كيف صنع المسلمون أوروبا؟!
كيف صنع المسلمون أوروبا؟!
كوامي أنطون أبياه
ترجمة: وليد سليم
يرجع مفهوم المتوسط كملتقي لثلاث قارات إلى االيونان الكلاسيكية. لكن الأمر تطلب لقفزة فكرية أخرى لإدراك شعوبها كجماعة، أصبح بالإمكان التفكير أوروبا، وأفريقيا، وآسيا لكن دون التفكير في الأوروبيين، والأفارقة، والآسيويين كشعوب من نوع خاص.
يكشف لنا ديفيد ليفرينج في كتابه القيم والجذاب" بوتقة الرب" أن عاملين جعلا الأوروبيين يفكرون في أنفسهم كشعب. الأول هو إقامة الإمبراطورية الرومانية المقدسة مترامية الأطراف التي أسسها ملك فرنجي محارب غليظ الرقبة، مسترسل الشعر، يبلغ 182,88سم، نعرفه باسم شارلمان. العامل الثاني هو تطور ثقافة إنسانيا الإسلامية في شبه الجريرة الأيبيرية التي كان العرب يطلقون عليها اسم الأندلس، على الحدود الجنوبية الغربية لمملكته.
في هذه العلية التي تحولت من خلالها عدة قبائل أروبية إلى شعب واحد، كان أمراً مهماً ما تحمله هذه القبائل من صفات مشتركة وكذلك ما يميزها عن جيرانها من المسلمين. هذه فكرة أصبحت الآن مألوفة. ولكن كتاب بوتقة الرب يقدم اقتراحا مدهشا، أنه في تشكيل الحضارة التي ورثها الأوروبيون المحدثون، كان الإرث الثقافي للأندلس لا يقل أهمية عن إرث الفرنجة الكاثوليك. باستعارتهم من الآخر العظيم، ملأوا فراغ الذات الأوروبية.
وقد ضمت إمبراطورية شارلمان في ذروة اتساعها معظم فرنسا، وسويسرا، وبلجيكا، وهولندا، وغرب ألمانيا، وإيطاليا جنوبا حتى روما، وقطاعا من شمال إسبانيا، وأجزاء من المجر والبلقان.
بلغت مساحة إمبراطوريته ما يقرب من ثلاثة ملايين ونصف المليون ميل مربع، أي ما يفوق مساحة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد فرض شارلمان الكاثوليكية في المتشددة على الوثنيين الساكسون في الشرق بحد السيف، وأباد الآلاف ممن قاوموا، وبنفس الحماس قمع الهرطقة في الأراضي الفرنجية. وأسس شارلمان الأديرة كمراكز تعليمية، جاذبا الدارسين من جميع أنحاء إمبراطوريته ومن خارجها، وبعد قرون من الجهل التي أعقبت انهيار الإمبراطورية الرومانية في بلاد الغال وجرمانيا كانت أعمال رجال مثل الكوين من نورثمبيريا( وهو شاعر ولاهوتي أعاد إحياء الدراسات الكلاسيكية) هي التي قامت عليها النهضة الشارلمانية.
وربما جعلت تلك الإنجازات شارلمان يعتبر نفسه مؤهلا ليصبح وريثا لروما في الغرب، وصانعا التجديد الإمبراطورية الرومانية RENOVATIO ROMANI IMPERII. وعندما سافر إلى روما في ديسمبر عام 800 بعد أكثر من ثلاثين عاماً في الحكم، ذهب للدفاع عن ليو الثالث كبابا لروما؛ ورد له صاحب القداسة صنيعه بتتويجه إمبراطوراً على الرومان يوم عيد الميلاد( مما أثار ضيق إيرين الحاكمة البيزنطية التي لقبت نفسها إمبراطورا، بدلاً من إمبراطورة، اعتقاداً منها أن اللقب من حقها).
كان شارلمان عسكريا عظيماً، وكاثوليكياً مخلصاً، وإداريا طموحاً، وراعياً للعلم. وله أنه يفخر عن جدارة بميراث ما سيصبح نهضة شارلمانية لامعة؛ ويكفي أن نتأمل في قطع العاج المنقوشة الرائعة الموجودة في خزائن متخف المتروبوليتان أو في رشاقة المخطوطات المكتوبة بأحرف شارلمانية دقيقة أو في ديوان الكوين المكتوب باللاتينية عن تاريخ يورك. لكن لويس يري بصرامة أن الإمبراطورية التي أسسها شارلمان كانت" متعصبة دينياً، وفقيرة فكرياً، ومتكلسة اجتماعياً اقتصادياً". تحكمها فئة محاربين منغلقة على نفسها يفرض نفوذها رجال الاكليروس. فبرغم العملة الجديدة، كان ما يمكن اعتباره مدنا قليلاً جداً، وكان معيار الثروة هو الأراضي والفلاحون، والعبيد.
ولم يكن لدي شارلمان نظام لتحصيل الضرائب. واعتمد على النهب وما تنتجه ضياعه الخاصة. وما كان يدين له به السادة الإقطاعيين هو الخدمة العسكرية. فكانوا ملزمين بالذهاب سنوياً أواخر الربيع في كامل عتادهم للقيام بحملة عسكرية، إذا رأى شارلمان ضرورة لذلك (وكثيراً ما فعل). وقد تبدل حال الفرنجة فبعد أن كانوا مزارعين ينعمون بالحرية نسبياً، أصبحواً أمة من الأقنان يعملون جنباً إلى جنب مع العبيد الذين كان كثير منهم سلافيين من بوهيميا والسواحل الجنوبية للبلطيق.
كان قصر شارلمان الملكي في عاصمته الجديده" آخن" يضم خمسين فداناً من المباني المدنية والدينية، ويمثل أضخم بناء حجري شمال جبال الألب. ولكنه لا يصمد إذا قورن بالعظمة المعمارية لبيزنطة أوروبا. وزود شارلمان المكتبات بالمئات من المخطوطات لم يعهدها الفرنجة من قبل. ولكنها (كما لا حظ جيبون)، تثير الرثاء إذا قورنت بآلاف الوثائق في مكتبات إيطاليا أو إسبانيا. وقد استحدث نظاماً بيروقراطياً بإرسال موظفين ملكيين إلى كل مقاطعة من مقاطعات مملكته الثلاثمائة والخمسين لتسليم أوامره، أو للاستماع للقضايا، أو أستدعاء المواطنين للحرب عند الضرورة. ولكن كما يقول لويس: القدر الأكبر من هذه المركزية لم يكن أكثر من مجود رقعة مكتوبة في العالم من الأمية المطبقة، والارتياب والاستياء، العميقين من جانب طبقة النبلاء، والتفاوت الشاسع بين الموارد والأهداف.
والحقيقة أن إمبراطورية شارلمان، رغم أنها تثير الإعجاب، فقد كانت تفتقر إلى العديد من مقومات ما نعتبره الحضارة: مثل المدن، والتجارة، والمكتبات الضخمة، والنخبة المثقفة. ويبدو هذا واضحاً إذا عقدنا مقاربة بين العالم الذي صنعه شارلمان وبين المجتمع المثقف لجيرانه الجدد المسلمين.
ومثل إمبراطورية شارلمان، كانت الأندلس نتاجاً لآلة حرب. ففي القرن السابع بدأ الإسلام في الانتشار بسرعة مذهلة خارج حدود الجزيرة العربية في جميع الاتجاهات. فبعد وفاة الرسول عام 632م، نجح العرب خلال ثلاثين عاماً فحسب في هزيمة أكبر إمبراطوريتين تقعان إلى الشمال من أراضيهم، الإمبراطورية الرومانية المسيحية في بيزنطة والإمبراطورية الفارسية الزرادشتية التي أمتدت عبر آسيا الوسطي إلى حدود الهند. وبتولي الأمويين الخلافه الإسلاميه عام 661م، اندفعوا باتجاه الغرب نحو شمال أفريقيا وشرقاً نحو آسيا الوسطي. وفي أوائل عام 711م، قاد طارق بن زياد بأمر، من سادس الخلفاء الأمويين في دمشق، جيشاً من البربر عابراً مضيق جبل طارق إلى إسبانيا، وهناك هاجم القوط الغربيين الذين حكمواً أغلب ولاية هيسبانبا الرومانية لقرنين من الزمان. وفي العام التالي أنضم إلى الهجوم جيش قوامه ثمانيه عشر ألفا، اغلبهم من عرب اليمن،. وخلال سبعة أعوام أصبح معظم شبه الجزيرة الأيبيرية في قبضة المسلمين؛ ولم تعد شبه الجزيرة بكاملها إلى الحكم المسيحي حتى عام 1492. أي بعد ما يقرب من ثمانمائة عام.
وبعد الانتصارات المبكرة التي حققها المسلمون، رد مسيحيو شمال شبه جزيرة أيبيريا الهجوم، فدعموا مملكة أستورياس خلال عشرينيات القرن الثامن، واستعادوا جليقية من الحكم الإسلامي بحلول نهاية العقد التالي. وفي الجبال الواقعة شمال غرب شبه الجزيرة، على الساحل الجنوبي لخليج بسكاى الذي تجتاحه العواصف، كانت القبائل المسيحيه قادرة إلى حد كبير على مقاومة التغلغل الإسلامي. كذلك لم يكن الحكم الإسلامي آمنا أيداً في إقليم الباسك الذي يقع على الجانب الجنوبي من جبال البرانس. وكانت المستنقعات (أو الأراضي الحدودية) العليا، والوسطي، والسفلي تقع بين قلب الأندلس، الإقليم المحيط بقرطبة، وهذه الممالك المسيحية في الشمال الشرقي، من جهة، وبين الفرنجة عبر الجبال الشمالية الشرقية، من جهة أخرى. وكانت المستنقعات عرضة لخطر الهجوم على الدوام. لكونها متاخمة لحدود الأستوريين والفرنجة.
إلا أن الأمويين لم يعتزموا التوقف عند جبال البرانس. ولكن محاولتهم الأولي للاستيلاء على أكوتين AQUITAINE، الدوقية الفرنجية الجنوبية، تم إحباطها عام 721 عندما اجتاح الدوق" أودو" بخيوله القوية معسكراً لجيش الإسلامي خارج عاصمته في تووز. ولكن بعد ما يربو على العقد عاود أمير الأندلس الجديد عبد الرحمن تولي هذه المهمة، على رأس جيش كبير،ـ منضبط، ومحنك من المغاربه. ودحر أودو قرب بوردو وزحف شمالاً باتجاه بواتييه في منتصف امسافة تقريباً بين البرانس وباريس.
وبالقرب من بواتييه، قابل جيش المسلمين خصمه. وفي أكتوبر732م زحف شارل مارتل (جد شارلمان) بجيشه من أقاصي الدانوب لينضم إلى الدوق أودو، ونجحا في القضاء على معظم قوات الأمير عبد الرحمن. وقد أطلق كاتب مسيحي، في مخطوط لاتيني كتب في عام 754م على المنتصرين في معركة بواتييه اسم الأوروبيين Europenses، وهذا هو أول استخدام مسجل لكلمة لاتينية للتعبير عن أناس أوروبا. وقد تم صكها في الأندلس وقد نسب المؤرخون المسيحيون لا حقاً أهمية تاريخية فاصلة لمعركة بواتييه (بلاط الشهداء.م).
فقد علق جيبون قائلا: لو أن المغاربة كانوا قد قطعوا مسافة تعادل تلك التي قطعوها من مضيق جبل طارق، فربما كانوا قد نجحوا في الوصول إلى بولندا أو الهايلاندز الأسكتلندية.
ربما اعتقد جيبون أن الأمير عبد الرحمن لو كان قد انتصر في المعركة "لأصبح القرآن يدرس الآن في مدارس اوكسفورد، ولكانت المنابر تفسر لشعب مختون قداسة وحقيقة الوحي المحمدي". في رأيه أن مصير المسيحية كان على المحك فقد كتب بعد أسبوع من المعركة " لقد قهرت الشرقيين قوة ومكانة الجرمان، الذين فرضوا الحريه المدنية والدينية للأجيال اللاحقة"(1).
ولكن، كان يبدو غريباً في ذلك الوقت اعتبار أن انتصار شارل مارتل قد كفل الحرية الدينية. فالطائفة اليهودية قليلة العدد واسعه النفوذ في إيبيريا كانت تتمتع بالتسامح في إسبانيا حين كان سادتهم الإقطاعيون القوطيون الغربيون آريين هرطقة يحكمون رعايا كاثوليكا ويهود؛ لكن اليهود بدأوا يعانون الاضطهاد في عام 589م، حين تحول القوط الغربيون إلى الكاثوليكية. ومن هنا، كان الغزو الإسلامي الذي جلب حكاما يمارسون التسامح تجاره اليهود وكذلك تجاه المسحيين والزرادشتيين، موضع ترحيب من جانب اليهود. وخلال والفترة الأولي من حكم المسلمين، أدرك المسيحيون بدورهم أنهم سوف يحظون بحريه عقيدتهم كاليهود طالما يحاولوا جعل المسلمين يرتدون عن دينهم، أو ينتقدوا الإسلام. وما من تباين أشد إثارة للدهشة، كان الوسواس المسيطر على الحكام الكاثوليك بشأن التشدد الديني أحد الأسباب التي جعلت العصور المظلمة. كما أطلق بترارك على الفترة من القرن الخامس إلى القرن العاشر- حالكة الظلام.
ولم يبد واضحاً في ذلك الوقت أن معركة بلاط الشهداء قد وضعت نهاية لأحلام المسلمين في غزو أراضي الفرنجية، فلمدة ثلاثين عاماً تقريباً حافظ العرب على سيطرتهم على سبتيمانيا- لانكدو Languedoc حاليا- في جنوبي فرنسا يحكمونها من عاصمتهم في ناربون. وفي اعقد التالي، حاول عدد من الأمراء المتوالين التوغل بشكل أكثر عمقا في الأراضي افرنجية فتواصلت الهجمات والانسحابات بشكل شبه منتظم. في وسط كل هذا الكر والفر، لا يبدو منطقيا بدرجة كبيرة اختيار معركة بلاط الشهداء كنقطة التحول.
في الوقت، ثبت أن انقسامات بين المسلمين كانت أكبر عائق حال دون التوسع الإسلامي وهي التي أدت إلى وجود صراع شبه دائم في الأندلس. وقد بدأ الخلاف في عالم الإسلام في المجتمع القبلي الذي خرج منه الدين. جاء النبي من قبيلة قريش المكية التي كان أفرادها يتمتعون بحظوة خاصة لدى المؤمنين. وقد كانت تنعم عشيرة محمد بمجد متميز بين العشائر في قبيلة قريش. وجاء الخفاء الأوائل جميعاً من قريش، لكن أول عائلة حاكمة لم تأت من عشيرة محمد وإنما من نبي أمية.
حين اغتيل" على" رابع الخلفاء- ابن عم النبي وزوج ابنته- وخلفه خليفة أموي، بدأ صراع طويل بين العشائر. في عام 750، قضت الثورات في الإمبراطورية الإسلامية الجديدة على حكم الأمويين، وشروع الخليفة العباسي الجديد في قتل أي شخص من شأنه أحياء النسب الأموي، لذلك لم يأت تلقيبه بالسفاح من فراغ
لكن إراقة الدماء لم تستكمل مما أدي إلى إحباط مساعيهم للسيطرة على الإمبراطورية. نجح عبد الرحمن- أكبر أحفاد الخليفة الأموي هشام الأول والذي كان يبلغ من العمر تسعة عشر عاماً- في الهروب من الأسر وتمكن من الوصول إلى المغرب. وعبر المضيق بين المغرب والأندلس، خطط عبد الرحمن لإخضاع مجتمع مسلم يدين حكامه بمكانتهم إلى فضل أسلافه الأمويين.
وفي عام 755 وصل عبد الرحمن إلى غرناطة على رأس ألف من الفرسان البربر، وكان قد بلغ الخامسة والعشرون من عمره، وخلال عام في قرطبة نصب نفسه أميراً على الأندلس.
ولكن قبضته على الحكم كانت ضعيفة، ففقد موطئ قدمه في شمال البرانس في 759 لببين القصير( والد شارلمان) لأنه كان يواجه تمراً في غرب إمبراطوريته. وأمضي معظم ولايته على ظهر فرسه مقاتلاً المقاومين لحقه كأمير.
وعندما هزم عبد الرحمن الأمير العباسي في عام 763م، أمر بإعدام جميع أسرى الحرب، وبنفسه أشرف على قطع أيدي وأرجل ثم عنق الأمير، وبعد حفظ رؤوس القادة في المحاليل تم إرسالها إلى مكة، كتب لويس: أنه عندما وردت تلك التفاصيل الدمويه للخليفه المنصور قال: " حمد الله الذي وضع بحراً بيننا".
على الرغم أو ربما بسبب تلك البدايات الدموية، حظيت فترة ولاية عبد الرحمن وأسلافه ببعض الاستقرار النسبي، فأي أمير كان عليه أن يكون مستعداً في أي وقت للدفاع عن مقاطعته، لكن بجانبً التزامات الحرب كان باستطاعته ممارسة فنون السلام؛ فالساحة الأصلية للجامع الكبير في قرطبة والتي مازالت قائمة حتى اليوم، والتي بنيت لعبد الرحمن في اندفاع مدهش من التوهج المعماري الواضح بين 785و 686. ذات الـ152 عموداً منتظمة في أحدى عشر ممراً، مكونة من جزءين، ساحة كبيرة لمصلين على مساحة ما يقرب من ثلثي فدان ومواز لها فناء بنفس المساحة مليء بصفوف من أشجار البرتقال، يكونان معاً تبلغ مساحة جوانبه ما يقرب من 240 قدماً، والنتائج التي أضيفت عبر العصور لازالت مبهرة.
كتب لويس: ابتكر أبناؤها فن وعلم تحويل المادة إلى ضوء وشكل، كان مسيحيو العصور الوسطى الأكثر افتقاراً للقدرة على إدراكها، فالابتكار غير المسبوق للأساتذة بنائي الجامع الكبير كان في تعلية السقف ذي الزخارف الغائرة لارتفاع أربعين قد بني عن قصد لتكون كصف علوي لعقود نصف دائرية والتي يبدو بوضح أنها مثبتة بإحكام بالصف الأسفل من عقود على شكل حدوة حصان مستقرة على عواميد. بعبقريته البنائية، كان التأثير البصري للعقود المزدوجة منذ لحظة اكتمالها واحدة من أكثر الخبرات الجمالية ارتفاعاً بالذوق. ولو كان الجامع الكبير أكبر مثال مادي واضح الحضارة العرب في أسبانيا، فإنجازاتهم الفكرية كانت أكثر إبهاراً. بدايه من عهد عبد الرحمن سعي الأمويون لمنافسة خصومهم العباسيين في بغداد ثقافياً، فخلال القرون اللاحقة امتلكت قرطبة وحدها المئات من المساجد ولآلاف من القصور وعداد لا حصر له من المكتبات خلال القرن العاشر احتوت تلك المكتبات على مئات الآلاف من المخطوطات تضاءلت أمامها أكبر مكتبات أوروبا المسيحية. وسبقت جامعة قرطبة جامعة بولونيا أول جامعة أوروبية بأكثر من قرن.
كانت الأندلس عالما المدن، بخلاف أوروبا التي كانت عالما من ولايات ومدن صغيرة، وفي نهاية ألالفية كان تعداد سكان قرطبة نحو 90 ألفا، أي أكثر من ثلاثه أضعاف أي مدينه في المنطقة احتلت ذات مرة من قبل شارلمان. في هذه المدن يهود ومسيحيون مسلمون وعرب وبربر وقوط غربيون وسلاف وآخرون لا يحصون، خلقت نوعاً من الثقافة كمرق اللحم والخضروات خليط مفعم بالحيوية من تنوع واضح لمكوناته- الذي نتج عنه كوزموبوليتانية( كونية) حقيقية.
ولم يكن هناك حاخامات يهود أو علماء مسلمون معروفون في بلاط شارلمان، لكن في مدن الأندلس كان يوجد أساقفه وجماعات يهودية فهناك RACEMONDO( وبيع بن زيد) أسقف الفيرا الكاثويكى والذي كان سفيرا لقرطبة بالقسطنطينية وآخن، وHASDAIIBN SHAPRUT وحاسداي ابن شابروت رئيس الطائفة اليهودية في قرطبة في أواسط القرن العاشر لم يكن فقط عالماً كبيراً في اطلب بل كان أيضاً رئيس مجلس أطباء الخلفية، وعندما أرسل الإمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع نسخة من كتاب DIOSCORIDES ديوسقوريدس ( الحشائش) MATERIAMEDICA أرسل الخلفية في طلب راهب يوناني للمساعدة في ترجمته لعربية. تلك المعرفة التي توفر عليها أطباء الخليفة جعلت قرطبة واحدة من أعظم مراكز الخبرة الطبيعية في أوروبا.
وفي عهد الخليفة عبد الرحمن، الذي حمل نفس الاسم" عبد الرحمن الثالث أمير الأندلس في القرن العاشر كانت لديه الجرأة بإعلان نفسه خليفة، وريثاً للرسول وضمنياً قائد للعالم الإسلامي.
كشارلمان، كان منصب الأمير في جزء منه دينياً، ومن المقترض أن يكون متدينا( وغالباً ما كان). ولكن تقوى الأمير لم تعن فرض عقيدة معنية على الآخرين. في أول الأمر تقبل أمراء الأندلس تغيير العقيدة ولكن لم يطالبوا بها. بالطبع كانت هناك بعض الضغوط لتغيير العقيدة، فالرعايا غير المسلمين- وكانواً يسمون أهل الذمة- مطالبون بدفع ضرائب استثنائية ومن الممكن لغير المسلمين أن يستعدوا لفترة. على الأقل نظرياً.، وهو ما كان غير ممكن بالنسبة لمسلمين. وبما أستغرق الأمير ما يقرب قرنين من وفاة عبد الرحمن في عام 788م ليصبح المسلمون أغلبية في الأندلس(1). كان في مدن الأندلس علماء من الأديان ألثلاثة، وإمكانية التعلم علوم العالم القديم التي ورثها العرب وأحضروها للغرب، وأدي تجمع وانتقال المعرفة انتعاشها في أوروبا إلى خلق النهضة.
خلال عام 777م أصبح عبد الرحمن في منتصف الأربعينيات ألا أنه كان لا يزال محارباً قوياً، باسطاً سيطرته على ما يقرب من ثلثي شبه الجزيره. ولكن لم يكن كل مساعديه راضين. فمن الواضح أنهم أملوا في احتوائه، فأمير برشلونه، وولاة سرقسطة وهويسكا المسلمين إجتازوا ما يقرب من الألف ميل إلى الساكسون للتأمر مع شارلمان ضده.
حدث ذلك في الوقت الذي كان فيه الملك قد جمع نبلاءه، وقادة الأكليروس في مجلس بادربورن لنقل فروض الطاعة والولاء من قبائل الساكسون وليشهد تعميد الكثير من قادتهم. وبدا أمراء مسلمين يعرضون ولاءهم لملك الفرنجة واللومبارديين والذي أصبح مؤخراً حاكماً على الساكسون أيضاً. كانت قفزة لطموحات شارلمان. كتب لويس:" إعادة التجانس لأرض الفرنجة المحصورة بين شبه جزيرتين محتلتين( من المسلمين. م) بدت إضافة لقب ملك الإسبان إلى لقب ملك الفرنجة واللومبارديين كأمر لا يقاوم".
في 778م أعد شارلمان جيشاً من الفرنجة والبافار والبوجاند واللومبارد والسيبتمان وأخرين- بما بلغ عددهم 25 ألف رجل بأسلحتهم- ليبدأ هجومه على هيسبانيا. للمرة الأولي في التاريخ، يخرج جيش مسيحي لغزو عالم الإسلام، وبدعوة وبتحالف مع مسلمين.
أعد عبد الرحمن جيشه ولكنه لم يضطر لاستخدامه. فالحشود الضخمة لشارلمان جعلت حاكم سرقسطة يعيد النظر، فعند وصول الجيوش الفرنجيه هناك، متوقعين أن يكنوا موضع ترحيب، بقيت أبوابها موصدة، أنباء أكثر سواء وردت من أقاصي الشمال؛ فالساكون الذين احتفل بالانتصار عليهم في بادربورن قاموا بالتمرد. وعندما سعي شارلمان للجوء إلى بانبونا مدينة الباسك القديمة ازدراه رفاقه الكاثوليك. وحنقاً، دمر بالنبلونا. في النهاية كانت مدينة مسيحية هي الضحية الرئيس لخطة هجومه على الإمارة المسلمة.
أثناء انسحاب رشالمان عبر البرانس هوجم من الباسكيين الذين لم يكنوا أي مودة الملك الفرنجي الذي خرب مدينتهم؛ وفي أحد الجبال عبر الرونسفال قضي على حراس مؤخرة الجيش الفرنجي، أدرج أينهارد أول كتاب سيرة شارلمان في قائمة القتليى رولان ROLAND أمير" بريتون" الحدودية" هذه الخساره المروعة للمسيحية، لرفاق مسيحيين- كاثوليك فرنجة ذبحوا بواسطة كاثوليك باسكيين. وتحولت بعد ثلاثة قرون في ملحمة أغنيه رولان CHANSONDEROLAND إلى صراع دموي الإسلام والمسيحية.
في الملحمة يري شارلمان مذبحة زهرة فرنسان الفرنجة، ويرمر جيشاً أرسل من الطرف الآخر للعالم الإسلامي. في الواقع، حول شارلمان غصبه الشديد إلى المرتدين الساكسون، فخلال صيف عام 779 أعد جيشاً ضخماً عازماً على حسم تغيير عقيدة الساكسون من الوثنية، في فيردن عام 782م، طبقاً لإينهارد، أشرف شارلمان على ذبح 4500 سجين من الساكسون، وتمت هزيمة جيوش الساكسون في العام785م. هدد شارلمان الذين رفضوا التعميد بعقوبة الموت. في أواخر عام 804م، اقتلع شارلمان عشرة آلاف من المتردين الساكسون من جذورهم ووطنهم في غرب مملكته.
بعد أربعة عقود ونصف في الحكم توفي شارلمان في عام814م. تزامن حكمه مع العشرين عاماً الأخيرة من إمارة عبد الرحمن الأول وشملت ألاثني عشر عاماً لحكم هشام الأول، أيضاً فترة من الثمانية وعشرين عاماً لحكم الحفيد الذي وحد الحكم الأموي.
إن نقاط الضعف بناء دولة شارلمان وضحت عند وفاته، كانت لديه خطط، متبعاً لتقليد فرنجي، بتقسيم المملكة بين أبنائه الثلاثة الشرعيين. ولكن لويس الورع كان الوحيد المتبقي على قيد الحياة عند وفاته. وقادت محاولات لويس لتقسيم الإمبراطورية بين لأبنائه إلى سلاسل من الحروب الأهلية، نتج عنها تفتتا لإمبراطورية شارلمان، تم تخطيطه في معاهدة فيردن عام 843م. تمرزقت الإمبراطورية الفرنجية إلى شرق ووسط وغرب فرانسيا. أصبحت الملكة الشرقية قلب الإمبراطورية الرومانية المقدسة( الجديدة)، وضمت معظم المانيا- الحالية- والمملكة الغربية وضمت قلب فرنسا الحالية، والمملكة الوسطى وضمت بورجندي وإيطاليا الإمبراطورية الفرنجية التي وحدت غرب أوربا للمرة الأولى منذ الرومان.
بنجاح أكبر نسبياً، حافظ خلفاء عبد الرحمن كأمراء لقرطبة على تماسك الأندلس. لكن خلال ثمانينيات القرن التاسع، وأثناء تولي حفيد حفيد ابنه غير الفعال، ضعفت الإمارة بسبب العصيان ومطلب الاستقلال بالحكم الذاتي للأقاليم التي جعلت من سريان أوامره إلى ما هو أبعد من قرطبة يتم بشق الأنفس. وتطلب من أبن الأمير، عبد الرحمن الثالث لتعزيز سلطة الأمويين في شبه الجزيرة ومدها حتى شمال إفريقيا ما يقرب من نصف قرن من 912 حتى 961م، ورسخ من قرطبة كمركز للحكم، مشيداً مجمع قصور" مدينة الزهراء" التي أرهبت كل من زارها من حكام المدن الحدودية، لسفير الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
بعد الهزيمة في الرونسفال لم يعد شارلمان إلى إسبانيا أبداً. وفي عام 798م طلب حاكم برشلونه مساعدة فرنجية للحصول على الاستقلال عن حفيد عبد الرحمن، وأقر شارلمان بحملة تحت قيادة ابنه لويس. وأعيد غزو برشلونه في عام 801م بعد حصار دام عامين، وخلال عام 812م، بعد سلسلة من الحملات الفرنخية، وافق الأمير في قرطبة أن تكون حدوده عند نهر إيبرو EBRO، الذي يمر عبر سرقسطة في الجزء الشمالي الشرقي لشبه الجزيرة. إنهارت الخلافة الأموية في القرن الحادي عشر، وآل الحال بإسبانيا المسلمة إلى خليط من الممالك الصغيرة( الطوائف) حكم العرب بعضها، وبعضها البربر، والسلاف البعض الآخر. في عام 1085م استولى افونسو السادس AlFONSO VI ملك ليون وقشتالة المسيحي على طليطلة. وبخلاف الفرنجة، الذين عرف أفضل منهم كيف يفرض الكاثوليكيه على الشعب بقوة السيف. ولقب نفسه" بملك الديانتين"- يعني الإسلام والمسيحية- ولكنه تسامح مع اليهود أيضاً: فطبيبة، جوزيف نازي فيروزيل JOSEPH NASIFERRUZIEL كان يهودياً. إن روح التعايش التي خلقها العرب ظلت حية من أربعة قرون أخرى للتغلب عليها منذ عهد ملك الديانتين إلى التعصب القاسي المحاكم التفتيش الإسبانية.
اختلف الأمراء البربر- المرابطون والموحدون- الذين سيطروا في نهاية الأمر على قرطبة وإشبيلية وأعادوا تأسيس ولاية مسلمة وحيدة في الثلث الجنوبي من شبه الجزيرة من القرن الحادي عشر حتى القرن الثالث عشر، تماماً عن أسلافهم العرب؛ فالتعصب المتشدد الذي كان يقودهم جعل من المستحيل استمرار قرون الانفتاح الفكري القديمة التي جعلت من إسبانيا الأموية مركزاً للمعرفة الفلسفية والعلمية. وصحيح أن الفيلسوف ابن رشد. المعروف باسم AVERROES في العالم المسيحي. كن يحظى برعاية أول أمراء الموحدين، إلا أنه قبل وفاته بثلاث سنوات، أبعد إلي قرية بالقرب من قرطبة عام 1195م، وأدينت أفكاره الفلسفية من قبل الفقهاء المسلمين المحافظين المسيطرين حينئذ على المجتمع. كابن ميمون MAIMONIDES أكبر مفكري اليهود في الأندلس، الذي اضطرت عائلته لمغادرة قرطبة عام 1148 هرباً من إسبانيا إلى الإسكندرية عن طريق المغرب وفلسطين. ومن غير ابن رشد الذي أسماه الأكويني AQUINAS بالشارح (لأرسطو كما هو مفهوم). ومن دون ابن ميمون، بلاشك- كما يصر لويس- كان التاريخ الفكري لأوروبا سيختلف جذرياً. ودون القرون الأموية، ما كان يمكن تخيل وجود كل من ابن ميمون وابن رشد.
تصاعدت وتيرة غزو إسبانيا من قبل تحالف أمراء الكاثوليك بسرعة كبيرة، والتي أطلقوا عليها حرب الاستعادة، لأنهم اعتبروها بمثابة عودة لقوة الكاثوليكية في سبه جزيرة إيبيريا بعد قرون طويلة من فقدان القوط الغربيين للسيطرة عليها.
في القرن الثالث عشر تخلي الموحدون عن غرناطة كآخر سلالة مسلمة حاكمة في إسبانيا، خلال عقد أصبحت غرناطة ولاية خاضعة لقشتالة الكاثوليكية. وجاءت نهاية الأندلس بخضوع آخر أمرائها عام 1492م لفرديناند FERDINAND ملك أراجون، وإيزابيلا ISABELLA ملكة قشتالة. ومنذ ذلك الحين ولقرابه ثلاثة قرون بعدها، أعاد الصليبيون تحديد مفهوم التباين بين المسمين والمسحيين، محولين بؤرة الصراع باتجاه الشرق.
وانتهي رسمياً التسامح الذي أظهره الفونسو السادس- سلف إيزابيلا- للديانتين اللتين شاركتا إسبانيا مع الكاثوليك لقرون عديدة، فالطرد أو تغيير العقيدة فرضا على كل مسلمي ويهود إيبيريا. أعيد تطبيق نموذج شارلمان كما عرفته أراضي الساكسون مرة أخرى، مع مباركة البابوات.
كان هناك أروبيون قبل أن يكون هناك فرنسيون أو ألمان أو إيطاليون أو إسبان لأنه كان هناك عالم من الممالك في البقايا الغربية من الإمبراطورية الرومانية تربطها الكاثوليكية بروما، والتواريخ التي صنعت فرنسا أو لمانيا وإيطاليا وإسبانيا، ناهيك عن البرتغال وبلجيكا وسويسرا والنمسا أو هولندا تمر جمعيها من خلال إحدى أو كلتا الإمبراطوريتين اللتين صنعهما شارلمان وعب الرحمن. ويكشف" بوتقة الرب" كيف أن العالم الذي ورثناه هو نتاج الهويات خلقت منذ أمد بعيد في أنهار من الدم ونشأت من مذبحة جرت في الغالب فقي نطاق المسيحية أو الإسلام مثلما جزت عند حدودهما.
لكن هناك رسالة مطمئنة فبرغم أن المسيحيين واليهود كانوا خاضعين للمسلمين في الأندلس فقد تمكنوا رغم ذلك من المشاركة في كنوزها الذهنية والمادية متعددة الجوانب. ولو لم تعمل الديانات الثلاث معاً مستعيرة من التقاليد الوثنية لليونان وروما، لكان ما سميه الغرب مختلفاً تماماً عما هو عليه الآن. في عصر يزعم فيه البعض أن الصراع بين ورثة المسيحية وبين ورثه الخلافة هو النزاع المعني، يكون من الأمور الطيبة أن نتذكر هذا التاريخ من التعايش المثير.
في وقت سابق من هذا العام، زرت مركزاً للثقافة المعاصرة في برشلونة ومقره في دير قديم، عند بوابة الدخول كانت مجموعة من الناس ترتدي بحرية ثياب شمال أفريقية، الرجال في جلابيب طويلة، والنساء مغطاة رؤوسهن بمناديل حريرية ويتحدثن بمرح. وكان وجودهم بمثابة تذكير لي بأن مشروع شارلمان لخلق أوروبا كاثوليكية خالصة قد باء بالفشل، وقد بدأ هذا الفشل من الداخل في حركة الإصلاح وساد في التنوير، رغم وجود أسلاف آخرين ورثوا التقاليد الفلسفية التي انتقلت من خلال الأندلس. وبينما الأطفال المسلمون يتقافزون حول آبائهم في مساء ربيعي دفيء، خطر لي أنه في تاريخ مختلف بدون حرب الاستعادة كنت سأتمكن من رؤية أناس عند مداخل آخر يشبهه، ولما كنت قد قرأت" بوتقة الرب" فقد قرت أنه في ذلك التاريخ الآخر لم يكن القطالونيون المسيحيون الذين يتحولون في المكان سيبدو في غير مكانهم. وجهات نظر.