متى تحين لحظة الحوار؟

متى تحين لحظة الحوار؟

الکاتب : د. فهمي جدعان

قبل أن نتحدّث عن صدام الحضارات وتشويه صورة الإسلام، علينا أن نبحث في كيفية استخراج (الإسلام الحضاري)، وألا نحوِّل الدين إلى حركة سياسية، خاصّة إنّه لم يعد البحث – اليوم – في مبدأ إلتقاء العرب والإسلام بالغرب أمراً ملحاً.
ولم يعد من الضروري التوسُّع في عرض الفهوم المتضاربة والتحليلات المعللة للأسباب التي جعلت من داعي (التقابل) أو الصراع فرضية شارحة للعلاقات المتردية على نحو متعاظم بين الطرفين، وهل يرجع ذلك إلى ذاكرة تاريخية تحمل إرثاً صدامياً نكداً؟ أم إلى التناظر الديني الإسلامي – المسيحي؟ أم إلى دافع الهيمنة السياسية والإقتصادية للرأسمالية الظافرة ومشتقاتها؟ أم إلى غياب العدالة في الحسابات الدولية؟ أم إلى (مؤامرة) تنظم خيوطها لتدمير العالم الإسلامي، لخوف طاغ من قوّة (إسلام سياسي) راديكالي صاعد؟ أم إلى توطين دولة إسرائيل في بقعة عزيزة من أرض العرب والإسلام؟ أم إلى نزعة المسلمين (الإستعلائية) وجنوحهم إلى التحدِّي والتحقير ودعوى امتلاك (البديل الحتمي) للحضارة الغربية ونعتهم لهذه الحضارة وقيمها (الديمقراطية والإنسانية) بالقيم المرذولة الضالة المتخلِّفة الفاسدة؟ أم إلى مجرد (حسد وغيرة) بإزاء رفاهية الغرب وتقدمه وانتظام أحواله.. أم إلى هذا كلّه جملة وتفصيلاً؟
فقد فعل الحدث المذهل الذي نجم يوم الحادي عشر من شهر سبتمبر من العام 2001 فعله، وتمثل قطاع واسع من الوعي الغربي الحدث بما هو مظهر لصراع حضاري بين الغرب والإسلام، مصدقاً الدعوى التي ابتدعها برنارد لويس وشهر بها آخرون، حتى بلغت شدّة الحال في المخيال الغربي مداها الأقصى في ذهاب بعض (المحرضين) إلى حدود التصريح بأنّ (الإرهاب الإسلامي) يمد جذوره في النص القرآني نفسه.
وبرغم ما عبّر عنه قادة الغرب السياسيون وحكماؤه من أن (أولى حروب القرن) ليست حرباً على الإسلام والمسلمين وأنّ المسألة ليست مسألة (صراع حضاري) بين الغرب والإسلام، فإنّ وعياً (شقياً) ينتشر هنا وهناك ويصور الأمر على أنّه كذلك، وهو في حقيقة الأمر يريده كذلك. وثمرة ذلك كلّه أزمة عميقة مربكة تجسّدت، هنا وهناك، في فقدان الثقة وفي الخوف والحذر والتربص والكراهية. وهي جميعاً هواجس مدمرة. وإذا لم تتوجّه الأنظار والبصائر والأفعال إلى تبديدها وإلى إقصاء الدواعي التي تبعث عليها، على نحو عقلاني حكيم سديد، فإنّ وعود المستقبل ستكون بائسة بكل تأكيد.
ذلك مطلب أقصى لحسن توجيه المستقبل، وبه أعني ردّ الأمور إلى نصابها وإنفاذ سياسات عملية تجعل العلاقات الآمنة لا إغراءات المجابهة والإقتلاع هي الآمرة الحاكمة.
بيد أنّ هذا المطلب يحتم مراجعة مطلب آخر هو مطلب أوّل، ألا وهو رؤية الأمور على حقيقتها وتبين الحدود الواقعية للعلاقات بين الفضاءات المتقابلة أو المتداخلة.
والحقيقة أنّ واقع الأمور يوجه على نحو لاريب فيه إلى الإعتقاد بأنّ قوّة (القيمة) وقوّة (الغايات) هما القوّتان اللتان تحكمان العلاقة بين العرب والإسلام من جهة والغرب من جهة أخرى، وأنّ الظفر الحاسم الذي أحرزه الغرب غداة عصر النهضة، إذ حوّل طبيعة غائية المعرفة فوضعها في (القوة والسيطرة على الطبيعة) بعد أن كانت معرفة (تأملية) مجردة من المنفعة، على طريقة فلاسفة الإغريق، هو الذي وجّه الأمور إلى ما أفضت إليه في القرن العشرين ومطالع القرن الواحد والعشرين. وهذان الوجهان من الظاهرة، أعني قوّة (القيمة) وقوّة (الغايات) هما اللذان حملتهما رياح الغرب الحديث إلى العالم كلّه.
و(القيمة) المقصودة هنا هي على وجه التحديد (الحرِّيّة) بتجلياتها الأساسية: السياسية والفكرية والإعتقادية والإقتصادية. ومنها اشتقت أو بها تعلقت قيم العقلانية والموضوعية والمساواة والعدالة والديمقراطية والمنفعة والرفاهية والخير العام.. وحقوق الإنسان. وهي القيم التي تمثل اليوم ماهية الثقافة الغربية وروحها، وتدعيها لنفسها ظاهرة (العولمة)، التي هي كما يصرح (جيدنز) ثمرة من ثمرات الحداثة.
بيد أنّ (ثقافة القيمة) المتمثلة في ثلة المعاني الكبرى التي تقوم عليها حضارة الغرب المعاصر وثقافته ليست هي وحدها التي تحملها رياح الغرب الجديدة لجملة العوالم البشرية المنتشرة على وجه الكوكب الأرضي في مطلع هذا القرن. فثمة بكل تأكيد وجه آخر لحضارة الغرب المعاصر، هو الوجه المتمثل في (غايات) كونية ذات طابع نفعي خالص مشتق من الفلسفة الأداتية الفردانية التي تستند إليها طبيعة هذه الحضارة. والنفعية الفردانية سمة جوهرية للظاهرة الرأسمالية ومابعد الرأسمالية نفسها. وهي ذات طبيعة وعائية محددة: المنافسة والمنفعة. وهذان مبدآن لا يستقيمان إلا بفاعل الصراع – الآمن أو غير الآمن – والظفر المنشود فيما يفضي إلى نتيجة قاطعة هي طلب الإنتشار القسري والهيمنة، الهيمنة الإقتصادية والهيمنة السياسية، إذ هما قرينان لا يفترقان مثلما أنّ السياسي لا ينفصل أبداً عن الإقتصادي.
كيف تتمثل الفضاءات العربية والإسلامية هذين المظهرين للقوّة؟ وما طبيعة (التقابل) الشاخص الآن؟ وما أنجع الطرق وأجداها من أجل إدراك فضاء إنساني هنا وهناك، وعلى وجه أخص من أجل إعادة بناء الثقة وتبديل الخوف؟
ولا يخفى على أحد أنّ عالم العرب والإسلام قد شهد منذ مطلع القرن التاسع عشر حركة تنويرية بلغت ذراها في أواسط القرن العشرين. ولا يخفى على أحد كذلك، أنّ الحداثة الغربية قد وجهت على نحو بالغ العمق للثقافة العربية والإسلامية خلال هذه الفترة المتطاولة، وأنّ جهد التركيب المضني بين الحداثة من جهة والتراث والتقليد من جهة ثانية كان هو الهاجس الأساسي للعصر العربي (الليبرالي). ولعل أحد آثار الحداثة في فكر النهضة ما بدا لأهله من أنّ قيم الحداثة ليست غريبة عن التراث العربي الإسلامي، إذ قوبلت جملة هذه القيم بما يقابلها من المصطلحات العربية الثاوية أو البارزة في التراث: الحرِّيّة، والمساواة، والعدالة، والأخوة والكرامة الإنسانية.. وذلك حين كانت الإحالة تتم إلى قيم الحداثة المتمثلة في مبادئ الثورة الفرنسية، أو الشورى والمصلحة حين كانت الإحالة تتم إلى مفاهيم الديمقراطية والخير العام ودولة الرعاية. وقد يسّر التوافر (اللغوي) لقيم الحداثة في المصطلح العربي والإسلامي، فضلاً عن الدلالات الظاهرية لهذه القيم، السبيل إلى قبولها وانتشارها في الفضاءات العربية والإسلامية، ولم يتم التخلي عن هذا الإتجاه، المتناغم مع اتجاه الحداثة، إلا غداة نجوم الحركة السلفية السياسية المعاصرة في العقد الثالث من القرن العشرين، حيث تفاوت الموقف منه في أوساط هذه الحركة بين النظر المشروط والنقدي والرفض المتعالي أو (الإستعلائي).
والغالب الأعم أنّ هذه القيم، قيم الحداثة، هي ذات أصول أو (شبه أصول) في التراث الإسلامي، وأنّ بعض قطاعات الثقافة العربية والإسلامية يحفل بها. بيد أنّ جميع القرائن النظرية والعملية تشير إلى أنّ هذه القيم لا تحمل دوماً الدلالات نفسها التي تحملها في الثقافة الغربية. ومن شأن بعض الدلالات التي يحملها بعض هذه القيم في الفضاء الغربي أن يعاظم من سوء التفاهم والفهم بين عالم العرب والإسلام وعالم الغرب. وفي الحالات التي تتطابق فيها المعاني، تخضع هذه القيم في الآفاق والفضاءات العربية والإسلامية لعملية (تحديد) أو (تقييد) أو (تضييق) أو (محاصرة) لحدودها. ويتعلق هذا الأمر على وجه الخصوص بكبرى قيم الحداثة الغربية، قيمة الحرِّيّة.
ومع ذلك، فلابدّ من القول إنّ شيئاً من (التقييد) يحدث أيضاً في الفضاءات الغربية نفسها، إذ لا يطلق جميع مفكِّري الغرب وفلاسفته قيم الحرِّيّة أو الديمقراطية أو العدالة بالمعاني نفسها أو بالحدود نفسها، والمسيحية القارة في أعماق الغرب لا تأذن دوماً لهذه القيم بأن تذهب بعيداً وشططاً في معانيها. غير أنّنا نستطيع مع ذلك، إذا ما وجهنا بصرنا وجهة الفضاءات العربية الإسلامية المستحدثة، أن نشهد على وجه العموم تقارباً فعلياً بين تمثلات القيم فيها وتمثلاتها في الفضاء العام والمتنوع للحضارة الغربية. وثمة تشوف لديها لهذه القيم وإقرار بها، بما هي حقائق شرعية ثابتة أو بما هي مطالب إنسانية طبيعية، ويظل التمثل (الديني) في الصيغة التي تجسِّدها الحركات الدينية – السياسية السلفية والمتصلبة هو التمثل الذي ينأى بنفسه صراحة عن هذه القيم ويناصبها عداء متفاوت المعاني والأبعاد، إذ هو لا يجد أي وجه للمقاربة الإيجابية بين فضاءي القيم، ولا يتبين بين العالمين إلا وجوه التضاد والتناقض وأسباب الإفتراق والتباعد، بحيث يمكن اختزال رؤيته للمسألة في الإعتقاد بأنّ (المعنى هنا) يفارق تمام المفارقة (المعنى هناك)، وأن لا مكان لإلتقاء الطرفين على الإطلاق.
ويتعلق بهذا الوجه أن علينا أن نقر بأنه إذا كانت إحدى نتائج الحداثة الغربية إفراز ظاهرة العولمة على الصعيد الكوني، فإن إحدى نتائج الحداثة في الفضاءات العربية والإسلامية ابتداع ظاهرة (الإسلام السياسي) الراديكالي وإنفاذ عملية قسمة جوهرية في حسم (الدين الإسلامي) تمّ فيها فرز إسلامين اثنين، إن لم نتكلم مع الوزير الفرنسي جان بيير شوفينمان عن (إسلامات) عدّة. إسلام الأوّل منهما (الإسلام التاريخي الحضاري)، والثاني منهما (الإسلام المتعالي). الأوّل يتعلق بجملة من المبادئ الإعتقادية والقيم الإجتماعية والثقافية والإنسانية التي تنشد الخير الأرضي والأخروي للفرد والمجتمع والإنسانية في إطار من الحرِّيّة والعدالة والكرامة والمساواة والسلم والتفاهم والأمن، وأتباعه هم الأغلبية اساحقة من أهل الإسلام. والثاني يتعلق برؤية متعالية للإسلام – وبعضهم يقول: إستعلائية – الأصل فيها أنّ الإيمان العملي يفرض القسمة (الخارجية) القديمة للدار البشرية، إلى (دار إسلام) وأمان و(دار كفر) وحرب، وأنّ العلاقة بينهما هي علاقة صدامية.
أمّا (القيم المدنية) المشتركة بين الإسلام والحداثة الغربية وحضارتها، فإنّ أتباع هذه الرؤية لا يأبهون بها، ويعتبرون أنّها فرع ملتو للمسألة لا أصل لها. وبكل تأكيد فإنّ هؤلاء، وهم يمثلون الحركات الدينية – السياسية المتصلبة، أقلية لا ترى فيها المجتمعات العربية والإسلامية ومؤسساتها الدينية والمدنية والسياسية خصيصة (تمثيلية) لعالم العرب والإسلام.
ويخلص ممّا مرّ أنّ ثلّة القيم والمعاني التي تقبل بها القطاعات التمثيلية الأكثرية في الفضاء العربي الإسلامي: كالحرِّيّة، والعقلانية، والعدالة، والديمقراطية، والخير العام.. يمكن أن تقلص المسافة بين هذا الفضاء وفضاء الحداثة. وهذا لا يعني أبداً أنّ الفكر العربي والإسلامي مطالب بالإستسلام للمعاني والتحديدات نفسها التي تحملها هذه القيم في تلك الآفاق – فذلك كما قلت غير متوافر أصلاً فيها هي نفسها – وإنّما يعني أنّ أسباب التفاهم ودواعي الحوار وآليات التواصل تصبح، وفقاً لهذا الفهم، حقيقة واقعية واعدة. وهاهنا يمكن القول إنّ القوى الثقافية التي تنتسب إلى (الإسلام الحضاري) والفكر القومي، والتيارات المجتمعية الإنسانية، والعلمانية، والليبرالية – تستطيع أن تكوِّن موقفاً عاماً مشتركاً في أمر عدد من القيم الأساسية، وأن تنهض بمهمة إشاعة هذه القيم والدفاع عنها، وأن تقدم، بها، (صورة) أخرى لعالم العرب والإسلام تحرره ممّا علق به من صور واشكال منفرة وتنأى به عن طريق القطيعة الجذرية مع عالم الحداثة وتجنبه أسباب المجابهة والمقاتلة والصدام المدمر، وتسهم في تشكيل عالم آمن محلياً وكونياً.
نوّهت في مطلع هذا القول بأن ريح الغرب الهجوم لا تحمل إلى الفضاءات العربية والإسلامية (ثقافة القيمة) فحسب، وإنّما هي تحمل إليها – خاصة في هذه العقود الأخيرة – (غايات) الحداثة الجديدة، وهي مرتبطة بتحرير التجارة وبالتوسع الرأسمالي العالي، وبإقتصاد السوق الحر. ومن مشتقاتها القوة التقنية والعسكرية. وليس يغيب عن البال أنّ الحركة الإستعمارية (الكلاسيكية) والبحث عن الثروات في (الشرق) وإخضاع البلدان الشرقية لسيطرة الغرب (الحديث) ونشر الحضارة الغربية والقيم الغربية في البلدان المستعمرة، هي جميعاً من ثمارة الحداثة.
والتحول – اليوم – إلى اقتصاد السوق ونشر واقعة العولمة وفرضها على كل أجزاء المعمورة، كل ذلك ليس إلا استمراراً لهذه الحداثة. وسواء أكانت الغاية (تغريب العالم) أم (توحيده)، فإنّ كل شيء يفرض ضرباً من السيطرة والهيمنة الإقتصادية والسياسية.
وإذا كانت فضاءاتنا قد ورثت أو تبنت بشكل أو بآخر معاني قيم الحداثة أو قدراً جليلاً منها، وكان في مكنتها، بفضل ذلك، أن تتفاعل مع الغرب الحديث وتضاهيه على سبيل الحوار والتفاهم والتمثل والتكيف والتواصل الآمن، فإنّ هذه الفضاءات لا تكاد تمتلك شيئاً من هذا الضرب الآخر من (القوّة)، قوّة (الغايات). وما تملكه ليس خالصاً لها في جميع الأحوال. وبادئ الرأي هو أنّها لن تكون، على المدى المنظور، إلا أسواقاً وأجواء مفتوحة لأذرع هذه القوّة، وأنّ الهوة المادية بين العالمين ستتعاظم، وإنّ المشاكل الإجتماعية والإقتصادية والسياسية ستزداد تأزماً وضيقاً وحرجاً وتفاقماً. وبالطبع، سيزداد الوضع حرجاً منذ وقائع سبتمبر المشهورة التي تتفاعل أحداثها وتتعاظم مخاطرها وتلقي بظلالها المكفهرة على أحوال المستقبل، وذلك، على وجه التحديد، بعد أن تمّ إشهار حرب طويلة على (الإرهاب).
وعلينا هاهنا أن نشدد على الإعتقاد بأن حملة الغرب اليوم على (الإرهاب) ليست تجسيداً لصراع (حضاري) بين الغرب والإسلام، أو بين المسيحية والإسلام.
وبالطبع، أنا لا أغفل أبداً أن بعضنا يراها كذلك، وبعضهم يراها كذلك أيضاً. ولأقل بعبارة أخرى: بعضنا يريدها كذلك، وبعضهم يريدها كذلك ايضاً. فالقطاع البشري من المسلمين الذي أظهر عطفاً على (أفغانستان الإسلامية) البائسة فعل ذلك لدواع إنسانية، ومن باب التعاطف الروحي، لا لأنّه راض عن تنظيم القاعدة أو عن ايديولوجية طالبان الراديكالية، أو أنّ ذلك كان من باب عطف (المغلوب المقهور) الغاضب على (المتغلب) السادر في تنكبه عن طريق العدل والعدالة وعن أداء دوره الكوني في إنقاذ قواعد هذا الطريق في مناطق أخرى تحتقر فيها هذه القيم.
أمّا الإجماع الإسلامي الأغلبي، فقد انعقد على إدانة العملية الإرهابية وشجبها شجباً قاطعاً. ومعنى ذلك أنّ (الحامل البشري) لما يُسمّى في الإصطلاح (الحضارة الإسلامية)، بما هي عقائد وأفكار وقيم ومبدعات أدبية ومادية ومواقف ونظرة شاملة إلى العالم، ينأى بنفسه وبحضارته نأياً صريحاً عمّا جرى وعمّا يجري. والغرب نفسه، خلا نفر محدود منه، يعلم ذلك حق العلم. فما هو إذن المسوغ الحقيقي للريح الهجوم الجديدة التي يراد لها أن تكون طويلة ممتدة، وكيف يمكن أن ننأى بعالمي الغرب والإسلام عن ارتكاساتها وآثارها (الجانبية) أو (العميقة) ونأذن للتفاهم والتواد والعلاقات المشتركة الآمنة بأن تكون، في المستقبل، هي المقوّمة المؤسسة الحاكمة لهذه الشبكة علاقات التواصل والتفاعل والعمل الإنساني الآمن المقصود؟
لست أشك أبداً في أنّ هاجس (الخوف) و(آمر الردع) هما المسوغان لهذه الأزمة. الخوف من ماذا؟ الخوف من تعاظم قوى سياسية أيديولوجية كامنة معادية للغرب وقادرة، هنا أو هناك، على اجتياز الحكم في هذا البلد أو ذاك، وعلى التزود بأسلحة مدمرة من شأنها أن تشكل خطراً حقيقياً على حاضر الغرب ومستقبله. ويكتسب هذا الوضع خطورة أعظم إذا ما نجم في فضاء بشري وجغرافي واسع يحمل طاقات ديموغرافية وطبيعية واقتصادية هائلة.. كالعالم العربي.. أو الإسلامي.. أو الفضاء الصيني. بالطبع، هناك هواجس الكرامة والهيبة السياسية وإعادة تعزيز (تقدير الذات) لدى القوّى العظمى، فضلاً عن اعتبارات الثأر والإنتقام وغير ذلك. لكن الأصل هو الخوف الإستراتيجي. وهذا الخوف يتطلّب ردّاً ردعياً قوياً، هو الحرب القصوى، وملاحقة جميع (البؤر) المحلية والإقليمية والدولية التي يمكن أن توجد فيها أو تتشكّل فيها قوى معادية تمثل، على المدى القريب أو البعيد، خطراً حقيقياً. ومن الطبيعي أن تكون هذه إحدى الوظائف الأساسية للدولة، إن لم تكن الوظيفة الأولى المطلقة، وبخاصة حين تكون الدولة هي (القوّة العظمى) الوحيدة، صاحبة السيطرة والهيمنة الكونية المطلقة، المتطلعة على الدوام وبشكل متعاظم إلى (قيادة العالم).
ولقد بات واضحاً منذ عدّة عقود أنّ العالم العربي والإسلامي لا يخلو من هذه (البؤر) المعادية للغرب وحضارته، وذلك في صورة الحركات الدينية – السياسية التي تجعل إقامة الدولة الإسلامية غاية قصوى وقصداً أوّل لها، وتصرِّح بأنّ المسلمين هم وحدهم المؤهلون لـ (قيادة العالم)، وبأنّ الإسلام هو (البديل الحتمي) للأنظمة السياسية والإجتماعية المحلية القائمة في بلاد الإسلام من جهة، ولحضارة الغرب وقيمها من جهة أخرى – سواء بسواء – وهو الطريق الوحيد لإنقاذ (البشرية الضالة)، وتختار من أجل إنفاذ هذه الغائية نهج (المقاتلة) والجهاد المادي العنيف.
وليس هاهنا موضع تعليل هذا النهج وبيان وجوهه، كما أنّه ليس هاهنا موضع التفصيل في علاقات هذه الحركات بالأنظمة والمجتمعات العربية والإسلامية القائمة ولا الإبانة عن سياسات بعض العواصم الغربية في منح قادة هذه الحركات الملاحقين سياسياً وقضائياً في ديارهم الأصلية، حق الحماية واللجوء السياسي والرعاية على أراضيها. وإنّما الذي يتعيّن التنويه به هو أنّ هذه الحركات تمثل، في الوعي السياسي الغربي، بؤراً قابلة لتحويل البلدان التي توجد فيها إلى مناطق تمثل خطراً حقيقياً على مصالح الغرب وغائياته، فضلاً عن وجوده، أي بحسب المصطلح السائر: حضارة الغرب. وهذا، في تقدير الغرب، ما حدث في أفغانستان على وجه التحديد حيث أمكن لـ(المشتبه الأوّل) و(قاعدته) وفقاً للفرضية، أن يبدل طبيعة النظام الذي ابتدعه الغرب نفسه وعززه من أجل مقاتلة السوفييت، بحيث يصبح نظاماً يتحمّل عبء المسؤولية عن أفظع عدوان يصيب (صمام الأمان) وقلب الولايات المتحدة خلال تاريخها كله.
ليست المسألة مسألة صدام حضاري على وجه التحقيق، وإنّما هي مسألة عوارض تاريخية ذات مخاطر وجودية وصدام مصالح وغايات، تبعث على الخوف وتتطلّب الردع. تكمن مصلحة الغرب في حماية السيطرة الكاملة على جميع (الأغيار). وفي عالم تسوده المنافسة والمنفعة وطلب الظفر، تفعل هواجس الخوف وفقدان الثقة والحذر والريبة والخطر دوراً حاسماً في توجيه الفعل. وبالطبع، تتدخل العوامل الأخرى التي ألمعت إليها في مطلع هذا القول، بما هي عوامل قويّة مساعدة، لتعزز الأزمة أو تسوغها أو ترفع من وتيرتها وتحرض عليها. إنّ المسالة الغربية – الإسلامية الحالية لا تخرج عن هذا المنظور. والمستقبل رهين بجملة السياسات المشخصة التي يتعيّن على كل طرف إنفاذها ورعاية أحكامها، في سبيل إرادة عالم إنساني آمن مشترك.
ما الذي يتعيّن على عالم العرب والإسلام قوله وفعله قبالة جملة الأحوال المستحدثة هذه؟ وما الذي يُنتظر من الغرب، حامل ألوية الحداثة الجديدة، أن يدركه ويراجع وجوهه وينفذه، للمستقبل؟
لا يخفى على أحد أنّ عصر النهضة العربي والزمن الحالي قد عبرا، على وجه العموم، عن استجابة تكيفية وتمثيلية عالية لقيم الحداثة الفكرية والإجتماعية والسياسية. ومن الطبيعي ألا تستجيب جميع قطاعات الثقافة والمجتمع للظاهرة بالقدر نفسه وبالكيفية نفسها، إذ يظل للثقافات الوطنية والقومية خصوصيتها وأحكامها. وقيم الحداثة نفسها قيم متحولة متبدلة غير نهائية. وكل أحد يعلم أن لكل حداثة (ما بعدها)، لذا لا مناص من أن تنأى فرق هنا وفرق هناك عن (الخط) وتأخذ بمسار مباين بقدر أو بإطلاق أو بشبه إطلاق. وهذا هو حال بعض القطاع الثقافي (الديني). لكن من الواضح أنّ عالم العرب والإسلام لا يملك من المسوغات الوجيهة ما يجعله ينأى بنفسه عن ثلة أساسية من القيم المدنية التي يتطلبها العيش عيشاً (طبيعياً) كريماً في العالم الحديث.
فالحرِّيّة والعدالة والديمقراطية الإجتماعية والخير العام والمواطنة والعقلانية وغيرها لا يمكن أن تكون مطالب أساسية للفرد والمجتمع في هذا العالم. ومن أجل إنفاذها يتعين أن تتضافر جملة القوى الثقافية والإجتماعية والسياسية فتعمل على إشاعتها وتجذيرها في المجتمع ومؤسساته لتصبح (صورة) لهذا المجتمع وللعالم الذي تنتمي إليه، (صورة) تضاهي (الصور) التي تجسد خطو العصر وتشوفاته. وليس يتحتم ذلك انصياعاً ضعيفاً لإرادة الحضارة الغربية وأحكامها، وإنّما لأنّ هذه القيم، على النحو الذي تنتهي إليه الصياغة في ضوء الوقائع والمعطيات والتطلعات الثقافية النوعية الخاصة، تحمل في ذاتها مسوغات وجودها ودواعي طلبها، وهي التي تأذن بتحولات عميقة في أحوال الواقع المشخصة.
ويتعلق بهذه المسألة تحرير (الروح الإسلامية)، في مستوياتها المتباينة من عقدة (الخوف من الحداثة) وقيمها الإنسانية العليا. والذي ينبغي أن يكون بيناً هنا أنّ (الحداثة) لا تعني، ضرورة وحتماً، التحلل، التحلل من (الإعتقاد الديني) بكل أشكاله الممكنة. لا شك في أنّ بعض تيارات الحداثة يريد ذلك ويتعلق به تعلقاً وثوقياً. لكن البعض يظل هو البعض. وفي فضاء عربي وإسلامي ليس ثمة ما يمنع من الجمع بين اعتقاد ديني مستنير وبين القيم المدنية العليا التي تضعها الحداثة عنواناً لها: الحرِّيّة، الديمقراطية، العدالة... إلخ.
والإختلاف في الفهم هنا حق مشروع، لكن الخوف من هذه القيم ليس مشروعاً، ولا يجوز أن يزعم أحد أنّ (الإسلام يخاف من الحداثة).
وممّا يترتّب على التحرُّر من عقدة الخوف من الحداثة، في المقام الأوّل، طلب الديمقراطية مقدمة لغيرها من القيم الإنسانية العليا. وتشير جميع القرائن والمعطيات في المجالات الإجتماعية – الثقافية المخصوصة في عوالم الإسلام إلى أنّ نموذج (الديمقراطية الإجتماعية)، من بين نماذج الديمقراطية جميعاً، هو الذي يستجيب بشكل أنسب وانجع للتطلعات التمثيلية في هذه العوالم. وبكل تأكيد، سيكون من شأن إنفاذ هذا النموذج وتجذيره وإشاعته إحداث قطيعة حقيقية مع إحدى ركائز التخلف في عالم الإسلام، ووضع هذا العالم على طريق التقدم والتواصل مع العالم الحديث.
ويحتاج المسلمون إلى تجاوز عقدة (الإختلاف) أو (الإفتراق العقيدي) التي تشكو منها مناطق حرجة من عالم الإسلام. ولابدّ من بذل جهود (إجتهادية) حقيقية وعميقة من أجل هذا التجاوز، إذ ليس مقبولاً أبداً أن يقول (أمير المهاجرين) إلى بلد من بلدان الغرب في إحدى شبكات التلفزة واسعة الإنتشار أن (شهادة الشيعي في السني شهادة مجروحة)!
وقد بات أمراً خارقاً للعقل أن يحيا المسلمون في القرن الخامس عشر للهجرة المشكلة السياسية – الدينية نفسها التي خبروها بقسوة مريرة مطلع القرن الأوّل لهذه الهجرة.
وأقل ما يمكن أن يقال اليوم في أمر تجاوز هذا الإفتراق هو أن يدرك المسلمون أنّ البديل الممكن للعزوف عن (العلمانية السياسية) حلاً لهذه المشكلة، هو التعلق بمبدأ (حق الإختلاف) بما هو، على الأقل، واحد من حقوق الإنسان الطبيعية، وبالإنصياع للإرادة التمثيلية والنهج الديمقراطي الآمن. وبذلك يكون (حضورهم) الكوني قبالة المجال الغربي داعياً إلى التقدير والإحترام ومبدأ لضغط الهوة وإنفاذ التواصل الإيجابي.
ويتعيّن عليهم أن يدركوا أنّ عالم الحداثة الجديدة لا يأذن لهم أبداً بأن يقسموا الكون إلى عالمين أو (فسطاطين) متقابلين على سبيل الصدام والمواجهة والمقاتلة: (عالم الإيمان) و(عالم للكفر)، وأنّ الإسلام نفسه لا يدعوهم أبداً إلى مثل هذه (التهلكة)، وأنّ (التجربة التاريخية) الإسلامية نفسها لم تقبل أبداً هذه (النظرية). ويتعلق بذلك أن تقديم (دين الإسلام) في صورة (البديل الحتمي) الكوني لكل العقائد والديانات والحضارات، وإطلاق أحكام قيمية (مرذولة) على ثقافات (الأغيار) وحضاراتهم ومعتقداتهم، ممّا يشي في أعين هؤلاء الأغيار بموقف (عدواني صريح)، لا يمكن أن يترتب عليهما إلا أحوال (التقابل) و(المواجهة) و(الصدا)، ومعركة (البدائل) التي لا ترحم. وبالطبع، سيقول كل الأغيار، والغرب في مقدمتهم، "لا... نحن البديل... ونحن قادة العالم..."، والتجربة أعظم شاهد على ذلك.
وإذا شاء المسلمون أن ترد لدين الإسلام صورته الحقيقية الطيبة، كونياً، في الغرب وعند الأغيار الآخرين، فإنّه يلزمهم التعلق تعلقاً مطلقاً، نظراً وعملاً وقولاً، بصيغة (الإسلام الحضاري) وتأكيد القول إنّ ما يُسمِّيه الغرب (الإسلام السياسي) ليس إلا إفرازاً زمنياً عارضاً لعالم غاضب محتقن متفجر بسبب شروط وأوضاع تتطلب الدراسة والبحث والعلاج، وإنّ الإسلام في طبيعته وماهيته دين حضاري آمن رحيم. وممّا يتعلق بهذه المسألة تعلقاً جوهرياً أنّ على المسلمين أن يحذروا كل الحذر من الوقوع في فخ تحويل دين الإسلام إلى مجرد (حركة سياسية) متفردة تقارب الأمور المحلية والكونية مقاربة (سياسية) وتُقدِّم الإسلام للعالم بما هو (أيديولوجية سياسية) أوّلاً وقبل كل شيء، لأن محصل مثل هذا (التحويل) سيتكثف في واقعتين خطيرتين: أولاهما تجريد دين الإسلام من ماهيته الأصلية وتعريته من سمة (القداسة الدينية)، وثانيتهما معاملته محلياً وكونياً بما هو (حركة سياسية) دنيوية فحسب يجري عليها ما جرى على الحركات الأيديولوجية الراديكالية في الغرب، حيث تمّ استئصالها أو اقتلاعها أو تدميرها.
ويقضي (الإسلام الحضاري) بأن يتنكب (الدعاة) المسلمون والعاملون للإسلام عن كل قول أو فعل يحمل أي قدر من الإساءة إلى مواطنيهم (المسيحيين) أو (النصارى)، إذ لهؤلاء الحقوق نفسها والواجبات نفسها التي لهم. ودين الإسلام لا يسمح بأي أذى أو عدوان يلحق بأي منهم. وما حدث في إحدى الكنائس في إحدى المدن الباكستانية من اعتداء على المصلين غداة أحداث الحادي عشر من سبتمبر أمر يندى له جبين الإسلام نفسه. ولا يجوز للدولة، سواء أكانت تنسب نفسها إلى الإسلام أم لا تنسب نفسها إليه، أن تتهاون في هذا الأمر بأي حال من الأحوال. وكل تحريض أو تعريض أو تشهير في هذا الشأن ينبغي أن يخضع للملاحقة القانونية والجزائية الصارمة.
أمّا المسلمون الذين اختاروا (الهجرة) و(الإقامة) في بلاد الغرب، فمن واجبهم أن يحيوا وفق قوانين هذه البلدان وأنظمتها أو أن يعودوا إلى بلدانهم الأصلية لا أن يشبهوا أنفسهم بأصحاب رسول الله (ص) الذين طلبوا ملاذاً ووجدوه عند نجاشي الحبشة، فضلاً عن أن هؤلاء لم يناصبوا (دولة الحبشة) العداء والمقاتلة مثلما يريد أن يفعل (أمير المهاجرين) ومثلها فعل غيره في حق البلد الذي رضي بإقامتهم فيه.
وفي أمر الإنتشار الرأسمالي العولمي والمشكل الإقتصادي – السياسي وغائية الهيمنة السياسية والإقتصادية، في الآن الحاضر وعلى المدى المنظور، يتحتم على كل فضاء من الفضاءات العربية الإسلامية أن يراجع مشكلاته الخاصة العميقة وأن يرقى بأوضاعه السياسية والإقتصادية والتنموية مستنداً في ذلك إلى استراتيجيات معمقة يتوافر على تصميمها ونفاذها مختصون تتوافر فيهم أقصى مزايا الكفاية والخبرة والنزاهة.
وما الذي يحكم به، من جانب الغرب، هذا (الترابط) الداخلي والكوني بين وقائع عالم الإسلام وبين وقائع عالم الغرب وقواه الإجتماعية والثقافية والسياسية؟
لست أشك، أوّلاً، في أنّ الغرب، سواء أتمثل في القوة الأمريكية وحدها أم فيها وفي القوة الأوروبية كليهما، يدرك أنه لا يستطيع، على المدى البعيد، أن ينفذ بتعال فوق طبيعي وخارق سياسات محلية وإقليمية وكونية غائياتها مطلق الهيمنة الإقتصادية والسياسية المتفردة، وأن يغض الطرف، فوق ذلك وفي الوقت نفسه، عن المشكلات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي تقض مضاجع الشعوب، والتي ثبت الآن ثبوتاً قطعياً أن احتقارها والإستهانة بها لا ينجم عنهما إلا التمرُّد والصدام والعنف. ويقع أمر إنفاذ قواعد العدل والعدالة ومتطلباتها في المركز من هذه المشكلات.
والغرب مدعو، ثانياً إلى ألا يرى صورة الإسلام (من خلال) الصورة الزمنية الطارئة التي شكّلها الفعل العنيف في (دار الإسلام) نفسها قبل (دار الغرب) – للحركات السياسية الدينية المتصلبة. وردّ الأمور إلى نصابها الطبيعي يتطلب من جانب العقل الغربي إنفاذ عملية فك ارتباط قطعية بين (الإسلام الحضاري) – وهو فضاء إنساني رحيم بغير حدود، وهو الأكثري الأغلبي – وبين ما يُسمِّيه الإعلام الغربي بـ(الإسلام السياسي)، وهو إفراز زمني عارض كان للغرب نفسه يد طولى في نشأته وتطوره وفعله فضلاً عن (استخدامه)، وهو الأقلي على كل حال. ومن واجب الغرب، تبعاً لهذا التمييز، أن يوجه فعله مع عالم العرب والإسلام وفقاً لصورة الإسلام الحضاري الإنساني وغائياته لا وفقاً لحال الإسلام الغاضب المحبط. ويتعلق بهذا الوجه من الأمر أنّه ليس يجدر بالغرب بسبب هذا (الإسلام السياسي) العارض أن يحوّل (دين الإسلام) في جملته إلى مجرد (حركة سياسية) يجري عليها ما يجريه على كل الحركات السياسية الزمنية، ويجرد (دين الإسلام) بذلك من قداسته الدينية والروحية ومن سمته (الحضارية) الرفيعة، تمهيداً لإقتلاعه (تحت ذريعة النزعة العدوانية المتأصلة في الإسلام السياسي).
وتفرض (العقلانية) الغربية أن يظل لمبدأ (العلية) مكانته الخاصة في النظر وفي الفعل الغربيين. وهذا يعني أنّ الغرب مدعو، في فعله في المجال الإسلامي، إلى أن يتبين (العلل) التي تحرك عوالم الإسلام وتجعل العلائق بينه وبين الغرب علائق مشوبة بالشك والحذر والخوف وفقدان الثقة. فثمة ثلة من القضايا (المعلقة) والوجوه والأسباب القوية الملحة التي تكمن وراء حال هذه العلائق ويتعين على الغرب تقييمها وأخذها في الحسبان الشديد. وليس من (الحكمة العملية) أن يستهان مثلاً بمشكلات التنمية والعدالة والإستبداد وغيرها، وأن يستأثر (الفعل البرجماتي) بكل المجال، أو أن تهرأ العقلانية الأداتية أو الذرائعية من العقلانية الموضوعية ومبادئها الفلسفية وقيمها الإنسانية العليا، مادامت حقوق الإنسان والشعوب والحرِّيّة والعدالة وغيرها من القيم العليا والمبادئ قد باتت هي القيم التي تطلبها (الثقافة الكونية) وتسعى إلى إشاعتها أو فرضها. ويلحق بهذا أنّه يتعين على الغرب أن يعدل عن سياساته المزودجة في دعم النظم الإستبدادية في العالم الإسلامي وفي تحقير هذا العالم والتهوين من قدره وقيمه بسبب سيادة هذه النظم نفسها في بعض أجزائه.
ويتعلق بهذا الوجه من الإعتبار أيضاً أن يقدِّر الغرب أنّ (المسألة الفلسطينية) ليست آخر المسائل في مشكل (الغرب – الإسلام)، وإنّما هي صدر المسائل الكبرى العالقة.
وإذا لم يتدخل الغرب تدخلاً مباشراً نافذاً لحل (الصراع) حلاً عادلاً منصفاً، فإنّ إحدى بؤر التوتر الكبرى ستظل مبدأ للصدام والعنف ولن تتوقف دوامة الصراع العنيف أبداً وسيظل (سوء الفهم) قائماً والتفاهم عسيراً.
ومن وجوه إعادة بناء الثقة وتبديد أسباب الخوف والريبة المتبادلة وإرساء قواعد مستقبل مشترك آمن، ألا يشجع الغرب أو يدعم الحركات الطائفية أو الإنصافية أو التفكيكية السياسية في العالم العربي والإسلامي (الجزائر، السودان، مصر، العراق، لبنان، سوريا، اندونيسيا...)، وأن يظل أميناً على القيمة العليا التي تدعو إليها الحداثة الجديدة، وهي قيمة (التعددية الثقافية)، لا أن يحرص على إنفاذ الرغبة (السياسية) في التفكيك العرقي أو القومي أو المذهبي أو الطائفي استيفاءً لمتطلبات الهيمنة وإضعافاً لخصم متوهم.
وبكل تأكيد ثمة وجوه أخرى لمشكل (الإسلام – الغرب)، لكن هذه الوجوه التي مررت عليها في هذا القول تبدو لي، في سياق الأزمة الراهنة، أكثر إلحاحاً من غيرها وأجدر بالتقديم. وليس يخالجني الشك في أنّها قد تبدو، في بعض وجوهها، من باب طلب (ما لا يطاق)، وممّا يتعذّر إنفاذه على الوجه المقصود، لأنّه إذا كان هذا الإنفاذ من الصعوبة بمكان عظيم، فذلك لأنّ المشكل نفسه يحمل من الصعوبات والتعقيدات والإختلاطات وعظائم الأشياء والعناصر ما يجعل الأمور على هذا النحو، ويرتب على كل فواعل الأزمة إفراغ الوسع من أجل إدراك القصور، كلّه أو بعضه.

المصدر: كتاب العربي/ العدد 49/ سنة 2002
 الكاتب مفكِّر من الأردن

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك