هل ما يجري اليوم عفوي؟

هل ما يجري اليوم عفوي؟

 

د صالح العبد الله الهذلول

 

إن ما يقع في هذا العالم من حوادث ومتغيرات، لا يقع صدفة، ولا خبط عشواء، وإنما يقع ويحدث وفق قانون عام دقيق، ثابت صارم، لا يخرج عن أحكامه شيء البتة.
والبشر في تصرّفاتهم وأفعالهم، وسلوكهم في الحياة، وما يكونون عليه من أحوال، إنما يخضعون لذلك القانون العام، ولا يخرجون عنه ولا يملكون الانفلات منه، أو تجاوزه. وما يترتب عليه من نتائج كالرفاهية أو الضيق في العيش، والسعادة أو الشقاء، والعلوّ أو الانحطاط، والتقدّم أو التأخّر، والقوة أو الضعف، وما ينالون في الدنيا أو ما يصيبهم من مصيبة أو تنزل بهم لأْواء، كل ذلك إنما يجري وفق سنن الله تعالى الثابتة المطّردة، وكما مضت في السابقين، فهي تجري في اللاحقين، ولن تتخلف. وقد وضّحها وبيّنها الله تعالى في القرآن الكريم، وأكّدها في مواضع متعددة، وبأساليب متنوّعة (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً). . وقال سبحانه في آية أخرى: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) . ليعلم الناس يقينًا أنّ ما هم فيه، وما أصابهم، وما حلّ في دورهم وديارهم، لم يحدث شيء من ذلك قط صدفة، أو خبط عشواء، بل نتيجة حتمية لما فعلوه، أو قصّروا في فعله، وليعلموا على وجه اليقين أن الخلاص من الحالة السيئة، والخروج من جحيم المعاناة، لا يكون أبدًا إلاّ باتباع ما تقضي به سنن الله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ). . إن الإنسان – فردًا كان أو جماعة، أو دولة أو حضارة بكاملها – إذا خالف السنن والقوانين الثابتة فهو كمن يسبح ضد التيار! إن صمد وقاوم قليلاً، فمصيره للإجهاد والتعب، ثم السقوط والغرق والموت، وقد لا يُعثر له على جثة!! لأن السيل جرفه بعيدًا ثم طمره وأخفاه عن الأنظار، ولم يبق إلاّ ما يذكره ويتناقله الناس عنه.
إذًا: ليس في الكون مكان للصدفة، وإنما هناك أسباب ومسببات، ونتائج تسبقها مقدمات... لكن الناس يجهلون كثيرًا من ذلك، والجهل بالشيء لا يعني عدم وجوده، ومن ذلكم: أن تدهور أوضاع شخص وتردّي أحواله، وذهاب لمعانه، وأفول نجمه، أو نشوب الخلاف في شركة، ثم ضعفها وإعلان إفلاسها، أو سقوط دولة، أو هلاك أمة، ما هو إلاّ نتيجة حتمية سبقتها مقدمات، لكن الكثيرين لا يشاهدون إلاّ النصر والعلوّ أو السقوط والهزيمة فقط؛ لكونه لا يحتاج إلى عقل يدركه، بل يراه كل أحد حتى المجانينُ والأطفال!!
إن العالِمين (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) يدركون أن مخالفة سنن الله تعالى هلاك لا محالة، ومن سنن الله: أن كل حكم قائمٍ على الظلم فلا بد أن يزول، ويلقى صاحبه الذل والمهانة، وشماتة العدو، لكن لا يمكن تحديد وقته على وجه الدقة كما نحدّد ميعاد غروب الشمس أو شروقها. أما تهاويه وزواله فحتم لا شك فيه، ولا محيص عنه، (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ). . ومع أنه لم ولن يفلت ظالم من عقاب الله في الدنيا والآخرة، إلاّ أن هذه الحقيقة تغيب عن الطغاة والمتجبرين، وينسون جريان سنن الله تعالى في الأمم والحضارات والشعوب والأفراد، ولا يعي ذلك ويدركه ويخشاه، ويحسب له حسابًا إلاّ المؤمنون الطائعون، قال الله تعالى بعد أن ذكر ما حل بفرعون من سوء العذاب: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى). . أما الذي لا يخشى، ولا يرجو ما عند الله فتغيب عنه هذه الحقيقة، ويمضي في طغيانه وظلمه، لتجري عليه سنن الله في أخذه للظالمين.
إن الناس – من حيث الجملة – قلّما ينقصهم العلم بالحق والباطل، وبالهدى والضلال؛ لأنّ الحقّ – بطبيعته – من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الشعوب المسلمة اليوم – بما فيها العرب – جرّبت كل النماذج، وعاشت كل النظم الحياتية من شيوعية واشتراكية وبعثية وناصرية وقومية ورأسمالية وليبرالية وسارترية، فأفلست كلها، وأثبتت على أرض الواقع فشلها، ولم تجن الشعوب المسلمة منها إلاّ الجوع والخوف والمهانة، والتبعية، فانغلق الأفق أمامها، فهي تحاول اليوم أن تتنفس الحرية، وتبحث عن حياة كريمة.
نعم، إن الذي ينقصهم الرغبة في الحق، والقدرة والعزيمة على اختيار طريقه، وهذا لا يوجد إلاّ في ظل الإيمان، ولا يحفظه إلاّ التقوى، ولا يحافظ عليه إلاّ اليقين. وإنما يجري حاليًا في بعض البلدان العربية هو من هذا النوع.
العرب هم الأمة المختارة لحمل رسالة الإسلام، والتبشير بها بين أمم الأرض، بعد أن نكل عنها بنو إسرائيل، فنزعها الله تعالى منهم ليودعها في بني إسماعيل، وقد قام العرب في أول الأمر وصدر التاريخ خير قيام، واستمر ذلك قرونًا، كانوا رحمة على البلدان التي فتحوها والشعوب التي خضعت لهم. واليوم، أمم الأرض تئن تحت أثقال شقاها، وتعاسة نظمها، وبهيمية أخلاقها، وكذب وعودها بالحرية والأمن والرفاه. والعرب المسلمون، إليهم تتوجه الأنظار، وعليهم تُعقد الآمال وتُرجى، وفيهم بذور الخير، وهم المؤهلون لقيادة البشرية متى عادوا لدينهم، واستعادوا مجدهم بالتمسك بدين الإسلام، وصبروا عليه (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) . وقد كانوا كذلك، وهم اليوم ينفضون غبار الجاهليات القومية ويعيدون حسابهم، ويراجعون أنفسهم، ويتذكرون قول نبيهم -صلى الله عليه وسلم- للأنصار يوم حنين: "ألم آتكم ضلاّلاً فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ وأعداءً فألّف بين قلوبكم؟" ويتذكرون مقولات أصحابه، وحملة دعوته، وقادة فتحه الذين ردّدوا ذلك المعنى؛ شهد به جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- في مجلس النجاشي في الحبشة، وشهد به خالد بن الوليد -رضي الله عنه- أمام قادة الفرس والروم، وشهد به المغيرة بن شعبة وربعي بن عامر -رضي الله عنهما- في مجلس رستم ويزدجرد. لقد بدأت الشعوب العربية تدرك أن الدور العظيم الذي تبوّأته في العالم، وشغلت به سمع الزمان وبصره، وغيّرت به مجرى التاريخ كان ببركة الرسالة السماوية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الرايات الأخرى التي هتفوا بها، وجروا خلفها، إنما هي غدر وخيانة، وجوع وديون، وفوضى، وذوبان شخصية وتبعيّة للعدو، وتخلّف وتأخّر، يجب أن ترحل مع منظريها وقادتها والدعاة إليها، الذين رفضتهم شعوبهم، ولفظتهم أرضهم، وخذلهم وتبرّأ منهم كل أحد، حتى الحكومات الغربية التي كانت تلمّعهم وتحميهم (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ).
لئن عرف التاريخُ أوسًا وخزرجًا فلله أوسٌ قادمــون وخزرجُ
وإنّ سجوفَ الغيبِ تخفي طلائعًا مجاهدةً رغم الزعازعِ تخرجُ
إن الدلائل والبشائر من نصوص الكتاب والسنة، ومن واقع الحضارات المادية الآيلة للانهيار، ومن واقع الأمة الإسلامية التي بدأت تصحو على نداء المخلصين، وتهب من رقادها الطويل لتستعيد مكانتها وصدارتها،لتقول:
الإسلام قادم.
(وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). .

المصدر: http://www.meshkat.net/node/13933

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك