أُمَّـة مُعرَّضة للخطر - أدب الاختلاف

أُمَّـة مُعرَّضة للخطر - أدب الاختلاف

  • أ.د عباس محجوب
  • الأستاذ بالدراسات العليا- جامعة النيلين
  •  
  • نحن أُمّة تعرف كيف تختلف ولكنها لا تعرف كيف تتأدب عندما تختلف ، لأن الاختلاف بين أفراد الأُمّة وعلمائها من الأمور الفطرية الطبيعية التي خُلف الناس عليها وجُبلوا ، لأنّ البشر يختلفون – حسب الفروق الفردية بينهم – في فهومهم وقدراتهم ، وإمكاناتهم ، ويتباينون في مواقفهم وأفكارهم وآرائهم ، كما يتفاوتون في مقاماتهم وأقدارهم .
    وقد أدرك سلفنا الصالح تلك الحقيقة ، فكانوا يضعون العلماء - وقد اختلفوا معهم - في المواقع التي تحفظ لهم أقدارهم وتحميهم من تغوُّل أصحاب الألسنة والأغراض عليهم ، فقد كان الإمام الشافعي – رحمه الله – لا يذكر اسم الإمام أحمد بن حنبل إلا تقديراً له وإعلاءً لشأنه فيقول : " حدّثنا ثقة من أصحابنا وأنبأنا الثقة وأخبرنا الثقة" ، كما كان الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – يقول عن الإمام الشافعي – رضوان الله عليهما – : " إنّه كان كالشمس للدنيا ، وكالعافية للناس فانظر هل لهذين هل من خلف أو عِوض ؟ " .
    وقد روى صالح بن الإمام أحمد قال : " لقيني يحيى في حين فقال : أما يستحي أبوك فيما يفعل ؟ قلت : وما يفعل ؟ قال : رأيته مع الشافعي ، والشافعي راكب وهو راجل أخذ بزمام دابته " يقول صالح : فقلت لأبي ذلك فقال : إن لقتيه فقل له: يقول لك أبي : " إذا أردت أن تتفقّه تعال فخذ بركابه من الجانب الآخر " .
    فهؤلاء الأئمة أرادوا تعليمنا كيف نتأدب مع علمائنا ، وكيف نعاملهم ونُثني عليهم ، ولا نذكرهم إلا بالخير ، وإنْ كنا نظن - وبعض الظنّ إثم – دون تحقيق أو دليل أنّ اختلافهم بسبب الهوى والغرض ، إنّ ديننا يضع في أوليات آدابنا إحسان الظنِّ بالناس عامة وبعلمائنا خاصة ، لأن الأدب وحُسن الخُلق وإحسان الظنِّ هو الذي حفظ لنا تراث علمائنا وصان لنا أعراضهم وعلومهم من أصحاب الضغائن والأهواء والأغراض .
    وقد أراد أسلافنا أن يعلِّمونا أن نحوِّل الخلاف إلى خلاف شخصي ، وألا يؤثر تباين الاجتهاد ورفض بعض الآراء في اتخاذ مواقف عدائية واتهامات شخصية لمن نختلف معهم في الرأي والوسيلة أو التقدير .
    إنّ المقلِّدين من المتأخرين - وإنْ ادعوا التجديد لأنفسهم - قد أُشربوا روح التعصب ، وجانبوا روح العلم ، وافتقدوا تلك الآداب التي تدل على صفاء النـيِّة وصدق المقصد ، وسلامة القلب ، والتجرُّد للحق مهما كان الاختلاف ، لأنَّهم إذا اختلفوا في سبيل الحق - حقيقةً - لتحرُّوا الموضوعية ، واعتبروا أنّ الجميع مجتهد ، بعضهم يصيب فله أجران وبعضهم يخطئ في اجتهاده - مع صدقه- فله أجر .
    إنّ تحوُّل الاختلاف إلى جدل عقيم ، وتنابز وطعن في العلماء ، وتسفيه لأقدارهم ومقاماتهم ، وإدعاء المعرفة ببواطن نيَّاتهمم كل ذلك يؤدي إلى التناحر والتشتت والفُرقة والتدهور ، والبُعد عن منهج رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم – ( إنَّ الذِيْنَ فَرِّقُوا دِيْنَهُمْ وكَانُوا شِيَعَاً لستَ مِنهم فَي شَيء ) وكما يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة : " إنّ الاختلاف بوجهات النظر بدل أن يكون ظاهرة صحية تُغني العقل المسلم بخصوبة في الرأي ، والاطلاع على عدد من وجهات النظر ، ورؤية الأمور من أبعادها وزواياها كلها ، وإضافة عقول إلى عقل ، انقلب عند مسلم عصر التخلّف إلى وسيلة للتآكل الداخلي والإنهاك ، وفرصة للاقتتال حتى كاد الأمر أن يصل ببعض المختلفين إلى حدِّ التصفية الجسدية ، وإلى الاستنصار والتقوِّي بأعداء الدين على صاحب الرأي المخالف ، ولهذا في التاريخ القريب والبعيد شواهد ، فكثيراً ما يعجز عن النظرة الكلية السوية للأمور ، والرؤية الشاملة للأبعاد المتعددة فيقبع وراء جزئية يُضخِّمها ويُكبِّرها حتى تستغرقه إلى درجة لا يمكن معها أن يرى رأياً آخر ، وقد تصل به إلى أن يرى - بمقايسات محزنة - أعداء الدين أقرب إليه من المخالفين له في الرأي من المسلمين الذين يتلقون معه على أصول العقيدة نفسها .
    إنّ الإسلام علَّمنا المنهج الذي يقوم به الأفراد فما من فردٍ مهما بلغ من موازين الدنيا إلا وهو معروض على ميزان التقوى ، وصلاح العمل ، وحُسن النيـِّة والتجرُّد إلى الله ، والبُعد عن مواطن الرِيبة والظن ، لأنّ الأشخاص كما يقول الأستاذ عمر عبيد رئيس تحرير مجلة الأُمة السابق : " يُقاسون بالمنهج الإسلامي ، والقِيم الإسلامية ، ولا يُقاس الإسلام بهم مهما علا شأنهم ، والذي يمثل محلّ الأُسوة والقدوة بالنسبة للمسلم هو المعصوم عليه الصلاة والسلام " .
    وكل البشر يخطئ ويصيب ، ويُؤخذ من كلامه ويُردّ ، إلا المعصوم - صلّى الله عليه وسلّم - وهذا في نظرنا يُشكِّل الضمانة الأكيدة لسلامة العمل واستمراره وسداده ، ذلك أنّ المشكلة في التصوير الإسلامي الآن كما يبدو أننا قد نصل في تقديس الأشخاص إلى مرحلة العصمة عن الخطأ إلى مرحلة الملائكة ، فإذا تكشّف لنا شيء من الخطأ - وهذا أمر طبيعي - فكل ابن آدم خطّاء ، أنـزلناه إلى منـزلة الشياطين - لذلك يقتصر التعامل في نظرنا - إما مع ملائكة لا تخطئ أو مع شياطين جُبلت على الخطأ والخطيئة !! ، أما التعامل مع البشر الذي يخطئ ويصيب ، والقدرة على إبصار الصواب والخطأ ، وإعطاء كل أمر ما يستحقه وعدم بخس الناس أشياءهم ، فهذا لا يزال غائباً عن حياة بعض مسلمي اليوم والله تعالى يحذِّرنا ويقول : ( وَيْلٌ للمُطَفِفين ) وبعضنا يظن أن التطفيف إنّما يكون في الميزان والكيل فقط ! .
    إنّ القِيم معصومة والأشخاص والأغراض زائلة ، والبشر خطّاءون ، قد تسقطهم أخطاؤهم وقد يسقطهم أعداء الإسلام بوسائلهم الماكرة التي تتوجه أول ما تتوجه إلى دعاة الإسلام - لتحطيمهم بإساءة سمعتهم أو اتهامهم أو تلفيق الأكاذيب حولهم - وقد تستطيع احتواء بعضهم وتوظيفه لسبب آخر من رغبة أو رهبة ، ولإعجابي بتحليل الأستاذ عمر عبيد لهذه الظواهر في حياتنا أنقل عنه أيضاً قوله :
    " لا يجوز بحال أن تنقلب الوسائل إلى غايات أو تتلبس الوسائل بالغايات فيصبح شعارنا خطأ الشيخ خيرُ من صواب المُريد ، وتسود مناخنا الثقافي الإسلامي مفهومات مغلوطة توقف عملية المناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي صانت الرسالة الإسلامية والأُمّة الإسلامية في تاريخها الطويل من الانحراف ، وحملتها على الولاء للمنهج وعدم التحريف ، والشذوذ الجماعي ، والعثرات المردية على طريقها الطويل ، وحفظت القادة والزعماء ، والدعاة والمفكرين والعلماء من الافتتان بالرأي ، والإعجاب بالنفس ، والانـزلاق بالخطأ ، كما حفظت الأُمة أن تقع فريسة لشذوذ أو تطرُّف أو غُلوٍ ، أو تعثُّر أو تمزُّق " .
    إنّنا في حاجة أن نفرِّق بين الأشخاص والأفكار ، وفي حاجة إلى إحسان التعامل مع بعضنا ومع المجتمعات الأخرى ولو كانت بعيدة عن الإسلام ، كما أننا بحاجة إلى امتلاك قدر كبير من المرونة والرفق ومعرفة فقه التعامل ، وهذا الرفق أدب يخبرنا المعصوم عليه الصلاة والسلام أنّه ما كان في شيء إلا زانه ، وما نُـزع من شيء إلا شانه ، والله يحبُّ الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على سواه ، فأين الرفق في سلوكنا ونحن نقرأ ونُعلِّم صغارنا أدب الرفق وأهميته .
    إنّ أعداءنا يوظفوننا أحياناً في القضاء على بعضنا وتدمير علمائنا ومشايخنا ، وتسفيه آرائنا وتعظيم خلافاتنا .
    إنّ أدب الاختلاف يقتضي أن نتمسك بصفاته - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رفقه وحلمه ، ويُسره وأدبه ، وبساطته وتواضعه ، وابتعاده عن الفظاظة في القول ، والجلافة في الفعل وجارح الكلام وسوء القول ، إننا في حاجة أن نفقه أدب الاختلاف ، وتقبُّل الآخر ، والاعتراف للآخرين بحقهم في الاجتهاد والنظر ، والقبول والرفض ، و الصواب والخطأ ، كما نحتاج من علمائنا ومشايخنا أن يكونوا قدوة لنا وأن يعلِّمونا كما كان الإمام مالك - رحمه الله - يُعلِّم تلاميذه وأتباعه فيقول :
    " إنّما أنا بشر أُخطئ وأُصيب ، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وما خالف فاتركوه ، إنّ هذا العلم دين فانظروا مَن تأخذوه منه " وكذلك كان الإمام أبو حنيفة فقد قيل له : " هذا الذي تُفتينا الصواب بعينه ، قال : ما أدري عسى أن يكون الخطأ بعينه " .
  • المصدر: http://www.meshkat.net/node/14235

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك