النهوض الثقافي... في دائرة الضوء

النهوض الثقافي... في دائرة الضوء

مقدمة

 في البدء تكون الفكرة التي يولد منها السؤال، ثم تتفرع الفكرة الى أفكار تُولِد مزيداً من التساؤلات، ثم في النهاية تتشكل الصورة، التي «تصيغ ثقافة وتحكم حياة» الإنسان: الفرد والمجتمع والأمة. وهنا في هذه المنطقة، بعض الأفكار يصنفها الإنسان ضمن أولويات حياته والبعض الأخر يوضع في الهامش،... الأفكار المهمة وغير المهمة قد يشاركها الإنسان وقد لا يشاركها: مع آخرين ضمن تخصص «ما» أو عمل مشترك، أو ضمن قبيلة أو جماعة «ما»، أو ضمن أمة من الأمم، أو مع البشرية بشكلٍ عام. وهنا يظهر ما يمايز بين الثقافة والعلم والمعرفة والتخصص.

وليس القاريء «العزيز» المثقف والمتعلم بالطبع، بحاجة أن نحدثه كثيراً عن التصنيف والفرز والمصطلحات التي تنتجها الحالة السابقة. لكنني أردت «هنا» شيءً من التمهيد والتبسيط الذي قد يساعد في النهاية في الولوج لعالم الثقافة الرحب ومصطلحها المطاط والضبابي بحسب كثير من الآراء في الساحة الثقافية، بل بحسب معظمها... إن لم يكن كلها، كل ذلك من أجل النفاذ السلس والسهل في آخر الأمر لموضوع: «النهوض الثقافي أو النهضة الثقافية - بتعبير آخر -».

 وفي الحقيقة، فإن «تساؤلات النهوض الثقافي» لسعتها وتعقيدها، من الطبيعي أن تفتح أمامنا الباب واسعاً للدخول في عدة مسارات فكرية، وتقودنا للحديث عن عدة أمور مهمة وضرورية، وتثير فينا كثيراً من التساؤلات الحيوية: فما هي الثقافة؟ وما هو النهوض الثقافي؟ وما هي ثقافة النهضة؟ وما هي ثقافة التخلف والانحطاط؟ وماذا عن الحراك الثقافي؟ وما هي مقوماته ومعوقاته؟ وماذا كذلك عن التنمية الثقافية؟ وهل نحن أمة «متخلفة ثقافياً» تبحث عن نهضة ثقافية؟ أم أمة «متقدمة ثقافياً» تبحث عن تنمية ثقافية؟ وهل هناك فارق بين الحالتين السابقتين؟ أم لا؟ ماذا عن آليات النهوض الثقافي؟ وماذا عن آليات التنمية الثقافية؟ ماذا عن التاريخ؟ وماذا عن الحاضر؟ وماذا عن المستقبل؟ وماذا عن خصوصيتنا الثقافية؟ ماذا عن التجارب الثقافية المتنوعة للأمم المختلفة من حولنا؟ وماذا أيضاً عن علاقة الثقافة بالوعي - من جهة -؟ وعلاقة الوعي بالثقافة - من الجهة الأخرى -؟... الخ.

 كل هذه التساؤلات وغيرها أحسبها تطرح نفسها هنا في هذا الموضوع بطريقة ما، وجل همي أن أوفق ولو لشيءٍ يسير من عصف الأذهان ببعض الأفكار الجيدة، التي قد تخلق الوعي أو تغرس بعضه أو تشير إليه من قريب أو من بعيد. ورغم أن المصطلحات والكلمات قد تواري «عمداً» هنا جلَّ الحقيقة أو جزءً مهماً منها، وذلك بحسب مقتضى الظرف الموضوعي الذي يفرض نفسه علينا، وتقديراً لمقومات الزمان والمكان،... إلا أن كل أمنيتي هي في النهاية أن يساعدني القاريء اللبيب بفطنته وحكمته وحنكته وأن أوفق عن طريقه لكشف عورة هذا الزمان الرديء - وأعني هنا بذلك الزمان طبعاً الزمان من حيث انتسابه لأمتنا المتخلفة ثقافياً وحضارياً ولواقعنا المتردي والمر -، تلك العورة القبيحة المسببة للتخلف والهوان المستمر، التي غابت حقيقتها عن كثير منا... والله المستعان.

 

وقفة مع تعريف الثقافة

 لا شك أن تعريف الثقافة هنا يمكن أن يضع النقاط على الحروف - كما يقولون -، أو يضعها على بعضها أقلاً. وهذا يهمنا كثيراً. إذ لا قيمة ولا معنى منطقياً لأي حديث عن «النهضة الثقافية أو النهوض الثقافي»، إن لم نكن نعرف أصلاً ما هي الثقافة؟ أو ماذا تعني؟ أو ماذا نريد بها؟.

 لكن مفهوم الثقافة من «جهة أخرى»، مفهوم ذا غموض والتباسات كثيرة وتباينات متنوعة. فهو مفهوم قابل للتمدد والتوسع والضيق والانكماش بحسب حيثيات كثيرة ونقاط تركيز واهتمام متباينة ومتنوعة. قد تجعل بعضنا في النهاية في حيرة من أمرها، وقد تدخلهم في الغموض والالتباس وسوء الفهم. فنحن قد نتحدث عن ثقافة أمة أو ثقافة مجتمع، وقد نتحدث عن ثقافة عصر أو ثقافة بيئة، وقد نتحدث عن ثقافة تخلف وإنحطاط، أو نتحدث عن ثقافة تطور وازدهار... ورقي وتقدم، وقد نتحدث عن ثقافة الطفل، أو ثقافة الذكر، أو ثقافة الأنثى... إلى غير ذلك من تنوعات كثيرة ممكنة.

 وهنا يقول الدكتور نبيل علي: "تعددت - بالتالي - أوصاف الثقافة في «باقة» من التعريفات زادت على 150 تعريفا، تؤكد في مجملها أن الثقافة تجمع بين كونها منتجا وإنتاجا، أو اسما وفعلا باستخدام المقابل اللغوي"[1] ، ثم يورد الدكتور تصنيفاً موجزاً لتلك التعريفات مرتكزاً فيه على الجانب الذي يتم التركيز عليه في النظر لظاهرة الثقافة... وهي تصنيفات نحن في غناً عن الحديث عنها تفصيلاً في بحثنا هذا.

 وحيث أن ما يهمنا هنا من الثقافة هي علاقتها بالنهضة، لأننا نريد في النهاية الحديث عن قضية «النهضة الثقافية أو النهوض الثقافي»، لذا سنتجاوز ذكر التعريفات الكثيرة الممكنة للثقافة، ومنها تعاريف كتب المعاجم اللغوية[2] ، وسنكتفي بما ذكره الكاتب والمفكر السعودي المعروف إبراهيم البليهي في قوله: "إن الثقافة بمعناها الانثروبولوجي هي أسلوب أو طريقة الحياة التي يعيشها أي مجتمع بما تعنيه من تقاليد وعادات وأعراف وتاريخ وعقائد وقيم واهتمامات واتجاهات عقلية وعاطفية وتعاطف أو تنافر ومواقف من الماضي والحاضر ورؤى للمستقبل، إنها طريقة تفكير وأنماط سلوك ونُظُم ومؤسسات اجتماعية وسياسية وما يعيشه المجتمع من انفتاح أو انغلاق"[3] . فهذا التعريف الرائع، فوق كونه تعريفاً دقيقاً ومتماسكاً، فهو يشير أيضاً بقوة ويحمل في طياته دلالة واضحة على أن الثقافة لها ارتباط مباشر وأكيد بقضية الوعي والفهم والرؤى المستقبلية والبصيرة في الحياة الإنسانية، والتي هي هنا بالتأكيد ركيزة مهمة بالنسبة لنا في الحديث عن أي نهوض معرفي أو ثقافي أو حضاري... لأنها كالمصباح - في حال حضوره أو غيابه - للسائر في العتمة في طريق الخلاص.

 

أهمية الثقافة

 وهنا قبل الحديث عن أي نهوض ثقافي، فإن من المناسب أن نجمِّع بعض أشلاء المقولات والتعريفات والآراء التي وردت في الثقافة ومفهومها. وذلك بهدف إعطاء بعد أكثر وضوحاً وأغور عمقاً لمعنى وقيمة وأهمية معالجة القضية الثقافية. لذا من تلك التعريفات والمقولات الكثيرة التي وردت في الثقافة سنختار ما يلي: «الثقافة هي منتج الذوات المفكرة - الثقافة هي البوصلة التي يتبعها العالم اليوم - الثقافة هي الحياة - الثقافة هي التي تساعد أو تبطل التنمية - الثقافة هي وعي ومسؤولية وانتماء - الثقافة هي التي تمنح الانسان قدرته على التفكير في ذاته - الثقافة هي كل ما تختص به مجموعة أو طائفة أو مجتمع معين من النواحي الروحية والمادية والفكرية، وتضم الفن والأدب ونمط الحياة وقواعد التعامل والنظام والتقاليد والمعتقدات - الثقافة هي المدخل إلى معالجة معظم إشكاليات العالم العربي - الثقافة هي المترجم الأصلح للحضارة الانسانية - الثقافة هي فرض للوجود وأداة للتعبير عن الذات - الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله او نتملكه كأعضاء في المجتمع - الثقافة هي هوية الوطن وشخصيته - الثقافة هي المركب الذي يتسع لنا جميعا للعبور من ضفة الصراعات الي ضفة السلام والتنمية - الثقافة هي محور عملية التنمية الاجتماعية الشاملة - الثقافة هي التربة الخصبة التي تنمو فيها العلاقات بين الشعوب - الثقافة هي الباب الى الحرية - الثقافة هي الرئة التي يتنفس بها المجتمع - الثقافة هي روح الأمة - الثقافه هي مايبقي بعد أن ننسى كل شيء».

 

قضية النهضة الثقافية وعناصر لابد من الحديث عنها:

إن الحديث عن أي نهضة ثقافية يستتبع بشكلٍ تلقائي الحديث عن: «الماضي والحاضر والمستقبل». فهو يستتبع الحديث عن ثقافتنا الموروثة من الأجيال الماضية وامتدادها فينا، وعن حاضرنا الثقافي وتأثير ثقافتنا الحاضرة فينا، وعن وعينا أيضاً بذلك التأثير، والحديث عن مستقبل تلك الثقافة وطموحنا لما نصبوا أن نكون عليه والسبيل لتحقيق ذلك. وهنا ستتضح أمامنا عدة عناصر هامة لابد من الحديث عنها في خضم بحث موضوع النهوض الثقافي في المجتمعات الإنسانية عامة والمجتمعات العربية والمسلمة خاصة، وهي:

 أ- ثقافة التخلف والإنحطاط.

ب - ثقافة النهضة والارتقاء.

ج - الحراك الثقافي من أجل النهوض.

د - دور المثقف.

هـ - آليات وأدوات النهوض الثقافي وطرائق النهضة الثقافية.

و - علاقة الوعي بالنهضة.

 

أولاً، ثقافة التخلف والإنحطاط :

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا «هل نحن أمة متخلفة حقاً؟ أم لا؟»، ثم «من المسؤول عن تخلفنا هذا؟ وما هو سر هذا التخلف؟»، و«هل تخلفنا مرتبط بثقافتنا؟ أم لا؟ وما قدر هذا الارتباط - إن وجد -؟»، و«هل الثقافة هي العامل الوحيد في معادلة تخلف المجتمعات العربية والمسلمة؟ أم لا؟»، أو «هل الثقافة عنصر محوري في تخلف مجتمعاتنا؟ أم لا؟ وبأي قدر - إن كان -؟»... و«هل هناك ثقافة بديلة متفوقة تشعرنا بالنقص وبواقع ثقافتنا المتخلف والمنحط هذا؟ أم لا؟».

 كل هذه الأسئلة والتساؤلات الشبيهة، كفيلة أقلاً بأن تضع بعض النقاط على بعض الحروف، خصوصاً إذا ما هب الوعي لنجدتنا طبعاً. ورغم ذلك التوضيح الجلي والواضح للبعض، إلا أنني لست هنا بصدد وضع إصبعي مباشرة فوق جرح أمة مثقل بلوثات الماضي العابرة لمئات بل ربما آلاف السنين من التجرثم الدافع للانتفاخ والتورم، خشية أن يتقيح الجرح بطريقة سيئة من الطبيعي أن نخشاها ونتجنب تبعاتها جميعاً. لكن إدراكاً مني أيضاً لأهمية البوح بالحقيقة المجردة مهما عاندت أو كابرت عواطف الصغار، لذا سأحاول هنا قدر الإمكان الإقتراب من نقاط الخلل والعلاج بحذر شديد يتجنب التماس المباشر مع الجرح المتهيج والمحتقن قدر الإمكان... وأنا واثق كل الثقة أن هناك آخرون غيري في الساحة الاجتماعية والثقافية ممن هم أقدم مني خبرة وأكثر مني قدرة على فهم الواقع المريض وتشخيص مواضع العلل وتحديد بؤرة الخلل وتحديد العلاج وإعطاء لمحة مبهمة أو واضحة عن ذلك كله. وما كتابتي هنا في هذا الموضوع الشائك والمعقد والحساس إلا من باب الإسهام بقناعاتي الخاصة في تفكير جمعي ضمن حراك ثقافي واعي - إنشاء الله - لشريحة قد لا تكون بالضيقة كثيراً في مجتمعنا المحلي والعربي والإسلامي، تتغيى تشخيص واقعنا المر والتأكيد عليه ونشر الوعي به ضمن شريحة أوسع وأعرض، وهنا يأتي مركز التأكيد والاهتمام وبؤرة التحرك. ولا شك عندي في النهاية أن كثيراً من القراء سيحملون القدر الجيد من الفهم والانتباه الذي سيسهم - إنشاء الله - في إكمال بناء الصورة المطلوبة وبيان الغاية المرجوة.

 وأنا لست أتفرد هنا برأي خاص، إن قلت في إجابة على الأسئلة السابقة: «نعم، إننا أمة متخلفة تعيش "ثقافة تخلف وواقع تخلف وانحطاط"، مردهما الرئيس والأهم معاً ثقافتنا الموروثة بما فيها من خلل واعوجاج، يسهم ببقائها في بقاء وديمومة واقع التخلف والانحطاط وامتداده عبر الأجيال».

 وأنا هنا لا أتهم طبعاً كل الموروث الثقافي، بكل ما فيه من مباديء وقيم وعقائد ورؤى... الخ - كما قد يتوهم البعض -. فالثقافة إجمالاً بلا شك بحر متلاطم من المكونات يصعب التعامل معه بهذا التبسيط وتلك السطحية الساذجة. لكن لا شك عندي أيضاً أن هناك عناصر للتخلف والانحطاط قابعة داخل تلك الثقافة الموروثة وتتخذ موقعية محورية تصنع من خلالها تخلف أمتنا وانحطاطها الدائم. لذا يجب التركيز على هذا المحور وصب الجهود المكثفة في معالجة هذه البؤرة الفاسدة تحديداً. ويبقى في الثقافة الموروثة بالتأكيد دعائم رائعة للخير والصلاح والتقدم والتطور والرقي والازدهار والتلاحم والترابط المثمر والبناء... الخ، خصوصاً إذا ما استثمرت هذه الدعائم بالشكل الصحيح والملائم. كما أن فيها أيضاً هوامش قد لا يتسع عمر الناس للإنشغال بها وإعطائها مركزية وأهمية كبرى في حين قد لا تعدو قيمتها وأهميتها الحقيقية كونها "زركشات" جيدة أو سيئة في ثوب الثقافة.

 وعوداً على الموضوع الأهم وهو تأكيد حقيقة تخلفنا وواقعنا الثقافي المر، يمكن استدعاء بعض المواقف والآراء الداعمة وزجها للاستشهاد بها في هذا الموقف تحديداً. فالكاتب والصحافي غسان الإمام يقول في إحدى مقالاته: "وهكذا، فالثقافة العربية من خلال أدلجة الدين وتسييسه، وَزَجِّهِ في معارك وحروب غير متكافئة، هذه الثقافة يمكن اعتبارها متخلفة في المستويين السياسي والحضاري"[4] . وأيضاً من جهة أخرى نجد الكاتب إبراهيم الحيدري في مقالته المعنونة «النهضة العربية والحداثة المعطلة» يعاضد أيضاً هذا الرأي، بقوله: " ومن الممكن القول، إن إشكالية الحرية في الفكر العربي أظهرت منذ بداية عصر النهضة عجزاً بنيوياً في الفكر والثقافة والمجتمع ولم يستطع مشروع الإصلاح والتحديث ان ينتشله من التخلف والعجز والركود، ولم يستطع التراث الثقافي والعلمي والفلسفي التنويري للعصر الوسيط ان يعطيه دفعاً وتحريكاً، ولذلك انكفأ على نفسه وتراجع وفقد بذلك قدرته على التطور والنمو. وكان في مقدم الأسباب التغيب الفكري للتراث العقلاني العربي وعلى مدى قرون طويلة، وهيمنة ثقافة لا عقلانية أنتجت بيئة ثقافية تعيد إنتاج نفسها باستمرار وتعوق أي حركة فكرية متجددة"[5] .

 كذلك سنجد الكاتب الدكتور/ عبد العزيز الغدير، يقول: "ودون أدنى شك أسهم هذا التخلف الثقافي في تعميق الفجوات الاقتصادية والصناعية والتقنية بيننا وبين دول العالم الأول التي شكل محركها الثقافي قوة جبارة دافعة تفوق قوة محركنا المتواضع بشكل كبير"[6] ،... وهكذا تستمر الأصوات من هنا وهناك لتؤكد جوهر المشكلة الواضح والأكيد في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لنجد الكاتب في صحيفة اليوم السعودية محمد هجرس، يقول: " لا شك في أن كافة أشكال الحوار مطلوبة ومهمة. فالحوار مفهوم سحري، يعكس في كل تمظهراته حالة ثقافية إيجابية ومنفتحة. وتزداد أهميته أضعافا عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات العربية والإسلامية، حيث تؤكد الأحداث أن هناك خصومة تاريخية مع الحوار والنقد والمراجعة، والتي تمثل في مجملها آليات مهمة لإحداث التقدم والتطور الحضاريين. فقدان التحاور، أوجد حالة صمم غريبة، وتنافرا، والاعتماد على التلقين، في الخطاب السياسي والاجتماعي والديني ساهم في أن يكون الأمر أشبه بإشارة مرورية يكون السير فيها في اتجاه واحد فقط، من يحاول «التجديد» يكون كمن ارتكب مخالفة مرورية تستوجب العقاب"[7] . ورغم ما تقدم وكثرة الأصوات في هذا الجانب، يصم البعض منا آذانهم عن سماع هذه الأصوات ويرفضون الإعتراف بها أو حتى الإلتفات إليها ومناقشتها مناقشةٍ عقلانيةٍ بعيدةٍ عن الضجيج والفوضى والصراخات العاطفية. وذلك ليس إلا لأنهم هم أيضاً جزء مهم من معضلة مجتمعاتنا الثقافية والحضارية الدائمة والمستمرة.

 إن تضافر القناعات وتعاضد الآراء المؤكدة لحقيقة تخلفنا الثقافي، ومنطقية خطابها وجلاء بيانها واستمرارها عبر الزمن، لا يزيدنا سوى قناعة ووثوقاً بحقيقة ظلامية واقعنا الثقافي العربي والإسلامي المتردي والمتخبط المسببة للتخلف والانحطاط. بل إنه من الطبيعي والمنطقي والمقنع بداهة القول أنه لم يكن لحضارتنا العربية والإسلامية أن تتردى وأن تتخلف لو لم تكن ثقافتنا وأفكارنا محشوة بكثير من القناعات والآراء والتصورات والمفاهيم الباطلة والمغلوطة والمعوجة والمتخلفة المسببة للتأخر والتخلف. فالاعوجاج لا ينتج غير الاعوجاج. والغباء لا ينتج غير الغباء. والظلامية لا تنتج غير الظلام. ومن هنا فإننا نقول بثقة بدور الثقافة المتوارثة الكبير والخطير والمحوري في تخلف الأمتين العربية والإسلامية. فرغم ما تتحلى به هاتان الأمتان العربية والإسلامية من مبادئ سامية وقيم راقية ومفاهيم سامقة في ثقافتيهما في مستوى الجذور - والتي يظل معظمها أو قسمٌ كبيرٌ منها غالباً حبيس الأدراج، أو بانتظار الخروج للنور والتداول والتفعيل -، إلا أن الإعوجاج الكبير والخطير في ثقافتيهما استطاع أن يكون بارزاً وواضحاً وفاعلاً ومستمراً بحيث تشتكي منه الأجيال المتلاحقة. وما ذلك إلا لأنه تمركز في موقعية فكرية محورية تمثلت في تخبط واختلال: «مفاهيم العدالة والحرية».

 طبعاً، قد يقال بأن المسؤول الأول والأهم والأبرز عن الاعوجاج الثقافي للأمتين العربية والإسلامية في حاضرهما وماضيهما، كان ولا يزال هو الفعل السياسي «الديكتاتوري والاستعماري». الذي قام ولازال يقوم دائما وأبداً وباستمرارية فاعلة ومقتدرة بتغييب ثقافة الوعي والرشد والنضج الحضاري عن جماهير أبناء «الأمة المستلبة» - أياً كانت -، كما ويسهم - من جهة أخرى أيضاً - في بث ثقافة الإستبداد والتخلف والتفرق والنزاع والضياع والانحطاط. وهذا الدور المتحقق في ميدان الواقع مما لا يمكن لي ولا لغيري طبعاً إنكاره، فلا يمكن لي ولا لغيري إنكار دور رجال السياسة ورجال الاستعمار في تشويه الثقافة ونشر التضليل والتخدير. لكن رغم ذلك فذلك لا يكفي - بحسب قناعتي ووجهة نظري الخاصة - للنظر «للاستبداد أو الاستعمار» على أنه الفاعل الوحيد أو الأهم والأبرز خصوصاً في «الساحة الثقافية الإسلامية والعربية». فأين يكون إذاً دور القادة الدينيين والخطباء المنبريين الواعين والمتنورين والمثقفين الذين يحملون ثقافة الرشد وينشرونها - بحسب ما ندعي -، والذين طالما ارتبطت وتعلقت بهم وعولت عليهم الشريحة العريضة من جماهير أبناء الأمة؟؟؟!!! … فنحن نعرف أن الثقافة العامة في معظمها في «عالمنا العربي والإسلامي» من أقصاه إلى أدناه ومن شماله إلى جنوبه، إنما هي في حقيقتها وجوهرها أو في جزء كبير ومهم منها ليست سوى ثقافة نخب دينية ووعظ منبري وخطاب مساجد أو حسينيات... ليس إلا، وقد استعصى ترويض هذه الثقافة والسيطرة عليها بشكل مباشر حتى على الأطراف السياسية الأكثر قوة والأشد قسوة والأكثر حنكة - كما هو ثابت - عبر التاريخ، إلا بالتسلل والدخول لمسجد الرحمن خلسة عبر «الشباك» تحت أجنحة الظلام - حين استعصى على الطغاة إرضاع الناس من ضرع الساسة إلا بإلباس تلك الضرع لبوس الدين والإيمان وأهله - … فأين كان إذاً أو أين يكون ذلك الوعي والرشد والنضج الحضاري المدعى حينها عند قادة الخطاب الصامد والثقافة المقاومة ليبرر ذلك التغيب أو العجز عن إحداث التأثير المطلوب في أرض وواقع العرب والمسلمين وحياتهم، علنا نقبل بعد ورود الجواب من المنخدعين تلك التزكية الساذجة وذلك التنزيه المتورم لثقافة تلك النخب المقاومة والعاجزة في نفس الوقت رغم دورها الكبير والفاعل في تثقيف وتوجيه الجماهير؟!

 ومن هنا، فلاشك إذاً أن معظم تلك النخب كانت هي أيضاً جزءً مهماً من معضلة الأمة ومرضها، بل كانت هي الجزء والمحور الأبرز والأهم على امتداد التاريخ. أو بتعبير آخر ومعنى أوضح: «كان حملة راية الإصلاح هم أيضاً دعاة تخلف وتشرذم وإستبداد وتمزق وقهر وقمع واعوجاج وفشل وانحطاط، لكن تحت عناوين ويافطات أخرى براقة شغلت الناس طوال التاريخ عن سلوك طريق الإصلاح الصحيح... مما جعل المستضعفين والمحرومين والمقهورين لا يخرجون باستمرار من سجن إلا إلى سجن آخر، ولا من أحضان جلاد إلا إلى أحضان جلاد آخر... الخ، فلم تفلح الشعوب في صناعة خلاصها ومجدها لأن تلك النخب المزيفة أدخلتها في مشاريع لاتسمن ولا تغني من جوع... هذا إن لم تزد الطين بُلة». وإلا فإن من الطبيعي أن الشعوب المخلصة إذا أرادت الحياة إرادة حقيقية أن يهبها الله إياها، كما يقول الشاعر التونسي المعروف أبو القاسم الشابي [8] :

 إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة = فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ

ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي= ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ

لكن ماذا حينما يكون الشعب أيضاً ممن لا يعرف طعم الحياة، بل ولا يريدها، ولا يؤمن بغير الظلم والقهر والإستبداد والقمع وسفك الدماء، فهل تولد الحياة من هذه الرحم المريضة والمشوهة؟؟؟!!!.

 هنا كان من الطبيعي أن يولد الانبهار بالغرب وثقافته ونظام الحريات الراقي فيه لدى أبناء الأمة المحرومة والعاجزة والضعيفة والمتأخرة، رغم ما في الغرب من خلل وعيوب وعلل أخلاقية وقيمية كثيرة ومتعددة. فالمريض ينظر للسليم دائماً نظرة الحسرة والغبطة وربما الحسد والغيرة وإن كان يملك كل كنوز الدنيا. والفقير أيضاً ينظر للغني نظرة الإنبهار والإعجاب والحسد وإن كان من أصح سكان المعمورة. فكل الناس يبحث عما ينقصه في الآخرين... فماذا عنا إذاً كشعوب إسلامية وعربية إذا كان ما ينقصنا هو هواء الحرية وأكسجين العدالة ونعيمهما... فهل نستطيع أن نتنفس بدون ذلك غير الغيرة والحسرة والحسد والانبهار؟؟؟!!!. فهنا تظهر إذاً ثقافة متفوقة تدفع شبابنا وشيباننا أيضاً للانبهار والإعجاب واستشعار فارق الحال.

 

ثانياً، ثقافة النهضة والارتقاء:

إذا كان مقابل كل ظلام لابد من نور، ومقابل كل تخلف لابد من تقدم ورقي، فأيضاً مقابل ثقافة التخلف والانحطاط لابد من ثقافة تحدد النهضة والرقي والازدهار، وكما يقولون "تعرف الأشياء بأضدادها". لكننا لسنا هنا بصدد الحديث عن لغات الشعوب أو لهجاتها، كما أننا لسنا هنا بصدد الحديث عن عادات الشعوب في الأكل أو الشرب، ولسنا أيضاً بصدد الحديث عن العمارة والمباني السكنية أو غيرها... كما أننا لسنا كذلك بصدد الحديث عن كم يُقرأ ولا كم يُكتب ولا كم يُطبع ولا كم يُنشر أو يُوزع... الخ. فنحن لسنا بصدد البحث عن قشور.

 إننا هنا للبحث عن الفوارق الثقافية الأهم فاعلية والأكثر جوهرية في صناعة كيان أمة متحضرة تليق مكانتها ودورها وسلوكها بالعصر الذي تعيش فيه. وقد تقدم فيما سبق ما يشير إلى أن أهم فارق ثقافي يمايز ثقافة الانحطاط والتخلف عن ثقافة التقدم والتطور والازدهار هو الفارق الكامن في مفاهيم «العدالة والحرية» - وتفرعاتها -. فمفاهيم «الحرية» هي التي تتيح برؤيتها الصائبة مجالاً: لتحقق «العدالة الجيدة» وصيانة القيم الإنسانية النبيلة، التي ينهض فوق أكتافها بالتالي كيان المجتمع، ثم في النهاية تبنى فوق أرضها حضارة الأمة في مختلف جوانبها وشؤونها.

 إنها إذاً قيم الحرية والعدالة والمساواة والتعايش واحترام التنوع والتعدد... فهي التي تصنع الفارق في الأمة وفي ثقافتها بين «التحضر والانحطاط». يقول الدكتور/ عبد العزيز الغدير: «المشاريع الحضارية هي مشاريع إنسانية بالدرجة الأولى، والمشروع الحضاري الإسلامي الذي لخصه ربعي بن عامر أمام كسرى الفرس بقوله "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة" مشروع إنساني بالدرجة الأولى، مشروع قيم ومفاهيم إنسانية تنهض بالإنسان لينهض بالمكان ليعمر الأرض، كما أراد الله له ذلك»[9] .

 وبالتالي، فإن نظرة سريعة واعية ومنصفة لما نحن عليه كأمة من ثقافة وفكر وقناعات: «تمانع الحريات وتهدم العلاقات وتمزق الجماعات وتكمم الأفواه وتقطع الألسنة وتقتلع الرقاب وتريق الدماء وتجنح بكفتي العدالة نحو الاختلال»، لكفيلة بأن تهب اللبيب بصيرة، أي قيم حضارية يجب أن ننشد، وأي مبادئ يجب أن ننجز، وأي أفكار يجب أن نحيي، وأيها يجب أن نلغي ونهمش.

ثالثاً، الحراك الثقافي من أجل النهوض :

هنا بعد أن نلحظ الفارق الثقافي والحضاري بيننا وبين الآخرين، من الطبيعي أن تأخذنا الأشواق لعالم التطوير، وأن تدفعنا الآمال لساحة التغيير... وأن يشدنا الطموح للأعلى. لكن قبل أي جهد يبذل لابد من فكر وبصيرة وتفكر ورؤية. فمن دون التفكير والرؤية والبصيرة الجيدة، من الطبيعي أن نتخبط في لجج الظلام والجهل ودياجير التخلف والفشل والعتمة. ومن الطبيعي أن يُوْلِد الشعب المظلوم من رحم المعاناة في ظل غياب الثقافة الرشيدة أنظمة فاسدة مستبدة باستمرار. فيستبدل الظلم بظلم مثله أو أشد منه. لأن الثقافة المريضة غير قادرة على أن تهب العدالة والحياة والحرية، بل ليست قادرة حتى على صيانة الحياة والعدل والحرية إن وجدت من أن تمتهن أو تستلب باسم الحرية نفسها أو باسم الدين أو باسم العدل أو باسم القيم أو بإسم الإله أو بإسم الأرض أو باسم السماء... الخ.

وهنا يمكننا القول أنه لا قيمة ولا معنى للحراك الثقافي عندما يكون المقصود به حجم أو عدد الكتب التي تطبع أو تنشر أو تقرأ أو توزع، ولا قيمة للحراك الثقافي أيضاً عندما يكون المقصود به حجم أو كمية الشرائط أو النشرات أو الصحف أو المجلات التي تطبع أو تنتج، ولا حجم اللقاءات أو الحوارات الثقافية السطحية والجوفاء التي تعقد أو تدار وتنشأ... فلا قيمة لذلك كله في ظل غياب الحريات الحقيقية وفي ظل سيادة قمع الأفكار ومصادرة الآراء والقناعات وجبر الناس على إتباع سلوك تفكير واحد مفروض مسبقاً ومقنن... فكل ذلك في تلك الأجواء خصوصاً لا يعدو كونه قشور ومظاهر براقة تخدع وقد تضر ولا تنفع.

إن أهم ما في الحراك الثقافي هو: حرية الفكر وحرية القناعات وحرية المعتقدات والآراء. فعندها يكون من الطبيعي أن تتكاثر الآراء وتزدهر الأفكار وتنبع الرؤى. فيكون بالتالي الإبداع وتولد البصيرة والرؤية الجيدة للحياة ويخلق الوعي. يحدث ذلك كله هنا عندما يكون هناك متنفس رحب للتفكير والتأمل والبوح. لا عندما يكون تعدد الآراء كفراً، وتنوع الرؤى فوضى فكرية وثقافية، والجمود الفكري وتكرار الأفكار واستنساخها وتوريثها إستقامة وإيمان وثبات على الحق... كما هو حاصل ومعمول به في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

فهنا في مثل هذه الحالة المرضية، يكون العلاج الطبيعي هو علاج التحجر والجمود والصنمية في ثقافة الأمة وواقعها، وهو أيضاً علاج رفضها للتمايز والتباين الثقافي والفكري والعقدي، وعلاج لجوئها للقتل والقمع والإرهاب والتقزيم بناء على الانتماءات الفكرية والعقدية والثقافية والطائفية. وهنا يبدو لي في ظل مثل هذا التأزم الشديد الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية من الأفكار المغايرة والمخالفة أن الحل يكمن ويرتكز في الفعل وديمومته على محورين حيويين لابد من بقاء الفعل فيهما معاً بشكل دائم ومتزامن، وبطرق مدروسة وواعية تؤدي الدور المطلوب بكفاءة وفاعلية وتبتعد بالأمة قدر الإمكان عن الفتن والتمزق وآفاتها وزلازلها ونكباتها، بغية الخروج في النهاية من نفق الجمود الفكري إلى ساحة الفعل والحراك والفاعلية الثقافية، وهذان المحوران وهما:

 

1- محور قيادة القطيع.

2- محور أسلوب الصدمة.

 

فبالفعل والحراك الدائب والمتزامن فوق هذين المسارين وعلى أرض هذين المحورين، يمكن زيادة رقعة الحرية في الساحة الفكرية والثقافية، ويمكن بهما عصف الفكر، وزلزلة الجمود، وخلق التفاعل، ونشر قيم التعايش والتسامح والحوار والقبول بالآخر المخالف والمباين.

 بالأسلوب الأول يمكن تحرير شريحة واسعة من القاعدة الشعبية المتصنمة فكرياً وعاطفياً عند معشوقاتها القديمة والتوجه بها خطوات جيدة في سلم التحضر والترقي، بإعطاء مبررات لذلك التحضر والتطوير. وبالأسلوب الثاني يمكن إثارة وتحرير وتنوير المزيد من العقول القادرة على قبول وتحمل الحقائق كما هي، والقابلة للتخلص نفسياً وفكرياً وعاطفياً من الجمود والتحجر المتوارث بمعانية المتنوعة والمتعددة، والخروج بها في النهاية من دائرة العتمة لدائرة الوعي والنور والنضج الحضاري الأفسح والأرحب، دون التفافات أو مغالطات.

وهنا يطيب لي دعماً لما سبق، أن أستشهد بعبارات ذات صلة قرأتها في أحد المنتديات الإلكترونية، يقول صاحبها: " كل تجربه تزيد الإنسان علماً وخبرة.. وكل صدمة تعين الأنسان على التغيير... وكل فكرة تقدم الإنسان للعمل...". وأيضاً بمقولة أخرى للشيخ الدكتور/ عائض القرني، يقول فيها: " الإنسان بلا قراءة قزم صغير، والأمة بلا كتاب قطيع هائم"[10] . مع أني أفضل تلك العبارة السابقة لو قيل فيها: "والأمة بلا «ثقافة تهب الوعي»، قطيع هائم". فكم من إنسان يقرأ ويكتب لكنه في النهاية ليس إلا وبالٌ على القراءة والكتاب والثقافة، فالكتاب والقراءة والثقافة «بمعناها السطحي»، سلاح ذو حدين، قد يهب الوعي والتقدم والرقي، وقد يهب التخلف والانحطاط والغباء والتخبط والجهل. وكثيراً ما استغلت هذه الأدوات وجيّرت لقيادة الناس قطعاناً باتجاه الشر والظلم والبغي.

وهنا بعد هذا الذي ذكرناه عن الفعل في القطيع والفعل في الوعي أو ضمن حدوده، تأتي قضية تحريك وتفعيل دور «القشور» أو الأدوات والقوالب الفكرية والمعرفية والثقافية. والتي لا يمكن لأي عاقل أياً كان أن يتجاهلها أو يغفل دورها وأهميتها وقيمتها، خصوصاً في هذا العصر الحديث.

فرغم ما تقدم من تهميش لدور الأدوات الثقافية أو القوالب المعرفية، إلا أنه يمكن القول أن التقنيات الحديثة في هذا الزمن قد أحدثت فارقاً كبيراً وملحوظاً في معادلات الحراك الثقافي وصناعة الوعي ونشر قيم الحرية والعدالة، وهو ما كان يتغياه تحريض الفعل على محوري «قيادة القطيع» و«أسلوب الصدمة».

فقد أضحت وسائل الإتصالات وقوالب المعرفة الحديثة تسهم بشكل ملموس وواضح وكبير في تكسير كثير من حواجز الصد والمنع التي كانت توضع عادة والتي ربما لازالت توضع في وجه الحريات الفكرية والثقافية. فسمحت بالتالي بتقدم مسيرة التداخل والتقارب والتعايش الثقافي بين مختلف الشعوب وشتى الثقافات. بالشكل الذي بات يقلل بجدية ووضوح من دور وأهمية التحرك والفعل على مستوى المحورين الآخرين سابقي الذكر، لصالح العمل فوق المحور الثالث وهو الأدوات والقوالب الفكرية والمعرفية. رغم أهمية المحورين السابقين المستمرة والممتدة.

 

رابعاً، دور المثقف:

 فإذا كانت ثقافة التخلف هي نقطة الإنطلاق، وكان العصف الفكري والتنوير هو المسار، وكانت قيم الحرية والعدالة والتسامح والتعدد والتعايش وحقوق الإنسان هي الهدف، فالسؤال المستهدف والطبيعي هو: «من يعلق الجرس؟» و«من يقود الدور ويحرك الفعاليات؟».

 ومن الطبيعي أن يكون الجواب السهل والواضح والمباشر، هو: «المثقف... ذلك الكائن المنشغل بالفكر والثقافة، الذي يحمل هم المعرفة، والذي يحمل رؤية وبصيرة في الحياة الإنسانية تؤهله لنقد وقيادة مجتمعه نحو الرقي والتحضر والتماسك والإبداع المطلوب».

 وأنا هنا لست أقصد بالمثقف طبعاً ذلك المعنى الدارج للكلمة عند الكثيرين، وهو: «من يعرف شيئاً عن كل شيء، وكل شيء عن شيء»، فمثل هؤلاء بيننا كثيرون، وهم يملكون معارف وعلوم من كل جانب، أو من كل بحر قطرة - كما يقولون -، لكنهم في النهاية بلا بصيرة وبلا رؤية واضحة للحياة، بمعنى أنهم عرضة للتضليل والخداع والضياع، بحيث يسهل أن ينطبق عليهم قول الإمام علي : "همج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق". وهؤلاء ليسوا من نبحث عنه، فالمثقف الذي نبحث عنه إنما هو كائن مفكر يمتلك رؤية وبصيرة بسبب معارفه المتراكمة تجعله مدركاً للقضايا المهمة من حوله قادراً على قيادة نفسه ومجتمعه بوعي وبصيرة وإدراك جيد لعواقب الأمور.

 فهذا المثقف القادر على الفهم والوعي والاستيعاب، المستشعر للمسؤولية ضمن الجماعة، القادر على القيادة والتوجيه بحكمة، يمكن أن نتفهم دوره الحساس والخطير في المجتمع، وأن ندرك قيمته الحساسة هنا.

 وعن دور مثل هذا المثقف، يقول محمد جبريل: " المثقف في رأي سارترـ ليس مسئولاً عن نفسه فحسب، وإنما هو مسئول عن كل البشر، والإنسان الذي يرى قيمة الاختيار لا يستطيع إلا أن يختار الخير. والخير لا يكون كذلك إلا إذا كان للجميع، المثقف قائد للجماعة، وهو من يسعى إلى التغيير في الجماعة التي يقودها بأفكاره.. إنه يوجه، وينصح ويحذر، ويقدر وعي مواطنيه.. ثم تأتي استجاباتهم لأقواله"[11] .

 و«من جهة أخرى» حول دور المثقف أيضاً، يقول الكاتب المصري مجدي خليل: "هناك حزمة كبيرة من أدوات التغيير التي التزم بها كل مثقف جاد محترم تجاه مجتمعه سنمر بإيجاز على بعضها"[12] . ثم يورد الكاتب النقاط التالية مع شيءٍ من الشرح - وسنكتفي هنا بسرد النقاط تجنباً للإطالة -، وهي:

 - الاندماج في المجتمع الإنساني العالمي.

- النقد البناء لمجتمعاتنا.

- نقل ما يدور في الغرب عن مجتمعاتنا.

- بناء جسور بين الغرب والشرق.

- نقل قيم التقدم إلى الشرق.

 

ثم يضع الكاتب إصبعه على النقطة الأهم والأبرز هنا، ليقول «تحت النقطة الأخيرة»: "يتكامل مع كل ما سبق ويصب في المعنى الأساسي، وهو نقل قيم التقدم ومفاهيمه وأدواته وآلياته من المجتمعات المتقدمة إلى مجتمعاتنا المتخلفة".

 وعلى العموم فإن الدور الأهم للمثقف، كما تقول أميرة كشغري، يكمن في: "ترسيخ مفاهيم تقبل الاختلاف وإمكانية التعايش بسلام بين البشر الذين تجمعهم إنسانيتهم المشتركة مهما اختلفت سبل تحقيقها"[13] . أي أن المثقف «الواعي طبعاً» يسهم بفاعلية في صناعة الأرضية الملائمة لقيام مجتمع إنساني سليم، ويحافظ عليها من عوامل التدمير والفشل والتمزق والإنحطاط، وتلك الأرضية هي طبعاً: «ثقافة التقدم والتحضر والازدهار، الكامنة في مفاهيم: الحرية والعدالة والتسامح والتعدد والتعايش».

  خامساً، آليات وأدوات النهوض الثقافي وطرائق النهضة الثقافية:

وهذه الآليات والأدوات والطرق، يمكن أن تنقسم في موضوعنا هذا إلى قسمين، هما:

 1- آليات منهجية.

2- أدوات وقوالب معرفية.

 وقد تقدم الحديث فيما مضى عن بعض هذه الآليات والأدوات والقوالب. فذكرنا منها في خصوص «الآليات المنهجية»: آلية "قيادة القطيع". وكنا نقصد بها التوجيه غير المباشر للجمهور نحو قيم النهضة والرقي الثقافي والحضاري. ثم آلية "أسلوب الصدمة". وكنا نقصد بها المواجهة الصارخة والواضحة والمدروسة بحقائق الوعي والواقع. ويمكن أن نضيف لما سبق أيضاً «تفعيل دور المتلقي»، من حيث ارتباط هذه الآلية بشكل مباشر بالتعليم وتعزيز علاقة المتلقي «القاريء، المشاهد، المستمع... الخ» بأدوات وقوالب المعرفة، عبر طرق أهمها «تعزيز» الميول والدوافع والرغبات والتوجهات الذاتية للفرد عبر طرق ممنهجة مدروسة ومستديمة أو شبه مستديمة تستغرق أقلاً مراحل التنشئة الأساسية في حياة الإنسان، لتخلق فيه الرغبة والاندفاع الذاتي والتلقائي نحو المعرفة.

 ومن جهة أخرى يمكن الحديث عن أدوات وقوالب المعرفة «مثل: الشبكة العنكبوتية، الكتاب، الصحافة، الفضائيات، السينما، الشعر، الخطابة، المسرح، القصص والحكايات... الخ»، باعتبارها شريكاً حيوياً في الحراك الثقافي.

 ونحن لسنا هنا بصدد الحديث التفصيلي عن هذه العناصر والأدوات، لكن يكفينا القول هنا أن دور هذه الأدوات رهن حراك الإنسان وفاعليته، كما أنه رهن ظروفه الحياتية والواقعية أيضاً. فهذه الأدوات قد تفرض نفسها قسراً في حياة الناس بسبب ظروفهم الحياتية وتطوراتهم العلمية والتقنية، وقد يتمدد دورها أو يتقلص تبعاً لنشاط وفاعلية ودور كلٍ من الملقي والمتلقي، والجهود التي تبذل في هذا الميدان.

 

سادساً، علاقة الوعي بالنهضة:

وهنا يمكن إختصار كل شيء، فإذا حضر الوعي حضرت النهضة، وإذا غاب الوعي غابت النهضة، فالوعي هو من يهب الثقافة قيمتها، وهو من يكسب المثقف دوره وأهميته، وهو الذي يجعل الثقافة ثقافة نهضة ورقي، وغيابه هو الذي يحول الثقافة إلى ثقافة تخلف وانحطاط وتردي، فالوعي هو كل شيءٍ كي ننهض، وغيابه هو كل شيءٍ كي نتردى ونتخلف.

 وهذا «الوعي» ليس ببساطة سوى: أن ترى الماء ماءً، والتراب تراباً، والهواء هواءً، فتنعم بمعرفتها جميعاً. وعدم الوعي أن لا ترى الأشياء من حولك كذلك، فتشقى ويصيبك الهم والغم وأنت تائه حيران تطلب النهضة والحضارة فلا تهتدي إلا إلى الخرافة والوهم.

 لذا يمكن القول أن الذي يعرف الوعي: يراه بسيطاً واضحاً سهلاً، فيعشقه ويحبه ويتعلق به. والذي يجهل الوعي: يكرهه ويرفضه ويطلب البعد عنه حين يراه، فيتيه في متاهات الزمان والمكان دون أن يهتدي إليه.

 وهكذا فإن الوعي ببساطة هو أن تعرف الأشياء على حقيقتها. ولذا فقد يختلف الوعي من مكان لآخر، أو من زمان لآخر، أو من ثقافة لأخرى، أو من بيئة لبيئة أخرى... تبعاً لنوع الجهل السائد والتخلف المنتشر والمغالطات الرائجة والمعارف المتداولة. لذا كان من الضروري أن يبحث كل مجتمع عن وعيه الخاص، بأن يكون له نقده الممايز التابع لثقافته الخاصة. ونحن هنا لسنا بصدد وضع النقط على الحروف أكثر... لأن الظروف تحكم الموضوع بملابسات كثيرة معقدة يجعل بعضها وضع إصبع على الجرح مباشرة - كما تقدم - خطيئة، يخفق فاعلها غالباً ويعطي نتائج سلبية، مما يدفعنا هنا لتجنب هذا الفعل في هذا المقام «تحديداً»، والاتكال عوضاً عن ذلك على عقل وحكمة وفطنة ووعي القاريء ونقده وجهده الذاتي، في كشف ومعرفة الحقيقة وبواطن الأمور، لبناء وعيه الخاص.

 

نتيجة

إذاً فنحن نعول «هنا» على دور المثقف الواعي وقدراته وفاعليته في نقد وعصف وتقويض ثقافة التخلف في مجتمعه، مع الحفاظ في نفس الوقت قدر الإمكان على التماسك الموجود في مجتمعه على أرض الواقع، بتوظيف العناصر المتاحة في الثقافة الحالية أو بأي سبيل أخر، كل ذلك في النهاية لتوسيع رقعة الوعي، والقيام بمهمة التنوير ضمن أوسع شريحة جماهيرية ممكنة، لتمهيد أرضية ثقافية رصينة تدعم وتسند بناء الأمة لحضارتها الملائمة والراقية والمناسبة.

 

خاتمة

 أود أن أقول هنا في الختام لأولئك الذين قرأوا هذه الأسطر والكلمات فلم تزدهم معرفة جديدة لكنهم يؤيدون ما ذكر... نحن شركاء إذاً، فلنتعاضد في نشر هذه الثقافة. وأود أن أقول لأولئك الذين قرأوا فاستفادوا... أتمنى أن تكونوا قد وصلتم للب لباب هذه الكلمات والأسطر والتلميحات وتجاوزتم القشور. ولأولئك المنتقدين والمعارضين والساخطين أيضاً... فلنفتح أبواب الحوار ولنعش معاً بسلام، فتلك هي السبيل التي من خلالها يمكن أن ترتقي الأمة سلم الحضارة... والسلام

 

--------

هوامش:

[1]  كتاب «الثقافة العربية وعصر المعلومات»، د. نبيل علي، صفحة 126.

[2]  وقد وردت في «المنجد في اللغة والأعلام»، صفحة 71، تحت الجذر ثقف بما معناه: الحذق والفهم السريع والتعلم والتهذيب، وذكر المنجد «الثقافة: التمكن من العلوم والفنون والآداب».

[3]  صحيفة الرياض، «تعدُّد تعريفات مفهوم الثقافة»، إبراهيم البليهي - الاحد 29 ذو الحجة 1426هـ - العدد «13733».

[4]  صحيفة الشرق الأوسط، «ثقافة التخلف: الاغتيال الثاني للمتنبي»، غسان الإمام - الثلاثـاء 24 صفـر 1428 هـ - العدد «10332».

[5]  موقع دار الحياة، «النهضة العربية والحداثة المعطلة»، إبراهيم الحيدري - بتاريخ «18/11/2008 م».

[6]  موقع صحيفة الاقتصادية الالكترونية - «ردم الفجوة الحضارية.. المهمة الأولى للتوجه إلى العالم الأول»، د/ عبد العزيز الغدير - السبت 27 مايو 2006م - العدد: «4611».

[7]  صحيفة اليوم السعودية - «قراءة في رؤيةٍ ساميةٍ لقائد كبير من مكان مقدّس»، محمد هجرس - الخميس 1429/12/13هـ - العدد «12963».

[8]  موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرة - تحت عنوان «أبو القاسم الشابي»، مطلع قصيدة "إرادة الحياة".

[9]  موقع صحيفة الاقتصادية الالكترونية - «ردم الفجوة الحضارية.. المهمة الأولى للتوجه إلى العالم الأول»، د/ عبد العزيز الغدير - السبت 27 مايو 2006م - العدد: «4611».

[10]  صحيفة الشرق الأوسط - «العرب لا يقرأون»، د/ عائض القرني - الخميـس 12 صفـر 1428 هـ - العدد «10320».

[11]  إسلام أون لاين.نت - «المثقف.. والسلطة»، محمد جبريل.

[12]  صحيفة الشرق الأوسط - «دور المثقف العربي في «جزر الازدهار»»، مجدي خليل - السبـت 11 ذو القعـدة 1424هـ - العدد «9167».

[13]  صحيفة الوطن السعودية - «الحج والرسالة الإعلامية»، أميرة كشغري - الأربعاء 12 ذو الحجة 1429هـ - العدد «2994».

المصدر: http://aafaqcenter.com/post/33

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك