سقوط الخلافة العثمانية

سقوط الخلافة العثمانية
تمهيد
        إن أسباب سقوط الدولة العثمانية كثيرة جامعها هو الابتعاد عن تحكيم شرع الله تعالى الذي جلب للأفراد والأمة تعاسة وضنكاً في الدنيا، وإن آثار الابتعاد عن شرع الله لتبدوا على الحياة في وجهتها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية, وإن الفتن تظل تتوالى وتترى على الناس حتى تمس جميع شؤون حياتهم ,قال تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ( النور: الآية 63).
       لقد كان في ابتعاد أواخر سلاطين الدولة العثمانية عن شرع الله تعالى آثاره على الأمة الاسلامية؛ فتجد الإنسان المنغمس في حياة المادة والجاهلية مصاب بالقلق والحيرة والخوف والجبن يحسب كل صيحة عليه، يخشى من النصارى ولا يستطيع أن يقف أمامهم وقفة عز وشموخ واستعلاء، وإذا تشجع في معركة من المعارك ضعف قلبه أمام الأعداء من أثر المعاصي في قلبه، وأصبح في ضنك من العيش:
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } ( طه: آية 124).

       وقد أصيبت الشعوب الاسلامية في مراحل الدولة العثمانية الأخيرة بالتبلد وفقد الإحساس بالذات، وضعف ضميرها الروحي، فلا أمر بمعروف تأمر به ولا نهي عن منكر تنهى عنه، وأصابهم ما أصاب بنو اسرائيل عندما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى:     { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }( المائدة، آية 78-79).

       فإن أي أمة لا تعظم شرع الله أمراً ونهياً تسقط كما سقط بنو اسرائيل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (كلا والله لتأمرنّ بالمعروف ولتَنهُونَّ عن المنكر ولتأخُذُنّ على يد الظالم ولتأطرُنّه على الحق أطراً، ولتقصُرُنهُ على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضاً، ثم ليلعَنَّكم كما لعنهم) ( أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر بالمعروف رقم الحديث 4670).

       لقد تحققت في الدولة العثمانية سنة الله في تغيير النفوس من الطاعة والانقياد الى المخالفة والتمرد على أحكام الله,                       { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } ( الأنفال:آية 53).

       كما أن الشعوب التي ترضخ تحت الحكام الذين تباعدوا عن شرع الله تذل وتهان حتى تقوم أمام من خالف أمر الله وتطلب العون من إخوانهم في العقيدة.

       إن انحراف سلاطين الدولة العثمانية المتأخرين عن شرع الله وتفريط الشعوب الاسلامية الخاضعة لهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أثر في تلك الشعوب، وكثرة الاعتداءات الداخلية بين الناس وتعرضت النفوس للهلاك، والأموال للنهب، والأعراض للاغتصاب بسبب تعطل أحكام الله فيما بينهم، ونشبت حروب وفتن ، وبلايا تولدت على أثرها عداوة وبغضاء لم تزل عنهم حتى بعد زوالهم، وأصبحت شوكة الأعداء من الروس والإنكليز والبلغار والصرب وغيرهم تقوى وتحصلوا على مكاسب كبيرة، وغاب نصر الله عن السلاطين والأمة العثمانية، وحرموا التمكين ، وأصبحوا في خوف وفزع من أعدائهم، وتوالت المصائب ، وضاعت الديار، وتسلط الكفار.

 

إن من سنن الله تعالى المستخرجة من حقائق الدين والتاريخ أنه إذا عُصي الله تعالى ممن يعرفونه سلط الله عليهم من لا يعرفونه؛ ولذلك سلط الله النصارى على المسلمين في الدولة العثمانية

إن الذنوب التي يهلك الله بها الدولة ، ويعذب بها الأمم قسمان:
1- معاندة الرسل والكفر بما جاءوا به.
2- كفر النعم بالبطر والأشر، وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء ومحبة الأقوياء والإسراف في الفسق والفجور، والغرور بالغني والثروة فهذا كله من الكفر بنعمة الله ، واستعمالها في غير ما يرضيه من نفع الناس والعدل العام، والنوع الثاني من الذنوب هو الذي مارسه أواخر سلاطين الدولة العثمانية وأمراؤهم.

       إن الدولة العثمانية في بداية أمرها كانت تسير على شرع الله في كل صغيرة وكبيرة، ملتزمة بمنهج أهل السنة في مسيرتها الدعوية والجهادية آخذة بشروط التمكين وأسبابه كما جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أما في أواخر عهدها فقد انحرفت عن شروط التمكين ، وابتعدت عن أسبابه المادية والمعنوية

       قال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ( النور: آية 55،56).

       فكانت الدولة الاسلامية العثمانية في بداية أمرها مستوعبة لتلك الشروط أما في أواخر عهدها فقد أصاب تلك الشروط انحرافاً عن مفاهيمها الأصلية فمثلاً:

أولاً: من لوازم الإيمان الصحيح الولاء والبراء:

       فكانت الدولة في عصورها المتقدمة عاملة بقول الله تعالى : { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } ( آل عمران: آية 28).

       قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ( المائدة: آية 51).

       ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أوثق عرى الإيمان المولاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله)( صحيح الجامع الصغير).

       أما في عصورها المتأخرة وخصوصاً في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين فقد أصيب مفهوم الولاء والبراء بالانحراف ، نتيجة للجهل الذريع الذي خيم على أغلب أقاليم الدولة العثمانية والبلدان الاسلامية، ولغياب العلماء الربانيين الذين ينيرون للأمة دروبها، ويأخذون بزمامها الى الطريق المستقيم .

       وكان الحكام والسلاطين يصانعون الأعداء من الكافرين ويتولونهم من دون المؤمنين؛ حيث كان هؤلاء الكافرون على جانب عظيم من القوة المادية، والمسلمون في المقابل على العكس تماماً من الضعف؛ فقد ساعد الواقع الأليم الذي كان يعيشه المسلمون على زعزعة هذه العقيدة.

       فالواقع المليء بكافة صور الانحطاط من فقر وضعف وجهل ومرض وخرافة في مقابل الواقع الأوروبي مثلاً كان عاملاً من عوامل إضعاف عقيدة الولاء والبراء، ومع ذلك لا يجوز لنا أبداً أن نبرر لهؤلاء المنبهرين انبهارهم بواقع الكافرين؛ إذ لو كان إيمانهم صادقاً ، وعقيدتهم راسخة لم تجرفهم أهواء الكافرين ولم تتقاذفهم أمواج المادة والقوة.

       كما كان حال الجيل الأول رضي الله عنهم الذي استعلى بدينه وعقيدته على قوة الكافرين وجبروتهم حتى في وقت الهزيمة ، ولحظة الفشل كما قال الله تبارك وتعالى: { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }( آل عمران:آية 139).

       ومع هذا فإن هذه العقيدة على مستوى شعوب الأمة كانت متوهجة في النفوس ، مستقرة في العقول ؛ فقد كان المسلم في الشمال الأفريقي يحب أخاه المسلم في الشام ويبغض جاره النصراني وهكذا في كل الأقطار والبلدان وكان المسلم يحس بإخوانه في كل مكان بما يقع لإخوانه في الدين من اعتداءات ونكبات، ويشارك بعضهم مع إخوانهم لجهاد المعتدين، والنفير في سبيل الله.

       فكانوا إلى حد كبير كما وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم – ( كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم).

       وقد بينا مناصرة مسلمي الحجاز وليبيا لإخوانهم في مصر عندما احتلها الفرنسيون في عام 1213هـ/1798م وكيف تفاعل المسلمون مع دعوة السلطان عبد الحميد الثاني إلى فكرة الجامعة الاسلامية ودعوته لاتحاد المسلمين في العالم في مقابل التسلط الأوروبي والروسي وغيرهما، وقد أثمرت هذه الدعوة إلى حد كبير ، وتجاوب معها المسلمون في كل مكان على اختلاف لغاتهم وألوانهم وبلادهم؛ وليس أدل على ذلك من تبرع المسلمين في أقطار العالم لإنشاء خط سكة حديد بين بغداد والحجاز بثلث نفقات الخط.

       إن الشعور بالترابط الديني بين المسلمين كان قوياً على الرغم من كثرة الانحرافات التي توحي بالفرقة والاختلاف كالمذاهب الكلامية والفقهية، والطرق الصوفية، وكانت عقيدة الولاء والبراء سليمة الى حد كبير في نفوس العامة؛ لذلك كبر على أعداء الإسلام من اليهود والنصارى أن يروا في تلك العقيدة جداراً صلباً وحاجزاً قوياً يقف أمام مخططاتهم ومحاولاتهم في القضاء على المسلمين ودينهم.

       ولذا أخذوا يعملون على تحطيم ذلك الجدار وتذويب ذلك الحاجز عن طريق صنائعهم وعملائهم في البلاد الاسلامية وفي الدولة العثمانية ممن بأيديهم مقاليد الأمور من السلاطين والباشوات.

       كما حدث مع السطان العثماني محمود الثاني المتوفى عام 1839م الذي تزعم حركة الإصلاح المقلدة للمنهج الأوروبي، حيث عمل على مسخ عقيدة الولاء والبراء وحاول طمسها في النفوس.

        ويتجلى هذا الاتجاه الخطير في قول السلطان نفسه (...إنني لا أريد -ابتداء من الآن - أن يمييز المسلمون إلا في المسجد، والمسيحيون إلا في الكنيسة واليهود في المعبد، إني أريد مادام يتوجه الجميع نحوي بالتحية أن يتمتع الجميع بالمساواة في الحقوق وبحماية الأبوية ومن هنا نعمت المسيحية وغيرها في الدولة في ذلك العصر بحرية واسعة النطاق.

       وفي هذا العصر انتشرت المدارس اليونانية والأرمنية والكاثوليكية انتشاراً واسعاً بفضل رعاية السلطان وتشجيعه.

       وقد ثار رجال إحدى الحاميات العثمانية ضد احتمال إلزامهم أن يضعوا على صدورهم الحزامين المتقاطعين على شكل صليب على النسق النمساوي، وطرد الثوار الباشا المرسل من قبل السلطان.

       وقد سمح السلطان لرعاياه المسيسين بارتداء الطربوش بدلاً من القلنسوة القديمة، وبذلك خلصهم من الرمز المميز لهم، وكان لذلك رنة فرح شديدة عندهم، وقد حاول فرض الطربوش الأحمر على العلماء بدلاً من العمامة، فلما أبوا عليه ذلك تراجع مغطياً موقفه بإعلان الجهاد ضد الروس.

       والأدهى من ذلك ما (حدث من استعانة الدولة العثمانية بضباط دانوا بالولاء لروسيا من قبل ، وظلت الدولة غافلة عن هذه الحقيقة، وبالتالي كان لروسيا عيون في جيش السلطان الجديد تزودها بأدق المعلومات والخطط).

       وكم من هزيمة ساحقة تلقتها الدولة العثمانية من روسيا، وكان من أسبابها تسرب المعلومات الهامة عن طريق هؤلاء.

       هذا مثال بارز على ضعف عقيدة الولاء والبراء لدى بعض سلاطين العثمانيين وعدم الاهتمام بها.

       أما الباشا محمد علي والي مصر، فقد فتن بالغرب ، وتابع سياستهم، وسار على خطاهم ، وما فتئ خلال حكمه الطويل الذي بلغ خمسة وأربعين عاماً تقريباً يتولي الكفار ويصانعهم، ويعلي من شأنهم ويقوم باتباعهم والاقتباس من نظمهم وقوانينهم ، والسير في ركابهم، مع شدة بطشه وتنكيله بالمسلمين، واستهانته بهم؛ فقد تخطى عقيدة الولاء والبراء وضربها في الصميم، ليرضي أسياده الصليبيين وليخضع أمته وشعبه المسلم للمخططات اليهودية.

       فقد اعتاد محمد علي باشا أن يكون أغلب المحيطين به من النصارى واليهود، الذين تغلغلوا في حكومته وبلاطه، خصوصاً نصارى الأرمن من أعداء الملة الذين هم خاصته وجلساؤه وأهل مشورته، وشركاؤه في اختلاس أموال الدولة ونهب خيراتها.

       وفتح البلاد على مصرعيها لأفواج النصارى الصليبيين للبحث والتنقيب، واكتشاف الآثار، ودراسة الأماكن دراسة دقيقة بل ومساعدته لهم وتذليله الصعاب في طريقهم.

       لقد قام النصارى بدراسة مراكز الثروة، ودراسة المواقع دراسة تخطيطية ، مما أفادهم ولاشك في احتلال مصر فيما بعد عام 1882م

       خصوصاً إذا علمنا أن كثيراً من هؤلاء المنقبين كانوا من الإنكليز ، وكانت هناك أهداف أخر لم يفطن لها كثير من الباحثين ونترك الحديث لأحد المستشرقين في كتابه (الشرق الأدنى؛ مجتمعه وثقافته):

 

(إننا في كل بلد إسلامي دخلناه، نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ما قبل الإسلام ، ولسنا نطمع بطبيعة الحال أن يرتد المسلم الى عقائد ما قبل الإسلام، ولكن يكفينا تذبذب ولائه بين الإسلام وبين تلك الحضارات...).

       وعلى ضوء ما سبق من أهداف نستطيع أن نفسر اهتمامات هؤلاء النصارى بشق البلاد طولاً وعرضاً ، وإنفاقهم الأموال الطائلة في كشف الآثار وتعريتها بدءاً بالفرنسيين ثم الإنكليز الذين ساروا على خط واحد في تنفيذ هذه الأهداف الخبيثة.

       يقول الأستاذ محمد قطب: (ولكن المخطط الخبيث الذي حمله الصليبيون معهم وهم يجوسون خلال الديار كان هو نبش الأرض الاسلامية لاستخراج الحضارات، تمهيداً لاقتلاعهم نهائياً من الولاء للإسلام).

       وقدم محمد علي خدمة لمخططات الأعداء بضرب الاتجاه الاسلامي السلفي في الجزيرة العربية تظاهراً بطاعة السلطان العثماني الذي فقد السيطرة على بلاد الحرمين الشريفين، واتخذ من ذلك ستاراً لتنفيذ مخططات بريطانيا وفرنسا اللتين رأتا الوجود السعودي يشكل خطراً على مصالحهما، خصوصاً في الخليج العربي والبحر الأحمر.

       وقد كان على رأس تلك الجيوش التي وجهها محمد علي ضباط فرنسيون وبعض النصارى.

       وقد سرّت فرنسا بذلك العمل الحربي المدمر، وكذلك بريطانيا وأبلغت فرنسا محمد علي عن طريق قنصلها في القاهرة أنها ممنونة مما رأته من اقتداره على نشر أعلام التمدن في البلاد الشرقية.

       وضايق محمد علي باشا العلماء والفقهاء والأزهريين في لقمة العيش وسيطر على الأوقاف التابعة للأزهر وضمها للدولة وبالتالي أحكم السيطرة على المشايخ القائمين على التعليم من رجال الأزهر وحتى الكتاتيب التي تعلم القرآن الكريم والعلوم الأولية للناشئة من أبناء المسلمين ، لم تنج من غائلة محمد علي؛ فقد ذكر الجبرتي -رحمه الله- أن كثيراً من المكاتب أغلقت بسبب تعطل أوقافها واستيلاء محمد علي عليها.

       وذكر الشيخ محمد عبده أن ما أبقاه محمد علي من أوقاف الأزهر والأوقاف الأخرى لا يساوي جزءاً من الألف من إيرادها.

       وأنه أخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي الى اليوم (في عهد الشيخ محمد عبده) لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بذلك ما يساوي أربعة آلاف جنيه في السنة بينما نجده قد اندفع نحو التغريب وارسال البعثات كما ذكرنا في البحث.

       إن هذه السياسة التدميرية التي نهجها محمد علي والتي فرضت قهراً على المسلمين كانت تنفيذاً للمخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها للرحيل، وهو أمر أكده المؤرخ الإنكليزي أرنولد توينبي في قوله: (كان محمد علي ديكتاتوراً أمكنه تحويل الآراء النابليونية الى حقائق فعالة في مصر).

       لاشك أن محمد علي باشا كان صنيعة من صنائع الغرب وعميلاً من عملائهم، سواء كان وصوله الى سدة الحكم نتيجة تخطيط صليبي على الأخص تخطيط فرنسي أو كان نتيجة لدهاء محمد علي ومكره وثقافته أو كان للأمرين معاً ، فإن هذا كله لا يغير من الأمر شيئاً، ولا ينفي أن محمد علي قد احتوته الدول الغربية، وأخذت تقوده في ركابها ، وخصوصاً وأن فيه من الصفات والخلال التي ينشدها المستعمرون دائماً كجنون العظمة، وغلظة القلب وفظاظة الطبع ورقة الديانة أو عدمها.

       وقد عمل محمد علي طوال سنوات حكمه على القضاء على عقيدة الولاء والبراء ، واستخدم سياسة التعسف والإرهاب والتنكيل في أنحاء مملكته لينتزع هذه العقيدة من قلوب المسلمين، ويقضي عليها قضاءً مبرماً.

       ومع عظم الهالة التي أحيط بها محمد علي من قبل المستشرقين ومن اقتفى أثرهم من المؤرخين القوميين والعلمانيين حول ما قام به من إصلاحات في كثير من المجالات التعليمية والاقتصادية والعسكرية إلا أنه من الثابت من سيرة محمد علي أنه يكره مسلمي مصر ويحتقرهم ويزدريهم أيما ازدراء ، وليس أدل من ذلك إلا قوله : (ثقوا أن قراري ... لا ينبع من عاطفة دينية فأنتم تعرفونني وتعلمون أنني متحرر من هذه الاعتبارات التي يتقيد بها قومي ..وقد تقولون أن مواطني حمير وثيران وهذه حقيقة أعلمها).

       وقد كان محمد علي باشا متواطئاً مع الفرنسيين عند احتلالهم للجزائر، حتى لقد هم -بعد أن جاءته الأوامر بالطبع- أن يقوم بنفسه باحتلال الجزائر خدمة للفرنسيين وعملاً لحسابهم الخاص إلا أن أسياده رفضوا تلك الفكرة التي تهيج المسلمين وتثيرهم بعد أن ينكشف أمر عميلهم؛ لذا بادروا الى إلغائها ، واكتفى محمد علي بتزويد الفرنسيين في الجزائر بالغلال.

       ويذهب الدكتور سليمان الغنام الى أن بريطانيا لما عملت بعزم محمد علي ثارت ثائرتها وهددته بنسف أسطوله إن هو فكر في ذلك.

       هذه وقفة مع باشة من باشوات الدولة العثمانية عمل على إضعاف عقيدة الولاء والبراء لدى الأمة المسلمة بشكل مباشر تمثل في سياسة التعسف والإرهاب، وبشكل غير مباشر اتخذ التغريب له مساراً، لقد استحق محمد علي أن يكون رائد التغريب في العالم الاسلامي العربي التابع للدولة العثمانية وسار أولاده وأحفادهم من بعده على نفس السياسة، فقد ظلوا يتعهدون غراس التغريب والعلمنة ، ويسيرون في نفس الطريق ويتسابقون الى كسب ولاء الغرب ، وخطب وده.

       إن فئة سلاطين الدولة العثمانية وباشواتها أمعنوا في موالاة الكافرين وألقوا إليهم بالمودة، وركنوا إليهم واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين وعملوا على إضعاف عقيدة الولاء والبراء في الأمة وأصابوها في الصميم، وبذلك تميعت شخصية الدولة العثمانية وهويتها وفقدت أبرز مقوماتها وسهل بعد ذلك على أعداءها أن يحتووها ثم مزقوها شر ممزق.

ثانياً: انحصار مفهوم العبادة
       إن من شروط التمكين التي قام بها العثمانيون الأوائل تحقيق مفهوم العبودية الشامل كما مفهومه من القرآن الكريم والسنة النبوية ، وكما أخذوه عن السلف الصالح رضوان الله عليهم .

       ففهموا أن الدين كله عبادة، لذا كانت العبادة بمفهومها الواسع هي الغاية الحقيقية التي خلق الله الخلق لأجلها كما قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }( الذاريات: آية 56).

       وكانت هي دعوة الرسل جميعاً من لدن نوح عليه السلام الى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأقوامهم: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } ( الأعراف الآية: 59).

       وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } ( النحل : آية 36).

       وقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } ( الأنبياء: آية 25).

       لقد فهم العثمانيون الأوائل العبادة بمفهومها الشامل الذي أراده الله عز وجل، وهي أن تشمل كل نشاط في حياة الإنسان: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }( الأنعام: الآية 162،163).

       فأصبحت حياتهم حافلة بالأعمال العظيمة من تقوية الدولة المسلمة وتربية دائمة لرعاياها، وتعليم القرآن ، والعلم، وجهاد الكافرين والمنافقين، وقيام على أمور المسلمين ، وتنفيذ لأهداف التمكين .

       ولذلك نجد العلامة (الشيخ آق شمس الدين) يجمع بين دوره في توجيه الأمة وتعليمها وتوظيف علم النبات والطب والصيدلة لمصلحة المسلمين ، لقد كان هذا الشيخ يتعبد المولى عز وجل بالعلم الديني والدنيوي وكانت له بحوثه في علم النبات ومعالجة الأمراض المعدية وألف في ذلك كتاباً ، وأهتم أيضا بمعالجة مرض السرطان وكان مجاهداً في صفوف جيش محمد الفاتح، مربياً لعوام العثمانيين على طاعة الله تعالى ومهتماً بتزكيتهم وآمر بالمعروف وناهياً عن المنكر وكان نعم المربي والناصح لمحمد الفاتح.

       فبعد أن فتحت القسطنطينية جاء محمد الفاتح يدخل في الخلوة مع الشيخ فمنعه الشيخ شمس الدين وقال لمحمد الفاتح: إنك إذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك، فتختل أمورها ، فيمقت الله علينا ذلك والغرض من الخلوة تحصيل العدالة ، فعليك أن تفعل كذا وكذا وذكر له شيئاً من النصائح إن هذا الفهم الجميل هو الذي سارت به الدولة العثمانية عندما كان للعلماء الربانيين صدارة التوجيه والإرشاد والتعليم.

       ولذلك نجد نهوضاً شاملاً في عصر السلطان محمد الفاتح في كافة شؤون الحياة التربوية والسياسية، والاقتصادية والعسكرية، والاجتماعية والعلمية كل ذلك النهوض مستمد من مفهوم العبودية الشامل الذي فهموه من الشريعة الغراء.

