التنوير العربي بين كماشتين: غلاة الصهيونية وغلاة الأصوليّة

التنوير العربي بين كماشتين

غلاة الصهيونية وغلاة الأصوليّة

بقلم: هاشم صالح

عندما سألوا كانط في الربع الأخير من القرن الثامن عشر: هل نحن مستنيرون؟ هل نحن نعيش في عصر مستنير حقا؟ أجاب بما معناه: لا ولكننا نعيش في عصر تنبثق في الأنوار من عدة جهات وتنتشر تدريجيا. لقد كتب هذا الكلام عام 1984 أي في أوج القرن الثامن عشر المدعو بعصر التنوير الكبير. لماذا قال ذلك؟ لأنه كان يعرف أن التنوير لا يزال محصورا بأقلية ضيقة أو بنخبة مثقفة استطاعت بعد جهد جهيد أن تخرج من وصاية رجل الدين أو الكاهن المسيحي. أما عامة الشعب التي لا تستطيع أن تستخدم عقلها أو تفكر بنفسها فكانت لا تزال خاضعة للأصوليّين وتتشرب مواعظهم وكأنه كلام منزل أو معصوم تماما كما تفعل الآن جماهير المسلمين مع الشيخ يوسف القرضاوي على قناة الجزيرة أو كلام بقية الشيوخ من سنة وشيعة في الجوامع وبقية الفضائيات. ولو سألنا أحدهم الآن: هل يعيش العالم العربي أو الإسلامي فترة تنوير؟ أي لو طرح علينا نفس السؤال الذي طرح على كانط قبل مائتي سنة أو أكثر لربما ترددنا في الجواب ولكنا أقل تفاؤلا منه. فنحن لسنا فقط لا نعيش مرحلة تنويرية وإنما نغوص في عكسها: أي في الظلامية والأصوليّة. بالطبع هناك نخبة مثقفة مستنيرة عندنا مثلما كان عليه الحال لدى الألمان والفرنسيين ومعظم شعوب أوروبا الغربية في عصر كانط.ولكن المشكلة هي ان الهجمة الأصوليّة شرسة جدا من ناحية، ثم إن المثقفين العرب المستنيرين عاجزون عن نقد الدين بشكل فلسفي كما كان يفعل كانط أو ليسنغ من قبله أو فولتير أو جان جاك روسو آو ديدرو وبقية الموسوعيين هذا ناهيك عن المفكرين الذين جاؤوا بعدهم في القرنين التاسع عشر والعشرين. بل إن بعضهم يقول لنا بان الإسلام لا يشكل مشكلة على عكس المسيحية لأنه لا كهنوت في الإسلام ولا تعصب ولا محاكم تفتيش ولا من يحزنون..! وبالتالي فعن أي شيء تتحدثون يا هؤلاء؟ مم تشتكون؟ لا توجد أي مشكلة عندنا من هذه الناحية.. ثم يردفون: لولا التدخل الغربي لما استيقظت المشكلة الأصوليّة ولظلت نائمة لعن الله من أيقظها..كلام قصير النظر وغير مسؤول على الإطلاق. كلام لا يستحق حتى مجرد الرد. انه ليس كلام مثقفين يريدون أن يشمروا عن سواعدهم ويتحملوا مسؤولية الواقع العربي الإسلامي ومشاكله المتراكمة منذ قرون. لقد أعجبت بكلام جورج طرابيشي عن هذه النقطة عندما قال في كتابه الجميل الأخير "هرطقات ثانية" ما نصه:



"إن قضية العلمانية في العالم العربي ليست فقط قضية مسيحية- إسلامية كما يطيب لخصوم العلمانية تصويرها بل هي أيضا وربما أساسا قضية إسلامية- إسلامية. ولعلنا نستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن تركيز خصوم العلمانية على البعد الأقلّوي المسيحي لإشكالية العلمانية في العالم العربي إنما يخفي مثله مثل كل منطوق بهم مسكوتا عنه هو أعظم خطورة وفداحة بعد ونعني به بعدها الطائفي الإسلامي. وقد كان لا بد من كارثة الاحتلال الأميركي للعراق حتى ينفجر ذلك المسكوت عنه بكل القوة التي لا مناص من أن ينفجر بها المكبوت الذي طال كبته. ومع ذلك فان آلية الدفاع الساذجة المتمثلة بتعليق أمراض الذات على مشجب الغير سارعت إلى الاشتغال هنا أيضا لكي تعزو انفجار "الفتنة" الطائفية في عراق اليوم إلى التدخل الأمريكي. ونحن لا نماري في دور هذا التدخل. ولكنننا نحده فقط بكشف الغطاء عن مرجل المكبوت الذي لا نتردد في القول وكما سنثبت حالا بأنه لا يفتأ يغلي منذ أكثر من ألف سنة" ص 11.



لا أعتقد أن هناك كلاما أوضح من هذا الكلام في وصف الحالة الراهنة في العراق وغير العراق. وسوف أعود إلى كتاب طرابيشي لاحقا في وقفة خاصة مطولة. انه يلخص الوضع برمته في كلمات قلائل محبوكة السبك، بليغة اللفظ. وبالتالي كفوا أيها الأصدقاء عن إلقاء مسؤولية المشاكل العربية على الآخرين فقط. هذا ما عودتنا عليه الايدولوجيا العربية الرثة على مدار أكثر من نصف قرن. وقد آن الأوان لكي نضع حدا لها. لكأنه يكفي أن ندفن رؤوسنا في الرمال كالنعامات لكيلا تنفجر المشاكل المتجذرة في أعماق الواقع العربي كالقنابل الموقوتة! هذه المشاكل كانت ستنفجر مع الأمريكان أو بدون الأمريكان. بل إنها كانت متفجرة منذ عهد صدام حيث قام بعدة حملات قمعية وحشية ضد الجنوب الشيعي ذهب ضحيتها مئات الآلاف. هذا دون أن ننسى الحملات ضد الشمال الكردي وقصف حلبجة بالأسلحة الكيميائية. هذا ناهيك عن الحرب العراقية الإيرانية التي كان السبب في إشعالها على عكس ما زعمت البروباغندة الكاذبة آنذاك والتي ذهب ضحيتها الملايين. هذا ناهيك عن حماقة غزو الكويت الخ..هذا ناهيك عن تصفيته لرفاقه بيده تقريبا أمام كاميرات التلفزيون وفي جلسة مرعبة نادرة المثال في التاريخ العربي بل والعالمي إذا ما استثنينا هتلر وليلة السكاكين الطويلة.. عندما نقول هذا الكلام لا ندافع عن الاحتلال الأميركي للعراق. من يستطيع أن يدافع عن الاحتلال؟ ولكن الشعب العراقي كان مستعدا لأن يقبل بالشيطان إذا ما جاء وخلصه من هذا الوضع الذي لا يطاق. ينبغي أن نشخص المشكلة في أعماقها وجذورها لا أن نكتفي بسطوحها وقشورها الظاهرية. يضاف إلى ذلك أن هذا الاحتلال البغيض زائل قريبا ككل احتلال ولكن المشاكل تبقى.



الشيء الأساسي الذي تلام عليه السياسة الغربية هو أنها لا تفعل كل ما تستطيع لكبح جماح اليمين الإسرائيلي وإيقاف الاستيطان والعدوان على الأراضي الفلسطينية. وهنا بالضبط يكمن اختلال هذه السياسة وازدواجية المعايير. وهنا نلاحظ أن اليمين المتطرف المسيحي أصبح متحالفا مع المحافظين الجدد واليمين الصهيوني العالمي وبخاصة بعد 11 سبتمبر. من المعلوم أن اليمين المتطرف الغربي سواء أكان مسيحيا متزمتا أم قومجيا فاشيا كان يكره اليهود تاريخيا لأسباب لاهوتية أولا ثم عنصرية ثانيا. وقد سحقهم سحقا إبان المرحلة الفاشية والنازية. ولكنه بعد 11 سبتمبر تحالف معهم أو بالأحرى مع أكثر التيارات تطرفا فيهم وأصبح حاقدا فقط على العرب والمسلمين. بهذا المعنى فان التنوير العربي أصبح واقعا بين فكي كماشة بالفعل. فهو من جهة مهدد من قبل القاعدة والجماهير المتعاطفة معها في الداخل، و هو من جهة ثانية مهدد من قبل هذا اليمين المتطرف الغربي الصهيوني الذي لا يعتقد بان العرب خلقوا للحضارة أو للتنوير. ففي رأيه أن العربي أو المسلم سيظل متخلفا ورافضا للحضارة إلى أبد الآبدين. لماذا؟ لأنه عربي ومسلم بكل بساطة. وهذه نظرية عنصرية موروثة عن القرن التاسع عشر. من هنا صعوبة المعركة التي نخوضها حاليا. فالتنويريون العرب محشورون في الزاوية وهامش حركتهم ضعيف جدا جدا. إنهم محاصرون من الداخل والخارج على حد سواء. ولا أحد يرحمهم أو يقدم لهم هدايا. ولكن لحسن الحظ فان الغرب ليس كله محافظين جددا ولا يمينا متطرفا. فالتيارات العريضة فيه مستنيرة وترفض العنصرية وتعتقد أن استنارة الجماهير العربية والإسلامية هي مسألة وقت ليس إلا. هذا ما يقوله ريجيس دوبريه مثلا وآخرون كثيرون. مع هؤلاء يمكن أن نتعامل بل ويمكن أن يشكلوا لنا عونا وسندا. وينبغي أن نحيي مساندة الاتحاد الأوروبي لكل خطوة ايجابية تحصل في تركيا بل وإجباره لاردوغان وحزبه الأصوليّ على التراجع عن القوانين القمعية والفقهية القديمة وتبني القوانين الحديثة لصالح المرأة والحريات بشكل عام بما فيها الحرية الدينية. بل وحتى داخل المحافظين الجدد أنا لا أساوي بين بول ولفويتز مثلا وريتشارد بيرل. فالأوّل يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني في حين أن الثاني أكثر تطرفا من نتنياهو! والدليل على ذلك أن غلاة الصهاينة هاجموا بعنف بول ولفويتز في إحدى المظاهرات التي جرت في واشنطن بل وأنزلوه بالقوة عن المنصة عندما كان يخطب ويتحدث عن آلام الفلسطينيين وشتموه ووبخوه. وبالتالي فلا ينبغي أن نخلط كل شيء بكل شيء. الغرب ليس كله كتلة واحدة صماء بكماء عمياء. هذا ليس صحيحا. وحده اليمين العربي الأصوليّ أو القومجي يقول ذلك. لا ريب في أن سياسة اليمين المتطرف الغربي واليهودي داخل إسرائيل وخارجها هي التي أضعفت تيار التنوير العربي بل وخنقته خنقا عندما رفضت ولا تزال إيجاد حل معقول للصراع العربي الإسرائيلي. وساهمت إلى حد كبير في إنعاش التيار الأصوليّ دون أن تخلقه من العدم بالطبع كما يزعم الديماغوجيون العرب. حقا لقد أصبحنا بين فكي كماشة ولا أعرف كيف سنخرج منها.. لقد دخلنا في داهية دهياء لأنّ قوى الشر المكشرة عن أنيابها تحاصرنا من كلتا الجهتين.. وصاحب هذا الكلام يعرف عما يتحدث. ذلك أن الذي يأكل العصي غير الذي يعدها ويتفرج من بعيد..



ولا أعتقد أننا سنخرج من هذا المأزق قبل إيجاد حل ولو ربع عادل لقضية الصراع العربي الإسرائيلي. فما دام الانسداد السياسي قائما في المنطقة فان التيار الأصوليّ والقومجي المتطرف سوف يظل قادرا على استخدامها لتخوين التنوير العربي وتكفيره واعتباره ذنبا للاستعمار والصهيونية والامبريالية.. انظر كيف يستغل الظواهري الوضع الراهن لصالحه ويفرح به كل الفرح. هكذا نلاحظ أن هناك تحالفا موضوعيا بين التعصب والتعصب المضاد، بين الشر والشر المضاد. وكلما قوي التيار الأصوليّ عندنا وارتكب حماقات وتفجيرات جديدة راح اليمين الصهيوني الغربي يهلهل ويزغرد ويفرح أيضا. أكتب هذا الكلام على وقع ما حصل في بومباي بالهند مؤخرا. وإيّاك ثم إيّاك أن تتحدث أمام اليمين الصهيوني الغربي عن وجود تنويريين عرب فهذا يزعجه أيما إزعاج. وذلك لأنه يريد فقط أن يفرض على الغرب صورة العربي الوحش والمسلم الأكثر وحشية. وأي شيء يخربط هذه الصورة أو يزعزعها يكرهه ويحاربه بكل قوة. انه لا يريد أن يظهر عرب جدد حضاريون مستنيرون. ولذا فان الظواهري يناسبه تماما لأنه يرسخ هذه الصورة البشعة عنا في أذهان البشرية جمعاء. والقاعدة قدمت اكبر خدمة لهذا اليمين الغربي وكذلك اليمين التوسعي الاستيطاني في فلسطين.



مشكلة بعض المثقفين العرب أو حتى أكثريتهم هي أنهم لا يرون حجم القمع التاريخي المتراكم في الداخل منذ قرون وذلك لأن أعينهم متركزة فقط على القمع الخارجي والهجمة الشرسة الأميركية- الإسرائيلية. وربما كنت أنا قد قللت إلى حد ما من خطورة القمع الخارجي من شدة تركيزي على القمع الداخلي ثم كرد فعل على الايدولوجيا العربية السائدة وشعاراتها الغوغائية التي مللنا منها. ولكن ينبغي أن ننظر إلى كلا الأمرّين معا لكي تتضح الصورة من مختلف جوانبها. فنحن نعاني من قمعين لا قمع واحد: قمع الداخل وقمع الخارج. من هنا خطورة الوضع العربي ومرارته وصعوبة النهوض التنويري في المدى المنظور. انه مخنوق من كلتا الجهتين وتتآمر عليه قوى عاتية. حقا لقد دخلنا في داهية دهياء ولا أعرف كيف سنخرج منها ولا متى..انه نفق مظلم يلفنا على كلا الصعيدين الفردي والجماعي.



يقول الأخ فخر الدين فياض بأنني أبرر فلسفة الدم والقانون البربري! ثم يردف قائلا بأن وتيرة العنف تتراجع تاريخيا مع تقدم المجتمعات ونموها وأن العالم شهد انخفاضا هائلا في العنف بعد ذلك..



هذا صحيح. ولكن عن أي عالم تتحدث يا أخي ؟ انه عالم المجتمعات المتقدمة التي حلت مشكلة الفقر والجوع والجهل والطائفية والأمية، جنة الحداثة وما بعد الحداثة. انه العالم الذي شبع من الأكل والشرب والجنس وحل مشاكله الأساسية منذ زمن طويل. انه العالم الذي حقق العبور الحضاري الكبير بنجاح عندما انتقل من مرحلة العصور الوسطى الإقطاعية الطائفية المذهبية إلى مرحلة الحداثة التنويرية والسياسية والعلمية والفلسفية. ولكن كم دفع ثمنا لذلك؟ لا يوجد شارع في باريس إلا وهو مخضب بالدم. كم هو عدد ضحايا الحروب المذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت؟ وضحايا الثورة الفرنسية؟ والحروب النابليونية؟ وثورة 1848؟ وكومونة باريس؟ والحروب الألمانية الفرنسية؟ والحرب العالمية الأولى؟ والحرب العالمية الثانية؟ ثمن الحضارات غال يا صديقي وباهظ التكاليف. الآن فقط أصبحت الشعوب الأوروبية الغربية مسالمة، هادئة،تحل مشاكلها بطريقة سلمية أو بواسطة نظرية هابرماس عن العقلانية التواصلية والحوارية الديمقراطية. أما شعوبنا فهل تعتقد أنها قادرة على ذلك؟ من يقدر على الأخر سوف يبطش به لا محالة.



أنا أتمنى أن أغمض عيني ثم أفتحها فأرى سوريا وقد أصبحت مثل هولندا من حيث التطور الحضاري والرقي والتعايش السلمي وقبول الاختلاف والتهذيب، وليبيا مثل سويسرا، ومصر مثل فرنسا، الخ..أتمنى أن يحصل ذلك دون أن تراق قطرة دم واحدة. ولكني أعلم أن ذلك مستحيل للأسف الشديد. فالبشر لا يتعلمون إلا من كيسهم كما يقال وبعد أن يدفعوا الثمن باهظا. وهذا ما أفهمتنا إياه تجربة هذه الشعوب الأوروبية نفسها.



ينبغي العلم بان لغة الحوار الديمقراطيّ هي لغة الشعوب الحضارية المهذبة المثقفة المستنيرة الشبعانة من الأكل والجنس والحب والحريات والتي دفعت ثمن التقدم باهظا. وليست مستعدة بالتالي لأن تخسر كل ذلك وتغطس في جحيم العنف والحروب الأهلية مرة أخرى. إنها لغة شعوب صفت حساباتها مع نفسها وهدأت واستقرت ونجحت في العبور الحضاري الكبير والعسير. أما نحن فلم تصف حسابات أي مشكلة ضخمة في تاريخنا. كل شيء مؤجل وموضوع على الرف حتى تنحل مشكلة فلسطين..ولكن المشكلة هي أن هذه المشاكل لم تعد تحتمل الانتظار فأخذت تنفجر تحت أقدامنا كالقنابل الموقوتة من كل حدب وصوب.



هناك مشاكل مكبوتة في مجتمعاتنا منذ ألف سنة وسوف تنفجر حتما. ولا ينبغي أن يفاجئنا ذلك على الإطلاق لأن كل قوانين علم الاجتماع والنفس والتاريخ تقول لنا: كل ما هو مكبوت لن يظل مكبوتا إلى الأبد وإنما سينفجر في وجوهكم يوما ما ويصيبكم بشظاياه. كم هو عدد المشاكل الطائفية والعرقية والمذهبية المكبوتة في مشرق العالم العربي ومغربه؟ سنة شيعة إباضيون فاطميون إسماعيليون علويون دروز أكراد أمازيغ مسيحيون عرب أقباط أو أرمن آشوريون سريان الخ..كل هذه المشاكل غطى عليها الخطاب العربي العمومي الشائع والايدولوجيا الرثة فتوهمنا أنها حلت بمجرد التغطية عليها أو منع الناس من التحدث عنها. ولكن هذه منهجية صبيانية لحل المشاكل! هذه هي أفضل طريقة لكي تتفاقم المشاكل وتزداد استفحالا وخطورة وقابلية للانفجار. لماذا ينجح الأوروبيون في حل مشاكلهم وانسداداتهم التاريخية ونفشل نحن؟ لأنهم يتبعون الطريقة العلمية في حل المشاكل: أي الاعتراف أولا بوجود مشكلة في المجتمع ثم تشخيصها بشكل دقيق ثم وصف الدواء لها وحلها. أما نحن فلا نعترف حتى بوجود المشكلة! فكيف يمكن أن نحل مشكلة غير موجودة؟



كيف يمكن أن تتقدم شعوب كهذه وتحل مشاكلها؟ مستحيل؟ ينبغي تغيير الايدولوجيا العربية كلها. أقصد بان الايدولوجيا القومجية على طريقة صدام والايدولوجيا الأصوليّة على طريقة الظواهري أو مقتدى الصدر أو بن لادن أصبحت خارج قوس أو ينبغي أن تصبح وعلينا تفكيكها وتقويضها. لقد فوجئت عندما طرحت مشكلة العنصرية في فرنسا بعد صعود جان ماري لوبن وتيار اليمين المتطرف في الثمانينات من القرن الماضي. فوجئت برد فعل المثقفين الفرنسيين وقارنت بينه وبين رد فعل المثقفين السوريين والعرب عموما على الظاهرة الإخوانية والأصوليّة والطائفية عموما سواء أكانت أقلية ام أكثرية، شيعية ام سنية. في الحالة الأوّلى راح المثقفون الفرنسيون يعترفون أولا بوجود الظاهرة إذ قالوا: نعم توجد عنصرية في المجتمع الفرنسي ولا داعي للاستياء والخجل منها وعدم تسمية الأشياء بأسمائها. نعم إن بعض شرائح المجتمع الفرنسي هي عنصرية وكارهة للأجانب وبخاصة المغاربة أو العرب والمسلمين ثم الأفارقة السود. لم يقولوا: إن شعبنا عظيم، شعبنا رائع ما في منه، شعبنا لا يعرف العنصرية معاذ الله إلى آخر هذا الكلام الديماغوجي الفارغ..لا. اعترفوا بوجود المشكلة، بوجود مرض في المجتمع يدعى: العنصرية. وهكذا راحوا يشرحون الظاهرة من كافة النواحي وينبشون عن جذورها التاريخية ويتحدثون عنها ليلا نهارا على شاشات التلفزيون وأعمدة الصحف وموجات الراديو حتى استطاعوا تشخيصها جيدا وحصرها بل وحلها إلى حد كبير. ولم يدفنوا رؤوسهم في الرمال كالنعامات ولم يكابروا ويزاودوا كما نفعل نحن مع المشكلة الطائفية حيث لا نعترف حتى بوجودها..



نعم ،عندنا لم يتجرأ أحد على تسمية المشكلة الطائفية باسمها: الكل يكبتها ويسكت عليها ولا يتحدث عنها إلا في السر! كيف يمكن أن تحل المشكلة في مثل هذا الجو المليء بالأكاذيب والرعب والخوف؟ كل المنهجية العلمية الحديثة تقول لنا بأن أفضل طريقة لحل المشكلة أو لحصرها وتحجيمها هي أن تتحدث عنها. أما إذا ما كبتها فإنها سوف تتفاقم وتستفحل وتتضخم وتنفجر حتما وتحرق الأخضر واليابس. هذا قانون فيزيائي. الضغط يولد الانفجار. مجتمعاتنا المكبوتة منذ زمن طويل سوف تنفجر كالبركان الثائر وتخرج من أعماقها الشوائب والحمم حتى تشبع انفجارا. بعدئذ تهدأ. أما قبل ذلك فلا. وهذا هو معنى الأصوليّة أو الطائفية المتفجرة حاليا.



عظمة مفكري أوروبا تكمن في مواجهة الحقائق والمشاكل التي تعاني منها مجتمعاتهم وجها لوجه، لا في المواربة والمخاتلة والتهرب من المشاكل الصعبة. كانط مثلا طرح مشكلة التنوير الديني أو الفلسفي بكل وضوح وقال بأن هناك مشكلة تعصب في المسيحية أو فهم خاطئ للدين. ولذا دعا إلى فهم الدين ضمن حدود العقل فقط والتخلي عن الخرافات والشعوذات والانغلاقات والنزعة المذهبية الضيقة. فولتير اتخذ قرارا بتدمير المسيحية الكاثوليكية على الرغم من أنه مسيحي كاثوليكي ولا ينتمي إلى الأقلية وإنما إلى الأكثرية. ولكنه وجد أن التعصب الكاثوليكي في عصره تجاوز كل الحدود ولم يعد يطاق أو يحتمل. ولم يقل بأنّ الحق على المسلمين أو العثمانيين أو الأعداء التاريخيين كما نفعل نحن. وإنما قال أن هناك مشكلة داخل المسيحية ذاتها أو داخل المسيحيين أنفسهم. جان جاك روسو الأقلّويّ ثار على الأصوليّة المسيحية كلها بما فيها أصوليّته البروتستانتية بالذات رغم أنها كانت الأقرب إلى العقل آنذاك. نحن بحاجة إلى مفكرين من هذا النوع. نحن بحاجة إلى مفكرين يعلنون الخروج على مذاهبهم وطوائفهم ويفككون عقائدها الأكثر قداسة تفكيكا لا هوادة فيه. لكن ماذا يقول المثقفون العرب؟ الحق على الاستعمار والامبريالية والصهيونية! الحق على الطليان.. وليس على المسلمين وطريقة فهمهم المتزمتة لدينهم وعقيدتهم. ليس بهذا الشكل تتقدم الشعوب أو تحل مشاكلها يا أخي. هذا كلام سهل لا يقدم ولا يؤخر..لا أعتقد أن الحامل الاجتماعي في أوروبا آنذاك كان يساعد على التغيير أكثر مما هو عليه الحال عندنا كما يقول الأخ فخر الدين فياض. وبالمناسبة لا أحب هذا المصطلح: الحامل الاجتماعي، وإنما أفضل عليه مصطلح الوضع الاجتماعي بكل بساطة. ويرى الأخ فياض أن الحراك الطبقي كان موجودا وحافلا بالمتغيرات على عكس ما هو حاصل عندنا. ثم يردف قائلا: في العالمين العربي والإسلامي الأمر مختلف: الصراع غير متبلور والطبقي عبارة عن هلام طبقات ولا يوجد صراع حقيقي بين قوى متنورة وقوى أصوليّة بسبب موازين القوى غير المتكافئة.



ثم يردف لإكمال تصوير الوضع: ما نلاحظه هو وجود جعجعة علمانية من خارج البلاد يقابلها تمذهب ملموس في قلب كل بيت داخل البلاد. حتى الأنظمة الحاكمة أصبحت تزايد إسلاميا على القوى الأصوليّة الإسلامية نفسها.



كيف نفهم هذا الكلام المعبر؟ أولا نشعر بأن الكاتب يأسف لأن الصراع الطائفي أو المذهبي قد حل محل الصراع الطبقي أو سرق منه الأوّلوية بدون حق! وهذه طريقة غريبة في طرح المشاكل. لكأنه يمكن لنا أن نلوم الواقع لأنه لا يعبأ بالمشاكل التي نريدها أو لكأنه يحق لنا أن نملي عليه نوعية المشاكل التي ينبغي أن يفرزها أو يهتم بها! إذا كان الواقع العربي يغلي بالمشاكل الطائفية حاليا فهذا يعني أن لذلك مبررات موضوعية غائصة في الأعماق وينبغي أن نبحث عنها أو نحفر عليها لا أن نندب حظنا لان الواقع لا يطرح المشاكل التي كنا نحب أن يطرحها. في أوروبا أيضا طرحت المشاكل الطائفية نفسها قبل المشاكل الطبقية. ولذا كانت الأوّلوية للتنوير الديني الذي دعمته البورجوازية ضد طبقة الإقطاع المرتبطة بالكهنوت الأصوليّ قبل أن تتحول البورجوازية نفسها إلى طبقة محافظة. وعندئذ أفرزت الصراع الطبقي كمضاد لها بعد أن ظهرت طبقة جديدة على مسرح التاريخ لكي تنافسها: هي طبقة العمال البروليتارية. ولم تظهر هذه الأخيرة إلا بعد ظهور التصنيع بكثافة وانتشار المعامل بكثرة. فلنحل إذن المشكلة الطائفية قبل أن نتصدى للمشكلة الطبقية لأنّ الأوّلى هي التي تحجب الثانية حاليا. فالفقير السني أو الشيعي مثلا سوف يظل يتضامن مع ابن طائفته الغني حتى ولو كان يحتقره وذلك ضد الفقير المنتمي إلى الطائفة الأخرى. لا يمكن أن يوجد تضامن طبقي في ظل سيطرة التضامن الطائفي. بمعنى آخر لن يكون للصراع الطبقي أي معنى في المجتمعات العربية ما دامت الساحة محتلة من قبل الصراع الطائفي. فلنتصدى للصراع الطائفي أولا إذن فهو الذي يعطل الجدلية الاجتماعية التاريخية للبلدان العربية ويهدد وحدتها الوطنية. ولكن كل شيء يحصل كما لو أن المثقفين العرب أو معظمهم يتهيبون هذه المواجهة فيناورون ويداورون ولا يتجرؤون على مواجهة المشكلة الحقيقية وجها لوجه أو تسمية الأشياء بأسمائها. أما فلاسفة التنوير الأوروبي فقد فعلوا العكس تماما. عندما وجدوا أن الأصوليّين بتأويلهم المتعصب والخاطئ للرسالة الدينية أصبحوا يشكلون خطرا على المجتمع فإنهم تصدوا لهم على المكشوف وفضحوهم وكشفوا عن نفاقهم ودجلهم وازدواجيتهم وتزمتهم بل وانحرافهم عن جوهر الدين وروحانيته الصافية. عندئذ قاموا بأكبر عملية تعرية للأصوليّة الطائفية المسيحية حتى استأصلوها استئصالا وأراحوا الناس من شرها ومجازرها وفتنها وسمومها.



كان كانط يقول هذه العبارة الهامة:



إن عصرنا هو عصر النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء. ولكن الدين يحتج بقداسته والتشريع بجلالته لكي ينجوا من هذا النقد العقلاني الصارم. وهما بفعلهما ذلك يثيران الشبهات حولهما وبحق. وبالتالي فلا يمكنهما عندئذ أن يحظيا بتقديرنا الصادق لأنهما رفضا أن يضعا نفسيهما على محك النقد العقلاني.



إن من يقول هذا الكلام ليس فيلسوفا متطرفا ولا ماديا ملحدا وإنما هو فيلسوف عقلاني مؤمن. ولكنه لا يقبل بالإيمان إلا بعد أن يكون الدين قد خضع كليا لسلاح النقد والعقل. بعد أن يستنفد العقل كل إمكانياته في البحث والاستكشاف ويصول ويجول يمكن أن نفسح المجال للإيمان. ولكن ليس قبل ذلك. أما أن نؤمن بشكل أعمى ونسلم تسليما بكل ما هب ودب دون ان يكون لنا الحق في طرح أي سؤال فهذا شيء لم يعد واردا بعد انتصار التنوير الكانطي والهيغلي.



وعندما نزل فولتير أو روسو أو ديدرو أو كانط أو حتى هيغل إلى الساحة كان الأصوليّون أقوى بكثير وأكثر عددا وعدة من الفلاسفة العلمانيين. وكانت موازين القوى كما يقول فخر الدين فياض بالنسبة لساحتنا غير متكافئة على الإطلاق. ومع ذلك فقد تحملوا مسؤوليتهم وتصدوا للإخوان المسيحيين واليسوعيين ورجال الدين المتعصبين. والكثيرون كانوا يعيشون منفيين بعيدين عن أماكن التعصب لكي يستطيعوا أن يضربوا بقوة أكثر. وأحيانا كانوا يضربون ثم ينزلون تحت الأرض. وأما كانط فقد استفاد من جو الحرية الذي كان سائدا في عهد المستبد المستنير فريدريك الكبير صديق فولتير والكاره جدا للأصوليّين والمشعوذين. وقد أثنى عليه كانط في نهاية نصه الشهير: ما هو التنوير. ولكن بعد أن مات اضطر كانط إلى السكوت تماما وعدم الخوض في المسائل الدينية لان الإمبراطور الذي حل محله كان أصوليّا متعصبا. وقد هدد كانط في رسالة شهيرة. وبالتالي فالجعجعة العلمانية الآتية من الخارج إجبارية. وشكرا للخارج كل الشكر..

المصدر: http://www.alawan.org/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%88%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D9%86.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك