الانحراف الفكري ... معالم للاهتداء

الانحراف الفكري ... معالم للاهتداء

 

الانحرافات التي تصد الناس عن الحق كثيرة متشعبة إلا أن الإنحراف الفكري-الذي يزين لصاحبه أنه على شيء- هو أسوأ أنواع الانحرفات وأبعدها ضلالا قال تعالى ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) الكهف (103-104) وهذه الآية الكريمة تصدق على أصحاب العقول المنحرفة الذين عدلوا عن منهج الحق ، وظنوا أنهم يحسنون صنعا ، فانتهى بهم هذا الظن الكاذب إلى نتيجتين كلتاهما شر.
الصورة: لوحة فرنسية عن الشيطان يملى فكره
الأولى : التمادي في الباطل وعدم الإذعان للحق، وقد كان السلف يقولون المبتدع لا يتوب يعنون أنه قل أن يوفق للاعتراف بالخطأ ، والرجوع للصواب -بخلاف صاحب المعصية المسلم- لأن البدعة ثمرة الفكر المنحرف والاعتقاد الفاسد ، والمعصية ثمرة الغفلة والضعف غالبا قال تعالى(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما).
والنتيجة الثانية : أن الأعمال التي تصدر عن تصور فاسد وفكرة منحرفة ضررها على الفرد والمجتمع أكبر وأظهر .{shadowboxwtw}ومن نظر في تاريخ الأمة الإسلامية علم أن أعظم المشكلات التي منيت بها الأمة كانت نتاجا مباشرا لانحرافات فكرية وعقدية جانب أصحابها منهج الوحي وركبوا بنيات الطريق، فوقع بسبب ذلك فساد عريض سفكت فيه الدماء واستحلت المحارم وعمت الفتن والمنكرات{/shadowboxwtw} قال الإمام الشاطبي رحمه الله (فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم من أنها تقع وتظهر وتنتشر أمور مبتدعة على مضاهاة التشريع...) وقد ربط القرآن الكريم بين تصورات الناس الفاسدة وما تنتجه هذه التصورات من سلوك سيئ وأعمال فاجرة قال تعالى : ( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسال أيان يوم القيامة) القيامة (5-6) فالله جل وعلا يخبرنا أن الإنسان الذي يستبعد بفكره وقوع الجزاء يمضي في فجوره قدما لا يصده عنه شئ ، وواقعنا المعاصر يشهد بذلك فالذين آمنوا بقيم الحداثة الغربية وأفكارها قد جروا على العالم أنواعا من المفاسد والشرور لا عهد للناس بها.
سمات مشتركة :
فالشاهد أن الانحرافات الفكرية ضررها على الناس أكبر لأنها تستند في ترويج باطلها على حجج عقلية وحيل نفسية قد ينخدع بها أكثير من الناس ، إلا أن الملاحظة التي نريد أن نثبتها هنا هي : {shadowboxwtw}أن هذه الانحرافات الفكرية مهما تعددت مدارسها وتباينت أزمانها وبيئاتها إلا أن بينها سمات مشتركة وخصائص متشابه ومنطلقات موحدة{/shadowboxwtw} وقد بين الله لنا في مواضع من القرآن الكريم أن تشابه القلوب في الكفر والعصيان يؤدي إلى تشابه في الأقوال والأفكار والمناهج قال تعالى ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر مشتبهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب)آل عمران 7 وقال تعالى ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون) البقرة 118
وقال تعالي ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) التوبة 30 فلا عجب إذن أن نجد طائفة في تاريخ الفكر الإسلامي (الجبرية) تجدد ذات الحجة التي أنكرها الله على المشركين من قبل(سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) الأنعام 148ولا عجب أبضا أن تكون مقالة قوم شعب لشعب قبل آلاف السنين (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)هي الفكرة التي تنطلق منها فلسفة العلمانية في عصرنا الحديث ، فانحرافات العقل المعاصر ليست بأذكى ولا أهدى من انحرافات أصحاب القرون الأولى ، بل إن كثيرا من الأفكار التي يظنها بعضهم جديدة متطورة لم يكن أصحابها إلا ناقلين (مهرة) لأفكار قديمة مندرسة. معالم لاكتشاف المنحرفين
إن هذا التشابه في الأفكار والتصورات والمناهج والمنطلقات يجب أن يكون سببا في زيادة وعي الأمة وصقل خبرتها وبصيرتها في اكتشاف مواضع الخلل والزيغ في معركة الفكر التي تخوضها( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) . ولاشك أن الغوص المعرفي وتتبع الأفكار ونقدها أمر شاق إن لم يكن متعذرا في زمان تمدنا فيه المطابع والفضائيات وشبكات الإنترنيت بأمواج من الأفكار المنحرفة التي يجب أن نحصن منها أمتنا، ولكن الذي يستطيع المهتمون من العلماء ومفكرينا أن يفعلوه -في هذا الباب- هو أن يملكوا الأمة معالم كلية وضوابط جامعة يستهدي بها الناس في إكتشاف المدلسين الذين يصفون أنفسهم أو يصفهم الناس بأنهم مفكرون أحرار ينطلقون من داخل الفكر الإسلامي يبشرون بثورات تجديدية وأفكار غير مسبوقة. وقد أعجبني صنيع الإمام ابن القيم رحمه الله الذي اهتدى لهذه الفكرة في كتابه المنار المنيف حيث وضع فيه قواعد كلية وأمارات جامعة تملك القارئ الحصيف مهارة في معرفة الحديث الموضوع أو الضعيف دون نظر في سنده.
وأظن أن من أبرزالسمات الجامعة التي يلتقي عليها جماعات الفكر المنحرف المفارقون لمنهج الوحي المعصوم من أبناء أمتنا تتمثل في ثلاث سمات :
الأولي: تحقير تراث الأمة وازدراء رجالها :
{shadowboxwtw}فالمنحرفون من أهل زماننا لا يشغل بالهم إلا الحرص على أن يحولوا بين الأمة وبين الارتباط بتراث سلفها الصالح ، لأنهم يعلمون أن الحاجز المنيع الذي يقف أمام شيوع أفكارهم المنحرفة هو تقدير الأمة لفقهائها الكبار الذين ارتضتهم أئمة هدى ومشاعل نور.{/shadowboxwtw} ومن الزيف الكبير الذي يمارسه هؤلاء المنحرفون أنهم يصورون للناس أن معركتهم مع تراث الأمة معركة بين القديم والحديث ، وهذا من الزور الذي لا يمكن أن يصدقه أحد لأننا نراهم في كل المحافل أكثر الناس حماسا للدعوات الداعية لربط الأمة بتاريخها القديم الذي يرجع بها إلى عصور الوثنية الأولى فمنهم من دعا صارحة إلى أن يكون الفن الفرعوني أحد عناصر الغذاء الروحي والعقلي لشباب مصر.
إن تواطأ المنحرفين على تسفيه تراث الأمة سلوك لا يصدر إلا عن عقدة نفسية سببها الخسة والوضاعة كما يقول شكيب أرسلان، وقد صدق رحمه الله في ذلك لأننا رأينا أن المسفهين لتراث الأمة الداعين للتطاول على رجالها هم أكثر الناس تبجيلا للغرب ومفكريه فالذي قال لنا إن نهضتنا العربية لن تبدأ إلا إذا تجاوزنا تراث السلف هو الذي قال(لولا الغرب ورجاله ومفكروه لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها فإذا هي حياة لا تختلف كثيرا عن حياة الإنسان البدائي في بعض مراحلها الأولى)
الثانية: إدعاء أن الدين يحتاج لتطوير ليواكب التطور الإنساني:
الحجة في ترويج هذه الفكرة -التي يراد بها تجاوز أحكام الدين -أن النصوص قديمة متناهية والحياة متجددة، فلا بد إذا من انتزاع القداسة عن النصوص والتعامل معها بما دعا له نصر أبو زيد (تاريخية النص) وما رأيت قولا ساقطا تتابع المدلسون على إشاعته- حتى كاد أن يبتلى به نفر ممن نحسن بهم الظن- أشنع من أن يقال إن نصوص الكتاب والسنة قابلة للتغير والتبديل بحسب العصر والزمان وقد مهد لهذا القول من قديم رجال من أمثال عبد العزيز جاويش الذي قال في عام 1911م ( لقد سنت لنا شريعتنا أن نأخذ بالأصلح الملائم للأزمن والأمكنة ، حتى لا يكون على الناس حرج ولا ضرار،بل رخصت أن يعدل عن النص إذا ثبت ثبوتا قطعيا أن الضرورة توجب هذا العدول وكانت المصلحة التي تنتج من اتباع النص أقل مما ينتجه هذا العدول) وجاء بعده بسنوات د. النويهي الذي كتب في مجلة الآداب الصادرة في بيروت عام 1970م مقالا بعنوان( نحو ثورة الفكر الديني) كان أجرأ فيه من صاحبه فقال (إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية بين الناس والتي يحتويها القرآن والسنة لم يقصد بها الدوام وعدم التغيير ولم تكن إلا حلولا مؤقتة ، احتاج لها المسلمون الأوائل وكانت صالحة وكافية لزمانهم فليست بالضرورة ملزمة لنا ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والتعديل والتغيير ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه)

ثم جاء بعد كل هؤلاء أمثال د.منصور خالد الذين قدموا لنا أمثلة تطبيقة للفكرة التي دعا إليها أؤلئك يقول منصور خالد (من الواضح أن الفقهاء المجتهدين قد التزموا إلتزاما صارما بما ورد في الكتاب حول حقوق المرأة في سورة النساء ، بيد أن تلك الآيات لا تفهم إلا في سياقها التاريخي حيث تنزلت بعد هزيمة المسلمين واستشاهد عدد كبير منهم مما اقتضى تقنينا جديدا للطلاق والميراث)
الثالثة: تعمد الغموض والإبهام في عرض الأفكار:
فالمندسون الذين يراهنون على إحداث ثورة فكرية في واقع الأمة تنقصهم في كثير من الأحيان الشجاعة التي يعبرون بها عن أفكارهم -بلا مواربة- فيلجئون إلى العبارات الغامضة واللغة التي لا تكاد تبين ، فإذا حاولت أن تنتقد ما قالوا زعم مريدوهم انك لم تفهم ما أرادوا ، ونحن نعلم أن الإبانة والوضوح صفة كمال ودليل على وضوح الفكرة والرؤية ولهذا وصف الله كتابه الكريم ورسوله الأمين بهذه الصفة فقال تعالى ( حم والكتاب المبين) الدخان(1-2) وقال في صفة نبيه(أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين) الدخان(13)
{shadowboxwtw}فحيثما وجد الالتواء في القول والغموض في التعبير دلنا ذلك على تشوه الفكرة في ذهن صاحبها أو في حقيقة أمرها{/shadowboxwtw}أنظر إلى مناهج المتكلمين الذين شاعت في كتبهم عبارات التولد والطفرة والعرض والجوهر وقارن بينها وبين منهج القرآن في عرض العقيدة،وانظر إلى ما يكتبه علماء الأمة الثقات في أي قضية من القضايا وقارن بينه وبين كتابات أمثال محمد أركون المشحونة بانحراف الأفكار وغموض العبارات من نحو قوله(إن الفهم لا التحديد القسري المغلق الذي نحاول تشكيله عن الظاهرة الدينية ليس جوهرانيا ولا ماهويا أبدا!!!)
قلت إن العلة في هذا الغموض والمراوغة هي شعور المنحرفين بأن الإفصاح عن ما يردون قوله سيعجل بخسارتهم وانتهاء أمرهم ، وهذا ما صرح به زكي نجيب في مقال له بعنوان (نريدها ثورة فكرية) حيث قال ( شئ في مناخنا الفكري يردنا عن إحداث هذه الثورة ،فما زالت الكلمة المسموعة هي لغير الراغبين في ثورة فكرية كالتي أتصورها ، فعليهم أن يراوغوا في التعبير عما يريدون اجتنابا منهم لوجع الدماغ ، تاركين لقرائهم أن ينزعوا المعاني من بين السطور) علق الأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله على هذا الكلام بقوله :هذا إهدار لكرامة القراء وإهدار لشجاعة العقل وإهدار لأمانة القلم.
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)
----------------
الهوامش:
الاعتصام ج 2ص 98
أنظر الاتجاهات الوطنية ج1 ص361
أنظر بحث آراء معاصرة عن تغير الأحكام بتغير الأزمان للدكتور بسطامي سعيد
أنظر بحثه عن الإسلام والدولة التاريخية في كتاب السودان وأهوال الحرب ص 494
جمهرة مقالات الأستاذ محمود شاكر ج2 ص 1052

 

المصدر: http://www.meshkat.net/node/13657

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك