فقه الإدارة الإيمانيّة في الدعوة الإسـلاميـة

فقه الإدارة الإيمانيّة في الدعوة الإسـلاميـة

الدكتور عدنان علي رضا النحوي

 

1ـ تمهيـد:

 لعدة قرون والعالم الإسلامي عالة على الغرب في النظم الإدارية، ينقلها نقلاً، أو تُفْرَض عليه فرضاً، مع تصوراتها وفلسفتها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقـد استقرّ في قلوب كثير من المسلمين أن " الإدارة "، لفظةً ومعنىً، تتعلق بالدوائر الحكومية والشركات وأمثالها، ولا يشعـر المسلم بـأن " الإدارة " شيء يمسُّه في حياته الشخصية، في نشاطه الذاتي، وفي بيته وأسرته، وفي تجارته ووظيفتـه. ولا يشعر أنه هو مسؤول عن ذلك، محاسَب عليه بين يدي الله، وأنّه قد ينجح في الدنيا أو يفشل بقدر من الله على سنن ثابتة في الدنيا، من بينها حسن تنظيم عمله وإدارته على أسس إيمانيّة.

 ولا نعني بذلك أننا نحن المسلمين يجب أن لا نستفيد من تجارب غيرنا من الشعوب، ولكننا نعني أن لا نكون تبعاً تبعيّة عمياء، لا نفكّر ولا نردّ الأُمور إلى منهاج الله، ولا نتفاعل بعد ذلك مع ما هو خير فنأخذ ما نحتاجه. فالتجربة الإنسانيّة حقٌّ لعباد الله، وعباد الله يتحملون المسؤولية فيما يأخذون أو يدعون، وكيف يأخذون وكيف يدعون.

 وما نودّ أن نثيره في هذه العجالة أننا إن أخذنا شيئاً عن أي أمة، فيجب أن نردّه أولاً إلى منهاج الله، ثم نأخذ ما نأخذه دون أن نأخذ فلسفته التي تحتويه، فلنا رؤية مختلفة، نأخذ السلاح مثلاً ونستخدمه في طاعة الله لا في معصيته. وقد نجد المجرمين في الأرض يبدّلون نعمة الله عليهم كفراً، ويستخدمون ما أنعم الله عليهم به في معصية الله، فيفسدون في الأرض فساداً كثيراً ولا يصلحون، ويضعون من النظم الإدارية ما يخدّرون به الناس، وما يؤمِّن به مصالح المجرمين في الأرض.

 والإدارة يمكن أن تكون من هذا الميدان الذي يمكن فيه الاستفادة من التجربة البشريّة الصالحة بالشروط التي سبق ذكرها، فلنا نحن المسلمين فقه إسلامي ممتد شامل، وله أسسه وقواعده التي تمتدّ في ميادين الحياة، ومنها ميدان الإِدارة. والإدارة يمكن أن تُسْتَغَلَّ من أجل الفساد والفتنة والجريمة، أو من أجل الصلاح والحق. ومن هنا تتباين إِدارة من إدارة، بتباين الفقه الذي تنطلق منه والهدف الذي تسعى إليه.

نقطة لابد من إثارتها من البداية، ذلك أننا لا نستطيع تغطية هذا الموضوع تغطية عادلة أمينة في عدد من الحلقات أو الصفحات. لذلك نقدم هنا ما يتسع له المقام، مع إعطاء ملامح لبعض القضايا، وإشارات لبعضها الآخر. فكل قضيّة يجب أن تنال من حيث الأساس دراسات منهجيّة مترابطة توفي القضية حقها وترابطها بما سبقها وما يتلوها. ويكمن أن نوصي بالرجوع إلى ثلاثة كتب من أجل تفصيـلات أوسـع: " فقـه الإدارة الإيمانيـة في الدعـوة الإسلامية "، و " الشورى وممارستها الإيمانية "، و" الفقه امتداده وشموله بين المنهاج الرباني والواقع ".

وإذا كنا نحتاج الإدارة في ميادين الحياة المختلفة، فإن من أوسع الميادين التي نحتاج فيها إلى الإدارة الإيمانية هي الدعوة الإسلامية بمفهومها القرآني الواسع وميدانها الشامل الممتد.

 وحيث إن موضوعنا هو فقه الإدارة الإيمانية فلابد من أن نبدأ بتحديد معنى الفقه مما يساعدنا على تبيّن أسس الإدارة الإيمانية وفقهها.

2 ـ الفقه في الإسلام امتداده وشموله:

 لا نقصد بالفقه فقه الشعائر فحسب، ولا فقه الحدود والمعاملات فحسب، وإنما نقصد الفقه بامتداده وشموله لميادين الحياة كلها، حيث ينطلق المسلم فيها ليُحقِّق المهمّة التي خلقه الله للوفاء بها في الحياة الدنيا، المهمّة التي أوجزها منهاج الله في أَربع مصطلحات عامة، كل واحد منها يًعرِّف المهمّة ذاتها من جانب من جوانبها، حتى تقدّم هذه المصطلحات الأربعة التصوّر الكامل لهذه المهمة، ثم يفصّل منهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربية ـ هذه المهمّة تفصيلاً لا يترك لأحد مجالاً أن يتفلّت منها. هذه المصطلحات الأربعة: العبادة، الأمانة، الخلافة، العمارة.

 من هنا تبرز القاعدة الأولى، وهي أن الإنسان المسلم خُلِق ليؤدِّي مهمّة في الحياة الدنيا، وأنه على المسلم أن يعي هذه المهمة وعياً كبيراً، وأنه محاسَب عليها، وأنها هي سبيله إلى الجنة إذا مضى على صراط مستقيم. فالعبادة ليست الشعائر وحدها، كما نجد في بعض الكتب، وإنما العبادة هي الوفاء بالمهمة التي خُلِقْنا للوفاء بها في الحياة الدنيا. وبإيجاز آخر هي ممارسة منهاج الله في واقع الحياة البشرية ممارسة قائمة على أسس الإيمان والتوحيد.

 ولا نقصد بالفقه فقه فئة محدودة من الأمة، ولكنه الفقه الممتد في الأمة كلها الفقه الذي يقوم على المسؤولية، فلا مسؤولية دون فقه، ولا فقه دون مسؤولية. ولما كان كلّ مسلمٍ مكلّفٍ شرعاً مسؤولاً في دين الله محاسَباً، فقد امتدّ الفقه مع امتداد هذه المسؤولية. ولذلك جاءت التكاليف الربانيّة التي يحاسَب عليها المسلم محدّدة واضحة في دين الله، وأصبح من واجب المسلم أن يعرف فقه هذه التكاليف الربانيّة وفقه مسؤوليته فيها.

 ومن هنا تبرز القاعدة الهامة الثانية ألا وهي المسؤولية الفرديّة الذاتيّة. ومن هنا كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.... " (1) ونشير إلى واحدة من أهم هذه المسؤوليات والتكاليف الربانيّة التي جعلها الله على كل مسلم. تلك هي طلب العلم، وأساسه طلب العلم من منهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربيّة. فجاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا التكليف الرباني على كلّ مسلم. " طلب العلم فريضة على كلّ مسلم " (2)

 فجاء هذا التكليف منسجماً مع المهمة التي خلق الإنسان للوفاء بها، ومنسجماً مع المسؤولية الفرديّة.

 والحديث الشريف: " بني الإسلام على خمس... " (3)، لا يعني أن الإسلام وتكاليفه الربانيّة اقتصرت على هذه الخمس: الشهادتين والشعائر. كلا! إن الحديث الشريف شبّه التكاليف الربانيّة والمسؤولية الفرديّة والمهمة التي خُلقَ الإنسان للوفاء بها بالبناء الذي له أساس يقوم عليه. فالأساس هو الأركان الخمسة التي لا يصحّ عمل ولا يُقبل عند الله إلا بها. وعلى هذه الأركان الخمسة تقوم سائر التكاليف الربانيّة كما يقوم البناء على أساسه.

 ففي الأمة المسلمة ومجتمعها واجب كلِّ مسلم أن يتدبّر منهاج الله ويطلب العلم منه. كلُّ مسلم يتـدبّر فيأخذ قدر وسعه الصادق الذي وهبه الله له، والذي سيحاسَب عليه. الجميع يفكرون، ويتدبرون، ويطلبون العلم، وينهضون إلى المسؤوليات الذاتية، وكلٌّ يأخذ قـدر وسعه الصادق، وبذلك تُعْرَف حدود كلّ مسلم. ومن هذا الجو أو المجتمع الذي ينهض فيه الجميع إلى مسؤولياتهم وتكاليفهم الربانيّة عبادة لله ووفاءً بالأمانة التي خُلِقوا لها، ويعرف كلٌّ منهم فقه مسؤولياته في هذا الجو الإيماني المشرق، جو النشاط والعمل تبرز المواهب والقدرات، وتأخذ كل موهبة مكانها العادل ومنزلتها الأمينة، وعلى الأمة المسلمة أن ترعى ذلك، فتنزل كل موهبة منزلتها العادلة الأمينة:  فعن عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن ننزل الناس منازلهم " (4).

 والعلماء هم موهبة الأمة المتميّزة بوسعها وإِيمانها وعلمها وخبرتها، لتحال إليهم القضايا المعضلات التي لا يقوى الفرد على الاجتهاد فيها ولا هي في حدود وسعه. ولا يعطل دورُ العلماء مسؤوليةَ الآخرين ولا حقوقهم في حدود مسؤوليتهم ووسعهم واختصاصهم.

 لقد أصبح كثير من المسلمين يعتقدون أن أداء الشعائر هي كلُّ ما فرض عليه الإسلام، ومضوا على ذلك، وتركوا الميدان خالياً منهم، فملأ فراغهم دعاة النصرانيّة وغيرهم. فلابد من توعية المسلم إلى فقه هذا الحديث: " بني الإسلام على خمس... "، ولا بد من توعيته بمسؤولياته الفرديّة لينهض إليها بحوافز إيمانية ونيّة صادقة واعية، وزاد حق يعينه على المسيرة والوفاء حتى يملأ الميدان بجنوده الواعين يوفون بالأمانة التي حملوها.

 ونوجز هنا أهم المسؤوليات الفرديّة والتكاليف الربانيّة بنقاط محددة (5):

1ـ التفكير تفكيراً نابعاً من الفطرة السليمة ليهتدي به إلى الإيمان والتوحيـد. ويظل هذا التفكير على نهجه الإيماني صفة مميّزة للمسلم في مسيرة حياته كلها.

2ـ الشهادتان.

3ـ الشعائر.

4ـ طلـب العلم من منهاج الله، ودراسته دراسة منهجية صحبة عمر وحياة، ودراسة كلِّ علم يحتاجه المسلمـون على أساس من منهـاج الله.

5ـ دراسة الواقع وفهمه من خـلال منهاج الله في حـدود وسعـه الصادق حتى لا يكون إمَّعة، دراسة منهجيّة.

6ـ ممارسـة منهاج الله في الواقـع البشري في حدود مسؤولياته واختصاصه ووسعه الصادق.

7ـ المساهمـة في الدعوة إلى الله ورسـوله وتبليغ رسالة الله كما أُنزِلت على محمد صلى الله عليه وسلم تبليغاً أميناً منهجيّاً يتبع نهجاً وخطة.

8 ـ المساهمة في تعهُّد من يُدعى تربية منهجيّة وتدريباً منهجيّاً.

9ـ المساهمـة في بناء الجيـل المؤمن الذي تتوافر فيه الخصائص الإيمانيّـة التي نص عليها الكتاب والسنة، ويتوافر فيه الإعداد الذي أمر الله به.

10ـ المساهمة في الجهاد في سبيل الله بشروطه الربانيّة الكاملة. 11ـ المساهمة في بناء الأمة المسلمة الواحدة التي تكون كلمة الله فيها هي العليا.

12 ـ المساهمة في نشر حضارة الإيمان والتوحيد في الأرض كلها بدلاً من الحضارة الماديّة.

 ولقد جاءت نصوص متعددة تلح على هذه المسؤولية الفردية التي تبنى عليها مسؤولية الأمة، وفقه المسؤولية الفردية التي يبني عليها فقه مسؤولية الأمّة تبعاً لذلك.

 وفي الحديث الذي يرويه وابصة رضي الله عنه: "... استفت قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك... " (6) إشارة واضحة إلى المسؤولية الفردية، تضع المسلم أمام القضيّة والواقع ليستفتي قلبه. ومن البداهة أن الحديث يعني: القلب الصادق في إِيمانه، الصادق في علمه في منهاج الله.

 والحديث الذي يرويه حذيفة رضي الله عنه: " لا تكونوا إمّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا. ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا. " (7).

 ولا ننسى أن كلّ قضيّة عُرِضَت هنا لا تستكمل تصوّرها الإيماني إلا إذا توافر الشرطان الرئيسان لكل عمل في حياة المسلم. وهذان الشرطان هما:

ـ صفاء الإيمان والتوحيد.

ـ صدق النيّة وإخلاصها لله.

 أما صفاء الإيمان والتوحيد فنشير هنا إلى نقاط رئيسة عاجلة أهمها: التخلص من العصبيات الجاهليّة التي تقطع أُخوّة الإيمان وتفرّق المسلمين، ليكون الولاء الأول لله والعهد الأول مع الله، والحب الأكبر هو الله ورسوله، ومن هذا تنشأ كل موالاة أو عهد أو حب في الحياة الدنيا، مما يجمع المسلمين على صراط واحد مستقيم، أمّة واحدة وصّفاً واحداً كالبنيان المرصوص. ومن أجل ذلك يظل المؤمن يجاهد في نفسه حتى يرتقي تصوّره الإيماني في صحبة منهجيّة لمنهاج الله صحبة عمر وحياة لا تتوقف. فيصفو بذلك تصوّر الألوهية وتصور الربوبية من خلال الآيات والأحاديث، وتصور عبودية الإنسان لربه وخالقه كذلك.

 والناحية الثانية المرتبطة بالأولى هي إخلاص النية لله، لتكون النيّة نيّة واعية يقظـة. فمن شروط ذلك أن يحدد المسلم هدفه ويطمئنّ إلى أنه هدف ربّاني، ثم يحدّد الدرب الذي يوصل حقّاً إلى الهدف، حتى لا يجد نفسه بعد حين في ناحية يسير فيها، والهدف في ناحية أخرى، ويحدّد الوسائل والأساليب الضرورية لتحقيق الهدف على الدرب المحدد. الهدف والدرب والأساليب كلها يجب أن تكون ربانيّة، لتصبح النيّة إشراقة في النفس وجمالاً ويقظة في القلب ووعياً.

 نخلص من ذلك إلى أن نقرر الأسس الإيمانيّة التي يجب أن تتوافر والتي يقوم عليها الفقه والإدارة وفقه الإدارة. نوجزها كما يلي:

1ـ صفاء الإيمان والتوحيد وصدقهما.

2ـ إخلاص النيّة لله يقظةً ووعياً.

3ـ العلم بمنهـاج الله ـ قرآنـاً وسنّة ولغـة عربيّة ـ في صحبة منهجيّة، صحبة عمر وحياة.

4ـ وعي الواقع من خلال منهاج الله: دراسة وبحثاً.

5ـ أن يدرك المسلم أن له مهمّـةً في الحياة خُلِقَ للوفاء بها، وأنها هي أساس تكريم الله للإنسان.

6ـ أن يـدرك المسلـم أن عليه مسؤولية فرديّة فرضها الله عليه، وأنه سَيُحاسَب عليها يوم القيامة.

7ـ أنّ هذه المسؤولية يجب أن يستوعبها وسعه الصادق الذي وهبه الله له، والذي سيحاسِبه عليه، لا الوسع الكاذب الذي قد يدّعيه في أعذار متراخية ليتهرّب من مسؤولياته.

 ومن بين هذه الأسس، نودّ أن نلفت النظر إِلى أساسين نعتبرهما ركني الفقه، وكل ركن يشمل قسماً من الأسس السابق ذكرها. هذان الركنان هما:

ـ المنهاج الرباني.

ـ الواقع الذي يُفهَم من خلال المنهاج الرباني.

فلا فقه دون المنهاج الرباني، ولا فقه دون الواقع. ذلك لأن الفقه يتناول قضيّة من قضايا الواقع، فيردها إلى منهاج الله، فيقوم الفقه على الركنين معاً.

فلا يوجد إذن فقه للواقع وفقه لغير الواقع. الفقه كله للواقع، والفقه كُلُّه من منهاج الله، ومنهاج الله والواقع هما ركنا الفقه كله. ولذلك نرى أنه لا يستقيم مصطلح " فقه الواقع ".

ولا بد من أن نحذر من أن يضغط الواقع علينا، فيدفعنا إِلى تأويل فاسد لبعض الآيات والأحاديث، في محاولة لتسويغ واقع منحرف أو باطل ممتد.

وقد برز في عصرنا الحديث اجتهادات غير قليلة في ميادين متعدّدة انساقت مع واقع منحرف وباطل ممتد، فأحلّت بعض ما حرّم الله، وحرّمت بعض ما أحلَّ الله، أو مضت في تنازلات عن بعض قواعد الإسلام.

 إن من بين ما نعانيه من مشكلات اليوم هو جهل الملايين من المسلمين بدينهم وبلغة قرآنهم، وهجـرهم لكتاب الله ولسنّة رسـول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انصرف الكثيرون عن مسؤولياتهم الفرديّة كلها أو بعضها، وأصبح الصالح الجاهل يلجأ في أبسط الأمور إلى العالم ليفتي له، دون أن يشعر بأهميّة ما فرض الله عليه من طلب العلم من منهاج الله، ليأخذ قدر وسعه، وليعلم حكم كثير من الأمور التي يسـأل عنها، وليرى أن معرفة ذلك لا يأخذ منه جهداً كبيراً، وإنما يساهم في مسيرة أُمة تريد إعلاء كلمة الله، وينهض بالأمانة التي حملها والتي سيحاسَب عليها بين يدي الله.

 وقد تجد الرجل يبذل الجهد العظيم ويسهر الليل الطويل لينال أعلى الدرجات العلمية في الطب والهندسة وغيرها من العلوم غير الميسّرة، ويظل جاهلاً بدينه، هاجراً للقرآن الكريم والسنة النبوّية واللغة العربيّة، كأن ذلك أمر لا يعنيه، وكأنه لا يدرك أن الله فرض عليه دراسة الكتاب والسنة وجعل دراستهما ميسّرة لمن صدق في نيّته وعزيمته.

 من هنا نرى أنه لا بد للمسلم أن يعرف ما يعنيه وما لا يعنيه على أساس واضح من منهاج الله وأحكامه. ولا يتوافر ذلك للمسلم إلا إذا استوفى الأسس التي سبق ذكرها من نيّة صادقة وإيمان صاف وعلم بمنهاج الله وغير ذلك، حتى ينال بذلك ما يحسِّن إيمانه، حسب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه " (8)

 وهذا الحديث الجامع يكاد يشمل القواعد التي سبق ذكرها كلها. فأنَّى لأحد من المسلمين أن يعرف ما يعنيه وما لا يعنيه على صورة ترضي الله سبحانه وتعالى إذا كان واهي الإيمان خالي الزاد من منهاج الله، غلبته أهواؤه ومصالحه وشهواته. إن ممارسة هذا الحديث العظيم الذي اعتبره العلماء أحد أربعة أحاديث تدور عليها الأحكام، تتطلب توافر الشروط والأسس السابق ذكرها في المسلم وفي المجتمع المسلم.

 هذا الحديث يضع قاعدة فقهيّة وإداريّة يتميّز بها الإسلام، من جملة ما يتميّز به، من المناهج البشريّة الوضعيّة. إن هذا الحديث يريد من المسلم أن يكون يقظاً واعياً، تحركه حوافزه الإيمانيّة ومبادراته الذاتيّة. وإنه يريد من المجتمع المسلم أن يكون حياً متفاعلاً، يُقبل الجميع على العلم، فيأخذ كلٌّ قدر وسعه الصادق، ثم يتمايزون بالمواهب المشرقة التي يهبها الله لمن يشاء من عباده. إن هذا الحديث الشريف وسائر قواعد الإسلام، لا يجعل المسلمين قطيعاً يساق، ولا قطيعاً مخدّراً، ولا قطيعاً مكبلاً. فكثير من المبادئ البشريّة الوضعيّة التي يضج بها الإعلام صباحَ مساءَ تحمل من الزخرف الكثير، الزخرف الذي لا تجد منه في الواقع إلا القليل، عمائر ومصانع وشعارات تجرّد الإنسان من فطرته وجوهر إيمانه، وتعطل كثيراً من قواه الإيمانيّة، وتقذف به مع عمائره وأسلحته ومصانعه وعلومه في جهنم إلا من رحمه الله فنجا. في مثل تلك المجتمعات التي تربّى الإنسان على مبادئها المادية، يعرف الإنسان فيها ما يعنيه من حاجات ماديّة، فتنطلق المظاهرات بسبب خفض الأجور، أو تسريح العمال، أو انتشار البطالة، أو حرمانهم من الخمور أو اللهو الفاحش، ولكن لا يشعرون بأنهم فقدوا أهم حاجاتهم، حاجات الإيمان والتوبة إلى الله، والاستعداد لليوم الآخر. وإن البحث العلمي والصناعة والعمائر وكل المظاهر الماديّة يجب أن تكون قوة خادمة للإيمان ومتطلباته، ودافعة إليه، ناشرة الخير والحق، ومانعة للخمور والزنا والفواحش كلها. إن الناس يساقون هناك أفواجاً أفواجاً إلى هلاك محقق، بعد أن فرحوا بزينة عارضة، ولهو كاذب، ومتع زائلة، فيها يبحث الإنسان عما يريده ويعنيه من شهوات ومصالح دنيوية، ومنها تنطلق نظريات الإدارة وفقهها لتحمي مصالح تلك الطبقة المجرمة المستغِلّة المتنعّمة بحقوق ليست لها، ولتصرف العامة عن حقوق لهم وواجبات عليهم، وتنسيهم إياها بالفتنة والتخدير، أو القوة والبطش.

 نظريات الإِدارة ستخرج من هذه الأجواء، فيها ضبط ونظام، وقواعد، وقوانين، تحمي هذا كله.

 في الإسـلام قواعد إيمانيّة تبني الإنسان المؤمن على النحو الذي أمره الله به، وتوفـر الوسائل لتحقيق ذلك. إنها تبني الإنسان الذي يعرف مهمته في الحياة، مهمته التي خلقه الله للوفاء بها، ويعرف مسؤولياته، ويعرف ما يعنيه وما لا يعنيه ليرضي ربّه وخالقه الله الذي لا إله إلا هو، طاهراً من الفواحش، بريئاً من الشرك، ومن العصبيات الجاهليّة التي حطمت البشريّة على مدار التاريخ. وإذا كان واقع المسلمين اليوم يشهد خلاف ذلك، يشهد الجهل الذي يعمُّ الملايين، والتيه الذي فيه يغيبون، والعلل والأمراض المتفشيّة، فتلك مسؤولية الإنسان نفسه وليست مسؤولية الإسلام.

 إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان عبثاً: ( أفحسِبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون ) [ المؤمنون: 115 ]

 وكذلك لم يترك الله خلقه سدى، بل وفّر لهم الإمكانات التي تعينهم على الوفاء بالمهمة التي خُلِقوا لها: ( أيحسب الإنسان أن يُترَك سدى ) [ القيامة: 36 ]

 لقد أنعم على الإنسان نعماً لا تعدُّ ولا تحصى، فبدّلها المجرمون لغير ما أراد الله بها. وكان من أهم ما أنعم الله به على الإنسان الفطرة السوّية السليمة التي يجب أن تكون منطلقة في الحياة على إيمان ونهج ربّاني.

 لذلك نقول إن الحقَّ الأول للإنسـان هو حماية فطرته التي فطره الله عليها، الحقُّ الذي تجاهلته حضارة العصر الحديث، فادَّعوا حقوقاً للإنسان جعلوها شعاراً وما جعلوها حقّاً يُلتزم، ولم تكن حماية الفطرة من بينها، ولا حماية الأعراض والأرواح!

 هذه الأسس والقواعد التي عرضناها، والتي منها ينطلق الفقه والإِدارة الإِيمانيّة، تحتاج أن تكون كذلك من أسس التربية والبناء في الإسلام، ومن أسس التدريب والإعداد، وأن توضع النظريات والمناهج لتحقيق ذلك في واقع الحياة. فتربط الإدارة وفقهها بميدان التربية والتدريب، التربية المنهجية والتدريب المنهجي، ليكون الجيل المؤمن الذي يلتزم عهده مع الله ويوفي به.

 وبذلك يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجمع ويؤكد، وذلك في الحديث الذي يرويه عدد من الصحابة رضي الله عنهم: " من يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين " (9)

 ليعرف الإنسان مهمته مسؤوليته ودينه، وليقيم إدارته على أسس فقهية راسخة.

وأخيراً ما هو الفقه:

 الفقه هو أولاً معرفة النصّ من الكتاب والسنّة وإدراك معناه ومداه وممارسته، وعلاقته بالقضية المطروحة في أيّ ميدان من ميادين الممارسة الإيمانيّة، كلٌّ في حدود وسعه ومسؤولياته. ويمتد الفقه مع امتداد ميادين الحياة، ومع امتداد المسؤولية الفردية.

 وربط الإسلام الفقه بالحكمة وربط الحكمة بالكتاب وآياته: ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب ) [ البقرة: 269 ]

 ومن السهل أن نربط بين هذه الآية وبين الحديث الشريف: " من يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين ". وفي الحديث الشريف:

" لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " (10).

 فارتبطت الحكمة بالقضاء وفقهه وبنشر العلم وامتداده. وما أحوج الإدارة الإيمانية إلى الحكمة والفقه والعلم. وهل يمكن أن نقوم بغير ذلك؟!

ــــــــــ

(1) الحديث: كلكم راع...: عن ابن عمر رضي الله عنه أخرجه أحمد، والشيخان، وأبو داؤد والترمذي، وفي صحيح الجامع الصغير وزيادته ( ط: 3) ـ ( رقم: 4569 ).

(2) الحديث: طلب العلم: عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم. أخرجه ابن عدي في الكامل، والبيهقي، والطبراني في الوسط والصغير. صحيح الجامع الصغير وزيادته: ( رقم: 3913 ).

(3) الحديث: بني الإسلام...: أخرجه أحمد والشيخان والترمزي والنسائي. صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني: ( رقم: 2840). ويراجع كتاب: " الفقه " امتداده وشموله في الإسلام بين المنهاج الرباني والواقع: للمؤلف.

(4) حديث عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله.... : مقدمة صحيح مسلم.

(5) يراجع كتاب " المسؤولية الفردية في الإسلام: أسسها، تكاليفها، تميّزها " للمؤلف.

(6) الحديث: استفت قلبك: أخرجه البخاري: 93/1/7138.

(7) الحديث: " لا تكونا إمعة... " أخرجه الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه: 28/63/2006.

(8) الحديث: " من حسن إسلام المرء.. " أخرجه أحمد ـ الفتح: 1/19،88/257. وأخرجه الطبراني في الكبير وفي الوسط، والترمذي، وابن ماجه.

(9) الحديث " من يرد الله به خيراً.. " أخرجه أحمد والشيخان عن معاوية والترمذي عن ابن عباس، وابن ماجه عن أبي هريرة.

(10) الحديث: لا حسد... " البخاري: 93/3/7141.

المصدر: http://www.awda-dawa.com/Pages/Articles/Default.aspx?id=9104

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك