيقبل كثيرا منها في كتاب المغازي من كتابه "الجامع الصحيح"، فأول ما يجده القارئ في بداية كتاب المغازي: "قال ابن إسحاق أول ما غزا النبي صلى الله عليه وسلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة"[22] مما يدلل على الاعتراف بتخصص هؤلاء الأعلام في مجال الأخبار، ويذكر ابن سيد الناس أن الإمام مالك لما سئل عن المرأة التي سمّت النبي r بخيبر ما فعل بها، فإنه قال: " ليس عندي بها علم، وسأسأل أهل العلم. قال: فلقي الواقدي قال: يا أبا عبد الله ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم  وسلم بالمرأة التي سمته بخيبر؟ فقال: الذي عندنا انه قتلها. فقال مالك: قد سألت أهل العلم فأخبروني انه قتلها"[23].

 

            وقد يرجع السبب في استشهاد المحدثين بروايات المؤرخين واعتمادها إلى التفرقة بين شروط راوي الحديث والمؤرخ، وإلى موضوع الرواية، فإن تعلق بأمر تشريعي فلا يؤخذ إلا عن العدول الضابطين، أما إذا تعلق بأخبار أخرى فيمكن النظر إلى ما برع فيه الراوي بشرط أن يسمي المؤرخ المصدر الذي نقل عنه معلوماته، وبذلك تتضح مصادره، وتعرف حتى يمكن الحكم من خلالها على دقة معلوماته.

 

            إذن وضحت لنا الرؤية الآن في أي المناهج أخذ العلماء بقبول المرويات التاريخية، إنه منهج المحدثين في قبول هذه المرويات وإن لم يكن بحرفيته وقواعده المعهودة، والمتعارف عليها؛ إذ اتضح لنا أن هناك فرقا واضحا بين روايات الحديث النبوي الشريف وبين المرويات التاريخية.

 

·        باحث مصري في التاريخ والتراث.

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك