توحيد المصطلحات الفقهية أول خطوة ضرورية: التقريب والوحدة مفهومان متغايران

توحيد المصطلحات الفقهية أول خطوة ضرورية: التقريب والوحدة مفهومان متغايران

 

إبراهيم الصالح

 

عندما تُذكر «الوحدة الإسلامية» يُبحر الذهن في أعماق التاريخ الإسلامي، إلى مرحلة الدعوة زمن النبي (ص)، يوم كان المسلمون أمة واحدة. وتعني الوحدة عندئذ إبطال كل أشكال الفرقة اليوم، وتحويل المسلمين إلى فرقة واحدة. ولئن كان الهدف مشروعاً وشرعياً تماماً، إلا أن أذهان المسلمين المتأثرة بالتجربة الإسلامية عبر ألف سنة، تصر على مفهوم ضيق للوحدة، بما يعني إصرار كل صاحب طريقة على أنه الأصح، وأن كل شواهد القرآن والسنة والعقل والحكمة تؤيد توجهه... وعليه، فإن وحدة المسلمين تعني أن يصبحوا كلهم سنة أو كلهم شيعة، بل من الأفضل أن يصبحوا كلهم أحنافاً! وبذلك يصبح الدعاة إلى الوحدة الإسلامية ونبذ التفرق، وكأنهم أصحاب مذهب جديد لا علاقة له بالتاريخ الإسلامي، بل ويجب نبذهم (من وجهة نظر الآخرين)، لأنهم يمثلون دعوة عارضة وطارئة بل قل بدعة جديدة يجب الخلاص منها حتى لا تفسد عقائد المسلمين الثابتة المستقرة على مر الأجيال.

 

دائماً ما تأخذ السامع مقولة أن الوحدة مسألة عالمية، وأن المقصود هو الوحدة بين المسلمين السنة والشيعة، وتأخذه الرجفة أيضاً إذا ما راح ذهنه إلى الوحدة بين كل المسلمين، فإن كان الأمر مقبولاً مع الزيدية فكيف يكون الحال مع الدروز والعلوية والإسماعيلية..؟

 

وينسى السامع أن الوحدة الإسلامية هي شعار انتماء للأمة على القاعة الربانية ﴿وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾.

 

ومن جهة ثانية، إن من مقاصد الوحدة، توحيد المسلمين في إطار المذهب الواحد، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى عمق الخلافات في المذهب الواحد، وحتى في المجال العقائدي أحياناً، وكمثل الخلاف المعروف بين الأشعرية والماتريدية من جهة ومذهب أهل المدينة من جهة أخرى. ولما كانت قاعدة التفريق في المذهب الواحد واسعة، وتصل حد التكفير واستباحة الدماء، فكيف يعقل السامع إمكانية الوحدة في مذهبه فضلاً عن الوحدة بين المسلمين ككل؟!

 

التقريب والوحدة

 

لقد طغى الدمج بين مفهومين مغايرين وهما التقريب بين المذاهب والوحدة الإسلامية، وراح الجميع يحمّل الثاني مسؤولية الفشل في الأول، على الرغم من الاختلاف الأساسي بين المفهومين.

 

فالمفهوم الأول ينطلق من حقيقة مطلقة لدى أبناء المذاهب، حيث يعتقدون أن مذهبهم الخاص هو الصحيح، وأن على الآخرين ترك الخرافة والالتحاق بمذهب الحق. مع أن مفهوم التقريب نشأ في ظروف الاقتتال بين الدولتين الصفوية والعثمانية، وكان التقريب بين المذاهب حاجة مشتركة، لوقف التقاتل لمواجهة الخطر الأوروبي. وكان المؤتمر الذي دعا إليه نادر شاه في النجف الأشرف في 22 شوال 1156 هـ - 19/1/1743، وقد حضره ممثل السلطان العثماني الشيخ عبد الله السويدي وكبير مجتهدي الشيعة السيد نصر الله الحائري. لقد كان المؤتمر حدثاً جليلاً في العلاقة بين دولتين قائمتين على مدرستين عقائديتين تكفر إحداهما الأخرى، ويتيح كل طرف لنفسه التحالف مع أعداء الإسلام ضد الدولة الأخرى «الكافرة». كان حدثاً جليلاً لأنه سمح لأصحاب نظرية تكفير الآخر، بالجلوس بعضهم مع بعض مما أسس لإمكانية ظهور مجمع التقريب في مرحلة لاحقة بأرض الكنانة مصر.

 

إلا أن فكرة التقريب ظلت في مأزق منذ ظهورها إلى أيامنا هذه، لأنها تقر المذاهب على ما هي من حقوق التنازع وحقوق ادعاء الصحة واحتكار الحقيقة، لتتحول مساحة التقريب، إلى ساحة للمجاملات بين المسلمين دون إمكانية الخوض في تجربة تقارب حقيقي بينهم، لأن المدارس الفقهية العقائدية الموجودة تمتلك آلتها الخاصة المتوازية مع الأخرى، التي تسمح بالتحاور بشكل لطيف لائق على قاعدة عدم التقاء مطلق، يتيح للآخر الاطلاع على ما عند الآخر دون أن يسمح لتوحيد وجهة النظر في المسألة المطروحة. ولعل المناظرة التي سجلها السيد شرف الدين في توافقاته هي أجمل صورة على هذا الأمر، ففي أكثر من حلقة نقاش مع أكثر من عالم من علماء السنة، كان الاثنان يتحدثان عن أمرين مختلفين، بما يمنع الإفادة من «التوافقات» حتى يومنا هذا.

 

أهمية مفهوم الوحدة

 

وهنا تبرز أهمية المفهوم الآخر، «الوحدة الإسلامية» والذي يقوم على أسس مختلفة تماماً. فمفهوم الوحدة لا يقر الحق في التنازع بل يرى المذاهب خصوصية داخلية في واقع المسلمين نشأت في تاريخهم، وهي طريقة للفهم والتعبير، وهي حاجة موضوعية للأمة ﴿ولو أراد ربك لجعل الناس أمة واحدة﴾.

 

التنافس أمر رباني والحرام هو التنازع. وبين التنافس والتنازع تنشط الوحدة الإسلامية كمفهوم ومشروع. وفي زماننا الراهن شكلت أكثر من قضية إسلامية مظهراً جميلاً من مظاهر الوحدة.

 

من هنا نرى أن مفهوم الوحدة الإسلامية لا يقوم على صهر المذاهب في مذهب واحد، إنما يقوم على احترام المذاهب كطريقة لفهم الإسلام، ودون الغوص في مسألة التقييم، ودون الدعوة إلى قيام مذهب جديد (مذهب الوحدة)، بل يدعو إلى تعاون أبناء الأمة جمعاء على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم ونبذ الاختلاف، بل جعله طريقاً للتنافس لا للتنازع على أساس الانتماء للأمة.

 

توحيد المصطلح

 

وعلى الرغم من طول تجربة التقريب بين المذاهب، وأهمية لقاءاتها واجتماعاتها، فلا أدري لماذا لم يصل أصحابها إلى خطوة كان المهم القيام بها، وتدخل في صلب مهمتهم، ألا وهي توحيد المفاهيم الفقهية ومصطلحاتها ليتحول الحوار بين الفقهاء إلى حوار في الساحة الواحدة، فعلى الرغم من أن هذه المفاهيم والمصطلحات كانت يوماً موحدة بحكم وجود أرض الإسلام حيث يقوم عليها المسلمون ويدافع الجميع عن حدودها واستمرارها.

 

وإن كنا اليوم من دعاة تجديد الفقه الإسلامي لأننا نرى الإسلام قائداً ويجب تيسير فهمه للناس ليس في أمور الوضوء والصلاة والصيام فقط، بل في نظرته وأحكامه لمسائل الحياة، فإننا نرى بأنه لا بد في هذا الزمان من أن يتصالح المسلمون، وفقهاؤهم هم المقصودون أساساً في هذا الأمر ليس فقط على صعيد توحيد المصطلحات الفقهية بل على مستوى تجديدها وتحديثها بما يتناسب مع تعابير ومصطلحات هذا الزمان، ليصبح كل علماء هذه الأمة لا أقصد في المجال الديني بل في كل المجالات على فهم أحكام الإسلام ومقاصده دون الحاجة إلى العودة إلى الفقيه – الترجمان بل الفقيه القائد الذي يحدد الاتجاهات والأهداف.

 

وحتى لا يكون هناك حاجة إلى بروتستانتية إسلامية أو حتى لا يأخذنا تبسيط الأحكام الفقهية واستنباطها إلى وصول الأمة لتحكم بآراء الفقهاء – الأهواء، وما الحالة العبثية التي شهدتها الجزائر ومصر والتي استمدت جذورها من التجربة الأفغانية إلا أسوأ صورة لذلك.

 

المصدر: تجمع العلماء المسلمين في لبنان

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك