بواعث النهضة وإستراتيجيتها في الفكر الإسلامي والغربي
بواعث النهضة وإستراتيجيتها في الفكر الإسلامي والغربي
إعداد: أ.د/ حسن بن محمد شباله - أستاذ الحديث والتفسير جامعة إب
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فبالرغم من الهزائم التي منيت بها الأمة الإسلامية على مدى القرون الماضية إلا أن الاستعلاء لا يزال حاضراً في نفوس كثير من المسلمين.
وهذا يعني أننا أمة لن تموت وأننا لسنا صحراء مقفرة إنما نحن حقول وأراضي خصبه تحتاج فقط إلى من يبذر فيها، وما نشاهده اليوم من الغليان والتحول نحو النهوض يدل على ذلك.
فالعالم الإسلامي اليوم تعج ساحته بكثير من الحركات والتجمعات والأفراد الذين يعملون لإحداث نهضة إسلاميه حقيقية في مجتمعاتهم ولاشك أن لديهم جميعاً بواعث ودوافع للمشاركة في إحداث التغير والنهوض بأمتهم.
فما هي هذه البواعث والدوافع العامة التي أطلقت مشروع النهضة في الأمة؟ وما هي استراتيجيه النهضة التي تطمح في الوصول إليها؟
هذا ما سنجيب عليه بإيجاز في هذه الورقة مع مقارنة هذه البواعث وتلك الاستراتيجيات بالفكر الغربي.
تعريف البواعث:
قبل ذكر البواعث لابد من تعريفها لغة، واصطلاحاً:
البواعث لغة: "تحدث معجم اللغة عن مادة بعث، فقال ابن فارس: بعث، الباء والعين والتاء أصل واحد، وهو الإثارة" [معجم اللغة 1/266].
وقال ابن سيده: "انبعث الشيء وتبعَّث: اندفع" [المحكم والمحيط الأعظم: 1/234].
وانبعث في السير أي: "أسرع، وبعثه من نومه بعثاً: أيقظه وأهبه، وبعث الجند يبعثهم بعثاً: وجههم، وانبعث فلان لشأنه: إذا ثار ومضى ذاهباً لقضاء حاجته" [لسان العرب: 2/116].
من خلال ما سبق يتضح لنا أن البواعث: جمع باعث، والباعث هو: الدافع والموجه والمثير والموقظ.
إذاً فالبواعث اصطلاحاً: " هي الدوافع الموجه والمثيرة والموقظة للإنسان لفعل شيء معين مقنع به، والبواعث أمور خفية محلها القلب" [تفسير الرازي 8/ 12].
ولذلك يعاني بعض العاملين في مشروع نهضة الأمة اليوم من عدم القدرة على توضيح هذه البواعث وشرحها للآخرين، مع إيمانهم بوجودها وشعورهم بآثارها في نفوسهم وأعمالهم.
أولاً: بواعث النهضة في الفكر الإسلامي والفكر الغربي
1- كمال الدين الإسلامي وشموله:
إن قناعتنا بكمال الدين الإسلامي كما في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ} [المادة:3[، وشموله كما في قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، يدفعنا إلى العمل والسعي لرقي هذه الأمة ونهضتها حيث تدعونا نصوص القرآن إلى عمارة الأرض وإصلاحها، كما قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:16].
والاستعمار معناه: التمكين والتسليط كما هو واضح من قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الأعراف:10].
بل عمارة الأرض والانتفاع بما خلق الله فيها هو من مقتضيات الاستخلاف العام للناس في الأرض كما قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فالله استخلف البشر في الأرض بقصد عمارة الكون وإنمائه واستغلال كنوزه وثرواته، والمسلمون عليهم تنفيذ أمر الله في ذلك وفق مراده سبحانه وتعالى.
إن امتلاك الأمة المسلمة للقيم السماوية السليمة، التي لم يداخلها تحريف، ولا تبديل، إلى جانب امتلاكها أنموذج الاقتداء والتجسيد، والعطاء لهذه القيم، الذي استوعب جميع الأحوال التي تمر بها الأمة، من سقوط ونهوض، واستضعاف وتمكين، ودعوة ودولة، على مستوى الفرد، والمجتمع والأمة والدولة الذي سيكون دليلها في كل حالة تمر بها، هو من أهم عوامل الإمكان والارتكاز الحضاري.
فالإسلام دين شامل، وقد ظهرت هذه الشمولية واضحة جليَّة في عطاء الإسلام الحضاري، فهو يشمل كل جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، كما أن الإسلام يشمل كل متطلبات الإنسان الروحية والعقلية والبدنية، فالحضارة الإسلامية تشمل الأرض ومن عليها إلى يوم القيامة؛ لأنها حضارة القرآن الذي تعهَّد الله بحفظه إلى يوم القيامة، وليست جامدة متحجرة، بل ترعى كل فكرة، أو وسيلة تساعد على النهوض بالبشر، وتيسر لهم أمور حياتهم، ما دامت تلك الوسيلة لا تخالف قواعد الإسلام وأسسه التي قام عليها.
إن الدين المنزل الحق المحفوظ من التبديل لا يمكن أن يعوق البشرية عن مصالحها، من تفكير صحيح وإنتاج مفيد، إنما الذي يعوقها هو الدين المحرف، وهذا فرق ما بين الإسلام والنصرانية في هذه القضية.
فالدين الكنسي المحرف والناقص كان عامل هدم وضعف لمقدرات الناس في الغرب وحجر عثرة في طريق النهوض والرقي مما دفع كثير منهم إلى محاربته والخروج عنه، وفصل الحياة عن الدين وظهور ما يسمى بالعلمانية بشقيها الشرقي الملحد والغربي الذي جعل الدين علاقة خاصة للإنسان بمعبوده لا أثر له في حياة البشرية وعمارة الأرض ورقيها، ولم يتقدم الغرب إلا بعد أن نجح في التخلص من معوق الفكر الكنسي المحرف، وكان احتكاكهم بالمسلمين دافعاً لمثل هذه الثورة، تعلموا فيه إنسانية الإنسان، وزرع فيهم الأمل لاسترداد تلك الإنسانية، التي فقدوها مع حكم الإقطاع والكنيسة، وعقلاء الغرب ومفكروه يشهدون بفضل المسلمين على أوربا في النهضة الحديثة، تقول الألمانية مؤلفة كتاب: "شمس العرب تسطع على الغرب" ص14: "إن هذا الكتاب يرغب أن يفي العرب دَيناً استحق منذ زمن بعيد".
وإذا كان من أهم أسباب تقدم الغرب هو التخلص من الدين المحرف وإزاحته من طريق التفكير، فإنه على العكس من ذلك، قد كان من أهم أسباب تأخر المسلمين هو ضعفهم في أخذهم دينهم بقوة، كما أمر الله تعالى: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف:171]، فلما كان المسلمون يقبضون على دينهم تقدموا، فلما تركوه تخلفوا، ولما كان النصارى يتبعون دينا محرفا تخلفوا، ولما تركوه تقدموا.
2- سعة مفهوم العبادة والعمل الصالح وشمولهما في الإسلام:
جعل الإسلام مفهوم العبادة شاملاً لكل حركات وسكنات المسلم إذا كانت مما يحبه الله تعالى واشمل تعريف لها: "أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنه" [العبودية لابن تيمية: ص1].
ومن ثم يتجلى لنا أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني ووظيفة الإنسان الأولى أوسع وأشمل من مجرد الشعائر التعبدية وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعاً وأن حقيقة العبادة تشمل أمرين:
الأول: "استقرار معنى العبودية في النفس، والشعور بأن هناك رباً وعبداً. رباً يُعبَد وعبداً يَعبُد".
الثاني: "هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة، التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله" [في ظلال القرآن 7/28].
أما مفهوم العمل الصالح في الإسلام، فإنه يشمل كل ما كان مشروعاً ونافعاً، سواء كان نفعه قاصراً على الإنسان نفسه أو متعدياً إلى غيره، بل حث الإسلام على الإحسان وتقديم الخير للناس مما جعل الإنسان يعيش متحفزاً لفعل الخير إيجابياً في حياته، ومشاركاً في عمارة الأرض ساعياً في نهضتها وتقدمها.
3- العقيدة الصحيحة والتصور السليم للكون والحياة:
إن للعقيدة الصحيحة أثر عظيم في اندفاع المسلم نحو النهوض بالأمة، فالعقيدة الإسلامية ليست مجرد قضايا فلسفية يعتنقها الإنسان ثم لا تؤثر فيه أو تدفعه إلى العمل، "فطبيعة هذا الدين ترفض اختزال المعارف الباردة في ثلاجات الأذهان الجامدة" [التصور الإسلامي: 24]، بل من شأنها أن تنشئ لدى المسلم تصوراً واضحاً للحياة.
فالحياة في التصور الإسلامي ليست إلهاً كما أن الطبيعة ليست إلهاً، إنما الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وهذه الحياة مقدرة أقواتها في بنية الأرض، والإنسان مخلوق خاص مكرم على الله مستخلف في الأرض، وخلافة هذا الكائن في الأرض مشروطة ومقيدة بعهد الله وميثاقه، بحيث يستقيم على منهجه وشرعه وتخلص عبوديته لله، هذا التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان يجعل الإنسان يعيش في هذا الكون فاعلاً مؤثراً متحركاً يؤدي هذه الوظيفة معلناً أن غاية الحياة للإنسان كلها عبادة الله تعالى والمساهمة في عمارة الأرض ونهضتها.
أين هذا من التصور الغربي للكون والحياة والإنسان الذي يجعل الإنسان إلهاً، والهوى إلهاً، والمادة إلهاً، والإنتاج إلهاً، والجنس إلهاً، فأي اندفاع للإنتاج والعمل فهو لإشباع الرغبة والشهوة وليس نابعاً عن سمو النفس وقناعتها.
4- المبشرات الشرعية لهذه الأمة بالنصر والتمكين:
ونقصد بها ما بشرَّنا به ربنا جل في علاه، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم في آيات وأحاديث تبشر هذه الأمة بالغلبة والنصر والتمكين، فمن المبشرات قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8-9]، وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173]، وكتاب الله مليء بمثل هذه المبشرات التي تبعث الأمل في النفوس.
ومن المبشرات في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار» [رواه أحمد والنسائي]، وقوله: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها» [رواه مسلم]، وغيرها كثير من الأحاديث التي تبشر الأمة بالنهضة والتقدم، وتبعث الأنس والطمأنينة في النفوس لتألف نظرة مشرقة متفائلة، تعيد للإنسان الأمل وتزرع في النفس اليقين بنصر الأمة ونهضتها من جديد.
5- التحديات الكبرى:
إن عملية استنهاض طاقات أمة من الأمم تصبح في بعض الأحيان مسألة فنية تقنية، يعكف عليها العلماء والمفكرون، حتى يوجدوا تحدياً مناسباً لمجتمع من المجتمعات. ونحن في واقعنا لا نحتاج خلق التحديات. فالتحديات قائمة في مجتمعاتنا وفي مواجهتنا ومن هذه التحديات:
أ) التخلف:
تعيش الأمة الإسلامية منذ عدة قرون حالة من التخلف والركود، تنخر جسدها عدة أمراض كالجهل، والفقر، مع أنها تمتلك الكثير من مقومات النهضة، فلديها المنهج الذي ارتضاه الله لخلقه، والثروات الطبيعية، والكنوز المعدنية، والقدرات البشرية الهائلة.
وهنا يتولد سؤال في أذهان الغيورين من أبناء هذه الأمة، لماذا نرضى بالتخلف ولدينا مقومات النهضة؟!
الأمر الذي يعطي دافعاً قوياً وباعثاً مستمراً في نفوس العقلاء للبحث عن حلول لمشكلاتهم، فإن التحدي يوقظ الحس، ويلهب المشاعر، ويذكي الروح، ويجمِّع الطاقات النفسية والمادية لتبدأ عملية النهضة من جديد، ولعل هذه الحالة شبيهة بالحالة التي كانت يعيشها المجتمع الغربي قبل نهضته الصناعية، والتي كانت في الدوافع لنهضته.
ب) الاحتلال (الاستعمار):
كان التخلف الذي تعيشه الأمة منذ عدة قرون سبباً من أسباب طمع أعدائها في احتلالها ونهب ثرواتها، لكن هذا الاحتلال الذي وقع على كثير من البلدان الإسلامية كان عاملاً من عوامل اليقظة لدى شعوبها، ودافعاً من دوافع التحرير لبلدانها، فقامت الثورات وتحررت البلدان من المحتل العسكري في كثير من بلدانها، وبقيت بعض الدول كفلسطين والعراق وأفغانستان تحت الاحتلال، ومع أن الاحتلال مصيبة عظمى نزلت بالمسلمين إلا أن في رحمها شيء من المنح ومن أهمها شحذ همم المسلمين وإيقاظهم من سباتهم العميق طلباً لتحرير البلاد وطرد المحتلين منها.
ج) الهيمنة الغربية والتبعية للغرب:
سبق وأن قلنا أن بعض الدول الإسلامية تحررت من الاحتلال العسكري، لكنها لم تتحرر من التبعية للمحتل، فقد زرع الغرب في دول الإسلام من يحمل الولاء الكامل له، وليس فيه أدنى ولاء لبلده وأهله، فهو وطني في الظاهر، لكنه مستغرب، من بني الجلدة، لكنه غربي الهوى، ليس له قصد إلا إلحاق الأمة بالغرب، ولو كان في ذلك تحطيمها في قوتها واقتصادها وأخلاقها.. فهذه الفئة تسعى دائما لإضعاف الأمة، وضمان تفوق الغرب.
إن كثيراً من النخب التي تتولى شؤون الأمة اليوم تدين بالولاء والتبعية للغرب الذي رباها وهيئ لها ظروف العمل في بلدانها، فإذا لم يُكتب التحرر الكلي للأمة حساً ومعنى، فسيظل هذا العبء على كاهل الأمة تحاول التخلص منه يوماً بعد يوم، مما يولد لديها شعور دائم بأهمية التحرر والاستقلال.
وترجع الهيمنة الغربية، والتبعية المطلقة من أمتنا للغرب إلى غياب "الهوية الإسلامية"، وتزييف وعي الأمة الإسلامية، وضعف إرادة التحدي في نفوس أفرادها، وحب أكثرهم للدنيا وقعودهم عن الجهاد.. ويوم أن نري عنف التحديات الغربية لأمتنا سيُحدث ذلك بإذن الله نهضة إسلامية واستنفاراً للطاقات والقوى، وحشداً للإمكانات المتاحة في الأمة لتحقيق المشروع الحضاري الإسلامي واستعادة دور الأمة الإسلامية الحضاري في قيادة البشرية.
د) تفرق الأمة وتمزقها:
"لم يخرج الاستعمار من بلاد المسلمين حتى مزق الأمة إلى دويلات ووطنيات وقوميات متناحرة, ووضع لها حدوداً مصطنعة، أصبحت فيما بعد قنابل موقوتة تنفجر بين الحين والآخر، وانشغلت الدول والحكومات بتكريس هذا التمزق فظلت الشعوب المسلمة تتوق إلى الوحدة الإسلامية، والعودة إلى العيش في ضلال الدولة الإسلامية الكبرى التي انصهرت فيها كل القوميات والوطنيات، وأصبح هذا هاجساً في نفوس المسلمين؛ لأن في وحدتهم نهضتهم وتقدمهم ورقيهم، خاصة وهم يرون أعداءهم يسعون إلى الاتحاد مع قوتهم واختلاف أديانهم، أليس الأولى بالضعفاء الذين يجمعهم دين واحد أن يتحدوا لتكون لهم القوة والعزة والمنعة؟!
هذه التحديات والشدائد وغيرها التي تعاني منها الأمة اليوم تفتح لنا دروباً للرقي والتقدم والعمل قد لا نجدها في حالة اليسر، وإذا عمقنا النظر في تاريخ البشرية وجدنا أنها كانت تتقدم عن طريق الأزمات والشدائد أكثر من تقدمها عن طريق الرخاء وسهولة الحياة.
وكل مرادي من هذا أن نحاول تأسيس عقلية المواجهة للصعوبات، وأن نطرد روح الاستخذاء والهزيمة التي تسيطر على كثير من الناس بمجرد أن يجدوا أنفسهم وسط صعوبات شديدة. لو أن نبينا -عليه الصلاة والسلام- استسلم للضغوط الشديدة والمغريات الكبيرة التي لاقاها في مكة إذاً لوئدت الدعوة في مهدها، ولكن صلابته الشديدة واستمساكه المطلق بمبادئه وصبره المنقطع النظير على البلاء فتح له ولهذه الأمة أبواباً من الخير ستستمر إن شاء الله تعالى إلى يوم القيامة" [مقالات د.عبد الكريم بكار1/272].
6- سقوط الرايات وفشل الدعوات المخالفة للإسلام في حل مشكلات الأمة:
بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1924م وظهور عصر الدويلات والقوميات وحركات التحرر في كثير من بلدان العربية والإسلامية رُفعت رايات للنهوض بالمجتمع المسلم كالاشتراكية والقومية والرأسمالية.. وغيرها من الرايات، وصفقت الجماهير لها وانتظرت ثمارها عقوداً من الزمن فلم تجد فيها إلا الثمار المرة ومزيداً من الشقاء والتخلف والانحطاط، فاقتنع المسلمون بفشل هذه الدعوات عن تحقيق النهضة للأمة، وبدءوا يتململون بل ويثورون عليها كما هو مشاهد اليوم في عدة بلدان عربية.
مما جعل الأمة تعود إلى الثقة بدينها وتبحث عن عوامل النهوض في هذا الدين.
ثانياً: إستراتيجية النهضة في الفكر الإسلامي والفكر الغربي
هناك جانبان للحديث عن إستراتيجية النهضة في الفكر الإسلامي، احدهما نظري والآخر عملي.
أولاً: الجانب النظري
والمقصود به: الأسس النظرية التي تنطلق منها إستراتيجية النهضة في الفكر الإسلامي، ويفتقدها الفكر الغربي، ومنها:
1- العبودية لله سبحانه وتعالى وحده:
عندما يتحدث المسلم عن خطط للنهوض بالأمة، يجب أن يستصحب معه الغاية الأولى لخلق الإنسان، ووظيفته في هذه الحياة، وأن أي نهضة يجب أن تقوم على العقيدة الصحيحة وكمال العبودية لله سبحانه وتعالى، فالكون كله عبد لله مسخر لعبادة الله سبحانه، فيجب على الإنسان أن لا يشذ عن هذا الكون وأن تكون أعماله كلها منضوية ضمن إطار العبودية الكاملة لله سبحانه وتعالى؛ فيقوم بعمارة الأرض على الوجه الذي أراده الله سبحانه.
أما في الفكر الغربي، فقد قامت النهضة الغربية على عبودية غير الله تعالى، بل جعلت الإنتاج والعمل والمال هو الإله المعبود.
2- الشمول والتوازن:
يجب أن تكون النهضة الإسلامية شاملة لجوانب الحياة بشقيها المعنوي والحسي، فتشمل العمل للدين والعمل للدنيا، وتشمل نهضة الفكر والسلوك والروح، وتشمل المجموع البشري كله فرداً كان أو جماعة، هذا الشمول لابد أن يكون أيضاً متوازناً بحيث لا يطغى فيه جانب على جانب، فلا يهمل الإنسان الآخرة على حساب الدنيا ولا يهمل الدنيا ويترك عمارتها، بل يعمل على وفق قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، فالأصل الجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، بل إن العمل للدنيا هو في نفس الوقت عمل للآخرة إذا أخلص الإنسان النية.
في الوقت الذي فشلت فيه النهضة الغربية حيث فقدت الشمول والتوازن في كل ما ذكر أعلاه وعملت على الانفصام النكد بين الدنيا والآخرة، والفرد والجماعة، والروح والجسد، فأقامت حضارة مادية مفلسة في باب القيم والأخلاق والمفاهيم والتصورات.
3- التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب:
إن التوكل على الله سبحانه لا ينافي الأخذ بالأسباب، لذلك فإن من مميزات إستراتيجية النهضة الإسلامية الجمع بين هذين الأمرين، فمع العمل والجد والاجتهاد؛ يفوض المسلم أمره إلى الله ويستصحب توفيقه له، ويعترف بفضله عليه في كل ما فعل، فتغمره الطمأنينة والسعادة.
بينما الحضارة الغربية أخذت بالأسباب المادية واعتمدت على القدرات البشرية، فأنتجت تقدماً مادياً مصحوباً بالشقاء والقلق والاضطراب والأمراض العصبية والانتحار والضياع، كل ذلك لفقده للطمأنينة التي يجدها المسلم بالتوكل على الله سبحانه.
4- معرفة حقيقة التاريخ الإسلامي المشرق:
يمثل التاريخ الإسلامي حقبة زمنية ذهبية نهضت فيها الأمة وفتحت القلوب قبل البلدان وصعدت إلى قمة الحضارة في وقت كانت أوربا تعيش في غياهب الظلام.
إن قراءة تاريخ الأمة المسلمة وتقليب صفحاته خاصة في العصور الأولى مما يريح الصدر ويسعد النفس، ولاشك أن في الأمة كبوات وآلام إلا أن الأمة الحية تنهض من كبوتها وتتجاوز آلامها بل تكون هذه الآلام باعثاً لها على الكفاح والنهوض، وتغيير مسار التاريخ من جديد لتستعيد مجدها وعزها.
إذاً: فمعرفة حقيقة تاريخ الأمة هو وسيلة من وسائل النهوض بالأمة.
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر.
5- فهم السنن الربانية:
القرآن الكريم مليء بالحديث عن السنن الكونية والنواميس الاجتماعية، التي جعلها الله تعالى جاريةً في حياة الناس أفراداً ومجتمعات.
إن المسلم إذا عرف هذه السنن، استطاع أن يقرأ المستقبل من خلال الواقع، كما أن الإنسان يعرف أن النتائج لها أسباب، فإذا وجد الأسباب تلمس نتائجها من ورائها بناءً على السنن والنواميس التي وضعها الله تعالى في هذا الكون، وفي تلك المجتمعات، وبينها لنا أتم بيان في القرآن الكريم، وهي ثابتة لا تتغير قال تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]، وقال تعالى: {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 77]. فنحن المسلمين نملك من إمكانيات دراسة المستقبل والنواميس والسنن الكونية التي نجدها في القرآن الكريم والسنة النبوية، الشيء الكثير فهذا يدفعنا الى العمل وفق سنن الله تعالى ونستشرف المستقل الذي وعدنا الله به، بخلاف الغربيين الذي يفتقدون هذه المصادر المعصومة.
ثانياً: الجانب العملي
والمقصود به الخطوات العملية التي يجب إتباعها للنهوض بالأمة ومنها:
1- الإيمان بالتغيير والتفاؤل بالتمكين:
لقد كانت خطوة هذا الدين الأولي في سبيل إحياء الأمة ونهضتها هي الإيمان بالتغيير، تغيير لما بالأنفس من الأفكار والثقافات والقيم الخاطئة بكل موروثاتها، إلي الإسلام بكل قيمه ومبادئه العظيمة.
حيث لم يكتف أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم بالالتفاف حول صاحب الدعوة، بل جاهدوا أنفسهم حتى تتغير وتتلاءم وطبيعة هذه الدعوة، وكان نطق الواحد منهم بالشهادتين بمثابة ولادة جديدة له، فكان علي أعتاب الدخول في الإسلام، يخلع عنه كل ماضيه ليرتدي حلة الإسلام، التي تصوغ نفسه صياغة ربانيه.
وبمثل هذا التغيير الذي حدث في نفوس المسلمين الأوائل، حصل التغيير الحضاري، الذي لم تشهد البشرية مثيلاً له، لا قبله ولا بعده، والسبب أن هذا التغيير يساير السنة التي فطر الله عليها أمور خلقه، والتي بينتها الآية الكريمة في قول الله تعالي: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فعندما تغيرت تلك النفوس بالإيمان، غيّر الله ما بها من جاهلية، وخلّصها من ربقة القبلية الضيقة الشقية إلي آفاق الأمة الموحدة المتكاملة.
إن التغيير ليس هدية تُعطي، ولا غنيمة تُغْتصب، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بتغيير ما بالأنفس، فهما متلازمان، ولا يتغيّر واقع الأمة إلا بتغير ما بأنفس أفرادها.
2- العمل بروح الفريق الواحد:
لا يستطيع الأفراد كـ (أفراد) تقديم أيّ عطاء حضاري أو حمل أية رسالة، إلا حين يتمتعون بروح الجماعة ويعملون بروح الفريق.. فروح الفريق، هي الدعامة الأساسية في حمل رسالة الأمة، والعمل الجماعي هو أهم ضمانات النجاح وتحقيق الأهداف، والأمة التي تسير خطوات أفرادها بروح الفريق والجماعة، هي الأمة الجديرة بالريادة البشرية.
إن روح الفريق الواحد توحد الأفكار والممارسات العملية من أجل تحقيق رسالة الأمة.
ومن هنا كانت الأمة التي تسير خطوات أفرادها بروح الفريق ويسود أعمالهم التعاون والتكامل، هي الأمة الجديرة بالريادة البشرية.
ولقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرعيل الأول من المسلمين على روح الجماعة وذكرهم بالمسؤولية الجماعية عن أمر هذا الدين، فكان وصفه صلى الله عليه وسلم لدين الإسلام بالسفينة السائرة في البحر، يحاول المفسدون خرقها وإغراق أهلها، وكانت وصيته للمسلمين جميعاً بأن طريق نجاتهم إنما هو الأخذ على أيدي المفسدين كما في صحيح البخاري، قال صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» [أخرجه البخاري].
وإذاً: فالمسؤولية عن هذا الدين هي مسؤولية أمة المسلمين في مواجهة أمة الكافرين، وكما أن الكفار لا يمارسون كفرهم وإفسادهم فرادى، وإنما يوالي بعضهم بعضاً، فكذلك يجب أن يمارس المسلمون إسلامهم مجتمعين وأن يواجهوا الكفر بالأمة المتعاونة المتناصرة، ويوقنوا أنه إذا لم تقم أمة الإيمان بهذا الواجب، فسوف تتولى أمة الكفر قيادة البشرية، وإذا حدث ذلك كان الفساد الكبير، في ميادين الحياة.
ومن هنا فإن المسلمين في أمس الحاجة إلى من يعيدهم إلى العمل بروح الأمة وقيم الولاء للفكرة الإسلامية.
وإذاً: فقد صار الفقه الجماعي، والبحث الجماعي، والتطبيق الجماعي، والإنتاج الجماعي، ضرورة من ضرورات الحياة الإسلامية التي تجعل في محور قيمها أن يد الله مع الجماعة، وتحقيقاً في ذات الوقت لتقدم الأمة الإسلامية والنهوض بها.
3- العمل وفق سنة التدرج:
إن من السنن المهمة في فقه التمكين فهم سنة التدرج، ومراعاة تدرج الأمة من السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب، ومن الهدف القريب إلى الهدف البعيد، ومن الخطة الجزئية إلى الخطة الكلية.
فليس صحيحاً أن هذه الأمة التي قضت الآن عشرات السنين في تخلف مرير، وهي تعتمد على عدوها في كل شيء، ليس صحيحاً أنها ستتحول بين عشية وضحاها إلى أمة قوية راسخة ممكَّنة تستطيع أن تستغني عن عدوها، بل وتهدد عدوها في عقر داره.
هذا خيالٌ ولا يجب أن يشطح بنا الخيال، فالتدرج سنةٌ إلهية يجب أن توضع بعين الاعتبار، لكن التدرج يبدأ بخطوة، فالأمة الإسلامية التي تتطلع اليوم إلى تمكين الله تعالى لها لابد أن تراعي في عملها سنة التدرج، فما هدم في أعوام لا يمكن أن يبنى في أيام، فعليها أن تتبنى سياسة النفس الطويل والصبر الجميل، فتصبر على البذرة حتى تنبت، وعلى النبتة حتى تورق، وعلى الورقة حتى تزهر، وعلى الزهرة حتى تثمر، وعلى الثمرة حتى تنضج، وتؤتي أكلها بإذن ربها.
4- الفاعلية والحرص على الوقت:
الفاعلية هي: قوة في النفس تستوجب الحرص على النفع وترك العجز، لذلك يحض الإسلام المؤمنين علي التسارع الحضاري عملاً وانجازاً وإبداعاً مسئولاً، ويعلن رفضه للكسل والقعود والاتكال، وبهذا التحديد يكون المؤمن الحق هو الذي يعرف كيف يسارع وكيف يسبق؟
إن حلبة الصراع الحضاري تفرض علي الأمة الإسلامية منطق الفاعلية، ولن تستطيع الأمة الإسلامية أن تستعيد مكانها وسط الأمم التي تصنع التاريخ وتقود البشرية إلا إذا تحرر أفرادها من جميع ضروب العطالة التي توقف الجهد، ومن سائر أعذار البطالة التي تبرر العجز والكسل.
5- السعي لإقامة مراكز البحوث:
إقامة مراكز بحوث متخصصة في دراسة أساليب النهضة المعاصرة والاستفادة من كل معطيات العصر، وإقامة منهج معرفي وثقافي يستوعب معطيات الزمان والمكان والشعوب والأمم، فالإسلام يصهر معارف وثقافات الآخرين في بوتقة النقد والتمحيص.. فيرضى بقبول الحسن النافع وينهى عن قبول القبيح الضار.
خاصة أن مراكز البحوث والمعلومات أصبحت جزءاً لا يتجزأ من نواتج الحضارة، ولوازمها، وأصبحت وسيلتها الفاعلة، في إدارة الصراع والحوار الحضاري.
المصدر: منبر علماء اليمن