إلى أين وصلت علْمنة المجتمع الإسلامي؟

إلى أين وصلت علْمنة المجتمع الإسلامي؟

أحمد الشجاع

 

سئل الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي ذات يوم عن رأيه في الرجل الذي إذا نُصِحَ يرد على الناصح: اذهب إلى المسجد؟.

فقال الشيخ: إن هذا ليس من أخلاق المسلمين؟، بل هذه هي العلمانية التي تقول: إن المسجد فقط هو مكان العبادة.

وقال: لو كان المقصود: اذهب إلى المسجد حتى تؤثر في الأمة كلها لهان الأمر، لكن ليس هذا المقصود، وإنما المقصود الآن أن الموعظة في المسجد، أما أنا في الشارع فخارج عن عبودية الله والعياذ بالله، فمفهوم كلامه أنه في مكان خارج المسجد.

هذا السؤال وجوابه يلخص وجود ظاهرة علمنة داخل المجتمع الإسلامي بصورتيها الإرادية واللاإرادية..

فإذا كانت صورتها الإرادية تتمثل بدعاتها ومفكريها، فإن صورة العلمانية اللاإرادية تتمثل بوجود آثارها في ثقافة وتفكير وتعامل عموم الناس مع بعضهم بشكل عفوي دون النظر في أن هذا السلوك أو ذاك التفكير يحمل نهجاً علمانياً..وفي غالب الأحوال لا يكون القصد فصل الدين عن الحياة؛ لأن المجتمع المسلم بطبيعته متدين، لكن كثيراً ما يشوب هذا التدين خلط من الناحية العملية..

وفي ظل غياب الوعي الديني وسيطرة الثقافة المادية على حياة كثير من الناس في هذا الزمان، يكون من السهل على المناهج المنحرفة التغلغل داخل المجتمعات والتأثير في ثقافتها، خصوصاً مع زيادة التقارب والاحتكاك بين الشعوب والثقافات المختلفة.. ومع حالة الضعف المنهجي والروحي والمادي لدى العالم الإسلامي، يظل أكثر عرضة للأمراض التي ينقلها الآخرون إليه.

والعلمنة من أخطر ما أصاب المسلمين فعمّت مظاهرها معظم نواحي الحياة.. والسطور التالية تلخص هذه الظاهرة ومدى تأثيرها وإلى أين وصلت ومستقبلها.

مفهوم العلمانية

معناها: "اللادينية"، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على أساس العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين، وهي تعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع.

ومما جاء في معنى العَلْمانِيَّة (بفتح العين) أنها مشتقة من الكلمة عَلْم، وهي مرادفة لكلمة عالَم  (بالإنجليزية Laicism والفرنسية Laïcisme)، وهما مشتقتان من الكلمة اليونانية (Λαος) "شعب"، "رعاع" أي عكس "الكهنة" وهم النخبة في الماضي. من ثم صارت الكلمة تدل على القضايا الشعبية "الدنيوية"، بعكس الكهنوتية "الدينية".

والكلمة العربية هي ترجمة مستعارة من السريانية؛ لأن السريان اشتقوها أولاً في لغتهم وهي ترجمة مستعارة عن اليونانية أيضاً؛ ولا علاقة لهذا المعنى بالعِلم (بكسر العين).

ومن الجدير بالذكر – بحسب ويكيبيديا - أن الجذر السامي (ع ل م) يفيد في جميع اللغات السامية معاني "الدهر، "الدنيا"، "العالَم"، "الزمن اللامتناهي".

وفي تعريف آخر للعلمانية: هي رفض أية سلطات تشريعية أو تنفيذية في الدين تتدخل بحياة الفرد. فالدين في العلمانية ينتهي عندما يخرج الفرد من مكان العبادة.

ويؤكد كثير من الباحثين - ومنهم العلامة سفر الحوالي - أن "العَلْمَانِيَّة" ترجمة غير دقيقة، بل غير صحيحة لكلمة "Secularism" في الإنجليزية، أو "Sécularité" أو "laïque" بالفرنسية، وهي كلمة لا علاقة لها بلفظ "العِلْم" ومشتقاته، على الإطلاق.

فالعِلْم في الإنجليزية والفرنسية يعبر عنه بكلمة "Science"، والمذهب العِلْمِي، نُطلق عليه كلمة "Scientism"، والنسبة إلى العِلْم هي "Scientific" أو "Scientifique" في الفرنسية، والترجمة الصحيحة للكلمة هي "الدنيوية"، لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى أخص، وهو ما لا صلة له بالدِّين أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد.

البداية

ظهرت العلمانية في أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي، وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر. وعمت أقطار العالم بحكم النفوذ الغربي والتغلغل الشيوعي.

وبحسب موسوعة (الندوة العالمية للشباب الإسلامي) فقد أدت ظروف كثيرة قبل الثورة الفرنسية - سنة 1789م - وبعدها إلى انتشارها الواسع وتبلور منهجها وأفكارها وقد تطورت الأحداث وفق الترتيب التالي:

- تحول رجال الدين في الغرب إلى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الإكليروس والرهبانية والعشاء الرباني وبيع صكوك الغفران.

- وقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيلها لمحاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة.

- ظهور مبدأ العقل والطبيعة: فقد أخذ العلمانيون يدعون إلى تحرر العقل وإضفاء صفات الإله على الطبيعة.

- الثورة الفرنسية: نتيجة لهذا الصراع بين الكنيسة من جهة وبين الحركة الجديدة من جهة أخرى، كانت ولادة الحكومة الفرنسية سنة 1789م وهي أول حكومة لا دينية تحكم باسم الشعب.

- دور المفكرين والفلاسفة في التأثير على المجتمع الغربي:

فهذا جان جاك روسو - سنة 1778م - له كتاب (العقد الاجتماعي) الذي يعد إنجيل الثورة، مونتسكيو له (روح القوانين). وسبينوزا اليهودي يعتبر رائد العلمانية باعتبارها منهجاً للحياة والسلوك وله رسالة في اللاهوت والسياسة.

وفولتير - سنة 1804م - صاحب (القانون الطبيعي) كان الدين عنده في حدود العقل وحده.

ووليم جودين - 1793م – كان له (العدالة السياسية) ودعوته فيه دعوة علمانية صريحة.

نظرية التطور: ظهر كتاب (أصل الأنواع) - سنة 1859م - لتشارلز داروين الذي يركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب. وقد جعل الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها. وهذه النظرية أدت إلى انهيار العقيدة الدينية ونشر الإلحاد.

ظهور نيتشة وفلسفته التي تزعم بأن الإله قد مات وأن الإنسان الأعلى "السوبر مان" ينبغي أن يحل محله.

دور كايم اليهودي الذي جمع بين حيوانية الإنسان وماديته بنظرية "العقل الجمعي".

فرويد اليهودي اعتمد الدافع الجنسي مفسراً لكل الظواهر، والإنسان في نظره حيوان جنسي.

كارل ماركس اليهودي: صاحب التفسير المادي للتاريخ الذي يؤمن بالتطور الحتمي وهو داعية الشيوعية ومؤسسها الأول الذي اعتبر الدين أفيون الشعوب.

جان بول سارتر فيلسوف "الوجودية"، وكولن ولسون في "اللامنتمي" كانا داعيتان إلى الوجودية والإلحاد.

وقد أعلنت وجودية سارتر التصادم الكامل بين الحرية وبين الإيمان: "إما أن أكون حراً، أو يكون الله موجوداً"، حسب ما قاله راشد الغنوشي.

- وسارت الجموع الغوغائية لهدم قلعة الباستيل الفرنسية، وشعارها (الخبز) ثم تحول شعارها إلى "الحرية والمساواة والإخاء" وهو شعار ماسوني، و"لتسقط الرجعية" وهي كلمة ملتوية تعني الدين..

وقد تغلغل اليهود بهذا الشعار لكسر الحواجز بينهم وبين أجهزة الدولة وإذابة الفوارق الدينية وتحولت الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه.

ويلاحظ أن مصطلح (الرجعية) - بكل مفاهيمه المناهضة للدين - راج كثيراً في بلاد المسلمين، ورفعه العلمانيون واليبراليون وكل تيارات التغريب الفكري في مواجهة الدين والتدين..

العلمانية في العالم والإسلامي

- في مصر: دخلت العلمانية مصر مع حملة نابليون بونابرت. وقد أشار إليها الجبرتي - في تاريخه الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر وأحداثها - بعبارات تدور حول معنى العلمانية، وإن لم يذكر اللفظة صراحة.

أما أول من استخدم مصطلح "العلمانية" فهو نصراني يُدعى (إلياس بقطر) في معجم عربي فرنسي من تأليفه سنة 1827م. وأدخل الخديوي إسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م، وكان هذا الخديوي مفتوناً بالغرب، وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا.

- الهند: حتى سنة 1791م كانت الأحكام وفق الشريعة الإسلامية، ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة بتدبير الاحتلال الإنجليزي، وانتهت تماماً في أواسط القرن التاسع عشر.

- الجزائر: إلغاء الشريعة الإسلامية عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830م.

- تونس: أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906م.

- المغرب: أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1913م.

- تركيا: لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة العثمانية واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك الذي فرض المنهج العلماني بالقوة على المجتمع التركي.

- العراق والشام: ألغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيهما.

- وفي إندونيسيا: تم تبني دستور علماني بعد الاستقلال سنة 1945م، وما يزال قائماً إلى الآن. حيث تجاهل الدستور - في نصوصه - مسألة الإسلام، ونص على أن إندونيسيا تقوم على مبادئ (البانجاسيلا) الخمسة (الربانية، والإنسانية، والوحدة، والعدالة، والشورى)، وهي مبادئ غامضة ليس لها مصدر تشريعي محدد..

وفي هذا الإطار تم ربط وحدة إندونيسيا بتهميش الدين الإسلامي.. ومعروف أن ما حصل بعد ذلك كان العكس عندما انفصلت تيمور الشرقية سنة 1999م.

- ثم انتشرت الأحزاب العلمانية والنزعات القومية الضيقة كالنزعة الفرعونية، والنزعة الطورانية، والقومية العربية.

وفي عموم الأحوال انتهجت معظم الدول العربية – من الناحية العملية – عملية فصل الدين عن الدولة في أشكال متعددة، حسب قول زيد بن علي الوزير في مجلة المسار.

أفكار ومعتقدات

- ترسخ العداء المطلق للكنيسة في البداية، ثم لكل الأديان.

- تقديس العلوم الدنيوية وفصلها عن الدين، يقول ألفرد هوايت هيو: "ما من مسألة ناقض العلم فيها الدين إلا وكان الصواب بجانب العلم والخطأ حليف الدين".. حيث انتشرت نظرية العداء بين العلم والدين.

وقد أدى هذا التوجه إلى وجود كثير من المعتقدات الإلحادية كإنكار وجود الله أصلاً. أو الإيمان بوجود الله ومع إنكار وجود أي علاقة بين الله وبين حياة الإنسان.

وأن الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل، وهذا الاعتقاد انتشر كثيراً في المجتمعات الإسلامية.

وأقامت العلمانية حاجزاً سميكاً بين عالمي الروح والمادة، على اعتبار أن القيم الروحية قيم سلبية.

وأبرز ما روجت له العلمانية مبدأ فصل الدين عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي.

ومن ذلك تطبيق مبدأ (النفعية) على كل شيء في الحياة، أي العمل على تحصيل المنفعة الذاتية دون النظر إلى مصالح الآخرين.. وهذا يخالف شرعنا الإسلامي الذي يحرص على تحقيق المصالح للجميع. وقام على قاعدة (درء المفاسد وجلب المصالح)، ودرء المفاسد في الإسلام مقدم على جلب المصالح؛ لأن زوال المفاسد جزء من تحقيق المصالح.

- اعتماد مبدأ (المكيافيلّية) في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق، وهو مبدأ لا يختلف كثيراً عن مبدأ (النفعية)، إلا أنه أدق وأكثر تفصيلاً، وقاعدته (الغاية تبرر الوسيلة).

ويلاحظ أن هذين المبدأين يمارسان داخل المجتمعات الإسلامية بشكل واسع من الناحية العملية، حتى وإن كان عامة الناس لا ينظرون إليهما على أنهما من مفاهيم العلمانية.

أو بمعنى آخر كلما ابتعد المسلم عن تعاليم دينه في جانب المصالح والمفاسد والأخلاق والمعاملات كلما اقترب أكثر من الميكافيلية.

أيضاً انتشرت الإباحية والفوضى الأخلاقية وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية؛ حيث يركز الغرب ومعهم العلمانيون في العالم الإسلامي على قضايا المرأة والطفل تحت غطاء خدّاع اسمه "حقوق الإنسان".

كما توسعت العلمانية - في العالم الإسلامي - إلى الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة، والزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه، وإنه لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف بل هو عبارة عن طقوس وشعائر روحية.

وتشويه الفقه الإسلامي بأنه مأخوذ عن القانون الروماني. إلى جانب تشويه الحضارة الإسلامية وتضخيم حجم الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي والزعم بأنها حركات إصلاح، وذلك مقابل إحياء الحضارات الوثنية القديمة..

كذلك العمل على دفع الشعوب المسلمة إلى اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها.

وقسّم البعض انتشار العلمانية إلى ثلاث مراحل أساسية:

مرحلة التحديث:

اتسمت هذه المرحلة بسيطرة الفكر النفعي على جوانب الحياة بصورة عامة، فلقد كانت الزيادة المطردة من الإنتاج هي الهدف النهائي من الوجود في الكون؛ ولذلك ظهرت الدولة القومية العلمانية في الداخل والاستعمار الأوروبي في الخارج لضمان تحقيق هذه الزيادة الإنتاجية.

واستندت هذه المرحلة إلى رؤية فلسفية تؤمن بشكل مطلق بالمادية وتتبنى العلم والتكنولوجيا المنفصلين عن القِيَم، وانعكس ذلك على توليد نظريات أخلاقيّة ومادية تدعو بشكل ما لتنميط الحياة، وتآكل المؤسسات الوسيطة مثل الأسرة.

مرحلة الحداثة:

هي مرحلة انتقالية قصيرة استمرت فيها سيادة الفكر النفعي مع تزايد وتعمق آثاره على كافة أصعدة الحياة، فلقد واجهت الدولة القومية تحديات بظهور النزعات العرقية، وكذلك أصبحت حركيات السوق (الخالية من القيم) تهدد سيادة الدولة القومية، واستبدل الاستعمار العسكري بأشكال أخرى من الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي، واتجه السلوك العام نحو الاستهلاكية الشرهة.

مرحلة ما بعد الحداثة:

في هذه المرحلة أصبح الاستهلاك هو الهدف النهائي من الوجود، ومحركه اللذة الخاصة.

واتسعت معدلات العولمة لتتضخم مؤسسات الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الدولية وتتحول القضايا العالمية من الاستعمار والتحرّر إلى قضايا البيئة والإيدز وثورة المعلومات، وتضعف المؤسسات الاجتماعية الوسيطة مثل الأسرة، لتحل محلها تعريفات جديدة للأسرة مثل رجلان وأطفال، أو امرأة وطفل، أو امرأتان وأطفال، كل ذلك مستنداً إلى خلفية من غياب الثوابت والمعايير الحاكمة لأخلاقيات المجتمع.

 من آثار العلمانية في المجتمع الإسلامي

من الممكن تفسير قبول الغرب للعلمانية كحلٍّ وحيد مفروض وعلاج لا بد من تجرعه أملاً في الشفاء من أمراض دينية وفكرية واجتماعية وسياسية عانى منها الغرب قروناً طويلة.

لكن كيف يمكن تفسير انتشار مظاهر العلمانية داخل المجتمعات المسلمة التي تميزت واكتفت وتحصنت بمنهج رباني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وشمل كافة جوانب الحياة ويملك علاج كل علة وحل كل أزمة، وفيه "تبيان كل شيء".

هناك أسباب كثيرة لهذا الانتشار العلماني، من أهمها: تراخي عملية التمسك بالدين الإسلامي، والتراجع في العمل به داخل المجتمعات المسلمة؛ وبالتالي طغى الجهل على عقول عامة المسلمين، فلم يميزوا بين الحق والباطل.

إلى جانب وقوع العالم الإسلامي تحت وطأة الاحتلال الغربي لقرون طويلة؛ مما أدى إلى مزيد من الجهل والضعف والعجز عند المسلمين.

وزاد الوضع سوءاً عندما قامت كثير من الأنظمة الحاكمة - خصوصاً بعد استقلال بلدان العالم الإسلامي - بفرض المنهج العلماني في كثير على شعوبها المقهورة والضعيفة في ظل دعم خارجي قوي لهذه السياسات.

هذه الأسباب وغيرها أدت إلى إحداث تغيير كبير في سلوكيات وأفكار الشعوب المسلمة في تعاملها مع الثقافات المستوردة، وكانت أقرب إلى السكوت إن لم يكن إلى القبول.

ومن الأمثلة على تأثير العلمانية في حياة المسلمين فصل القيم والأخلاق في مجال الإعلانات التجارية، وسكوت المجتمعات المسلمة واللامبالاة في التعامل مع هذا الجانب خصوصاً بعد أن تحولت المرأة إلى سلعة تجارية وسيلة إغراء لجذب المستهلك وشد انتباهه.

وكما تقول الكاتبة منى محروس فقد أصبحت المرأة تباع في سوق الإعلانات وتعرض كسلعة رخيصة من أجل مساحيق الغسيل والروائح وحتى من أجل السيارات وكرات اللبان وأمواس الحلاقة. تطل عبر شاشات التليفزيون، تتراقص كدمية، وتعرض نفسها من أجل البيع والشراء، إذ ضاعت كرامة وحقوق المرأة في سوق النخاسة العلماني واللاديني وفي عالم الإعلانات.

وتساءلت لماذا فتيات الإعلانات بالذات يتم ضبطهن في قضايا الآداب؟، إنه السوق اللاأخلاقي والتسيب الأسري الذي يعرض كل شيء للبيع.

وأشارت إلى أن كثيراً من الباحثين والأكاديميين العرب هزتهم صورة المرأة في الإعلان، فكانت هناك العديد من الأبحاث والدراسات ورسائل الماجستير حول استغلال المرأة في الإعلان. ومنها دراسة الباحث أحمد حامد بكلية التربية جامعة عين شمس حيث ذكر أن 90% من الإعلانات تستخدم فيها المرأة وتستغل كأنثى من أجل الترويح لسلع استهلاكية، وسلع لا تكون لها أية علاقة بالمرأة وتقوم فيها بحركات وأفعال تحط من قيمتها كإنسان، إلى جانب أنها تؤثر سلبياً على المشاهد سواء أكان رجلاً أو امرأة أو طفل، وذلك من ناحية التقليد وزيادة الاستهلاك إلى جانب إثارة الغرائز.

أما نتائج رسالة الماجستير للباحث عصام فرج بكلية الإعلام جامعة القاهرة حول صورة المرأة في إعلانات التليفزيون المصري فتؤكد أن استخدام صورة المرأة وصوتها في الإعلانات كان بنسبة 84.3% من إجمالي عينات البحث الذي قام به، وجاءت الإعلانات الأجنبية الأكثر استخداماً لصورة المرأة وصوتها بنسبة 92%، وجاءت نسبة استخدام الشخصيات النسائية الأجنبية 52% من إجمالي الشخصيات النسائية في الإعلانات التي استخدمت صورة المرأة.

وقد لاحظ الباحث أن استخدام المرأة في الإعلان عن مستحضرات وأدوات التجميل لم يكن بالضرورة لكونها سلعاً خاصة بالنساء، بل تم استخدامها كأداة للجذب ولفت الانتباه كما هو حادث بوضوح في استخدام المرأة للإعلان عن السيارات، حيث اقتصر على ظهور المرأة كأنثى جذابة تظهر مع الرجل أو تحت أقدامه، وهو نفس الدور الذي أداه ظهور المرأة في الإعلانات الخدمية عن التعليم والتأمين والنقل.

أما الخدمات السياحية فقد استخدمت صورة المرأة بنسبة عالية بلغت 42.1% من إجمالي إعلانات الخدمات كلها، حيث اعتمد الإعلان على تصويرها كأنثى جميلة جذابة.

وأكد الباحث عصام فرج - في بحثه - أن شخصية الأنثى في الإعلانات تكون في الغالب في سن المراهقة من 15- 20 سنة، وغير محدد وضعها الاجتماعي العائلي أو مستواها التعليمي بنسبة 91.1% من إجمالي الإعلانات التي استخدمت صورة المرأة،  حيث أن العامل الأساسي هو شكلها ومقدار جمالها وقدرتها على الإثارة والجاذبية ولفت الأنظار نحوها.

وخلاصة النتائج التي توصل إليها الباحث في تحليل الإعلانات التي استخدمت صورة المرأة هي اعتماد 51.1% من هذه الإعلانات على حركة أجزاء جسد المرأة دون النشاط المعلن عنه، بما يشكل عناصر لا علاقة لها بهدف الإعلان سوى جذب ولفت انتباه المشاهد بكافة الوسائل، بما فيها مخاطبة الغرائز لديه وإثارة السخرية من المرأة،  إلى جانب استخدام ألفاظ ذات إيحاءات خارجة عن الآداب إما في نصوص التعليق المصاحب للإعلان أو في  الغناء بشكل غير لائق.

ونقلت الكاتبة عن الصحفية إيمان زغلول قولها: "من خلال مشاهداتي للإعلانات المقدمة عبر معظم تليفزيونات البلدان العربية ألاحظ الآتي:

أولاً: استغلال المرأة بدون سبب أو هدف يخدم الإعلان، ولكن لمجرد الإثارة والرقص وأداء الحركات الغير لائقة والتي تخدشن الحياء.

ثانياً: انتقاء نوعيات خاصة من النساء لغرض غرس مقياس تغريبي لجمال المرأة.

ثالثاً: إكساب المشاهد عادات سيئة في التغذية كالتركيز على السلع الاستهلاكية والأطعمة المصنعة والمعلبات ذات القيمة الغذائية المنخفضة. فمن خلال الإعلان دخلت عادات غذائية وأطعمة يقال عنها في بلادها "أطعمة الزبالة" مثل "الهامبورجر والسجق" في حياة الأسرة المسلمة، هذا إلى جانب تداول ألفاظ غير لائقة.

رابعاً: البناء الفني للإعلان، ولأنه يركز فقط على أنوثة المرأة والتأثر بالتفكير الغربي بدون دراسات علمية، يأتي مناقضاً في كثير من الأحيان للهدف منه ويأتي برد فعل عكسي لدى المشاهد.

و يؤكد د. أبو زيد جاد - أستاذ الفلسفة - على تناقض الفكر الغربي في موضوع المرأة عموماً، وموضوع الاتجار بها كسلعة في موضوع الإعلانات خاصة، فيقول: "إذا كان النظام الرأسمالي قد دشن ما يسمى باقتصاد السوق، فإن القيم المنظمة لهذا المجال هي التسويق والربح، ولذلك ما فتئت هذه المنظومة تَصْنَعُ سلوكيات اجتماعية واتجاهات نفسية استهلاكية تقدم تصورات عن الحياة والسعادة والنجاح وكلها تسعى لخدمة الرأسمال، ويشكل الإعلام بكل فروعه المكتوبة والمرئية والإلكترونية السلاح الفاعل في هذه المعركة•

هكذا تجد البشرية نفسها وجهاً لوجه أمام ثقافة جامحة مرجعيتها هي مصلحة السوق بدل الدين أو العقيدة أو الضمير أو الأخلاق أو حتى المواثيق الدولية لحقوق الإنسان".

ويضيف د. أبو زيد جاد: إن استقراءً يومياً بسيطاً لصورة المرأة في الإعلام يؤكد نمطية هذه الصورة التي قذفت بها العولمة خارج أسوارها الأصلية في الغرب، فتكاد جميع قنوات الإعلام الدولي تتفق ضمناً على مشروعيتها، وقد تم اختراق المشهد الإعلامي العربي والإسلامي مع انتشار الفضائيات ليفرض هذا الأنموذج نفسه بعنف على المشاهد. وهكذا لم يعد هناك حد فاصل مميز بين صورة المرأة في الإعلام الغربي المستوحاة من المجلات الإباحية وبين نظيرتها في الإعلام العربي. إن الباحث مهما حاول أن يكون موضوعياً ويلغي قناعاته المسبقة ويشتغل بأدوات محايدة، فإنه للأسف يصل إلى خلاصة مفادها أن الإعلام العولمي يلعب دوراً طلائعياً في طمس الأدوار الحضارية للمرأة طمساً ممنهجاً يقوم على القهر وقلب سنن الطبيعة وفرض رؤية وحيدة تجعل المجتمع الإنساني لا يرى في المرأة إلا مشروعاً جنسياً مشاعاً عبر الصورة ثم يتجسد ذلك عبر شبكات العلاقات الاجتماعية اليومية، وهذه فعلاً هي العقيدة الذكورية في أحط مستوياتها، وهي عقيدة غربية الجذور والمنشأ والتطور، وتشكل ارتداداً بالإنسانية إلى الخلف ضد أعلى حقوق الإنسان والأعراف والأديان السماوية".

وسائل أخرى لنشر العلمنة

مقابل ذلك يسعى الغرب إلى نشر مزيد من الثقافة العلمانية في بلاد المسلمين بشتى الوسائل والذرائع والحجج كقضايا "الحقوق والحريات" السياسية والاجتماعية والدينية والفكرية، وربط ذلك بالمعايير الغربية وليس بالمبادئ الإسلامية.

ومن أحدث وسائل عملية العلمنة ضرب الجماعات والتيارات الإسلامية ببعضها، واستدراج ما ضعف منها والمغرر بها فكرياً لتكون كالغنم القاصية تحت مسمى "الإسلاميين المعتدلين"، ومع قليل من التصفيق والمدح وشيء من الدعم يتم تقديم هذه الجماعات على أنها تمثل النموذج الإسلامي "الصحيح" كما يريده الغرب أن يكون.

وفي تقارير ودراسات المؤسسات البحثية الغربية تفاصيل هذا المخطط وصفات الإسلام والمسلم الذي يريده الغربيون، ومن أشهر هذه التقارير تقرير مؤسسة (راند) - سنة 2007م - الذي وصل به الحد إلى أن يدعو لـ"ضبط الإسلام" نفسه - وليس "الإسلاميين"؛ ليكون متمشيًا مع "الواقع المعاصر". ويدعو للدخول في بنيته التحتية بهدف تكرار ما فعله الغرب مع التجربة الشيوعية، وبالتالي - يقول محمد جمال عرفة - لم يَعُد يتحدث عن ضبط "الإسلاميين" أو التفريق بين مسلم معتدل ومسلم راديكالي، ولكن وضعهم في سلة واحدة.

فتقارير (راند) الأخيرة - كتقرير 2004م- كانت تشجيعاً لإدارة بوش على محاربة "الإسلاميين المتطرفين" عبر: خدمات علمانية (بديلة)، ويدعون لـ"الإسلام المدني"، بمعنى دعم جماعات المجتمع المسلم المدني التي تدافع عن "الاعتدال والحداثة"، حسب زعمهم، وقطع الموارد عن المتطرفين، بمعنى التدخل في عمليتي التمويل وشبكة التمويل، بل وتربية كوادر مسلمة عسكرية علمانية في أمريكا تتفق مصالحها مع مصالح أمريكا للاستعانة بها في أوقات الحاجة.

ولكن في التقرير الحالي (بناء شبكات مسلمة معتدلة)، يبدو أن الهدف يتعلق بتغيير الإسلام نفسه والمسلمين ككل بعدما ظهر لهم في التجارب السابقة أنه لا فارق بين "معتدل" و"متطرف" وأن الجميع يؤمن بجدوى الشريعة في حياة المسلم، والأمر يتطلب "اللعب في الفكر والمعتقد ذاتهما".

ويقول محمد عرفة: من يقرأ التقرير سوف يلحظ بوضوح أنه يخلط بشكل مستمر وشبه متعمد ما بين "الإسلاميين" و"الراديكاليين" و"المتطرفين"، ولكنه يطالب بدعم أو خلق تيار "اعتدال" ليبرالي مسلم جديد، ويضع تعريفات محددة لهذا "الاعتدال الأمريكي"، بل وشروط معينة من تنطبق عليه فهو "معتدل" - وفقاً للمفهوم الأمريكي للاعتدال، ومن لا تنطبق عليه فهو متطرف.

ووفقاً لما يذكره التقرير، فالتيار (الإسلامي) المعتدل المقصود هو ذلك التيار الذي:

1- يرى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية.

2- يؤمن بحرية المرأة في اختيار "الرفيق"، وليس الزوج.

3- يؤمن بحق الأقليات الدينية في تولي المناصب العليا في الدول ذات الغالبية المسلمة.

4- يدعم التيارات الليبرالية.

أما معايير الغرب في تعريف "الإسلامي المعتدل" فهي – كما ينقل محمد عرفة –:

1- أن الديمقراطية هي المضمون الغربي للديمقراطية.

2- أنها تعني معارضة "مبادئ دولة إسلامية".

3- أن الخط الفاصل بين المسلم المعتدل والمسلم المتطرف هو تطبيق الشريعة.

4- أن المعتدل هو من يفسر واقع المرأة على أنه الواقع المعاصر، وليس ما كان عليه وضعها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

5- هل تدعم وتوافق على العنف؟، وهل دعمته في حياتك من قبل أو وافقت عليه؟.

6- هل توافق على الديمقراطية بمعناها الواسع.. أي حقوق الإنسان الغربية (بما فيها الشذوذ وغيره)؟.

7- هل لديك أي استثناءات على هذه الديمقراطية (مثل حرية الفرد في تغيير دينه)؟.

8- هل تؤمن بحق الإنسان في تغيير دينه؟.

9- هل تعتقد أن الدولة يجب أن تطبق الجانب الجنائي من الشريعة؟، وهل توافق على تطبيق الشريعة في جانبها المدني فقط (الأخلاق وغيره)؟، هل توافق على أن الشريعة يمكن أن تقبل تحت غطاء علماني (أي القبول بتشريعات أخرى من غير الشريعة)؟.

10- هل تعتقد أنه يمكن للأقليات أن تتولى المناصب العليا؟، وهل يمكن لغير المسلم أن يبني بحرية معابده في الدول الإسلامية؟.

وبحسب الإجابة على هذه الأسئلة سوف يتم تصنيفه هل هو معتدل (أمريكياً) أم متطرف؟!.

والسؤال: بعد هذه المعايير ما الذي سيتبقى من الصفات الملازمة للمصطلح "إسلامي"؟. لا شيء بل سيكون علمانياً خالصاً لوجه الغرب.

تصادم العلمانية مع الفطرة

رغم ما يُطرح ويقال - وهو الأمر الواقع - حول قوة انتشار العلمانية في العالم وسيطرتها على سلوكيات المجتمعات في كافة مجالات الحياة.. إلا أن هناك مؤشرات على عدم تقبل هذا الفكر بشكل متكامل حتى داخل معاقل العلمانية في الغرب، إضافة إلى وجود توجه شعبي متنامي نحو خصوصاً في الغرب، بل والتطرف الديني؛ إذ زادت شعبية الأحزاب المحافظة (اليمينية) التي تأخذ بالاعتبار الجانب الأخلاقي والديني في أمور السياسة، مع الاحتفاظ بنكهة العلمانية كواقع لابد منه.. وفي هذا دلالة على أن العلمانية فرضت على المجتمع الغربي فاستسلم لها؛ لأن البديل الذي كان مسيطراً على شؤون الحياة – وهو الدين ممثلاً بالكنيسة – انحرف عن مساره المفترض أن يكون عليه، وتحول إلى عبء يصعب تحمله.

فجاءت العلمانية كرد فعل فكري عنيف لمواجهة عنف وبطش الكنيسة الغربية.. لكن هذا الحل لم عجز عن إشباع الجانب الروحي لدى الإنسان، بخلاف الجانب المادي الشهواني الذي تشرب كل معاني الحياة الحيوانية، ولم يشبع بعد.

وهذه من الأسباب التي دفعت المجتمعات الغربية إلى مراجعة جانبها الروحي ولكن بالقدر الذي يمنع عودة الهيمنة الكنسية على مقدرات الناس مرة أخرى.

ومن بين المؤشرات - على وجود رفض اجتماعي للعلمانية في معاقلها – استطلاع للرأي العام أجراه معهد (إيفوب) الفرنسي في مارس 2007م حول (حضور الدين في المجتمع الفرنسي).

حيث كشفت نتائج الاستطلاع أن الغالبية تشعر أنها قريبة من أحد الأديان السماوية الثلاثة، واحتلت المسيحية الكاثوليكية المرتبة الأولى في قربها من الفرنسيين، بينما احتل الإسلام المرتبة الثانية.

واعتبر رجال دين وباحثون اجتماعيون أنه "بعد أكثر من قرن من تهميش الدين وإرساء مبادئ العلمانية في فرنسا، فإن الدين لا زال يمثل مركباً أساسياً في حياة الفرنسيين وأن الروحانيات حاجة أساسية لهم"، حسب ما جاء في موقع (إسلام أونلاين).

وفي الاستطلاع قال 64 % من الفرنسيين: إنهم يشعرون أنهم قريبون من "المسيحية الكاثوليكية".

فيما احتل الإسلام المرتبة الثانية بـ3 %، والمسيحية البروتستانتية المرتبة الثالثة بـ 2.1 %، واليهودية في المرتبة الثالثة بنسبة 0.6 %.

وفي حين أشار أغلب المستطلعين وهم 70 % تقريبا إلى قربهم من ديانة من بين الأديان السماوية الثلاثة فإن 27.6 % قالوا: إنهم "بدون ديانة "، أو ما يصطلح عليه بـ"اللادينيين".

وجرى الاستطلاع في الوقت الذي تعيش فيه الساحة الفرنسية جدلاً حول تقييم مرور مائة عام من سن قانون العلمانية والمعروف بقانون 1905م الذي أسس لمبادئ الجمهورية الفرنسية الخامسة باعتبارها "جمهورية علمانية لا تلقي بالاً للدين".

وفي تعليقه على نتائج الاستطلاع قال القس ميشال لولونج - أحد رموز الحوار المسيحي الإسلامي في تصريحات لإسلام أونلاين-: "التجارب البشرية أثبتت أنه لا يمكن إلغاء الدين هكذا من الحياة الاجتماعية بقوة الأيدولوجيا مهما كان انفتاحها والديمقراطية التي تمنحها".

وقال: "فالدين يجيب على أسئلة شخصية وروحية -حول الحياة والموت والمآل والقدر والمصير- لا يمكن بأي حال أن تجيب عليها العلمانية أو غيرها من الأيدولوجيات البشرية".

وأضاف: "في القرن التاسع عشر وفي فورة الثورة العلمانية بشرنا الفيلسوف الفرنسي - أوجست كونت - بعصر العلم وموت الأديان بلا رجعة، لكنه برغم بلوغ العلوم في حاضرنا قمة ازدهارها فإن المعطى الروحي ظل قائماً".

وفي عصرنا الحاضر - يضيف القس لولونج - "عشنا تجارب أخرى، قام فيها النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي سابقا بحملة لا سابق لها للقضاء على المعتقدات الدينية إلى الأبد، غير أنه وبعد حوالي قرن من بروز الشيوعية سقطت هذه الأيدولوجيا وعادت الكنائس والمساجد ودور العبادة لتفتح أبوابها من جديد".

وعلى المستوى الفرنسي يقول لولونج: "إن الثورة الفرنسية انطلقت شراراتها ضد مؤسسات الكنيسة، ووصل الأمر إلى اضطهاد غير مسبوق للقساوسة والكهنة غير أنها انتهت إلى الاعتراف بقوة العامل الديني في المجتمع ومراجعة إلغائه تماماً".

الأرقام التي كشف عنها الاستطلاع بالنسبة للباحث الاجتماعي فانسون جيسير "لها أبعاد أخرى، فهي تكشف حجم الهوة بين إرادة علمنة الدولة وعلمنة المجتمع".

ويضيف جيسير - في تصريحات لإسلام أونلاين-: "إذا كانت سياسة علمنة أجهزة الدولة ومؤسساتها بالكامل نجحت في فرنسا سياسياً فإن سياسة علمنة المجتمع لا تزال محدودة، وبقي المجتمع الفرنسي في أعماقه يحن إلى المعطى الروحي".

وضع العلمانية في المجتمع المسلم

إذا كانت فطرة المجتمع الغربي تبدي نوعاً من الرفض اللامباشر للعلمانية من خلال ظاهرة العودة إلى الدين، فإن فطرة المجتمع المسلم أكثر رفضاً لهذا الفكر لما يمتلكه من مقومات دفاعية أفضل مما لدى الشعوب الأخرى، وعلى رأس هذه المقومات الدين الإسلامي، حتى في ظل الوهن الذي طبع على حياة المسلمين.

وقد مر أعلاه ذكر بعض أسباب انتشار مظاهر العلمانية داخل العلمانية، وتأثيرها، لكن تأثر المجتمع المسلم بالعلمانية لم يصل إلى ما وصلت إليه المجتمعات الغربية؛ والسبب الرئيسي هو أن المسلمين لم يكونوا بحاجة لهذه الثقافة، وإن غلب على أمرهم الجهل والعجز، الجهل عن إدراك مخاطرها والعجز في مواجهتها ومواجهة من يقف خلفها، فتسللت العلمانية إلينا متسترة بالظلمة والغفلة متسلحة بالظلم والبطش والقهر.

وحول هذا الموضوع يقول الكاتب رفيق عبد السلام: "ما من منطقة في العالم تعرضت فيها التنبؤات العلمانية لامتحان قاس وتمحيص عسير مثل المنطقة العربية الإسلامية، ولعل هذا ما حدا بالكثير من الأكاديميين والسياسيين والإعلاميين الغربيين للحديث عما أسموه الاستثناء الإسلامي، والفشل الإسلامي، والممانعة الإسلامية، وما شابه ذلك من أوصاف تدل على عسر هضم هذه المنطقة لتلك التنبؤات".

وكان المستشرق البريطاني هاملتون جيب - الذي عرف باطلاعه العميق على أوضاع المنطقة وأحوال شعوبها، فضلاً عن إتقانه اللغة العربية ومعرفته الثاقبة بالثقافة الإسلامية - قد عبر عن مخاوفه الشديدة منذ ثلاثينيات القرن الماضي من أن موجة التغريب الكاسحة التي تجتاح مصر وبقية البلاد الإسلامية ربما تأتي على ما تبقى من مؤسسات الإسلام العريقة ومواريثه المديدة، ومن ثم تخلف وراءها فراغاً مروعاً في الضمير والاجتماع الإسلاميين، لا يقوى التحديث على ملئه ولا تعويضه.

وخلافاً لهذه المخاوف العميقة - كما يقول الكاتب - التي عبر عنها جيب بدايات القرن الماضي فإن جل الباحثين فيما أضحى يعرف اليوم بخبراء الإسلاميات أو الشرق الأوسط، يعبرون عن هواجس مغايرة تماماً.

إن ما يشغل اهتمامهم ويثير مخاوفهم أكثر هو صعود حركة "الأسلمة"، ما يعتبرونه تَهديداً واسعاً "لقيم" الحداثة والعلمانية نتيجة هذا الصعود.

ولا ريب أن أي زائر اليوم لمدن إسلامية كبرى كالقاهرة وإسطنبول ودمشق والجزائر والدار البيضاء وغيرها، سيشد انتباهه ما تشهده تلك العواصم من حالة "أسلمة" واسعة النطاق تركت آثارها في مختلف مظاهر الحياة الخاصة والعامة: في الأسواق، وفي زحمة الشوارع، وفي ملابس النسوة، وفي الإقبال على المساجد والنشاط الديني، بل إن شئت فقل في كل شيء.

ويؤكد الكاتب: من المعلوم أن الرقعة العربية الإسلامية قد تعرضت لحركة تحديث وعلمنة واسعة النطاق خلال القرنين الأخيرين، وإن كانت متفاوتة التأثير والانتشار من قطر إلى آخر، ومن قطاع اجتماعي إلى غيره.

غير أنه من التبسيط المخل قراءة واقع العلمنة في المنطقة من خلال مشهد الدولة وأجهزتها الرسمية التي لا تقدم صورة كاشفة عن واقع الدين أو العلمنة على السواء.

ففي بلد مثل تركيا حيث تنحو الدولة منحى علمانياً جذرياً، يبدو المجتمع شديد الميل إلى التوجهات الإسلامية، في حين أنه في بلد مثل إيران حيث تقوم الدولة على أسس إسلامية شيعية صارمة، تنجذب قطاعات واسعة نحو التوجهات العلمانية كشكل من أشكال الاحتجاج الصامت على خيارات الدولة.

بل إن بعض الأقطار العربية والإسلامية التي تبنت خيارات علمانية صارمة - كما هو حال تونس وسوريا وتركيا - تواجهها اليوم صعوبات هائلة، وتقابل بحركة "أسلمة" منبعثة من البنى التحتية للمجتمع، ما يضطرها في الكثير من الأحيان للجوء إلى المناورة والمخاتلة في التعبير عن توجهاتها العلمانية، وإلى الاستعمال الذرائعي للشرعية الدينية، ناهيك عن اشتداد عود التيارات الإسلامية في الرقعة العربية والإسلامية كأهم تيارات المعارضة السياسية.

وينقل الكاتب الباحث الإنجليزي إرنست غلنر انتباهه إلى هذه الظاهرة منذ وقت مبكر، ومما يذكره أن حركة العلمنة قد فرضت نفسها في أغلب مناحي المعمورة الكونية، بما في ذلك داخل الفضاءات الجغرافية والدينية الكبرى، كاليهودية والمسيحية والهندوسية والكنفوشيوسية، إلا أن عالم الإسلام ظل يمثل استثناء من هذه القاعدة العامة.

ويقول الكاتب إن من المفارقات العجيبة هنا أن أكثر البلاد العربية تحديثاً - مصر والجزائر وسوريا والعراق وتونس - تبدو أكثر ممانعة للتوجهات العلمانية، كما أن القطاعات الاجتماعية الحديثة والمثقفة تبدو أشد ارتباطاً بالإحيائية الإسلامية من القطاعات التقليدية.

من جهته يؤكد أستاذ التاريخ الإسلامي وتاريخ العالم في جامعة جورج تاون بواشنطن - جون فول - أن العالم يشهد حالياً نهاية العلمنة خصوصاً في العالم الإسلامي، موضحاً أن "ما يجب الإقرار به الآن هو أن الفكرة القائلة بضرورة فصل الدين عن الحياة العامة لأجل تحقيق التحديث قد دحضت من خلال حياة وخبرات وتجارب أناس كثيرين وبلاد عديدة، في شتى أنحاء العالم، وبصورة خاصة في العالم الإسلامي".

الخلاصة

إذاً هناك عوامل ساعدت على انتشار العلمانية في الغرب، وعوامل أخرى مختلفة أوجدت مظاهر علمانية في بلاد المسلمين.

وأهم عامل لدى المسلمين هو ضعف المناعة الدينية المزمنة؛ وذلك بسبب تراجعهم عن التمسك بوسائل المقاومة المتمثلة بمنهج الإسلام الذي فيه غنى وحصناً يصد كل ما هو وافد مُضِر..

وللدلالة على مدى قوة الإسلام وقدرته في مقاومة العلمانية وما على شاكلتها يكفي أن نعرف أن ما تبقى في حياة المسلمين من تمسك بدينهم - رغم الضعف الظاهر - حرمَ العلمانية ودعاتها من تحقيق كل ما يرجون، وواجهوا صعوبة في إقناع المجتمعات المسلمة بقبولها فعملوا على فرضها على الناس قهراً..

ورغم تأثير هذا الفكر على المسلمين إلا أن هذا التأثير لم يصل إلى درجة الاعتراف والإيمان.. بل هو خليط من الجهل واللاوعي في التعامل معه..وهذا أمر يعطي المسلم الغيور حافزاً لبذل مزيد من الجهد في خدمة دينه، ويخفف من حالة اليأس التي أصابت كثيراً منا.. فقط نحتاج الانتقال إلى الجانب التطبيقي العملي..

المصادر

- (حديث المصطلحات: العلمانية مرة ثانية)، زيد بن علي الوزير - مجلة (المسار)- العدد السابع 2002م.

- (التدخلات الأجنبية في إندونيسيا)، الدكتور محمد السيد سليم- (الجزيرة نت).

- (الغرب والعلمانيون جعلوا المرأة سلعة في سوق الإعلانات)، منى محروس- (مفكرة الإسلام).

- (التراجع العلماني في العالم الإسلامي)، رفيق عبد السلام- (مركز الجزيرة للدراسات).

- (الإسلام ونهاية العلمانية)، جون فول – (مركز الجزيرة للدراسات).

- (لماذا تبني أمريكا شبكات مسلمة معتدلة علمانية؟)، محمد جمال عرفة- (إسلام أونلاين نت).

- موقع الدكتور سفر الحوالي.

 

المصدر: http://www.awda-dawa.com/Pages/Articles/Default.aspx?id=1158

الأكثر مشاركة في الفيس بوك