الإصلاح السياسي وحاكمية الشريعة

الإصلاح السياسي وحاكمية الشريعة

د.عبد الرحيم بن صمايل السلمي*

القاسم المشترك بين البلدان العربية - مما يكون مبررا لاستحقاق الإصلاح - هو تعطيل الشريعة كلياً أو جزئياً، وفرض التغريب على المجتمع بقوة السلطة، وقرارات الدولة، وهدر المال العام وسرقته في وضح النهار، والاستبداد بالرأي والقرار في المصالح العامة، والاعتقالات المتعسفة من قبل الأجهزة الأمنية، والتدخل في القضاء، وعدم إقامة الأحكام على المتنفذين من الأمراء والوزراء، وإهانة الناس وسحق كرامتهم، والبطالة والفقر المرير وغيرها مما يتحدث عنه الناس في المجالس والملتقيات التي يتقابلون فيها ولم يعد سرا من الأسرار.

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

 

فإن من أبرز دلالات الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا استحقاق الإصلاح السياسي، وأن الشعوب طفح بها الكيل من الظلم والكبت والفساد والحرمان، وهذا الاستحقاق قائم في كافة البلاد العربية والإسلامية دون استثناء، وإن من العمى في البصيرة لدى القادة والرؤساء أن يظن البعض أنه بمعزل عن تداعياتها، أو أن بلده ليس كالبلد المجاور الذي قامت فيه الثورة، وطُرِد منه الرئيس إلى مزبلة التاريخ، فالقاسم المشترك بين البلدان العربية - مما يكون مبررا لاستحقاق الإصلاح - هو تعطيل الشريعة كلياً أو جزئياً، وفرض التغريب على المجتمع بقوة السلطة، وقرارات الدولة، وهدر المال العام وسرقته في وضح النهار، والاستبداد بالرأي والقرار في المصالح العامة، والاعتقالات المتعسفة من قبل الأجهزة الأمنية، والتدخل في القضاء، وعدم إقامة الأحكام على المتنفذين من الأمراء والوزراء، وإهانة الناس وسحق كرامتهم، والبطالة والفقر المرير وغيرها مما يتحدث عنه الناس في المجالس والملتقيات التي يتقابلون فيها ولم يعد سرا من الأسرار.

 

 ومن لا يزال يشكك في الحاجة للإصلاح ففي عقله خلل، أو في نفسه مرض، ولن يغني عنه أن يفهم ذلك عند فوات الأوان.

 

ومن أهم ما يوقف هذا الانحدار في البلاد العربية والإسلامية تحكيم الشريعة الإسلامية، وتحقيق قيمها ومبادئها العادلة، ومنها المراقبة والمحاسبة على المال العام وأداء الحكومة، وإيقاف الانتهازيين الذين يستغلون مناصبهم لأغراضهم الشخصية، ولا يوجد مثيل لإيقاف الفساد في الدين والدنيا مثل اختيار الأكفاء، واستقلال القضاء، واستقلال الجهات المتعلقة بالمحاسبة والمراقبة والمساءلة لتؤدي رسالتها دون ضغوط أو تدخلات، وأن يتم اختيارها من قبل الأمة، ولا يتم فرض جهات الرقابة بالتعيين، أو يكون للمسؤولين إمكانية إقالتهم، وهذه القيم السياسية هي قيم إسلامية أخلاقية عظيمة، ولم ينتشر الانحراف والسرقة والظلم والتهميش للكفاءات بمثل الاستبداد واحتقار الناس، والتدخل في القضاء وآليات تنفيذه.

 

ولهذا ظهرت المطالبات بالإصلاح السياسي بأشكال مختلفة كالمظاهرات والاحتجاجات السلمية، أو تقديم العرائض، والمذكرات، والنداءات أو غيرها من أشكال المطالبات السلمية البعيدة عن العنف واستعمال القوة، وإهمال هذه المطالبات والاستكبار والاستهتار بالشعوب سوف تكون عاقبته وخيمة ومآلاته سيئة على الدولة والمجتمع.

 

وأمام هذه المطالبات يجب أن نتذكر أنه يجب أن يكون منطلق المطالبات الإصلاحية منطلقاً شرعياً إيمانياً، فالإصلاح لا يتحقق إلاّ إذا كان كذلك، فالأنبياء هم قادة الإصلاح كما قال تعالى: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)، وقد يرفع المنافقون راية الإصلاح وشعاره لكنهم لا يأتون بحقيقته كما قال تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).

 

وأمام هذا التباين بين دعوة الأنبياء للإصلاح وادعاء المنافقين له فإن من الواجب أن ندرك أن الفارق المميز والفاصل الموضح للفرق بينهما هو حاكمية الشريعة ومرجعيتها، وهي حاكمية مطلقة لا يكون لأحد معها اختيار أو رأي أو تصويت أو استفتاء كما قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)، وقال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)، وقال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)، ويقول تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، ويقول تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون).

 

والتسليم لحكم الله ورسوله والانقياد له والخضوع لأمره هو شرط الإصلاح المطلوب، وبغيره فلا إصلاح، بل هو فساد في الدين والدنيا.

 

ومطالب الإصلاح التي تغفِل حاكميةَ الشريعة الإسلامية وتهملها لتجمع الاتجاهات والتيارات الفكرية المختلفة، وتركز على الآليات الإجرائية فقط تفتقد إلى الوعي الشرعي، والبصيرة بمنهج الأنبياء، فالاجتماع إنما يكون على المبادئ والمنطلقات الشرعية، وهي أدوم في البقاء، بينما الأدوات الإجرائية هي أوعية يمكن أن يمرر من بعضها الحق والباطل على حد سواء، وهي غير ثابتة ويحصل فيها التغيير والتبديل.

 

وليس الإشكال في موافقة أحد من الاتجاهات الفكرية على مطالب الإصلاح إذا كانت واضحة المبادئ والمنطلقات والمرجعية، كما قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله)، أما التوافق على أمر محتمل يمكن تنفيذه بشكل صحيح أو خاطئ فهذا ما أراه خللاً في الإصلاح وليس داعماً له.

 

يركز بعض الفضلاء على الاستدلال بحلف الفضول، وهو حلف استثنائي لم يتكرر في حياته عليه الصلاة والسلام مع وجود المقتضي، وقد كان التحالف فيه على قيم موافقة للشرع لا يمكن أن يروج الباطل من خلالها، فإطعام الجائع، ومساعدة الضعيف لا يمكن أن تكون في ذاتها وسيلة تستعمل في الباطل، فلا يصح تعميمه ليكون أصلاً كلياً، ولا يصح تطبيقه على وسائل إجرائية يمكن استعمالها في الحق والباطل.

 

ولو أن هذه المطالب الإجرائية تم بناؤها على مبادئ تضبطها ومنها حاكمية الشريعة المطلقة لكان في ذلك تحقيقا لمصلحة عقدية كبرى وهي دعوة التيارات الفكرية للإذعان والتسليم لها، وإلزامهم بذلك، أما مجاملتهم بإهمالها فهذا خلل منهجي، فحاجة هذه التيارات الفكرية - التي يراد استقطابها – للإصلاح والتقويم أكبر من حاجة بعض الحكومات مع حاجة الجميع إليه دون شك.

 

ومن جهة أخرى فإن شعار الإصلاح يجب أن يكون واضحاً بيناً، وهو الدعوة إلى تحكيم الشريعة تحكيماً حقيقياً وليس شكلياً، فمن يرفع شعارات يشترك فيها المسلم والكافر، أو يمكن أن يتم تنفيذها بصورة صحيحة أو باطلة كشعار الحرية والديمقراطية والتعددية وغيرها من الشعارات الليبرالية فهذا بعيد عن منهج الأنبياء في الإصلاح الذين ركزوا على القضايا الجوهرية كالتوحيد وإفراد الله بالعبادة، والتحاكم إلى شريعة الله، والتسليم لأمره، وبهذا يتميز المسلم عن الكافر، والبر عن الفاجر.

 

المصدر: مركز تأصيل للدراسات

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك