فهم النصوص بين الظاهرية والمقاصدية، وذهنية التحريم والتحليل

فهم النصوص بين الظاهرية والمقاصدية، وذهنية التحريم والتحليل

 

محمد بن جماعة

 

كثيرا ما يحدث في حواراتنا الدينية أن نستشهد بآيات قرآنية أو بأحاديث نبوية، ثم نكتشف أننا نفهم هذه النصوص بطرق مختلفة، أو نستشهد بها أو نطبقها بطرق مختلفة. وبقدر ما نخوض في حواراتنا في تفصيلات الدين وجزئياته بقدر ما يصبح احتمالات الاختلاف أكثر، ونكتشف وجود فوارق في مابيننا. وهذا ما يدفع كثيرا منا لأن يعتبر نفسه من أتباع مذهب معين أو مدرسة، أو عالم من العلماء، أو شيخ من المشايخ.

 

وحين نحاول معرفة الأسباب الموضوعية لهذا التنوع القائم، يتكرر على مسامعنا اعتبار الاختلاف أمرا سلبيا وخطيرا وأن سببه الرئيسي هو الجهل واتباع الهوى من قبل البعض، في مقابل العلم واتباع الحق الذي يميّز الآخرين، أو اتباع الدليل أو اتباع السنّة. ومثل هذا التركيز على عاملي الجهل واتباع الهوى حين نتحدث في المواضيع الخلافية في فهم الدين أمر خاطئ خصوصا حين نورده في سياق عام كخطب الجمعة أو المحاضرات العامة. وتصبح درجة الخطأ أكبر حين يتكرر الحديث عن الجهل واتباع الهوى كلما تطرق الحديث إلى مسألة من المسائل الخلافية.

 

 

ولا شك أن جانبا من الاختلاف بين المسلمين منبعه اتباع الهوى والجهل. ولكن اتباع الهوى والجهل لا يفسران جميع مظاهر الخلاف والتنوع التي نشهدها في فهمنا وممارستنا للإسلام. بل توجد أسباب كثيرة ومختلفة، بعضها ذاتي متعلق بشخصية الأفراد وتركيبتهم العقلية والنفسية والثقافية والعلمية، والبعض الآخر بطبيعة النصوص الشرعية التي يحتمل بعضها تعددا في المعاني الممكنة..

 

ولذلك فمن الضروري أن نميز بين أمرين اثنين: من الضروري أن نميز بين الاختلاف والتنوع..

 

وإذا كان الاختلاف مذموما فإن التنوع أمر طبيعي يجب الاعتراف به والقبول به لأنه سنة من سنن الله تعالى التي وضعها في البشر. والمؤسف أن كثيرا من الإخوة يخلطون بين الأمرين فيحكمون على كثير من الاختلافات الطبيعية في فهم الدين وتطبيقه على أنها من الاختلاف المذموم الناتج عن الجهل واتباع الهوى، في حين أنها تدخل في دائرة التنوع الناتج عن اختلاف الناس في طرق تفكيرهم، وأنماط شخصياتهم، وتركيبتهم النفسية والمؤثرات الثقافية والاجتماعية التي تحكم سلوكهم.

 

يوجد أمران هامان نحتاج لاستحضارهما دائما حين نرى بعض الاختلافات في ما بيننا في فهم القرآن والسنة وفي تنزيلهما في واقعنا اليومي:

- أولهما: أن البشر بصفة عامة يتراوحون في التعامل مع النصوص التي يقرأونها بين النظر إلى ظاهر الألفاظ التي يقرأونها وبين المعاني التي تستبطنها هذه الألفاظ. وهذا الأمر ليس متعلقا بالضرورة بالنصوص الدينية، ولا بالمسلمين، وإنما هو ظاهرة بشرية عامة. ولكن آثار هذا التنوع البشري تصبح أهم وأكبر عند التعامل مع النصوص الدينية كالقرآن والحديث النبوي..

 

وللإمام ابن القيم عبارة هامة في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين)، يصنّف فيها الناس في تعاملهم وتعاطيهم مع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلى صنفين. قال رحمه الله: "وَالْأَلْفاظ لَيْسَت تَعَبدِيَّة، والْعارف يقول ماذا أَراد؟ واللَفْظيُّ يقول ماذا قال؟". ومعنى هذه العبارة أن هناك صنفين من الناس: صنف يسأل (ماذا قال؟)، وصنف يسأل (ماذا أراد؟). وبين ابن القيم أن العلم الحقيقي هو معرفة (ماذا أراد). أما معرفة (ماذا قال)، فهذه يصل إليها الجميع، حتى الأطفال، ولذلك قد نجد طفلا يحفظ القرآن ولا نقول إنه عالم أو مفسر، ونجد شابا يحفظ المتون الفقهية ولا نقول إنه فقيه. ولذلك ذكر أبو حامد الغزالي أنّ من جمع وحفظ النصوص والألفاظ والروايات، كان يسمى "وعاء من أوعية العلم"، يقال: فلان من أوعية العلم، واعتبرها عبارة مدح من جهة، وعبارة انتقاص من جهة أخرى، لأنه جمع وحفظ، كما يجمع الوعاء ويحفظ ما يوضع فيه.

 

هذه المراوحة بين الوقوف عند ظاهر الألفاظ وبين التعمق في فهم مقاصد الكلام، تمثل أهم عامل من عوامل التنوع بيننا كمسلمين: فنحن نختلف في درجات التركيز على الألفاظ والمعاني. وهذا ما قصده ابن القيم.. وهذا التأرجح بين الوقوف عند اللفظ والبحث عن المعنى في واقعنا، ينتج أربعة أصناف من الناس في التعامل مع النصوص الشرعية: اللفظيون، والظاهريون، والمقاصديون، والباطنيون.

 

* فاللفظيون، يحصرون اهتمامهم في فهم ألفاظ الآية أو الحديث في وضعها اللغوي فقط، ولا يهتمون بفهم المراد من الكلام من خلال السياق أو العلاقة بالنصوص الأخرى.

 

* والظاهريون أو أتباع "الظاهر"، يقفون عند ما أدى إليه الاستنطاق المباشر للألفاظ دون النظر في العلل الباعثة عليها والحِكَم والمقاصد التي وراء الكلمات.

 

* والمقاصديون: أي الباحثون عن المعاني والمقاصد يرون بضرورة الجمع بين اللفظ والمعنى في فهم النصوص، لأن اللفظ هو المعبّر عن المعنى والمعنى هو المراد باللفظ. فاللفظ هام لكونه منتِجًا للمعنى، والمعنى هام لكونه المنتَج المرادَ. والمقاصديون يتساءلون دائما: ما المقصود من هذه الآية أو الحديث؟ ومن هذا الأمر أو هذا النهي؟ ولم قال كذا في هذا الموضع وقال كذا في الموضع الآخر؟ إلخ.

 

* وأما الصنف الرابع فهم الباطنيون. وهؤلاء يزعمون أن للنصوص القرآنية والنبوية بواطن لا تُفْهَم من ظاهر النصوص، وأن القدرة على فهم هذه البواطن والأسرار والحقائق لا يملكها إلا الخاصة، إما في هيئة إمام معصوم كما هو عند الشيعة، أو في هيئة شيخ طريقة كما هو عند بعض الصوفية.

 

هذه باختصار شديد الأصناف الأربعة في التعامل مع النصوص الشرعية..

 

أما اللفظيون والباطنيون، فانحرافهم شديد عن رسالة الإسلام وتعاليم الإسلام الحقيقية..

 

وأما الظاهريون والمقاصديون، فيشكلون في مجموعهم تيار الأمة الإسلامية الواسع الذي ننتمي إليه، كما أشار إلى ذلك النبي (ص) وأقره في الحادثة المتعلقة بصلاة العصر في بني قريظة، حيث أقر كلا الفريقين من الصحابة على تعاملهم مع أمره..

 

ومن المفيد أيضا التذكير بأن هذا التقسيم إلى لفظيين وظاهريين ومقاصديين وباطنيين، لا يعني أن المسلم يكون دائما في جميع تعاملاته مع النصوص ضمن أحد هذه التصنيفات. بل قد يكون الواحد منا ظاهريا في تعامله مع بعض النصوص، ومقاصديا مع البعض الآخر، إلى غير ذلك.

 

إذن: الأمر الأول الذي ينتج هذا التنوع الطبيعي بين المسلمين في فهم القرآن والسنة وفي تنزيلهما في الواقع، متعلق بثنائية اللفظ والمعنى، أو الظاهرية والمقاصدية..

 

وأما الأمر الثاني الذي ينتج هذا التنوع الطبيعي، فيتعلق بما يسمى ثنائية (التحريم والتحليل)، أو ثنائية (التشديد والتخفيف) أو ثنائية (التيسير والتعسير)، التي يختلف فيها الناس اختلافا طبيعيا، داخل وخارج إطار التدين، في الأمور الدينية والأمور الدنيوية. ولا يتسع الوقت للحديث طويلا في هذه النقطة، غير أنني أقول: إن سبب تنوع المسلمين في المراوحة بين التيسير والتعسير أو التشديد والتخفيف، يعود إلى ثلاثة عوامل رئيسية:

 

- أولها عامل وراثي، تنتقل من خلاله الخصائص النفسية من الآباء للأبناء.

 

- وثانيها عامل تربوي، يتأثر من خلاله الإنسان بعشرات الأشخاص المحيطين به في البيت والمدرسة والشارع والعمل، نتيجة العلاقات الاجتماعية.

 

- وثالثها متعلق بالصعوبة المقصودة التمييز بين ما هو حلال بيّن، وما هو حرام بيّن، وما هو متشابه، وبصعوبة التمييز بين ما محله التيسير ومراعاة القواعد والمقاصد والظروف والأحوال، ودفع الحرج عن الأمة، وما محله الورع واجتناب المشتبهات واتباع الأحوط وسد الذرائع. وهذه الأمور بطبيعتها أحكام ذاتية وليست موضوعية، ولذلك فلا يمكن أن يتعامل معها الناس جميعا بنفس الأسلوب والمنطق.

 

لذلك، فالتشدد أو الميل إلى التحريم ليس دائما دليلا على الاستقامة والالتزام، والعلم والورع، والثبات على الدين والتمسك بالحق.. وفي المقابل، فإن التيسير والميل للتخفيف على الناس ليس دائما دليلا على التسيب والتفريط، واتباع الهوى، وتمييع الدين، والتخلي عن الثوابت. فالأمر أكثر تعقيدا مما نظن. ولذلك فيجب عدم التسرع في الحكم على الآخرين سلبا أو إيجابا من هذا الجانب.

 

ويجب أيضا الانتباه إلى عدم التسرع في وصف رأينا وفهمنا الشخصي على أنه الحق الذي يريده الله ورسوله، لقوله تعالى في (سورة النحل:116): [وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ].

 

ولذلك، فقد كان غير واحد من السلف يقول: (لِيَحْذَرْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ: أَحَلَّ اللَّهُ كَذَا أَوْ حَرَّمَ كَذَا. فَيَقُولَ اللَّهُ لَهُ: لَمْ أُحِلَّ كَذَا وَلَمْ أُحَرِّمْ كَذَا).

 

وقال الإمام مالك: (لَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ وَلاَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ، وَيُعَوِّلُ الإِسْلاَمُ عَلَيْهِمْ، أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَلَكِنْ يَقُولُ: أَنَا أَكْرَهُ كَذَا وَأُحِبُّ كَذَا. أَمَّا حَلاَلٌ وَحَرَامٌ، فَهَذَا الافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ. أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى في سورة (يونس:59): [قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ].

 

وثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب، قال (ص): «وَإِذَا حَاصَرْتَ حِصْنًا، فَسَأَلُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللَّهِ أَمْ لاَ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ وَحُكْمِ أَصْحَابِكَ».

 

إذن، عوض الإكثار من ذكر قضايانا الخلافية ومناقشتها، نحتاج أن نكثر من الحديث عن التنوع الطبيعي الذي يميّزنا، وأن نوطّن أنفسنا على القبول به، وعدم الانتقاص من مخالفينا في فهم النصوص الدينية، واعتبار أن وجود الاتجاهين (الظاهرية والمقاصدية في التعامل مع النصوص، أو التيسير والتعسير) أمر ضروري لتحقيق التوازن في أمتنا المسلمة وعدم السقوط في أحد طرفي الانحراف، (اللفظية والباطنية، أو التطرف والتسيب). وعلينا أن نبحث دائما عن القيم والهموم والواجبات المشتركة فنتعاون في أدائها والقيام بها، فذلك أولى الأولويات في مجتمعنا المسلم..

المصدر: http://www.alwihdah.com/fikr/madhaheb/understanding-of-the-texts-between....

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك