تيارات التغيير في العالم الإسلامي بين التوسط والتطرف
تيارات التغيير في العالم الإسلامي بين التوسط والتطرف
الصلاح والفساد خاصية ثابتة للمجتمعات البشرية يتعاقبان على كل مجتمع كما يتعاقب الليل والنهار والحر والبرد والصحة والمرض . ويعج العالم الإسلامي المعاصر خلال القرنين الماضيين بتيارات مختلفة تسعى لإحداث تغيير في واقعه وإصلاح أحواله . ومن أجل أن نترسم سياسة المستقبل لهذه التيارات نحتاج أولا لتصنيفها وتحليل برامجها ثم البحث عن أفضل السبل المتاحة لها للتوسط ونبذ التطرف .
1.
أصول الإسلام هي القرآن والسنة . والمنهج العلمي الذي يقوم عليه فهم هذه الأصول من الأمور التي تفصل بين تيارات التغيير . لا شك أن لدى الجيل الحاضر قدرا هائلا مما تركه الأوائل . فما الذي يقبل وما الذي يرفض من هذا التراث؟
2.
أقسام الدين الرئيسية ثلاث: عقيدة وشريعة وتصوف وتحت كل قسم منها شعب متعددة . وتختلف تيارات التغيير في ميزان التوازن بين هذه الشعب وترتيب أولوياتها .
3.
منذ بداية هيمنة الغرب على العالم الإسلامي في منتصف القرن الثامن عشر أزيح الإسلام عن الحياة العامة واستبدلت الشريعة بقوانين غربية ومن ثم أصبحت قضية الحكم الإسلامي قضية أساسية في قاموس تيارات التغيير في العالم الإسلامي تتباين مواقفها منها وتتعدد .
4.
التطور سنة الحياة وهناك إجابات متعددة لدى كل الحضارات على سؤال ما الثابت وما المتغير في حياة البشر . وللعالم الغربي المعاصر رؤيته الخاصة في هذه القضية تبلورت لقرون في مناهج علمية وأنماط حياة تقوم على فكرة التقدم المطلق ونسبية الحقيقة حسب الزمان والمكان . وبسبب قيادة الغرب الحالية للعالم أصبحت رؤيته للحداثة هي الميزان الذي توزن به نظم الحياة . وتفرقت بتيارات التغيير في العالم الإسلامي الطرق حسب نظرتها وتعاملها مع قضية الحداثة .
5.
تتعدد طرق التغيير في كل مجتمع ولكل تيار في العالم الإسلامي منهجه الخاص في ذلك من دعوة بالحسنى وتربية وتعليم إلى تكوين احزاب سياسية وثورة بالسلاح وعنف .
1.
امتداد للطرق الصوفية التي تشكلت خلال عصور متطاولة في نظام محكم للتربية وتزكية النفس ، ولايزال انتاجه الفكرى والعملى محصورا في هذا المجال . ويحتفظ التصوف بنفوذ كبيرفي العالم الإسلامي نتيجة لكثرة الأتباع والامتزاج بالقواعد الأسرية والقبلية العريقة المتيزة بثرائها وسلطانها . وساهم هذا التيار في مقاومة الاستعمار سلبيا بالعزلة وإيجابيا بالثورة . ثم أصبح في الغالب مطية للتيارات الأخرى خاصة للعلمانية .
2.
يقوم هذا التيار على مبدأ تنقية التراث مما علق به من الشوائب الدخيلة والانحرافات عن طريق الاعتماد على الكتاب والسنة وفهم الأجيال الأولى من المسلمين لها . وقد اتجه جل همه لمسائل العقيدة ومحاربة التصوف ومعظم انتاجه الفكري في هذا المجال . ودخل هذا التيار ميدان السياسة بعد بروز التيار الشيعى وازدياد تاثيره ثم دخل ميدان الجهاد المسلح في الحرب على الشيوعية . ودفعت به هذه التغيرات لاتباع أساليب التيار السياسي الإسلامي في التعبير والتغيير .
3.
نشأ هذا التيار مع انهيار الخلافة العثمانية ، ومن أولوياته إعادة حكم الإسلام وتحكيم الشريعة وبسط نظم الإسلام في كل مجالات الحياة . ولهذا التيار انتاج فكري غزير في نقد الحضارة الغربية وبيان بدائل الإسلام لنظمها المعاصرة . واتسم بالمرونة في مواجهة التصوف والسلفية ولكنه حارب بلا هوادة العلمانية والاستبداد . وقاد الجهاد المسلح ضد الصهيونية والشيوعية ولكنه مع هذا اتبع غالبا أسلوب التغيير السلمي . وتعرض الاستبداد لهذا التيار باقسى أنواع الاضطهاد من سجن وتعذيب وتشريد ، وأدت ضراوة الفمع له لتشعب جماعات منه تشبه الخوارج في إيمانها بضرورة استعمال السيف والعنف في مواجهة المخالفين .
4.
العلمانية من آثأر تقليد الغرب وقد بدأت جذورها في أكثر البلاد تواصلا مع أوربا خاصة تركيا ومصر والهند ثم سرت للعالم الإسلامي قاطبة . وتقوم على مبدأ حصر دور الدين في مجالات خاصة وإبعاده من توجيه السياسة والحياة العامة . وقد استعان العلمانيون بالدين في خدمة مصالحهم وخاصة الطرق الصوفية . ولقد قام العلمانيين بقيادة تحرر العالم الإسلامي من الاستعمار المباشر ولكنهم مع وطنيتهم لم يفلتوا من سلطانه الثقافي بالكلية . ومع علمانيتهم إلا أن قليلا منهم قد ألحد ونبذ الدين بالكلية، ولا تزال أغلبيتهم تتمسك بإسلامها على درجات متفاوتة.
5.
العصرانية مثل العلمانية من آثار تقليد الغرب، ومن أكبر دوافع التيار العصراني ردة الفعل القوية ضد مخلفات عصور انحطاط المسلمين، ومحاولة مراجعة الإسلام في ضوء مفاهيم الحداثة الغربية . ولكنه جاوز كثيرا من الضوابط في تفسير النصوص وتأويلها، وألبس كثيرا من مفاهيم الغرب ونظمه لباسا إسلاميا.
مع تباين تيارات الإصلاح الإسلامي واختلافها، إلا أنها كلها دون استثناء مثل ألوان الطيف، يبدو لون كل واحد منها متميزا وخاصا، إلا أنه في حقيقته مجموعة من الألوان المتمازجة المتشابكة. فكل واحد من هذه التيارات يعج بفصائل شتى، بينها شد وجذب، وكر وفر. ومن الحقائق التي لا ينبغي أن تقبل الجدل أن في كل واحد من هذه التيارات توسط وتطرف وإن كانت لا تقر هي في أغلب الأحيان بذلك. ولا شك أن التوسط والاعتدال أمر مرغوب وقد يدعيه كل تيار لنفسه، وأن التطرف والغلو أمر مرفوض وقد يلصقه كل تيار بغيره وينفيه عن نفسه. فما التوسط وما معاييره ومعالمه؟
لا شك أن الوسط من أهم سمات الأمة المسلمة ومن خصائصها الأساسية ، التى أثبتها الله عز وجل لها وعرّفها وميّزها بها ، حين قال: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) . وهذه الآية هى الأصل في تحديد مفهوم الوسط ، ومنها انبثقت مقوماته . وقد اصطبغت بخاصية الوسط التى وجه إليها القرآن القرون الماضية والأجيال المتقدمة من المسلمين ، فكانوا بذلك خير أنموذج للحضارة والتمدن ، وخير قادة وأئمة للبشرية علميا وعمليا . ثم تغيرت الحال وتبدلت وضعفت صبغة الوسط بين المسلمين أفرادا وجماعات، وضاعت ملامحها في عصرنا الحاضر ، بل غاب مفهومها عن كثير من الناس حتى صارت توصف بها جماعات هم أحق بأضدادها . ثم تعقدت المشكلة حين تأثر المسلمون بمفاهيم الغرب للوسط ، وشاعت بينهم مسمياتها ، فصارت الأمور مختلطة مختلة مضطربة .
فما معنى الوسط؟
للوسط معان متقاربة دلت عليها شواهد كثيرة ، وبالنظر فيما ورد عنها والتأمل في استعمالاتها يتضح أن المصطلح يعود إلى ثلاثة معان أساسية متقاربة .
إِنِّي كأَنِّي أَرَى مَنْ لا حَياء له ** ولا أَمانةَ، وسْطَ الناسِ، عُرْيانا
فالمعنى الأصلى لكلمة وسَط بالفتح يدل على كون الشئ نصفا بين طرفين ، سواء كان ذلك في الحسيات من جهات ومقادير وغيرها أو كان في المعاني . ومن الأحاديث التى استعمل فيها هذا المعنى بوضوح ما رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ) ، فجعل للطعام وسطا وهو ما كان نصفا بين جوانبه . ومن استعمال الكلمة ومشتقاتها في هذا المعنى قول الله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) ، يعنى بأوسط ما كان بين الرفيع والدنئ في نوع الطعام اوفي كثرته وقلته . فقد ذكر القرطبي أن معنى أوسط هنا "منزلة بين منزلتين ونصفاً بين طَرفين ، وروى عن ابن عباس قال: كان الرجل يَقُوت أهله قُوتاً فيه سَعة وكان الرجل يَقُوت أهله قُوتاً فيه شدَّة؛ فنزلت: ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ). قال القرطبي: وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه وهو ما كان بين شيئين. ولهذا جاء في الصحاح في اللغة للجوهري أنه يقال شيءٌ وَسَطٌ، أي بين الجيِّد والرديء.
وبهذا المعنى الأصلى فسر قول الله تعالى (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) . قال الطبرى: وأرى أن الله تعالـى ذكره إنـما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم فـي الدين، فلا هم أهل غلوّ فـيه ، ولا هم أهل تقصير فـيه ولكنهم أهل توسط واعتدال فـيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلـى الله أوسطها. ووافق كثير من المفسرين الطبري فيما رجحه في معنى الآية ، منهم القرطبي الذي قال: " ولما كان الوسط مجانِباً للغلوّ والتقصير كان محموداً؛ أي هذه الأمة لم تَغْل غُلوّ النصارى في أنبيائهم، ولا قَصّروا تقصير اليهود في أنبيائهم." وقال الرازي أيضا: ": يجوز أن يكونوا وسطاً على معنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرِط والمفرِّط والغالي والمقصر في الأشياء لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابناً وإلهاً ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه."
والمقصود أن معنى وسّط الذي جاء في صفة الأمة المسلمة هو القصد والتوازن ، والبينية والبعد عن طرفي الإفراط والتفريط أو الغلو والتقصير أو التشدد والتساهل .
وجاء في حديث مرسل (خيرَ الأمُور أوْساطِها) ، ومن تعليقات ابن الأثير على هذا الحديث قوله: "كُلَّ خُصْلة مَحْمُودة فَلَها طَرَفان مَذْمُومَان ، فإن السَّخَاء وَسَط بين البُخْل والتَّبْذِير، والشَّجَاعة وسَط بين الجُبْن والتَّهَور. والإنسان مَأمُور أن يَتَجَنَّب كلَّ وَصْف مَذموم ، وتجنبه بالتَّعَري منه والبعد عنه ، فكلما ازداد منه بعداً ازداد منه تَعَرِّياً ، وأبْعد الجِهات والمقادِير والمَعَاني من كل طرفين وسَطَهُما ، وهو غَايَة البُعد عنهما ، فإذا كان في الوَسَط فقد بَعُد عن الأطراف المَذْمُومة بقدر الإمكان."
ومن استعمالات القرآن لهذا المعنى للوسط قول الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) ، والوسطى مؤنث الأوسط ، وسُمِّيت الصلاة الوسطى لأنها أفْضَل الصلاة وأعْظَمها أجراً ولذلك خُصَّت بالمُحافَظَة عليها ، وإن اختلف في تعيينها ومعنى توسطها ، ففى رأي أنها وَسَط بَين صلاتَي اللَّيْل وصَلاتَي النَّهار ولذلك قيل هي العَصْر وقيل الصُبْح ، وقيل وسط النهار وهي الظهر ، وقيل وسط بين الطول والقصر وهى المغرب.
وأخذ بهذه الخيرية في معنى الوسط جمع من العلماء في تفسير قول الله تعالى: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) ، واختاره ابن كثير فقال: والوسط هاهنا الخيار والأجود ، كما يقال قريش أوسط العرب نسبا ودارا أي خيرها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه أي أشرفهم نسبا ، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات . واستدل الرازي لمن قال أن هذا القول أولى في تفسير الوسط بأنه موافق لوصف الأمة بالخيرية في قول الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) .
واستُدِل لهذا المعنى من الشعر بقول زُهَيْر :
هُمْ وَسَط يَرْضَى الْأَنَام بِحُكْمِهِمْ** إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ
وَقَالَ آخَر :
لَا تَذْهَبَن فِي الْأُمُور فَرَطًا ** لَا تَسْأَلَن إِنْ سَأَلْت شَطَطَا
وَكُنْ مِنْ النَّاس جَمِيعًا وَسَطَا
وبمعنى العدل فسر الأوسط أيضا في قول الله تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) ، قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والربيع بن أنس، والضّحاك، وقتادة: أي أعدلهم وخيرهم . وقال القرطبي: أي: أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم .
ومع أن مصطلح الوسط كلمة جامعة تتسع لمفاهيم كثيرة من التوسط والتوازن والقصد والخير والاعتدال، إلا أنه من الأمور الإضافية . والمراد من الوسط الذي هو سمة أساسية من سمات الأمة المسلمة ، المفهوم الإسلامي له . إذ أن معنى الوسط يختلف باختلاف الدين والثقافة والحضارة . فما كان وسطا من وجهة نظر الثقافة الغربية مثلا فليس هو الوسط من وجهة نظر الإسلام ، إذ أن لكل ثقافة معاييرها ومنهجها في تحديد الوسط . وأحسب أن هذا ينطبق على كثير من المفاهيم الأخرى مثل العدل والمساواة والحرية وغيرها . فلا بد إذا لتحديد معنى الوسط بمفهومه الإسلامي تحديدا دقيقا من اعتبار ضوابط الإسلام وموازيينه . وقد أوضح الله تعالى الصلة بين الصراط المستقيم والوسط حين قال: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ ) ، ثم قال (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰ النَّاسِ ويَكُونُ الرَّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا ) . فقد فسر كثير من المفسرين أن المقصود بقوله تعالى (وكذلك ) يعنى أنعمنا عليكم بجعلكم أمة وسطاً، مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم . فتكون هداية الأمة المسلمة إلى الصراط المستقيم وخصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب ، هو الأساس الذي يقوم عليه اتصافها بالوسط علما وعملا . ومن أحسن المواضع التى تستبين منها الصلة بين الصراط المستقيم والوسط قول الله تعالى في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) . فدل ذلك على أن الصراط المستقيم هو طريق المنعم عليه ممن علم الحق وعمل به ، وهو وسط بين طريق من علم الحق ولم يعمل به فكان مغضوبا عليه ، وطريق الضال الذي جهل الحق أصلا ولم يهتد إليه . وفي هذا المعنى قال ابن كثير أن صراط الذين أنعمت عليهم "هم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله ، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره ، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق ." ومما ينبغى التنبيه عليه أن وصف الأمة المسلمة بسمة الوسط لا يعنى أن كل من انتسب للإسلام فهو وسط ، بل وصف الوسط لا يتحقق إلا لمن قام بحقوقه التى سنوضح مقوماتها فيما بعد ، وقد كان للصحابة والرعيل الأول من السلف المقام المعلى من ذلك ، ولا يخلو كل عصر من جماعة هذه صفتهم ، حسب ما جاء من آحاديث في الطائفة الظاهرة ، ومنها حديث الذى رواه مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) .
أوضح قول الله تعالى: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىٰ النَّاسِ ويَكُونُ الرَّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا ) ، أنه قد انيط بالمسلمين بسبب كونهم وسطا مهمة عظيمة وهى الشهادة على الناس بالحق والعدل ، مثل ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدا عليهم بذلك . ولا بد من النظر في معنى هذه الشهادة وبيان حقيقتها . أما معنى الشهادة في اللغة فيكفي أن ننقل هنا ما بينه الرازي عنها حين قال:
" الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية يقال: شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته، ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب: مشاهدة وشهوداً، والعارف بالشيء: شاهداً ومشاهداً، ثم سميت الدلالة على الشيء: شاهداً على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً، ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً، ثم اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة ."
فالشهادة إذن هي العلم بالشئ ومعرفته والإخبار عنه والدلاله عليه والاحتجاج له . فالمسلمون شهداء بالحق بسبب معرفتهم به وهداية الله لهم إليه ، وبسبب إخبارهم للناس عنه وبيانهم له والاحتجاج له ، وبسبب حكمهم على الناس خيرهم وشرهم بالعدل وتقويم آرائهم وأعمالهم .
وقد دلت الآثار على أن شهادة المسلمين هذه حادثة وحاصلة في الدنيا ، كما أنها أيضا واقعة وكائنة في الآخرة . أما الشهادة في الدنيا فقد دل عليها ما رواه أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . قَالَ عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي ، مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ . وأما الشهادة في الآخرة فقد دل عليها حديث أبي سعيد الخدري ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" يدعى نوح يوم القيامة ، فيقول لبيك وسعديك يا رب . فيقول: هل بلغت؟ فيقول نعم ، فيقال لأمته هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير. فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فتشهدون أنه قد بلغ ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ، فذلك قوله جل ذكره (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ، والوسط العدل .
وقد أشار بعض المفسرين الأوائل لمعنى الشهادة على الناس المقصودة في الآية ، ولكن قد فصّلها تفصيلا وافيا بعض المعاصرين . وخلاصة أقوال الأوائل ذكرها أبوحيان في تفسيره في البحر المحيط حين قال:
" وفي شهادتهم هنا أقوال: أحدها: ما عليه الأكثر من أنها في الآخرة، وهي شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم الذين كذبوهم، وقد روي ذلك نصاً في الحديث في البخاري وغيره . وقيل: الشهادة تكون في الدنيا. واختلف قائلوا ذلك، فقيل: المعنى يشهد بعضكم على بعض إذا مات، كما جاء في الحديث من أنه مر بجنازة فأثنى عليها خيراً، وبأخرى فأثنى عليها شرًّا، فقال الرسول: " وجبت " يعني الجنة والنار، " أنتم شهداء الله في الأرض " ثبت ذلك في مسلم. وقيل: الشهادة الاحتجاج، أي لتكونوا محتجين على الناس، حكاه الزّجاج. وقيل: معناه لتنقلوا إليهم ما علمتموه من الوحي والدين كما نقله رسول الله صلى الله عليه وسلم."
ومن المعاصرين الذين فصلوا معنى الشهادة سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن ، قال:
" إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا ، فتقيم بينهم العدل والقسط ; وتضع لهم الموازين والقيم ;وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد ; وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها ، وتقول:هذا حق منها وهذا باطل . لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها . وهي شهيدة على الناس ، وفي مقام الحكم العدل بينهم . . وبينما هي تشهد على الناس هكذا ، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ; فيقرر لها موازينها وقيمها ; ويحكم على أعمالها وتقاليدها ; ويزن ما يصدر عنها ، ويقول فيه الكلمة الأخيرة ."
قد اتضح مما سبق أن الوسط مصطلح جامع يشمل كل خير وعدل ويجافي كل تطرف مذموم . ولا شك أن الإسلام كله من هذه الزاوية هو دين الوسط ، وكما أن الله عز وجل قد عبر عن الإسلام بوصف الصراط المستقيم ، ووصف دين الحق ، وغير ذلك من الأوصاف ، فالصفات والتعابير مختلفة ولكن المسمى واحد . فكذلك الوسط والإسلام ما هما إلا وصفان ولفظان لنفس الشئ . وينتج من ذلك أن مقومات الوسط ومعاييره هي هي مقومات الإسلام ومعاييره سواء بسواء . وقد حاول بعض العلماء النص على بعض معالم الوسط هذه أوتعدادها ، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وسيد قطب والشيخ ناصر العمر والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ، ولكن ما ذكروه لا يعدو أن يكون أمثلة لما رأوه من وسطية الإسلام ، وكل منهم يعبر عن الوسط ببعض صفاته ، وليس على سبيل الحصر والاستقصاء . فابن تيمية مثلا نظر إلى وسطية الإسلام مقارنة باليهودية والنصرانية ، وعدد هذه الوسطية في مسأئل من العقيدة والشريعة ، منها صفات الله ومكانة الأنبياء والرسل والعلماء والأولياء ، ومنها مسألة النسخ والتشريع والتحليل والتحريم ، ثم ختم بقوله (وهذا باب يطول وصفه ) ، إذ أنه لم يذكر إلا بعضا من مظاهر الوسط في الإسلام ، فكان مما قال:
" ملة الإسلام وسط في الملل ، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين ؛ لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ، ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود ؛ فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا . بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابا كما قال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } . ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في " المسيح " فلم يقولوا هو الله ولا ابن الله ولا ثالث ثلاثة كما تقوله النصارى ولا كفروا به وقالوا على مريم بهتانا عظيما حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود بل قالوا هذا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه . وكذلك المؤمنون " وسط في شرائع دين الله " فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء . ويثبت كما قالته اليهود كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } وبقوله : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم } . ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا كما يفعله النصارى كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } . قال { عدي بن حاتم رضي الله عنه قلت : يا رسول الله ما عبدوهم ؟ قال : ما عبدوهم ؛ ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم } . والمؤمنون قالوا : " لله الخلق والأمر " فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره . وقالوا : سمعنا وأطعنا ؛ فأطاعوا كل ما أمر الله به . وقالوا : { إن الله يحكم ما يريد } . وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيما . وكذلك في صفات الله تعالى : فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة ؛ فقالوا : هو فقير ونحن أغنياء . وقالوا : يد الله مغلولة . وقالوا : إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت . إلى غير ذلك . والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به فقالوا : إنه يخلق ويرزق ؛ ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب . والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى ليس له سمي ولا ند ولم يكن له كفوا أحد وليس كمثله شيء . فإنه رب العالمين وخالق كل شيء وكل ما سواه عباد له فقراء إليه { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } { لقد أحصاهم وعدهم عدا } { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } . ومن ذلك أمر الحلال والحرام . فإن اليهود كما قال الله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } فلا يأكلون ذوات الظفر ؛ مثل الإبل والبط . ولا شحم الثرب والكليتين ؛ ولا الجدي في لبن أمه . إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما ؛ حتى قيل : إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعا . والواجب عليهم مئتان وثمانية وأربعون أمرا وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت . وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات وباشروا جميع النجاسات وإنما قال لهم المسيح { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } ولهذا قال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } . وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } . وهذا باب يطول وصفه ."
أما سيد قطب فقد عدد وسطية الأمة في أمور منها التوازن بين مطالب الروح والجسد في التصور والاعتقاد ، وبين الثبات والجمود والتطور والانفلات في التفكير والشعور، وبين سوط السلطان ومراقبة الضمير في التنظيم والتنسيق ، وبين الفردية والجماعية في الارتباطات والعلاقات، وبين الشرق والغرب في والمكان ، وبين طفولة البشرية ورشدها العقلى في الزمان . فقال:
" وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل ، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد ، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي . .
(أمة وسطا). . في التصور والاعتقاد . . لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد ، أو جسد تتلبس به روح . وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد ، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها ، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع ، بلا تفريط ولا إفراط ، في قصد وتناسق واعتدال .
(أمة وسطا). . في التفكير والشعور . . لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة . . . ولا تتبع كذلك كل ناعق ، وتقلد تقليد القردة المضحك . . إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب ; وشعارها الدئم:الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها ، في تثبت ويقين .
(أمة وسطا). . في التنظيم والتنسيق . . لا تدع الحياة كلها للمشاعر ، والضمائر ، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب . إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب ، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب ; وتزاوج بين هذه وتلك ، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان ، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان . . ولكن مزاج من هذا وذاك .
(أمة وسطا). . في الارتباطات والعلاقات . . لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته ، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ; ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته . . إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء ; وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه . ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو ، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة ; وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة ، والجماعة كافلة للفرد في كافلة للفرد في تناسق واتساق .
(أمة وسطا). . في المكان . . في سرة الأرض ، وفي أوسط بقاعها . وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب ، وجنوب وشمال ، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا ، وتشهد على الناس جميعا ; وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة ; وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك ; وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء .
(أمة وسطا). . في الزمان . . تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها ; وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها . وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها ; وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى ; وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات ، ورصيدها العقلي المستمر في النماء ; وتسيربها على الصراط السوي بين هذا وذاك ."
وسيرا على هذا المنوال سنذكر هنا بعض مقومات الوسط وخاصة تلك التى لها أثر في ائتلاف الصف الإسلامي وتقاربه ، وسوف يِتناول الحديث معالم في مجالات العلم والعمل والدعوة والإصلاح .
يعيش المسلمون اليوم حياة مضطربة متقلبة متناقضة ، تتشابك فيها ألوان متنافرة وتختلط فيها أشتات من مختلف الثقافات والعادات والتقاليد من الشرق والغرب . فمن ناحية هناك موروثات عهود الانحطاط من جهل وتقليد وعصبية وفوضى ، ومن ناحية هناك أهواء العصر من انحلال ومادية وهوس بسفاسف الأمور . ولعل كل ذلك أثر من آثار اضطراب المعايير والموازيين التي تحدد للناس مناهج حياتهم وغاياتها . ومما لاشك فيه أن الدين كله قائم على مبدأ الوسط والعدل والقسط ، وكل هذه المبادئ تقتضى وضع كل شئ موضعه دون زيادة ولا نقص ولا إفراط ولا تفريط . قال تعالى: " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَاب وَالْمِيزَان لِيَقُومَ النَّاس بِالْقِسْطِ " (الحديد: 25) . وقال: "وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ " (الرحمن: 7-9) . والميزان هو المعيار الذي يقوّم به الحق والعدل وتعرف به حقائق الأشياء و توزن به مقاديرها وقيمها ، فيوضع كل شئ موضعه فتقوم حياة الناس بالقسط في كل جانب من جوانبها . هذا الميزان هو مودع في فطر الناس وفي العقول السليمة وهو مبين في كتاب الله وعلى لسان رسوله . وفقه هذا الميزان أمر هام لإقامة حياة متوازنة تعرف لكل شئ حقه فتوفيه له وتنزل كل شئ منزلته .
ومن أكبر أسباب اضطراب حياة المسلمين تأثرهم بالمناهج العلمية والفكرية الجاهلية . فقد روى البخاري في صحيحه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: وَمَنْ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ" . فقد أثرت الفلسفة اليونانية ورهبانية الهند على المسلمين فحطتهم من تفوقهم العلمى والحضارى ، وأثرت مادية الغرب المعاصرة على كثير من اتجاهات المسلمين الحاضرة ، وحولتهم قردة مقلدين لها في كل صغيرة وكبيرة دون نقد ولا تمحيص ، وغشتهم بعلمانيتها وعصرانيتها ونظرتها للحداثة . والمنهج الإسلامي السليم لا بد له من أن يتجرد من كل ذلك الغبش والركام .
"السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي . فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به فصحيح ، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة ، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن ، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة ، وتحريق علي رضي الله عنه الزنادقة في الأخاديد وقال:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ** أججت ناري ودعوت قنبرا
ونفى عمر لنصر بن حجاج .
وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق ، وجرءوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، محتاجة إلى غيرها وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها ، مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع ، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع ، ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم .
والذي أوجب لهم ذلك نوع قصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع ، وتنزيل أحدهما على الآخر . فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمروراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة ، أحدثوا من أوضاع سياساتهم شرا طويلا وفسادا عريضا ، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه ، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنقاذها من تلك المهالك . وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله
وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه ، فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات . فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه . والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها . بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له . فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع ، بل هي موافقة لما جاء به بل هي جزء من أجزائه ، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحهم ، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات ."
والأمرالوسط في السياسة الاشتغال بما يفيد الناس ويهمهم ، وعدم تضييع الأوقات في ما لا علاقة له بمصالح الناس المباشرة ، وتوجيه الهمة للهموم الكبرى والمشكلات العظمى ، والتغاضى عن صغائر الأمور وسفاسفها ، وطرح الإشاعات والقيل والقال ، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه". واتباعا لقول الله تعالى: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) . قال ابن كثير عن الأية أنها " إِنْكَار عَلَى مَنْ يُبَادِر إِلَى الْأُمُور قَبْل تَحَقُّقهَا فَيُخْبِر بِهَا وَيُفْشِيهَا وَيَنْشُرهَا وَقَدْ لَا يَكُون لَهَا صِحَّة" .
سيقتصر الحديث هنا على ثلاثة معالم في ميدان العمل: الشمول في أخذ الدين كله دون تجزئة بعضه عن بعض ، والبصر والفقه بالأولويات والتقديم والتأخير، ومعرفة مواطن الرفق والتيسير دون تقصير أو تحريف ومواضع الشدة والحزم دون تنطع أو غلو.
الشمول: العمل مصداق العلم ولا ينفصل أحدهما عن الآخر إلا كان شقاء وبلاء ، فالعلم بلا عمل كالعمل بلا علم ، كلاهما انحراف وتطرف ، والوسط أن يكون العلم قائد العمل والعمل دليل العلم وبرهانه. ويتنوع العمل الصالح ويتعدد ، وله ميادين كثيرة ومجالات شتى ، ويخطئ كثير من الناس حين يحصرون الدين في مجال دون مجال أو ميدان دون ميدان ، بل العمل الإسلامي يشمل كل جوانب الحياة ، وهذا معنى قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين) ، والسِّلم هنا المقصود به الإسلام ، ومعنى الآية كما ذكر الطبري: "اُدْخُلُوا فِي الْإِسْلَام كَافَّة ... فَإِنْ قَالَ : فَمَا وَجْه دُعَاء الْمُؤْمِن بِمُحَمِّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إلَى الْإِسْلَام ؟ قِيلَ : وَجْه دُعَائِهِ الْأَمْر له بِالْعَمَلِ بِجَمِيعِ شَرَائِعه ، وَإِقَامَة جَمِيع أَحْكَامه وَحُدُوده ، دُون تَضْيِيع بَعْضه وَالْعَمَل بِبَعْضِهِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ ، كَانَ قَوْله { كَافَّة } مِنْ صِفَة السِّلْم" . وروى مسلم عن سلمان قال قيل له "قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة" ، قال فقال أجل .
ولكن مما لاشك فيه أن شمول الفهم للإسلام غير شمول العمل ، إذ أن العمل في أي ميدان يكون حسب الاستطاعة ، لحديث أبي هريرة رضى الله عنه في البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" . ومن ثَمَّ تتنوع أعمال الخير حسب مقدرات الناس ومؤهلاتهم ، وأنواع الخير وطرقه وأصنافه كثيرة ، فمن فتح له منها باب فليجتهد فيه وليتخصص فيه . ومن هذا المنطلق لا لوم على كثير من جماعات المسلمين أو أفرادهم أن يختص كل منهم بنوع من الخير، ويصبح ذلك سمة مميزة لهم دون غيرهم ، ولا بأس أن يشتغل بعض الناس ببعض الجزئيات ، إذ كثيرا ما لا يستطيع كل الناس أن يسبقوا في أنواع الخير ، ويكمل المسلمون بعضهم بعضا جماعات كانوا أو أفرادا . وإن كان لا شك أن من تكاملت فيه خصال الخير فردا أو جماعة ، وبلغ في ذلك الشمول أنه يفوق غيره في الفضل والمكانة والخيرية . وليس أدل على ذلك من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في أبواب الجنة . فقد روى مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ " .
يتناول الحديث هنا خمسة محاور من معالم الوسط في الدعوة: الصدع بالرأي بعد التحقق من صحته دون محاباة أو خشية ، والعدل والإنصاف في الحكم على الناس عوامهم وعلمائهم وحكامهم وإنزالهم منزلتهم مؤيدين أو مخالفين ، والحوار بالحسنى مع الولاء للحق والتحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف والأحزاب ، والتعاون في الحق والعدل والخير مع كل الناس ، والقوة والقدرة على تغيير الواقع بأفضل السبل دون تعد على الحقوق أو ركون إلى الظلم .
أما من الناحية العملية فقد َقَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد فِي أَحْكَامه : وَالتَّعَاوُن عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى يَكُون بِوُجُوهٍ ; فَوَاجِب عَلَى الْعَالِم أَنْ يُعِين النَّاس بِعِلْمِهِ فَيُعَلِّمهُمْ , وَيُعِينهُمْ الْغَنِيّ بِمَالِهِ , وَالشُّجَاع بِشَجَاعَتِهِ فِي سَبِيل اللَّه , وَأَنْ يَكُون الْمُسْلِمُونَ مُتَظَاهِرِينَ كَالْيَدِ الْوَاحِدَة ( الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَد عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ) , وَيَجِب الْإِعْرَاض عَنْ الْمُتَعَدِّي وَتَرْك النُّصْرَة لَهُ وَرَدّه عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ . يعنى أن كل فرد يعين الحق والخير بما يستطيع وبما عنده من قدرة بالعلم وبالجاه وبالمال وهكذا .
وقد كان الناس في الجاهلية الأولى يتعاونون ويتناصرون على أساس العصبية والولاء وكان شاعرهم يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت، وإن ترشد غزية أرشد
وغزية قبيلة فالولاء لها والعصبية لها حتى في الغواية والضلالة وليست للحق والرشد . وهذه هى أيضا حال الجاهلية المعاصرة ، فالولاء والتناصر ليس على أساس البر والتقوى إنما على أساس المصالح المادية والعصبيات القومية والعرقية والحزبية والطائفية . فالعمل بقاعدة وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، يقتضى نبذ هذه العصبيات ، العصبية للجنس والعصبية للوطن والعصبية للجماعة ، كل هذه عصبيات جاهلية والمسلم عصبيته للبر والتقوى وعصبيته ضد الإثم والعدون ، حتى ولو كان من جماعته وحزبه أو من قوميته وجنسيته . وقد روى البخارى وأحمد عَنْ أَنَس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قِيلَ يَا رَسُول اللَّه هَذَا نَصَرْته مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرهُ ظَالِمًا قَالَ تَمْنَعهُ مِنْ الظُّلْم فَذَلِكَ نَصْرُك إِيَّاهُ " . هذه هى العصبية الإسلامية الصحيحة . وقد جاء في حديث موقوف صيحيح "لا تكونوا إمعة؛ تقولون : إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم : إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا".
والعمل بقاعدة وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان يقتضى أن يكون هذا بغض النظر عن الداعي للبر والتقوى حتى ولو كان غير مسلم . فقد قال الله تعالى أولا: ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآن قَوْم أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِد الْحَرَام أَنْ تَعْتَدُوا ) ، يعنى لا تحملكم عداوة الكفار وأفعالهم الشنيعة من صدكم عن المسجد الحرام عام الحديبية أن تعتدوا وتتجاوزوا العدل معهم ، ثم قال (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول الذي كان في الجاهيلة " لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، رواه الإمام أحمد بسند صحيح وجاء في رواية مرسله ولو دعيت به في الإسلام لأجبت. فمن العمل بقاعدة وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان أنه يمكن للسلمين أن يتعاونوا حتى مع غير المسلمين على أمور الخير والبر ومصالح الإسلام وأن يعقدوا معهم الاتفاقات ويشاركوهم في المؤتمرات والمنظمات التى تقصد الخير . وهكذا ترون أن قاعدة وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان قاعدة هامة وشاملة ونافعة .
وطرق تغيير الواقع تتنوع وتتعدد حسب الطاقة والقدرة ، وحسب الظرف والحال ، وتبدأ من كراهية النفس وضيقها بالظلم والمنكرات ، وهذا واجب مشترك بين كل الناس ، وتتدرج إلى التغيير بالخطاب واللسان والكتابة والبيان والطرق السلمية المختلفة . ويحتاج التغيير باليد والقوة إلى فقه وبصر وموازنة المصالح والمضار ، تضعه في مواضعه التى شرعها الإسلام ، وتراعى في استعمال القوة العدل وحفظ الحقوق . فمنهج التغيير الإسلامي وسط بين الركون إلى الظلم ، وبين التعدي على الناس وظلمهم حقوقهم . أما الركون فمذموم من الله لقوله فيه (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) ، والركون معناه الرضا بالشئ والسكون والميل إليه والاستناد والاعتماد عليه ، وفسره اِبْن زَيْد فقال : الرُّكُون هُنَا الْإِدْهَان وَذَلِكَ أَلَّا يُنْكِر عَلَيْهِمْ . أما العدوان فمذموم من الله أيضا وفيه نصوص كثيرة معروفة ، ويكفي في الخطأ في استعمال العنف في غير محله ، ما قصه الله عن نبيه موسى حين قال: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) . وإنما ندم موسى لأنه سفك دما بريئا وهو لم يؤمر بالقتل في تلك الحال .
لعل هذه الكلمات المختصرات في بيان معنى الوسط ومقوماته في العلم والعمل والدعوة ، قد أوضحت أهمية سمة الوسط وما فيها من مدلولات كثيرة جامعة . والمتأمل في هذه المعالم يمكنه أن يستنتج منها ثمراتها الطيبة المباركة ، وخيرها الكثير العميم . ومن ذلك الاستقامة على الحق ،
وجمع الكلمة ولم شتات جماعات المسلمين وتياراتهم المختلفة ، وتوجيه همتهم إلى الهموم الكبرى والمشكلات العظمى ، وتقديم صورة مشرقة ونماذج حسنة للإسلام ترغب في الخير وتحض عليه وتشهد به على العالم كله أنه هو الحق والعدل والصلاح .
وائتلاف الصف الإسلامي هو من أهم آثار التحلى بالوسط والبعد عن التطرف والانحراف . ذلك أن البغى والظلم هو سبب الفرقة والاختلاف كما دلت على ذلك آيات كثيرة ، ومما هو مشاهد مجرب في واقع الناس وتاريخ الاسلام القريب والبعيد . ومن توجيهات القرآن في ذلك قول الله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . ومن تعليقات سيد قطب على البغي الذي هو سبب الاختلاف قوله: " فالبغي . . بغي الحسد . وبغي الطمع . وبغي الحرص . وبغي الهوى . . هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج ; والمضي في التفرق واللجاج والعناد . وهذه حقيقة . . فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب , القوي الصادع المشرق المنير . . ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى , أو في نفسيهما جميعا . . فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق ."
والوسط يعنى العدل ونبذ البغي ، بكل صور ذلك مما أوضحته السطور السابقة في هذا البحث ، من منهج علمي سليم تكون غايته الدليل والبرهان لا العصبية للآراء والشخصيات والجماعات ، ومن حوار بالحسنى دون شطط ولا تطرف ، ومن تعاون على الخير والحق والمصلحة العامة مع كل أحد ولو كان غير مسلم فما بالك بالمسلم ، ومن انصاف في الحكم على الناس على اختلاق مراتبهم ، ومن تقديم المهمات والاولويات والهموم الكبرى على المصالح الصغيرة والمكاسب العاجلة الرخيصة .
والخلاصة أن الوسط وصف جامع مانع ، يعلو بمن تحقق به إلى مكانة سامقة من الخير والحق والعدل ، ويجعله أهلا لقيادة الناس والشهادة عليهم .
قـد هيئـوك لأمـر لو فطنت له ** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
والحمد لله أولا وآخرا .