منهج المستشرقين ودوافعهم
لقد ألَّفَ في السِّيرةِ الكثيرون من المستشرقينَ مِنْ كُلِّ جنسٍ ولونٍ. ومِن هؤلاءِ المنصفون - وقليلٌ ما هم - وغيرُ المنصفين - وهم الكثيرون - ، ولا عجبَ فأغلبُهم مُبشِّرون1 بدياناتِهم، والكثرةُ منهم صليبيون لا يزالونَ يحملونُ الحقدَ على الإسلامِ ، ونبيِّ الإسلامِ ، فمِن ثَمَّ لا يجدونَ ثغرةً ينفثون منها أحقادَهم وسمومَهم إلا نفذُوا منها، ولا روايةً واهيةً منكرةً أو مختلقةً إلا طبَّلوا لها وزمَّروا، ولا عليهم لو زيَّفُوا الصَّحيحَ مادام ذلك يُساعدهم على أهوائِهم، ولأجلِ أنْ يُلبِّسوا على الأغرارِ من المسلمينَ تَستَّروا تحتَ ستارِ البحثِ العلميِّ ، وحريةِ الرأي، وما هُو من البحثِ، ولا حرية الرأي في شيءٍ، وإنَّما الغَرَضُ حَلُّ عُرَى الإيمانِ من نُفُوسِ المسلمين، والتَّشكيكِ في سيرةِ مثلِهم الأعلى وقدوتِهم، وهو النَّبيُّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ -.
وقد ساعدَ على تقبل آرائِهم أنَّ المغلوبَ ينظرُ إلى الغالبِ على أنَّهُ فوقَهُ في كلِّ شيءٍ، وإذا لم تستدرك الأمة المغلوبة أمرها، وتتخلص بجهودها الذاتية من وطأة التقليد الأعمى، فإنه - ولا بد - أن ينتهي بها الأمر إلى الاضمحلال والاستعباد، قال ابن خلدون: "والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تُغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبعي؛ إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقاد، فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء. ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالبِ في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله2.
فمِن ثَمَّ نظر بعض المتعلمين، - ولا سيما الذين لم يحظَوا من الثقافةِ الإسلاميةِ وعلومِ الإسلامِ الأصيلةِ بحظٍّ يُؤهِّلهم للتمييزِ بين الحقِّ والباطلِ، والخطأِ والصَّوابِ - نظروا إلى المستشرقين على أنَّهم قِممٌ في التفكيرِ، وفي البحثِ، فلا يُراجعون ما يقولُون! ولا يُنقض ما إليه ينتهون، بل بلغَ ببعضِ الذين تثقَّفوا ثقافةً إسلاميةً أنْ انزلقُوا فيما انزلقَ إليه غيرُهم، ومنهم مَن قام بترجمةِ بعضِ هذه الكتبِ من غيرِ أنْ يُعلِّقَ على ما فيها من خطأٍ بيِّنٍ، وباطلٍ صُراحٍ، وليتَهُ اكتفى بهذا، ولكنَّهُ شاركَ في الإثمِ، فكالَ له3 ولهم المديحَ والثَّناءَ !! ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ4.
والدافع الذي دفع هؤلاء المستشرقين لدراسة الإسلام هو في الحقيقة العداء السافر لهذا الدين وللرسول - صلى الله عليه وسلم- ، هذا العداء الذي بدأ منذ فجر الإسلام، فالمستشرقون ليسوا سوى امتدادا لليهود والنصارى الذين بذلوا كل ما في وسعهم لطمس دين الإسلام، وإزالة معالمه من الوجود، ولم تخفف من هذا العداء القرون المتطاولة، بل ظل يأخذ صوراً شتى وأشكالاً متنوعة، تُعلَن تارة وتُخفى أخرى، وتُظهر في ثوب الود والولاء تارة، وتُكشِّر عن أنياب العداء أحياناً، واشتدت هذه العداوة بعد الحروب الصليبية (1097-1295م ) التي كانت نقطة تحول في الصراع الفكري والعقدي والسياسي بين الغرب المسيحي وبين الشرق الإسلامي، فقد عاش المستشرقون في هذه البيئة المفعمة ببغض الإسلام وارتضعوا من لبانها، ولذا جاء منهجهم يحوي بين طياته كل دسيسة وشبهة تطعن في هذا الدين.
وأبرز سمات هذا المنهج الذي درسوا الإسلام على أساسه:
1. تحليل الإسلام ودراسته بعقلية أوربية، فهم حكموا على الإسلام معتمدين على القيم والمقاييس الغربية المستمدة من الفهم القاصر والمغلوط الذي يجهل حقيقة الإسلام.
2. تبييت فكرة مسبقة ثم اللجوء إلى النصوص واصطيادها لإثبات تلك الفكرة واستبعاد ما يخالفها.
3. اعتمادهم على الضعيف والشاذ من الأخبار وغض الطرف عما هو صحيح وثابت.
4. تحريف النصوص ونقلها نقلاً مشوهاً وعرضها عرضاً مبتوراً وإساءة فهم ما لا يجدون سبيلاً لتحريفه.
5. غربتهم عن العربية والإسلام منحتهم عدم الدقة والفكر المستوعب في البحث الموضوعي.
6. تحكمهم في المصادر التي ينقلون منها، فهم ينقلون مثلاً من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث، ومن كتب التاريخ ما يحكمون به في تاريخ الفقه، ويصححون ما ينقله الدميري في كتاب الحيوان ويكذبون ما يرويه مالك في الموطأ، كل ذلك انسياقاً مع الهوى وانحرافاً عن الحق.
7. إبراز الجوانب الضعيفة والمعقدة والمتضاربة، كالخلاف بين الفرق، وإحياء الشبه وكل ما يثير الفرقة، وإخفاء الجوانب المشرقة والإيجابية وتجاهلها.
8. الاستنتاجات الخاطئة والوهمية وجعلها أحكاماً ثابتة يؤكدها أحدهم المرة تلو الأخرى، ويجتمعون عليها حتى تكاد تكون يقيناً عندهم.
9. النظرة العقلية المادية البحتة التي تعجز عن التعامل مع الحقائق الروحية5.
10.تحاملهم على النبي صلى الله عليه وسلم، استجابة لنداء الصليبية- كما ذكرنا- التي ورثوها من آبائهم، ورضعوها في لبان أمهاتهم، ورموه بأشنع الصفات التي يتنزه القلم عن ذكرها. وقد استندوا في طعونهم وسفاهاتهم إما على روايات باطلة اعتبروها صحيحة، وإما على روايات صحيحة حرَّفوها عن مواضعها، وإما على أوهام تخيَّلوها. ومن الأباطيل التي تمسك بها بعض الكاتبين في السيرة من الغربيين، وأبواقهم المقلِّدون لهم: قصة الغرانيق، وقولهم: أن الإسلام قام على السيف والإكراه، وطعنهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب تعدد زوجاته ، وقصة زواجه بالسيدة زينب بنت جحش على ما يذكرها من لا علم عندهم، ولا تحقيق ولا تمييز بين الغث والسمين.
ومن مزاعمهم إنكارهم الوحي بالمعنى الشرعي، وتفسيرهم له بالوحي النفسي، بل أسفَّ بعضهم فجعل الحالة التي كانت تعتري النبي - صلوات الله وسلامه عليه - عند الوحي نوعاً من الصَّرَع، إلى غير ذلك . ومن عجيب أمر المبشرين والمستشرقين أنهم في سبيل إرضاء أهوائهم، ونزواتهم الجامحة، وأحقادهم الموروثة يصحِّحون الروايات المكذوبة، والإسرائيليات المدسوسة، ما دامت تسعفهم وتساعدهم على باطلهم، على حين نجدهم يحكمون على روايات صحيحة، بل في أعلى درجات الصحة بالوضع والاختلاق؛ لأنها لا تؤيدهم فيما يجترحون من طعون، وتجنٍ أثيم على مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته. ومن أعمالهم السيئة بدعة الإكتفاء بالقرآن دون السنة ، ثم سرت عدوى هذه البدعة إلى كتابنا المعاصرين كالدكتور محمد حسين هيكل في كتابه "حياة محمد"، وقلما تجد أحداً من المؤلفين المتأخرين في (السيرة النبوية) يذكر شيئاً من المعجزات الحسية.
ومن هؤلاء من يتلطف فيقول: إنه مادام القرآن آية دالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم-، فنحن في غنية عن غيره من الآيات، ولا سيما والكثير منها لم يثبت إلا بالطرق الآحادية التي لا تفيد اليقين، ومنهم من يجاهر فينكر المعجزات الحسية جملة!!
وأحب أن أقول لهؤلاء وأولئك: إن موقفهم من المعجزات الحسية وإنكارها، حدا ببعض المبشرين والمستشرقين إلى الطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتفضيل غيره من الأنبياء عليه، بحجة أن النبي محمداً - عليه الصلاة والسلام - ليس له من المعجزات الحسية المتكاثرة ما لموسى وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - ، وهكذا نراهم قد أعطوا لأعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يقصدوا- متكأ لهمزه ولمزه.
وإليك ما ذكره الإمام الحافظ الكبير ابن حجر في هذا، قال: (وأما ما عدا القرآن من نبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام، وانشقاق القمر، ونطق الجماد، فمنه ما وقع التحدِّي به، ومنه ما وقع دالاً على صدقه من غير سبق تحدٍّ، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده - صلى الله عليه وسلم- من خوارق العادات شيء كثير، كما يقطع بجود حاتم، وشجاعة علي، وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت مورد الآحاد، مع أن كثيراً من المعجزات النبوية قد اشتهر، وانتشر، ورواه العدد الكبير، والجم الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار، والعناية بالسير والأخبار، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه الرتبة لعدم عنايتهم بذلك، بل لو ادّعى مُدَّع أن غالب هذه الوقائع مفيدة للقطع بطريق نظري لما كان مستبعداً، وهو أنه لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدَّثوا بهذه الأخبار في الجملة، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة، ولا من بعدهم مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك، ولا الإنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم كالناطق، لأن مجموعهم محفوظ من الإغضاء على الباطل). (فتح الباري (7/392-393)6
صلتهم بالفكر الإسلامي وأثر تلك الصلة في إثارة الشبه حول السنة:
سبق أن الحروب الصليبية كانت نقطة التحول في الصراع الفكري والعقدي والسياسي بين الغرب المسيحي والشرق المسلم، وأنها الدافع الأساسي للنشاط الاستشراقي المكثف، ولكن اتصال الغرب بالشرق في ذلك الوقت وخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي كان اتصالاً عدائياً مسلحاً، متمثلاً في الحروب الطاحنة التي ظلت آثارها باقية حتى الآن.
وفي نهاية القرن السادس عشر الذي يعتبر منطلق الإصلاح الديني في الغرب، كانت بداية الاتصال الاقتصادي المتمثل في اكتشاف موارد الثروة في العالم الإسلامي، واستغلالها ونقلها إلى الغرب في صورة تبادل تجاري وغير ذلك، وتبع هذا الاتصال السياسي المتمثل في سيطرة الغرب ونفوذه على العالم الإسلامي حتى بلغ أوجه خلال الفترة ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين، وخلال هذه الفترة الاستعمارية عمل الغربيون على تخلف المسلمين بإبعادهم عن دينهم حتى يتمكنوا من إخضاعهم إخضاعاً تاماً للسيطرة الغربية.
ففي تلك الفترة كان الاستشراق في ذروته لأنه كان مدعوماً من قبل الحكومات الغربية التي كانت توفر لهم الأسباب المعينة على دراسة العلوم الإسلامية حتى يتمكن الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، فبحث المستشرقون في كل ما يتصل بالإسلام من تاريخ وفقه وتفسير وحديث وأدب وحضارة، وصبغوا كل ذلك بصبغة علمية مما أدى بتلك البحوث والدراسات أن تكون مراجع للكثير من الباحثين في المعاهد والجامعات العالمية.
وقد غزت تلك البحوث العالم الإسلامي في مؤسساته الفكرية والتربوية ومناهج التعليم، وكان العديد من قادة الفكر الإسلامي قد تتلمذوا على أيدي أولئك المستشرقين عن طريق إيفادهم إلى الخارج، أو استقدام المستشرقين إلى البلاد الإسلامية للعمل في المؤسسات الفكرية ومناهج التعليم، وهكذا ظلت العلاقة قائمة، والصلة وثيقة بين العالم الغربي والفكر الإسلامي، ولكنها علاقة تستهدف الإسلام بدرجة أولى.
والمستشرقون الذين بحثوا في كل جوانب الإسلام لم يغب عنهم أهمية السنة النبوية فقد علموا أنها المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن، وفيها توضيحه وبيانه، ولذا تناولوها بالطعن والتشويه والشبه ليتسنى لهم بعد ذلك أن يتلاعبوا بالقرآن ويؤولوه بما يحلو لهم، فطعنهم في السنة هو في الحقيقة طعن في القرآن وهدم لصرح الإسلام.7
يقول السباعي: "ويحاولُ المستشرقون المغرضون وأتباعُهم من المسلمين الذين رقَّ دينُهم، وفُتنوا بالغرب وعلمائِهِ أنْ يُشككوا في صحةِ ما بين أيدينا من كتب السُّنَّةِ المعتمدة، لينفذُوا منها إلى هدمِ الشَّريعةِ، والتَّشكيك بوقائعِ السِّيرةِ، ولكن الله الذي تكفَّلَ بحفظِ دينِهِ قد هيَّأ لهم مَن يَردُّ سهامَ باطِلهم، وكيدِهم إلى نحورِهم8.
وسيتضح لنا ذلك من خلال الفصل القادم الذي سنذكر فيه بعض شبهات المستشرقين وتفنيد العلماء تلك الشبهات التي هي أوهى من خيوط العنكبوت {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} التوبة:32
--------------------------------------------------------------------------------
1 - أو بالأصح منصرون , ولكن ذكرناهم بما اشتُهر من تسميتهم .
2- مقدمة ابن خلدون فصل في أن المغلوب مولعٌ أبداً بالإقتداء بالغالب في شعائره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده (1/156).
3 - أي للكتب.
4 -انظر: مُقدِّمة كتاب "السِّيرة النَّبَويَّة في ضوء الكتاب والسُّنَّة" للدكتور محمد بن محمد أبوشهبة (1/38-39).
5 - مقدمة حول الاستشراق والمستشرقين، موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية بتصرف، نقلاً عن موقع (الشبكة الإسلامية) http://www.islamweb.net/
6 - انظر: مُقدِّمة كتاب "السِّيرة النَّبَويَّة في ضوء الكتاب والسُّنَّة" للدكتور محمد بن محمد أبوشهبة (1/14-39).
7 - مقدمة حول الاستشراق والمستشرقين، موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية بتصرف.
نقلاً عن موقع (الشبكة الإسلامية) http://www.islamweb.net/
8 - انظر السِّيرة النَّبَويَّة دروس وعبر د.مصطفى السباعي ص(14- 15).
المصدر:
http://www.islamprophet.ws/ref/209