       ولذلك نجد في الدولة العثمانية في عصر مجدها وقوتها تفوقاً في كافة المجالات فمثلاً في الجغرافيا يظهر اسم الريس بيري في زمن السلطانين سليم الأول، وسليمان القانوني، وكان الريس بيري، قائداً للبحرية العثمانية، وعالماً جغرافياً فذاً، ولد عام 1465م وتوفي عام (1554م)، كان هذا العالم الجغرافي رائداً من رواد رسم الخرائط في الأدب الجغرافي العثماني وله في هذا المضمار خريطتان هامتان، الأولى لإسبانيا وغرب أفريقيا والمحيط الأطلسي والسواحل الشرقية من الأمريكيتين.. وهذه، قدّمها إلى السلطان سليم الأول في مصر عام 1517م، وموجودة الآن في متحف طوبقبو في استنبول ( 60×85سم ) وعليها توقيع الريس.

       والأخرى لسواحل الأطلسي من جرونلاند إلى فلوريدا ( 68×69سم ) وموجودة الآن في متحف طوبقبو باستنبول أيضاً.

       والجدير بالذكر أن الخريطة التي رسمها( الريس بيري) لأميركا هي أقدم خريطة لها.

       في 26 أغسطس عام 1956م عقدت في جامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الأميركية ندوة إذاعية عن خرائط الريس بيري، اتفق كل الجغرافيين المشتركين فيها بأن خرائط الريس بيري لأمريكا : ( اكتشاف خارق للعادة ).

       وقد كان الريس بيري على معرفة بوجود أمريكا قبل اكتشافها، ويقول في كتاب البحرية : ( إن بحر المغرب - يقصد المحيط الأطلسي - بحر عظيم، يمتد بعرض 2000 ميل تجاه الغرب من بوغار سبته, وفي طرق هذا البحر العظيم توجد قارة هي قارة أنتيليا )، وتعبير قارة أنتيليا هي الدنيا أو أميركا.

       وقد كتب الريس أن هذه القارة اكتشفت عام (870هـ/1465م ) أي قبل اكتشاف كولومبس لأمريكا بحوالي 27سنة.

       لقد ترك ريس بيري كتاباً في البحرية أثار بما فيه من معلومات وخرائط دقيقة، دهشت المعاصرين من علماء الجغرافيا في أميركا وأوروبا، معلومات وخرائط أثبت العالم المعاصر صحتها.

       وقد ذكر الراهب الجزويتي لاين هام مدير مركز الأرصاد في ويستون من يدل على عبقرية القائد العثماني ريس بيري في علم الجغرافيا حيث يقول: (خرائط الريس بيري صحيحة بدرجة مذهلة للعقل، خاصة أنها تظهر بوضوح أماكن لم تكن قد اكتشفت حتى أيامه في القرن السادس عشر الميلادي .

       إن الجانب المذهل في مكانة بيري، هو رسمه لجبال أنتاركتيكا بتفاصيلها فيما رسمه من خرائط، مع أن هذه الجبال، لم يكن أحد قد تمكن من اكتشافها إلاّ في عام 1952م أي في النصف الثاني من القرن العشرين، وكيف؟ بعد استخدام الأجهزة المتقدمة العاكسة للصوت، أمّا قبل القائد العثماني الريس بيري، يعني حتى القرن السادس عشر الميلادي، لم يكن أحد يعرف أن أنتاركتيكا موجودة، إذ كانت مغطاة بالجليد طوال عصور التاريخ ).

       والمعروف أن أنتاركتيكا هي القارة السادسة والواقعة في نصف الكرة الأرضية الجنوبي، لم يقتصر الذهول على الراهب لين هام فقط، بل تعدّاه إلى كثير من العلماء والكتاب لقد قارن بعض العلماء صور الأرض التي تم التقاطها من مركبات الفضاء ( في القرن العشرين ) بالخرائط التي رسمها القائد البحري العثماني الريّس بيري في البدايات المبكرة للقرن السادس عشر اتضح التشابه المذهل بين صور مركبات الفضاء وبين خرائط بيري ).

 

إن النهوض في الدولة العثمانية في عصورها الزاهية كان في كافة المستويات العلمية، والشعبية، والحكومية والعسكرية وكانت حركة الدولة والأمة تعبيراً صادقاً لمفهوم العبودية الشامل، أما في العصور المتأخرة للدولة العثمانية فقد انحصر مفهوم العبادة في صور الشعائر التعبدية التي أصبحت تؤدى كعادة موروثة ليس لها من أثر في حياة ممارسيها، اللهم إلا ما تستغرقه من زمن لأدائها

       (وتم عزل العبادة عن بقية الإسلام حتى كأن الإسلام منحصر فيها دون بقية الأجزاء كالجهاد مثلاً، وأحكام المعاملات أو العلاقات المالية ومع أن أكثر الناس إن لم نقل كلهم يعلمون أن الإسلام ليس هو العبادات المفروضة فحسب، فإنهم أهملوا الجوانب الأخرى، وغضوا النظر عنها وأنزلوا مرتبتها.

       ودعا فريق من المرشدين إلى الإعراض عما سوى هذه العبادات، فالجهاد وإنكار المنكر ورد الطغيان والاستعمار ومقاومة الظلم والعمل في جميع ما ينفع المسلمين من الأمور العامة، كل ذلك في نظر هذا الفريق من الناس وما أكثرهم في عصور الانحطاط - فضول يشغل عن الله وعبادته ... وبينما كانت مقاييس الصلاح والتقوى في الإسلام شاملة لجميع الواجبات التي أوجبها الإسلام من عبادات خاصة، وجهاد وعلم وعدل وعمل نافع للناس واستقامة في المعاملة وإحسان، كل ذلك مقروناً بتوحيد الله والإخلاص له أصبحت مقاييس التقوى محصورة في العبادات).

       وهكذا أعانت هذه الفكرة التي عزلت العبادة عن بقية أجزاء النظام الإسلامي الشامل على ضعف الوعي السياسي، والاجتماعي والأخلاقي.

ولقد تسبب هذا الانحصار في مفهوم العبادة في سلبيات من أهمها:
- صارت الشعائر التعبدية تؤدى بصورة تقليدية، عديمة الأثر والفائدة حين عزلت عن بقية أمور الإسلام فلا تؤدي هذه الشعائر دورها في حياة الإنسان وقد عزلت عن بقية جوانب العبادة الأخرى، فالصلاة التي يخبر الله عز وجل عنها بقوله: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } ( العنكبوت : 45 ). لم تعد ذات أثر واقعي في حياة مؤديها من الناس حيث لم تعد تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وما كان لها أن تحدث ذلك الأثر وقد حصرت العبادة في أداء الشعائر التعبدية فحسب.

- تهاون الناس في بقية جوانب العبادات الأخرى إذ هي عندهم ليست من العبادة في شيء. حين نرى من المسلمين من يصلي الفروض جماعة في المسجد، ثم يخرج ويحلف عن عتبة المسجد كاذباً، ويغش في بيعه وشرائه، ويحتال في معاملاته، ويأكل الربا أضعافاً مضاعفة، ويقع في أعراض الناس، ثم تراه سادراً في ذلك مرتاح الضمير، هادئ الخاطر، قد أسكت وخزات ضميره وتأنيب نفسه بما نقره من ركعات.

- العناية بالجانب الفردي الشخصي، وإهمال الجوانب الاجتماعية فنجد أن المسلمين قد " عنوا بالآداب الفردية والمتعلقة بذات الإنسان أكثر من عنايتهم بالآداب الاجتماعية المتعلقة بالآخرين، فقد يكون المسلم في ذاته نظيفاً ولكنه لا يبالي أن يلقي القمامة في طريق المسلمين، ناسياً أن " إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان " كما ورد في الحديث، وقد يكون المسلم مراعياً لأحكام الطهارة وشروط النظافة في نفسه، ولكنه لا يبالي أن يلوث للناس طرقهم وأماكن جلوسهم وأن يخل بالآداب الاجتماعية التي أمر الإسلام بها ".

ونتيجة لكون مفهوم العبادة انحصر في الشعائر وحدها وخرجت منها بقية الأعمال، فاهتم الناس بشؤونهم الخاصة وأهملوا شئونهم العامة، ونمت روح الفردية على حساب الروح الاجتماعية.

- إقامة العبادة مقام العمل، والاكتفاء برسومها وشعائرها وبما أحدث فيها من بدع عن اتخاذ الأسباب.

- قراءة القرآن وتلاوته لفظاً أصبح بديلاً عن العمل بما فيه، من آيات الجهاد والنظر إلى الكون والتفكير فيما خلق الله وإقامة العدل والميزان بالقسط، والحكم بما أنزل الله واستثمار مافي الكون من نعم الله مع أن ذلك كله عبادة...

       وبينما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستعد لقتال المشركين كل الاستعداد كما أمره الله ويدعو الله ويبتهل إليه لينصره إذا بالمسلمين في هذه العصور الأخيرة يجعلون الصلاة والدعاء - المأثور منه والمبتدع المخترع - بديلاً عن الأسباب فيلتمسون الرزق والشفاء والنصر لا بأسبابها المشروعة التي جعلها الله سبباً وطريقاً إليها، بأدعية خاصة يقتصرون على تلاوتها، وربما اخترعوا لذلك رقى وتمام وحجباً، وزيارات لأمكنة خاصة وأوراداً ابتدعوها ....

       ولقد نتج عن هذا الانحصار الخطير في مفهوم العبادة أن خرجت جميع الأعمال الأخرى عن دائرة العبادة، فخرج العمل السياسي بما يشتمل عليه من رقابة الأمة على أعمال الحاكم، وتقديم النصيحة إليه، والسهر على تطبيق الشريعة وإجراء العدل في حياة الناس.

       وما أجمل ما قاله سيد قطب في توضيحه لحقيقة العبادة واستنكاره لمن يحصرها في الشعائر التعبدية: (إن الواقع أنه لو كان حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات، وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم - وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد، وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء).

       وهذا هو معنى العبادة الشامل الذي وعاه العثمانيون الأوائل، فطبقوه في حياتهم، وعملوا به في واقع الأرض، فدانت لهم الممالك، وخضعت أمامهم الطواغيت، ومكن الله لهم في الأرض، ورفعوا راية الإسلام خفاقة فوق بقاع شاسعة من المعمورة ويوم تبدل ذلك المفهوم وانحصر في دائرة الشعائر، فترت الهمم وضعفت العزائم عن القيام بأمور الإسلام كاملة فوقع الضعف ثم السقوط.

       إن ماحل بالدولة العثمانية من هزائم عسكرية، وأزمات اقتصادية، وانحرافات خلقية، ومصائب اجتماعية، وتلوثات فكرية، وجفاف روحي، وتأخر حضاري، كان من أسبابه إفراغ الإسلام من محتواه الأصيل، وضياع مفهوم العبادة الشامل.

       فيوم كانت : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } الأنفال: 60 عبادة لم يجرؤ أحد على احتلال أراضي المسلمين واستلاب خيراتهم ويوم كان " طلب العلم فريضة " لم يكن هناك تخلف علمي، بل كانت الأمة المسلمة هي أمة العلم، التي تعلمت أوروبا في مدارسها وجامعاتها!

       ويوم كانت { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } الملك:15 عبادة، كانت المجتمعات الإسلامية أغنى مجتمعات الأرض!

       ويوم كانت " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " عبادة، وكان ولي الأمر يستشعر أنه راع ومسؤول عن رعيته، لم يكن للفقراء في المجتمع الإسلامي قضية، لأن العلاج الرباني لمشكلة الفقر كان يطبق في المجتمع الإسلامي عبادة لله!

       ويوم كانت { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } النساء:19 عبادة، لم تكن للمرأة المسلمة قضية، لأن كل الحقوق والضمانات التي أمر الله لها بها كانت تؤدى إليها طاعة لله، وعبادة لله! .. ).

       لقد كان الانحراف عن مفهوم العبادة الشامل من أسباب إفساح المجال في العصور المتأخرة للدولة العثمانية لشيوع المذهب العلماني، وهيمنة الشعارات العلمانية على كثير من الأقاليم التابعة للدولة العثمانية.

ثالثاً: انتشار مظاهر الشرك والبدع والخرافات
       إن الدولة العثمانية في القرنين الأخيرين كانت غارقة في كثير من مظاهر الشرك والبدع والخرافات، وحدث انحراف في توحيد الألوهية انحرافاً رهيباً، وغشيها موج من الظلام والجهل حجب عنها حقيقة الدين وطمس فيها نور التوحيد وعدل بها عن صراطه المستقيم.

       يوم كانت الدولة العثمانية محققة للتوحيد، وتمارس مفهوم العبادة الشامل، وتحارب الشرك كانت في ذروة التمكين والعز والنصرة من الله تعالى، فهذا السلطان مراد الأول وهو في سكرات الموت بعدما طعنه جندي صربي يودع الدنيا بمعاني عميقة في التوحيد، وكلمات جامعة على التوحيد المنافي للشرك فيقول " لا يسعني حين رحيلي إلا أن أشكر الله إنه علام الغيوب المتقبل دعاء الفقير، أشهد أن لا إله إلا الله، وليس يستحق الشكر والثناء إلا هو، لقد أوشكت حياتي على النهاية ورأيت نصر جند الإسلام، أطيعوا ابني يزيد، ولا تعذبوا الأسرى ولا تؤذوهم ولا تسلبوهم وأودعكم منذ هذه اللحظة وأودع جيشنا الظافر العظيم إلى رحمة الله فهو الذي يحفظ دولتنا من كل سوء ".

       أما السلطان مراد الثاني فقد ترك وصيته : (فليأت يوم يرى الناس فيه ترابي) لقد كان قلقاً يخشى أن يدفن في قبر ضخم، وكان يريد ألاّ يبنى شيئ على مكان دفنه.

       لقد كان السلاطين الأوائل تتفجر معاني التوحيد في كلماتهم وتنعكس على أعمالهم وانتشرت تلك المفاهيم في الشعب العثماني قاطبة، أما في العصور المتأخرة فقد تغير الحال، ومع تضافر الأدلة وتواترها ووضوحها في النهي عن كل السبل المفضية إلى الشرك وتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشديده في ذلك قبل وفاته،

       كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا )

قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً

(البخاري، كتاب الجنائز ، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور)،

       وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج "(الترمذي، كتاب الجنائز).

       وقال - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس : " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك "(مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة).

       وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "(رواه مالك في الموطأ)،

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تجلسوا على القبور، ولاتصلوا إليها "(مسلم، كتاب الجنائز).

       وحين ذكرت له بعض نسائه كنيسة رأينها في أرض الحبشة فيها تصاوير، قال - صلى الله عليه وسلم - : " إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله "( البخاري: كتاب الصلاة).

        ونهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه، وجاء في رواية أخرى النهي عن الكتابة على القبور(الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية تجصيص القبور، صححه الألباني)

       وفي أواخر الدولة العثمانية كثر على غير العادة تشيد القباب وتبنى الأضرحة وإقامة المشاهد، وتحديث المزارات حتى لكأن هذه النصوص جاءت تأمر بالبناء على القبور، وتذكر فضله وتحث عليه.

       وزاد الأمر سوءاً أن بعض الفقهاء أفتوا بجواز بناء القباب على القبور إذا كان الميت فاضلاً، واحتجوا بقولهم: إن بعض السلف استحسن ذلك، وزاد الطين بلة أنهم أودعوا تلك الآراء الفاسدة في مصنفاتهم التي يعكف على دراستها الطلاب.

       وأول من أحدث هذه المشاهد الشركية، والمزارات الوثنية في الأمة هم الشيعة.

       يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن تحدث عن دور اليهود في نشأة التشيع: " فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد، محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف إمام معصوم،

       ورووا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب مالم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب من أهل الكتاب حتى صنف كبيرهم ابن النعمان كتاباً في ( مناسك حج المشاهد ) وكذبوا فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته، وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد".

       وانتقل هذا الوباء العظيم وبدأ في نخر الدولة العثمانية، وتعاظم شره، ووقع ماحذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشرك العظيم.

وقد تجلت مظاهر الشرك ووسائله في تلك الفترة في الصور التالية:

 

بناء المساجد والقباب والمشاهد على الأضرحة والقبور في أقاليم الدولة
       بل انتشر ذلك في العالم الإسلامي كله وللأسف الشديد نجد الدولة العثمانية في العصور المتأخرة تشجع على تلك المشاهد والأضرحة المنتشرة في العالم الإسلامي فمثلاً أعفت الدولة أهالي البصرة من الرسوم والتكاليف، احتراماً لصاحب الحضرة الشريفة، يعني الزبير بن العوام رضي الله عنه، وأن العثمانيين بنوا على ضريحه مسجداً، وقامت والدة السلطان عبد العزيز بترميم القبب، وتكبير المسجد، وفي سنة 1293هـ ورد أمر من السلطان عبدا لحميد الثاني بتعمير هذه المراقد الشريفة على نظارة والي البصرة ( ناصر باشا السعدون ).

       ثم في سنة 1305هـ أمر السلطان عبد الحميد أيضاً بتبييض القبب وتعمير المسجد، وأمر أيضاً بكسوتين للضريحين ( الزبير وعتبة بن غزوان ) من الحرير الأحمر المفتخر المطرز بالفضة وأمر أيضاً بوضع مباخر وقماقم من الفضة عند الضريحين الكريمين وكانت جميع الأقاليم الإسلامية، في الحجاز واليمن وأفريقيا ومصر والمغرب العربي والعراق والشام وتركيا وإيران، وبلاد ما وراء النهر والهند وغيرها تتسابق في بناء الأضرحة والقباب وتتنافس في تعظيمها والاحتفاء بها، إذ البناء على القبور هو ما درج عليه أهل ذلك العصر، وهو الشرف الذي يتوق إليه الكثيرون.

       لقد أولع العثمانيون في عصورهم المتأخرة بالبناء على كل ما يعظمه الناس في ذلك العصر سواء أكان ما يعظمونه قبوراً أو آثار لأنبياء أو غير ذلك.

       وأصبحت تلك المشاهد والأضرحة محلاً للاستغاثة والاستعانة بأصحابها وانتشرت عقائد شركية كالذبح لغير وجه الله والنذر للأضرحة، والاستشفاء وطلب البراء من الأضرحة والاعتصام بها، وأصبحت الأضرحة والقبور تهيمن على حياة الناس وهكذا طغت هذه الأضرحة على حياة الناس، وأصبحت مهيمنة على شئونهم، وشغلت تفكيرهم، وتبوأت في نفوسهم وقلوبهم أعلى مكانة، وكانت رحى تلك الهيمنة تدور على الغلو والشرك بالأموات، والتعلق بهم من دون الله عز وجل فلا يبرمون من أمورهم صغيرة ولا كبيرة إلا بعد الرجوع إلى تلك الأضرحة، ودعاء أصحابها واستشارتهم، وهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعا، فكيف لغيرهم، وقد كان العلماء وللأسف الشديد يتقدمون العامة ويسنون لهم السنن السيئة في تعظيم الأضرحة والمقامات والولوع بها ويزرعون الهيبة في نفوسهم بما كانوا يقومون به.

       وقد تمادى الناس في الشرك والضلال وأمعنوا في الوثنية ومحاربة التوحيد فلم يكتفوا بالمقبورين والأحياء، بل أشركوا بالأشجار والأحجار، ووصل الأمر إلى اعتقاد العامة في بغداد في مدفع قديم في ساحة الميدان من بقايا أسلحة السلطان مراد العثماني التي استخدمها في حربه مع الفرس، لإخراجهم من بغداد حيث كانوا يقدمون إليه النذور، ويطلبون منه إطلاق ألسنة أطفالهم وهو يعرف عندهم " طوب أبي خزامة "، مما حدا بالعلامة محمود شكري الآلوسي إلى التصدي لهذه الخرافة الشنيعة بكتابة رسالة يزجر بها هؤلاء الجاهلين أسماها بـ ( القول الأنفع في الردع عن زيارة المدفع ).

       واعتاد الناس في أواخر الدولة العثمانية أن يحلفوا بغير الله عز وجل من المخلوقين، وكان يسهل عليهم الحلف بالله كاذباً، عامداً متعمداً، ولكنه لا يجرؤ أبداً أن يحلف بما عظمه من المخلوقين إلا صادقاً.

 

انتشار البدع والخرافات
       كان السلاطين الأوائل في الدولة العثمانية ينفرون من البدع وأهلها ويحاربونها فهذا السلطان محمد الفاتح في وصيته يقول لمن بعده: " جانب البدع وأهلها وباعد الذين يحرضونك عليها " أما في العصور المتأخرة من الدولة العثمانية فإن البدع انتشرت انتشاراً ذريعاً، وأصبحت حياة رعايا الدولة ممزوجة بها، فقلما تخلو منها عبادة، أو عمل أو شأن من شؤون الحياة سواء في الجنائز والمآثم والأعراس والضيافات والولائم، وبدع الموالد عند المتصوفة المنحرفين وهكذا أصبحت البدع ترى في كل مكان تكاد تحتل منزلة الصدارة من حياة الناس يعمل بها الجاهلون ويؤيدها العالمون.

       وأصبحت السنة بدعة والبدعة سنة وتغير مفهوم الدين والعلم من منهج كامل وشامل لجميع مجالات الحياة إلى طقوس غريبة ورسوم بالية يتشبثون بها، ويحسبون أنهم مهتدون وتحول صحيح البخاري بما حواه من منهج للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تقليد بال رتيب، يتلى في الأزمات، ويقرأ في الحروب، طلباً للنصر ودحر الأعداء.

       لقد أضحت السنة في تلك الفترة غريبة جداً، بعد أن غمرها طوفان البدع العظيم، وصار الناس متشبثين بالبدع على أنها من صميم الدين، ويأبون التفريط فيها مطلقاً، في الوقت الذي كانوا يفرطون فيه في كثير من أحكام الإسلام، ويكافحون من أجلها، ويتعاهدون عليها، ويرون أنهم خدموا الدين، ونفعوا المسلمين.

 

انتشار الخرافات:

       في أواخر الدولة العثمانية فشت الخرافات والأساطير في جموع المسلمين بشكل منقطع النظير، وأضحت كحقائق مسلمة لاتقبل النقاش مطلقاً، وليس ذلك فحسب، وإنما غدت عند كثير منهم أموراً مقدسة لا يجوز التهاون بها، فضلاً عن التشكيك في صحتها.

       ومن الخرافات في الأستانة أنه جامع خوجة مصطفى باشا محاط بزنجير مربوط طوفه بشجرة سرو قديمة، ولهذا الزنجير خرافة يتناقلها الجهلاء مؤداها أن كل من أنكر شيئاً حقيقياً، وجلس تحت هذا الزنجير، فهو يسقط على رأسه، وإذا كان صادقاً في إنكاره، فالزنجير لا يتحرك لقد كانت الأمة في تلك الفترة غارقة في عبادة الأضرحة، والتعلق بها من دون الله عز وجل، ووقعت فريسة لكثير من مظاهر الشرك والغلو والبدع والخرافات، التي ملأت حياتها، وشغلت أوقاتها، وقتلت طاقاتها، وصرفت جهودها عن طريقها الصحيح، فعجزت عن النهوض من كبوتها، ولم تستطع أن تعالج أسباب انحطاطها؟ وانهزمت أمام جيوش الأعداء ووهنت عن مقاومة مخططاتهم ومؤامراتهم وكانت النتيجة ضياع الدولة العثمانية.

رابعاً: الصوفية المنحرفة
       إن أعظم انحراف وقع في تاريخ الأمة الإسلامية ظهور الصوفية المنحرفة كقوة منظمة في المجتمع الإسلامي تحمل عقائد وأفكار وعبادات بعيدة عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد قوى عود الصوفية المنحرفة واشتدت شوكتها في أواخر العصر العثماني بسبب عوامل متعددة منها:
1- الأحوال السيئة التي كانت تعيشها الأمة الإسلامية، والواقع المرير الذي كان يعيشه المسلمون في تلك الفترة، من انتشار التخلف والظلم والطغيان والفقر والمرض والجهل، كل ذلك جعل الناس يرتمون في أحضان الصوفية المنحرفة، التي لا تقوم بأكثر من الترتيب عليهم، والتحذير لهم، وجعلهم يعيشون في غير واقعهم الذي فروا منه.
2- كان اضطراب الأمن وانعدامه سمة من سمات العصور المتأخرة، حيث كانت تزهق الأرواح لأسباب تافهة بل دون سبب في بعض الأحيان، وفي هذه الأجواء الحالكة، والظروف العصيبة، كان أرباب التصوف يحيون حياة هادئة يرفرف عليها الأمن والاطمئنان بعيدة عن المصائب والفتن التي فتكت بالناس.
" قد كان الفقراء أروح بالاً وأكثر طمأنينة من الفلاحين في حقولهم والتجار في متاجرهم والصناع في مصانعهم، فقد كانوا في أمن من تطبيق القوانين ... وكانوا في أغلب فترات الظلم الفادح في نجاة من هذه الشرور كلها؛ لأن الجنود كانوا يخافون بأسهم، ويخشون سلطانهم الروحي، ويؤمنون باتصالهم بالله، فيتزلفون إليهم ويطلبون الرضا منهم، قأقبل بعض الناس على دخول الطريق مدفوعاً بما سيصيبه في رحاب الزوايا من اطمئنان البال واستقرار الحال ".
3- الترف في معيشة أرباب الفرق: " كان الفقراء فوق النجاة من ضغط الحياة يومذاك لا يجهدون أنفسهم في احتراف عمل يكسبون قوتهم من ورائه، بل كانوا يعيشون في الزوايا، طاعمين كاسين، على نفقة المحسنين والأثرياء بدعوى التفرغ للذكر والانقطاع للتهجد والتجرد لعبادة الله. ومن أطرف مفارقة هذا العصر أن يكون هؤلاء الزهاد الذين يدعون التقشف والقناعة بالتافه من شؤون العيش، أرغد عيشاً وأترف حياة من الفلاحين والتجار وأرباب الحرف ...".
4- حب الأتراك العثمانيين للدروشة والتصوف: " كان الأتراك يحبون التصوف ويميلون إلى تقديس أهل الإيمان بصدق ولايتهم ".

       لقد كانت الصوفية قد أخذت تنتشر في المجتمع العباسي، ولكنها كانت ركناً منعزلاً عن المجتمع، أما في ظل الدولة العثمانية، وفي تركيا بالذات، فقد صارت هي المجتمع وصارت هي الدين، وانتشرت - في القرنين الأخيرين بصفة خاصة - تلك القولة العجيبة: من لاشيخ له فشيخه الشيطان! وأصبحت بالنسبة للعامة بصورة عامة - هي مدخلهم إلى الدين وهي مجال ممارستهم للدين".

       وقد كان كثير من سلاطين آل عثمان يقومون برعاية الصوفية، ويفيضون عليها من عطفهم وحدبهم، حتى جاء السلطان عبد والحميد إلى السلطنة في ظروف عصيبة، والمؤامرات تحاك للأمة، والكوارث والمحن تحيط بها من كل مكان، ودعاة القومية يبثون دعوتهم في سائر البلاد، فدعا إلى الجامعة الإسلامية والرابطة الدينية، وكانت الصوفية بجميع أصنافها وطرقها تشكل ثقلاً في الدعوة إلى الجامعة الإسلامية.

       لقد كان ذلك العصر، عصر الصوفية التي أطبقت على العالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه ولم تبقى مدينة ولاقرية إلا دخلتها إلا إذا استثنينا نجد وملحقاتها.

       لقد سيطرت الصوفية المنحرفة على العالم الإسلامي في تلك الفترة، ووقع جمهور من المسلمين في أسرها، وعظم سلطان المتصوفة في ذينك القرنين، وبلغ مبلغاً عظيماً، لو لم يكن من قوته ونفوذه إلا هيمنته على الجماهير الغفيرة في طول البلاد وعرضها لكفى، فكيف إذا تبنته الدولة وناصره الحكام.

       وكانت نظرة المتصوفة المنحرفة تحترم البطالة وتبيح التسول، وتصطنع الضيق، وتسعى إلى مواطن الذل، وتغتبط بالهوان وكانت نظرتهم إلى الأخذ بالأسباب منحرفة جداً " فما أخيب التاجر الذي يصرف وقته في تجارته، والزارع الذي ينفق جهده في زراعته، والصانع الذي يبذل نشاطه في صناعته، وما أفشل من سافر منهم طلباً لكسب أو رغبة في مال، فإن الرزق في طلب صاحبه دائر، والمرزوق في طلب رزقه حائر، وبسكون أحدهما يتحرك الآخر..".

       وفسدت لدى كثير من المتصوفة عقيدة القضاء والقدر وأصبحت عندهم عقيدة سلبية مخذلة لقد كتب أحد المستشرقين الألمان وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصورهم الأخيرة يقول: " طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله والرضا بقضائه وقدره والخضوع بكل ما يملك للواحد القهار.

       وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان: ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دوراً كبيراً في الحروب إذ حققت نصراً متواصلاً لأنها دفعت في الجندي روح الفداء وفي العصور الأخيرة كانت سبباً في الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي فقذف به إلى الانحدار وعزله وطواه عن تيارات الأحداث العالمية ".

       إن هذا الرجل وهو كافر أدرك هذه الحقيقة: حقيقة الفرق بين الإيمان بالقدر كما فهمه السلف وبين الإيمان الذي ابتدعه الخلف متأثرين بالمتصوفة، فالذنب ليس ذنب العقيدة بل ذنب المعتقدين بها، وقد صاغ ذلك شاعر الإسلام محمد إقبال شعراً فقال:

من القرآن قد تركوا المساعي        وبالقرآن قد ملكوا الثريا
إلى التقدير ردوا كـل سعي        وكان زماعهم قدراً خفيا
تبدلت الضمائر في اسار        فما كرهوه صار لهم رضيا

       وقد استغل نابليون بونابرت تلك الفكرة المنحرفة عن القضاء والقدر لما احتلت جيوشه الصليبية أرض مصر، فكان يصدر منشوراته بتذكير المسلمين بأن ما وقع لهم من الاحتلال والأسر كان بقدر من الله، فمن حاول الاعتراض على ما وقع فكأنما يعترض على القضاء والقدر.

       لقد كانت مفاهيم التصوف المنحرف تنخر في كيان الدولة العثمانية، وكان العالم الصليبي ينطلق في مجالات العلم وميادين المعرفة آخذاً بأسباب القوة والتقدم والرقي ويدير المؤامرات والدسائس لتفتيت الدولة العثمانية ومن ثم الهيمنة على العالم الإسلامي.

       وكان المتصوفة المنحرفون مقبلين على استماع الملاهي والمعازف ويتعلمون الموسيقى وكانت مجالسهم مليئة بالطبول والنايات والأعلام والرايات وكانت كثير من الطرق المنحرفة لا تخلو حلقات الذكر من الدف حتى قال أبو الهدى الصيادي وهو من خواص السلطان عبدا لحميد الثاني، ومن أنصار الجامعة الإسلامية:

اضرب الدف وجانب جاهلاً        حكمة الشرع لمعنى مادرى
كل ما حرك قلباً ساكناً        ودعا العقل منه معتبراً
وأجال الروح في برزخها        تذكر الله وتبغي مظهراً
فهو بر والذي يفعله        فعل البر والله يرى
إن في الدف وفي رنته        نغمة يعرفها من ذكرا
صوته ذكر وفي بحته        أنّه تذكر أوقات السرى
نضرب الدف ومنه عندنا        ذاكراً نسمعه لن يفترا

        وقد كان للسماع عند جمهور المتصوفة منزلة عظيمة: يقول أبو الهدى الصيادي: " من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن لطف الاعتدال بعيد عن نور الروحانية، زائد في غلظة الطبع وكثافته، بل هو أبلد من الجمال والطيور وسائر البهايم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة ... وبالجملة فالسماع يثمر حالة في القلب وتسمى وجداً، ويثمر الوجد تحريك الأطراف، إما بحركة غير موزونة فتسمى الاضطراب، وإما بحركة موزونة فتسمى التصفيق والرقص".

       وياليت أولئك المتصوفة اقتصروا على الولوع بالطرب والسماع والغناء، ولكنهم جعلوه إلى الله قربة، وعدوه طاعة تلين بها القلوب، وتشف بها الأرواح.

       وما أحسن ما قاله العلامة الحافظ ابن القيم الجوزية عن هؤلاء المتصوفة حيث يقول: " فلو رأيتهم عند ذاك السماع، وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟.

       ويحق لهم ذلك، وقد خالط خمرة النفوس، ففعل فيها أعظم ماتفعله حميا الكؤوس، فلغير الله، بل للشيطان، قلوب هناك تمزق، وأثواب في غير طاعة تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخز في صدورهم وخزاً، وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزاً فطوراً تجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسط الديار، فيا رحمة للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، ويا شماتة أعداء الإسلام، بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام، قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب إليهم من سماع سور القرآن.

       لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعج له قاطناً، ولا أثار فيه وجداً ولا قدح فيه من لوا عج الأشواق إلى الله زنداً، حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت .. ولقد أحسن القائل:

تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة        لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا        والله مارقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن        فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهم لمـا رأوا        تقييده بـأوامر ونواهي
سمعوا له رعداً وبرقاً إذ حوى        زجراً وتخويفاً بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن        شهواتها ياذبحها المتناهي
وأتى السماع موافقاً أغراضها        فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه

       وهكذا أصبحت حياة المتصوفة المنحرفين في اللهو والسخافة وأضاعوا أوقاتهم وأعمارهم في مجالس الذكر والسماع والملاهي، وأصبحت حياتهم من أولها إلى آخرها تدور حول الذكر في صورته المنحرفة، وضاعت عبادة السعي في مناكب الأرض وطلب الرزق، والجهاد، وطلب العلم ونشره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكلها أمور تشغل عن الذكر وتصد عنه، ومن ثم ينبغي على المسلم أن لا يشتغل بها وأن يعيش حياته على الذكر بالسماع والغناء والرقص.

       ودخل في عالم التصوف المنحرف تقديس الأشخاص الأموات منهم والأحياء ونسبوا إليهم خوارق العادات والكرامات، وعاشوا في الأوهام، وعالم الخيال وأصيب الناس بالوهن والعجز والانحطاط، واتسعت هوة التخلف والسقوط، وكانت أوربا الصليبية تواصل صعودها في سلم الحضارة المادية وتعد جيوشها للزحف على العالم الإسلامي الغارق أهله في دنيا الخرافات والأوهام، والاتكال على الخوارق والكرامات.

       وفي الوقت الذي كانت فيه الأمة تعاني أشد المعاناة من الضعف والانحطاط، وتدور عليها المؤمرات من الأعداء وتحاك لها الدسائس ، كان كثير من علمائها طوع مشيئة شيوخهم من المتصوفة المنحرفين الذين أشاعوا روح الذل والخنوع في الأمة والذلة والهوان وغير ذلك من الأمراض المنحرفة، وتركت كثير من الطرق الصوفية المنحرفة الجهاد لمقارعة الأعداء، واصبح الأولياء في عرف الناس هم المجاذيب والمجانين والمعتوهين.

       ولاشك أن هناك بينهم نسبة كبيرة من الدجالين والمحترفين، استغلوا ما للمجاذيب من مكانة مقدسة في نفوس الناس ، فاندسوا في صفوفهم ، ليصبحوا ضمن رابطة الأولياء، من الذين لالوم عليهم ولا عتاب، مهما ارتكبوا من الموبقات، وجاهروا بالفواحش والآثام، وكان الكثير منهم يتعامل مع الجن فكان طبيعياً تنفذ سهام الأعداء، وتنجح مخططاتهم، وتحتل جيوشهم أرضنا، وتستباح بيضتنا.

       ولقد حفلت الصوفية ببحر زاخر من العقائد المنحرفة والضالة ولعل آخر العقائد من آمن بها كثير من المتصوفة المنحرفين كعقيدة وحدة الوجود والحلول، لقد احتضن المتصوفة المنحرفين هذه العقائد، وعملوا على نشرها ، وألفوا مؤلفات من أجلها واعتبروها الحقيقة التي كشفت لهم سرها وستر عن الآخرين.

       وكان تدريس كتابيّ (فصوص الحكم) و(الفتوحات المكية) لـ(ابن عربي) وغيرها من كتب المتصوفة التي تطفح بعقيدتي وحدة الوجود والحلول هو شعار كبار العلماء من المتصوفة وغيرهم، وهو المنزلة العلمية التي لا يتبوؤها إلا الخاصة منهم، والمستوى العلمي الذي لا يرقى إليه إلا فحول العلماء.

       لقد لقيت هذه العقائد المنحرفة رواجاً واسعاً بين المتصوفة المنحرفين في تلك الفترة الحرجة التي كانت تمر بها الأمة الاسلامية، فكان كثير منهم يؤمن بعقيدة وحدة الوجود، التي لايمكن للحياة في ظلها أن تفسد، ويحيق الدمار بالعالم ، وتبطل الأديان بالكلية، فلا يبقى معها دين ولا جهاد، ولا عداء بين مسلم وكافر ، فالكل واحد، والوجود واحد، وإن تعددت المظاهر ، نسأل الله السلامة في الدين.

       واستخفاف كثير منهم بالشرائع، وإلغاؤهم التكاليف أو إسقاطهم لها، واستهانتهم بأوامر الدين ونواهيه، تحت مسمى الولاية والحزب والجذب والشهود ولقد كان واقع الصوفية حجة قوية استندت إليها حركات التغريب التي نخرت الدولة العثمانية.

خامساً: نشاط الفرق المنحرفة
       كالشيعة الإثنى عشرية، والدروز والنصيرية ، والإسماعيلية والقاديانية والبهائية وغيرها من الفرق الضالة المحسوبة على الإسلام.

       لقد كانت تلك الفرق قد استفحل أمرها، خصوصاً مع مجيء الاستعمار الصليبي الذي طوق الأمة الاسلامية، فكانوا على عادتهم دائماً مع أعداء المسلمين عوناً لهم وجنداً مخلصين تحت قياداتهم.

       ففي الماضي كانوا أكبر عون للتتار والصليبيين ضد المسلمين، وهاهم يسيرون على نفس المنهج الممزوج بالخيانة والتآمر لحساب أعداء الأمة وقد مر بنا في هذا الكتاب دور الصفوية الإثنى عشرية الشيعة في محاربة الدولة العثمانية على مر عصورها، وحين احتل الفرنسيون سوريا وانطلقت الحركات الجهادية ضدهم كان الاسماعيلية في سليمة وغيرها يقاتلون جنباً الى جنب مع الفرنسيين كما فعلوا مع المجاهد (إبراهيم هنانو) ومن معه من المجاهدين.

       أما طائفتا النصيرية والدروز فقد كانتا على مر التاريخ والعصور مصدراً لإثارة القلاقل وزعزعة الأمن والثورات المستمرة ضد الحكم الاسلامي، وعوناً للأعداء من الصليبيين المستعمرين وغيرهم.

       وفي القرن الثالث عشر الهجري تفاقم أمر النصيرية وتعاظم خطرهم في بلاد الشام مما حدا بـ(يوسف باشا) والي الشام أن يقود جيشاً بنفسه ويقاتلهم حيث (انتصر عليهم وسبي نساؤهم وأولادهم ، وكان قد خيرهم بين الدخول في الإسلام أو الخروج من بلادهم فامتنعوا وحاربوا وانخذلوا وبيعت نساؤهم وأولادهم، فلما شاهدوا ذلك أظهروا الإسلام تقية، فعفا عنهم وعمل بظاهر الحديث وتركهم في البلاد....).

       وقد قاموا بثورة كبيرة عام 1834م وهاجموا مدينة اللاذقية ونهبوها وفتكوا بأهلها. وقد حاول السلطان عبد الحميد الثاني أن يعيدهم الى حظيرة الإسلام وأرسل رجلاً من خاصته اسمه (ضيا باشا) جعله متصرفاً على لواء اللاذقية في بداية القرن الرابع عشر الهجري فأنشأ لهم المساجد والمدارس، فأخذوا يتعلمون ويصلون ويصومون، وأقنع الدولة بأنهم مسلمون فلم يعصوا له أمراً، وبعد أن ترك هذا المتصرف منصبه خربت المدارس وحرقت الجوامع أو دنست.

       وهذا من تفريط المسلمين تجاههم وكم خدعت تلك العقيدة الخطيرة (التقية) المسلمين حكاماً ومحكومين علماء ومتعلمين ، فأين علماء السنّة الذين لا تنطلي عليهم دسائس الباطنيين؟

        إن تاريخ النصيريين ، تاريخ أسود ملطخ بالدماء ضد أهل السنة، وكانوا دائماً خنجراً مسموماً في جنب الأمة الاسلامية، يتآمرون ضدها في الخفاء، ويظهرون لها العداء كلما وجدوا لذلك سبيلا، والتاريخ يشهد بأنهم كانوا دائماً في تحالف مع أعدء الإسلام.

       وكان أمير الدروز بشير الشهابي المتوفى سنة 1266هـ يقف بجنوده بجانب جيش محمد علي عند احتلاله للشام، مما سهل على جيش محمد علي هزيمة الجيش العثماني في حمص، وعبر جبال طوروس، وأوغلت جيوشه في قلب بلاد الترك، وكان هناك مراسلات بين نابليون والدروز عند حصار الفرنسيين (عكا).

       أما البهائية فقد نشأت عام 1260هـ/1844م تحت رعاية الاستعمار الروسي واليهودية العالمية والاستعمار الإنكليز بهدف إفساد العقيدة الاسلامية، وتفكيك وحدة المسلمين وصرفهم عن قضاياهم الأساسية، وقد ادعى البهاء المهدية، ثم ادعى النبوة ، ثم ادعى الربوبية والألوهية.

       إن من المؤلم حقاً تهاون الدولة العثمانية في القضاء على تلك النحلة الخبيثة وتطبيق فيهم حكم الله وشرعه في أمثالهم.

       وأما القاديانية فهي نحلة تنسب إلى (غلام أحمد القادياني)، نسبت الى قرية قاديان من إقليم البنجاب في الهند (المتوفى سنة 1326هـ) وهي: (حركة نشأت بتخطيط من الاستعمار الإنكليزي في القارة الهندية بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد بشكل خاص، حتى لا يواجهوا المستعمر باسم الإسلام).

       وقد ادعى القادياني النبوة ثم الألوهية، وقد كان من أبرز ملامح دعوة (غلام أحمد القادياني) (ميله الشديد للإنكليز وخدمته لأغراضهم في بلاد الهند، وإبطال عقيدة الجهاد لهم، وثناؤه عليهم، وحث اتباعه على نصرتهم في كل مكان...).

       ويقول القادياني :(ولا يجوز عندي أن يسلك رعايا الهند من المسلمين البغاة وأن يرفعوا على هذه الدولة المحسنة سيوفهم أو يعينوا أحداً في هذا الأمر ويُعان على شيء أحد من المخالفين بالقول أو الفعل أو الإشارة أو المال أو التدابير المفسدة، بل هذه الأمور حرام قطعي ومن أرادها فقد عصى الله ورسوله وضل ضلالاً مبينا).

       لقد كانت تلك الفرق مصدراً لإثارة القلاقل والفتن وإحداث الفوضى في داخل الدولة العثمانية وكذلك في تجمعات المسلمين كالهند وغيرها وكانت تلك الفرق لا تكل ولا تمل في تآمرها المستمر مع أعداء الإسلام وفي خيانة المسلمين في أحرج الأوقات، وأحلك الظروف، لقد اكتوت الأمة بشرور تلك الفرق عندما ضعفت عقيدة أهل السنة في كيان الدولة القائمة عليها وفي نفوس رعاياها من أهل السنة.

سادساً: غياب القيادة الربانية
       إن القيادة الربانية من أسباب نهوض الأمة والتمكين لها؛ لأن قادة الأمة هم عصب حياتها، وبمنزلة الرأس من جسدها، فإذا صلح القادة صلحت الأمة، وإذا فسد القادة صار هذا الفساد الى الأمة، ولقد فطن أعداء الإسلام لأهمية القيادة الربانية في حياة الأمة ولذلك حرصوا كل الحرص على ألا يمكنوا القيادات الربانية من امتلاك نواصي الأمور وأزمة الحكم في الأمة الاسلامية ففي خطة لويس التاسع أوصى بـ(عدم تمكين البلاد الاسلامية والعربية من أن يقوم بها حاكم صالح) كما أوصى بـ(العمل على إفساد أنظمة الحكم في البلاد الاسلامية بالرشوة، والفساد، والنساء، حتى تنفصل القاعدة عن القمة).

       وصرح القائد المستشرق البريطاني (مونتجو مري وات) في (جريدة التايمز اللندنية) قائلاً: (إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلام المناسب عن الاسلام، فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى).

       وقال المستشرق الصهيوني (برنارد لويس) تحت عنوان (عودة الإسلام) في دراسة نشرها عام 1976م: (إن غياب القيادة العصرية المثقفة: القيادة التي تخدم الإسلام بما يقتضيه العصر من علم وتنظيم ، إن غياب هذه القيادة قد قيدت حركة الإسلام كقوة منتصرة ، ومنع غياب هذه القيادات الحركات الاسلامية من أن تكون منافساً خطيراً على السلطة في العالم الاسلامي، لكن هذه الحركات يمكن أن تتحول الى قوى سياسية هائلة إذا تهيأ لها هذا النوع من القيادة).

       إن الباحث في الدولة العثمانية يجد أن القيادة الربانية كانت موجودة في عصورها المتقدمة وخصوصاً عند فتح القسطنطينية فنجد القادة الربانيين في المجال الجهادي والمجال المدني ونلاحظ الصفات المشتركة بينهم، كسلامة المعتقد، والعلم الشرعي، والثقة بالله ، والقدوة، والصدق والكفاءة، والشجاعة، والمروءة، والزهد، وحب التضحية، وحسن الاختيار للمعاونين، والتواضع وقبول التضحية، والحلم والصبر ، وعلو الهمة، والتميز بخفة الروح والدعابة، والحزم والإرادة القوية، والعدل والاحترام المتبادل ، والقدرة على حل المشكلات، والقدرة على التعليم وإعداد القادة، وغير ذلك من الصفات.

       لقد قاد محمد الفاتح الأمة في زمنه قيادة ربانية، وقد جرى الإيمان في قلبه وعروقه، وانعكست ثماره على جوارحه، وتفجرت صفات التقوى في أعماله وسكناته وأحواله، وانتقل بدولته وشعبه نحو الأهداف المرسومة بخطوات ثابتة وكان العلماء الربانيون هم قلب القيادة في الدولة وعقلها المفكر.

       ولذلك سارت الأمة والدولة العثمانية على بصيرة وهدى وعلم وأما في العصور المتأخرة يجد الباحث انحرافا خطيراً في القيادة العثمانية على المستوى العسكري والعلمي ، فمثلاً وصل الى الصدارة العظمى مدحت باشا الماسوني، ووالى ولاية مصر محمد علي باشا العلماء والفقهاء وإن المرء ليعجب من اختيار العلماء لرجل مثل (محمد علي باشا) ليتولى أمورهم ، وإصرارهم عليه في تولي الحكم، أما كان أحدهم أولى به من عسكري جاهل مغرور ويبدو أن العلماء فقدوا ثقتهم في علمهم وتهيبوا النزول الى الميدان، وتحمل المسؤوليات العظام؛ لأنهم قد ألفوا الركون الى حلقات العلم وتأليف الكتب، ولم يعودوا قادرين على القيام بغير ذلك من مهمات ومسؤوليات؟

       ومن الأمور المحزنة التي كانت تقع بين العلماء حدوث المنافسات والضغائن بينهم واستعانة بعضهم بالحكام واستعداء السلطة عليهم، ومتى ما حدث ذلك فإنها تسنح الفرصة للطغاة لإنزال ضرباتهم الموجعة لتقويض صف العلماء كالخلاف الذي وقع بين الشيخ (عبد الله الشرقاوي) شيخ الأزهر، وبين بعض المشايخ الآخرين حيث ترتب على ذلك الخلاف صدور الأمر من محمد علي باشا الى الشيخ الشرقاوي بلزوم داره وعدم الخروج منها ولا حتى إلى صلاة الجمعة، وسبب ذلك كما يقول الجبرتي: (أمور وضغائن ومنافسات بينه وبين إخوانه ... فأغروا به الباشا ففعل به ما ذكر فامتثل الأمر ولم يجد ناصراً وأهمل أمره).

       ويصف الشيخ مصطفى صبري حال العلماء الذين ابتعدوا عن أمور الحكم ونصح الحكام، وماهي نظرة العلمانيين للعلماء فقال: (والذين جردوا الدين في ديارنا عن السياسة كانوا هم وإخوانهم لا يرون الاشتغال بالسياسة لعلماء الدين، بحجة أنه لا ينبغي لهم وينقص من كرامتهم، ومرادهم حكر السياسة وحصرها لأنفسهم، ومخادعة العلماء بتنزيلهم منزلة العجزة ، فيقلبون أيديهم، ويخيلون لهم بذلك أنهم محترمون عندهم، ثم يفعلون مايشاؤون لدين الناس ودنياهم، محررين عن احتمال أن يجيء من العلماء أمر بمعروف أو نهي عن منكر، إلا ما بعد من فضول اللسان، أو ما يكمن في القلب، وذلك أضعف الإيمان.

       فالعلماء المعتزلون عن السياسة ، كأنهم تواطئوا مع كل الساسة، صالحيهم وظاليمهم، على أن يكون الأمر بأيديهم ويكون لهم منهم رواتب الإنعام والاحترام، كالخليفة المتنازل عن السلطة وعن كل نفوذ سياسي ...).

       لقد أخلد العلماء في أواخر الدولة العثمانية الى الأرض واتبعوا أهواءهم، وضعفوا عن القيام بواجباتهم، فكانوا بذلك قدوة سيئة للجماهير التي ترمقهم وترقيهم عن قرب ولقد غرق الكثير منهم في متاع الدنيا وأترفوا فيها، وكممت أفواههم بدون سيف أو سوط ولكن بإغداق العطايا عليهم من قبل الباشوات والحكام، ووضعهم في المناصب العالية ذات المرتبات الجزيلة والمزايا العظيمة التي تكون كفيلة بإسكات أصواتهم وكبح ثورتهم واعتراضهم.

       (لقد كان علماء الدين دائماً في تاريخ هذه الأمة هم قادتها وموجهيها، وهم ملجأها كذلك إذا حزبهم أمر ، وملاذها عند الفزع.. تتجهم إليهم لتتلقى علم الدين منهم، وتتجه إليهم ليشيروا عليها في أمورها الهامة، وتتجه إليهم إذا وقع عليهم ظلم من الحكام والولاة ليسعوا الى رفع الظلم عنهم ، بتذكير أولئك الحكام والولاة بربهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر... وكان العلماء يضطهدون من قبل ذوي السلطان أحياناً، ويلقون في السجون أحياناً، ويؤذون في أبدانهم وأموالهم وكراماتهم أحياناً ولكنهم يصمدون لهذا كان ، تقديراً لمسؤولياتهم أمام الله....

       وكما كان العلماء هم قادة الأمة ومرشديها في الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والروحية، وكانوا كذلك دعاتها إلى الجهاد كلما حدث على الأمة عدوان .. يذكرونها بالله واليوم الآخر، وبالجنة التي تنتظر المجاهدين الصادقين، وكانوا يشاركون في الجهاد بأنفسهم، بل يقودون الجيوش بأنفسهم في بعض الأحيان.

تلك كانت مهمة علماء الدين ، والدين حي في النفوس ...

       وفي التاريخ نماذج عديدة لعلماء أرضوا ربهم وأدوا أمانتهم وجاهدوا في الله حق جهاده، وصبروا على ما أصابهم في سبيل الله فما ضعفوا وما استكانوا .. فأين كان العلماء في تلك الفترة التي نحن بصددها من التاريخ؟

       هل كانوا في مكان القيادة الذين عهدتهم الأمة فيه الى عهد ليس ببعيد...؟
هل كانوا حماة الأمة من العدوان؟ وحماتها من الظلم الواقع عليهم من ذوي السلطان؟
هل كانوا هم الذين يطالبون للأمة بحقوقها السياسية وحقوقها الاجتماعية وحقوقها الاقتصادية؟

       هل كانوا هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويقومون الى الإمام الجائر فيأمرونه وينهونه، قتلهم أم لم يقتلهم؟

       أم كان كثير منهم قد استعبدوا أنفسهم للسلطان، ومشوا في ركابه ، يتملقونه ويباركون مظالمة فيمدونه في الغي، بينما البقية الصالحة منهم قد قبعت في بيوتها ، أو انزوت في الدرس والكتاب ، تحسب أن مهمتها قد انتهت إذا لقنت الناس العلم.. وما نريد أن نظلمهم فقد كان منهم -ولاشك- من صدع بكلمة الحق، ومنهم من ألقى بالمنصب تحت قدميه حين أحس أنه يستعبده لأولي السلطان أو يلجمه عن كلمة الحق.. ولكنهم قلة قليلة بين الكثرة الغالية التي راحت تلهث وراء المتاع الأراضي، أو تقبع داخل الدرس والكتاب، على ما فيها من جوانب القصور..).

       وكان من الطبيعي أن تصاب العلوم الدينية في هذه الفترة بالجمود والتحجر نتيجة لعدة عوامل أعطت أثرها عبر القرون المتوالية، ومن هذه العوامل:

 

الاهتمام بالمختصرات
       قام بعض العلماء باختصار المؤلفات الطويلة بغية تسهيل حفظها لطلبة العلم، حيث غدا الحفظ هو الغاية عند العلماء والطلاب حيث ضعفت ملكة الفهم والاستنباط عندهم: (فأصبح الفقهاء ينقلون أقوال من قبلهم، ويختصرون مؤلفاتهم في متون موجزة، ويأخذون هذه الأقوال مجردة عن أدلتها من الكتاب والسنة، مكتفين بنسبتها الى أصحابها).

       يقول الشيخ عبد الحميد بن باديس ناقداً للطريقة في تدريس الفقه: (واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، وراء أسوار من الألفاظ المختصرة تفني الأعمار قبل الوصول إليها).

       ويذكر الإمام الشوكاني اهتمام الناس في عصره بهذه المختصرات والخطورة التي تنطوي على ذلك فيقول: (قد جعلوا غاية مطالبهم ونهاية مقاصدهم العلم بمختصر من مختصرات الفقه التي هي مشتملة على ماهو من علم الرأي والرواية والرأي أغلب، ولم يرفعوا الى غير ذلك رأساً من جميع أنواع العلوم ، فصاروا جاهلين بالكتاب والسنة وعلمهما جهلاً شديداً ، لأنه تقرر عندهم أن حكم الشريعة منحصر في ذلك المختصر، وأن ما عداه فضلة أو فضول ، فاشتد شغفهم به وتكالبهم عليه، ورغبوا عما عداه، وزهدوا فيه زهداً شديداً).

 

الشروح والحواشي والتقريرات
       يقول الشوكاني -رحمه الله- الذي دَرَسَ ودَرَّسَ الكثير من هذه الشروح والحواشي في مختلف العلوم الدينية واللغوية منتقداً لها: (مع أن فيها جميعاً ما لا تدعوا إليه الحاجة بل غالبها كذلك ولاسيما تلك التدقيقات التي في شروحها وحواشيها فإنها عن علم الكتاب والسنة بمعزل).

       لقد كانت المؤلفات على كثرتها من شروح وحواشي وغير ذلك من الأغلال التي كبلت العقول وأدت الى جمود العلوم عبر قرون عديدة وكانت توجد بعض الحواشي والشروح المفيدة، ولكنها لا تكاد تذكر، وكانت مناهج التعليم في تلك الفترة بعيدة كل البعد عن منهج أهل السنة والجماعة وكانت المعاهد الاسلامية كلها تقريباً بعيدة عن ذلك المنهج الاسلامي الأصيل.

       فالأزهر مثلاً وهو المعهد الاسلامي الكبير والجامعة العتيقة كان مركزاً لعلوم المتكلمين البعيدة عن روح الإسلام ومبادئه يقول أحد الدارسين في الأزهر عن علم الكلام:

       (ومن العلوم التي لم أنتفع بدراستها في الأزهر على الإطلاق علم الكلام، فقد درسته بالأزهر عدة سنوات، ولكني لم أعرف منه شيئاً عن الله ذا بال، وإنما انغمست في اصطلاحات زادت تفكيري غموضاً واضطراباً حتى تمنيت إيمان العوام...).

       لقد أصاب المناهج الاسلامية في تلك الفترة بالإضافة الى الجمود موجة من الجفاف حيث: (أن العصور المتأخرة بعدت بعداً كبيراً عن روح الاسلام واهتمت بالجسم والمادة حتى أصبحت الدراسات الاسلامية دراسة لا حياة فيها ولا روح، وجرت عدوى هذه الدراسات الى جميع أبواب الفقه حتى الأبواب التي كانت يجب أن تكون دراسة الروح أهم عنصر فيها...).

 

الإجازات
       من عوامل تدهور الحياة العلمية في تلك الفترة التساهل في منح الإجازات ؛ فكانت تعطى في العصر المتأخر للدولة العثمانية جزافاً، إذ كان يكفي أن يقرأ الطالب أوائل كتاب أو كتابين مما يدرسه الأستاذ حتى ينال إجازة بجميع مرويا ته، وكثير ما أعطيت لمن طلبوها من أهل البلاد القاصية عن طريق المراسلة, فكان العالم في القاهرة يبعث إلى طالب في مكة بالإجازة دون أن يراه أو يختبره.

       فكانت ذلك التساهل من الأمور التي شغلت المسلمين عن تحصيل العلوم كما كان ينبغي، وهكذا كان التساهل في منح الإجازات عاملاً مهماً من عوامل انحدار المستوى التعليمي، وضعف العلوم الشرعية، حيث أضحى الهدف عند كثير من المنتسبين الى العلم، حيازة أكبر عدد من هذه الإجازات الصورية التي لم يكن لها في كثير من الأحيان أي رصيد علمي في الواقع.

 

وراثة المنصب العلمي
       أصبحت المناصب العلمية في أواخر الدولة العثمانية بالوراثة في الأمور العلمية المهمة كالتدريس والفتوى والإمامة وحتى القضاء، فقد صارت تلك المناصب تورث بموت من كانوا يتولونها، تماماً كما تورث الدور والضياع والأموال، فكثير ما كان يحدث ان يموت شيخ يدرس عليه، فلا يوارى في التراب حتى ينتقل منصبه وكرسيه الى ولده أو أخيه أو أحد أقاربه وقد يكون الوارث قليل الفهم مزجي البضاعة في العلم ولكن لابد للتصدر للإقراء والتدريس وعدم إخلاء الكرسي الذي قد يتربع عليه غريب عن أهل المتوفى حتى ولو كان جديراً بخلافته في منصبه الذي رحل عنه.

       يقول المؤرخ التركي أحمد جودت المتوفى عام 1312هـ متحدثاً عن تلك الظاهرة السيئة في الدولة العثمانية: (وصار أبناء الصدور والقضاة ينالون وظيفة التدريس وهم أحداث وأطفال، ويترقون لذلك في الوظائف ، حتى إن الواحد منهم لتأتيه نوبته في المولولية وما طر شاربه ولا اخضر عذاره.

       وكان ينال التدريس أيضاً كل ذي وجاهة واعتبار حتى صارت المراتب والمناصب العلمية تؤخذ بالإرث، فسهل على الوزراء ورجال الدولة تقليدها لأبنائهم وغيرهم، فازدحم عليها الغوغاء وصار الجهال يموج بعضهم في بعض، وألتبس الأمر وفسد أي فساد).

       ويقول : (محمد كرد علي ) في حديثه عن الأحوال العلمية في الشام وترديها في العصر العثماني: (وقد قويت في هذا العصر قاعدة خبر الأب للابن ، وكان المفتي (ابو السعود) من مشايخ الإسلام في الاستانة أول من ابتدعها وأخرجها للناس، فأصبح التدريس والتولية والخطابة والإمامة وغيرها من المسالك الدينية توسد الى الجهلة بدعوى أن آبائهم كانوا علماء، وهم يجب أن يرثوا وظائفهم ومناصبهم وإن كانوا جهلة كما ورثوا حوانيتهم وعقارهم وفرشهم وكتبهم، بل بلغت الحال بالدولة إذ ذاك أن كانت تولي القضاء الأميين، وكم من أمي غدا في (دمشق) و(حلب) و(القدس) و(بيروت) قاضي القضاة، أما في الأقاليم فربما كان الأميون أكثر من غيرهم...).

       لقد كانت لتلك العادة السيئة آثار وخيمة في انحدار مستوى التعليم ، وضعف الحياة العلمية عند المسلمين ، وذلك بتوارث تلك المناصب الدينية، وحكرها في أسر معينة وبالتالي أثرت تلك العادة في إيجاد علماء ربانيين متجردين لدين الله تعالى همهم إحقاق العدل، ونصرة المظلوم، وإعزاز الدين.

سابعاً: رفض فتح باب الاجتهاد
       في أواخر الدولة العثمانية أصبحت الدعوى بفتح باب الاجتهاد تهمة كبيرة تصل الى الرمي بالكبائر، وتصل عند بعض المقلدين والجامدين إلى حد الكفر، وكان من التهم التي وجهها خصوم الدعوة السلفية الى علمائها دعوى الاجتهاد، وكانت تهمة شديدة في ذلك الزمن مع أن أحد منهم لم يقل بذلك، وكانت الدعوة الى قفل باب الاجتهاد توارثها المتعصبون على مر العصور واصبح حرصهم في أواخر الدولة العثمانية ظاهراً ونافحوا من أجل عدم فتحه، ومقاومة كل من يحوم حوله مما شجع المتغربون بالسعي الدؤوب لاستيراد المبادئ والنظم من أوروبا ولقد ترتب على إغلاق باب الاجتهاد آثار خطيرة لا تزال أضرارها تنخر في حياة المسلمين الى يومنا هذا.

 

فحين يتوقف الاجتهاد مع وجود دواعيه ومتطلباته..فماذا يحدث؟

       يحدث أحد أمرين : إما أن تجمد الحياة وتتوقف عن النمو، لأنها محكومة بقوالب لم تعد تلائمها.

       وإما أن تخرج على القوالب المصبوبة، وتخرج في ذات الوقت من ظل الشريعة، لأن هذا الظلم لم يمد بالاجتهاد حتى يعطيها.

       وقد حدث الأمران معاً ، الواحد تلوا الآخر .. الجمود أولاً ثم الخروج بعد ذلك من دائرة الشريعة).

       لقد عانت الأمة من قفل باب الاجتهاد وكانت الدولة العثمانية في أواخر عهدها لم تعطي هذا الباب حقه، وكانت عجلة الحياة أسرع وأقوى من الجامدين والمقلدين الذين ردوا كل جديد، وخرج الأمر من أيديهم :

       (وهكذا توقفت الحركة العقلية عند المسلمين إزاء كل جديد تلده الحياة، والحياة ولود لا تتوقف عن الولادة أبداً، فهي تلد كل يوم جديداً لم تكن تعرفه الإنسانية من قبل... وكان من هذا أن مضى الناس -من غير المسلمين- يواجهون كل جديد، ويتعاملون معه، ويستولدون منه جديداً .. وهكذا سار الناس -من غير المسلمين- قدماً في الحياة ووقف المسلمون حيث هم لا يبرحون مكانهم الذي كان عليه الآباء والأجداد من بضعة قرون).

       واستمر التعصب المذهبي في إضعاف المستوى التعليمي ، وانحدار العلوم وجمودها وتكبيل العقول والأفهام والحجر عليها. بالإضافة إلى ما تسبب فيه من تفريق كلمة المسلمين وإفساد ذات بينهم، وزرع العداء والشقاق بين أفرادهم وجماعاتهم، وبعد أن تحزبوا طوائف وجماعات، كل طائفة تناصر مذهبها، وتعادي غيرها من أجله، وفي تلك الفترة تفاقم هذا التعصب وعم الأقطار الاسلامية ولم يسلم منه قطر ولا مصر؛ فالجامع الأزهر كان ميداناً رحباً للصراعات المذهبية خصوصاً بين الشوافع والأحناف وذلك من أجل التنافس الشديد على مشيخة الأزهر.

       إن العصبية المذهبية أوجدت حواجز كثيفة بين المسلمين في القرون الأخيرة، فأضعفت شعورهم بوحدتهم الاسلامية اجتماعياً وسياسياً ، وأورثت فيما بينهم من العداوات ما شغلهم عن أعداء الإسلام على اختلاف أنواعهم، وعن الأخطار المحدقة بالمسلمين والإسلام...).

       لقد كان التعصب المذهبي منحرفاً عن منهج الله تعالى وزاد هذا الانحراف عمقاً في حجر العقول ، وجمود العلوم، وتفتيت الصف الاسلامي مما كان له أعظم الأثر في ضعف الدولة العثمانية وانحطاطها، وانشغالها بمشاكلها الداخلية في الوقت التي كانت المؤمرات قد أحاطت بها وشرع الصليبيون في الإجهاز على الرجل المريض.

ثامناً: انتشار الظلم في الدولة
       إن الظلم في الدولة كالمرض في الإنسان يعجل في موته بعد أن يقضي المدة المقدرة له وهو مريض، وبانتهاء هذه المدة يحين أجل موته، فكذلك الظلم في الأمة والدولة يعجل في هلاكها بما يحدثه فيها من آثار مدمرة تؤدي الى هلاكها واضمحلالها خلال مدة معينة يعلمها الله هي الأجل المقدر لها ، أي الذي قدره الله لهما بموجب سنته العامة التي وضعها لآجال الأمم بناء على ما يكون فيها من عوامل البقاء كالعدل، أو من عوامل الهلاك كالظلم التي يظهر أثرها وهو هلاكها بعد مضى مدة محددة يعلمها الله.

       قال تعالى :{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } (الأعراف: آية 34).

        قال الآلوسي في تفسيره لهذه الآية: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ }. أي ولكل أمة من الأمم الهالكة أجل، أي : وقت معين مضروب لاستئصالهم.

       ولكن هلاك الأمم وإن كان شيئاً مؤكداً ولكن وقت حلوله مجهول لنا، أي أننا نعلم يقيناً أن الأمة الظالمة تهلك حتماً بسبب ظلمها حسب سنة الله تعالى في الظلم والظالمين، ولكننا لا نعرف وقت هلاكها بالضبط، فلا يمكن لأحد أن يحدد الأيام ولا بالسنين، وهو محدد عند الله تعالى.

       إن سنّة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة، قال تعالى: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (سورة هود: الآيات 100- 101- 102 ).

       إن الآية الكريمة تبين أن عذاب الله ليس مقتصر على من تقدم من الأمم الظالمة، بل إن سنته تعالى في أخذ كل الظالمين سنة واحدة فلا ينبغي أن يظن أحد أن هذا الهلاك قاصرٌ بأولئك الظلمة السابقين، لأن الله تعالى لما حكى أحوالهم قال: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ }102 هود 102.

        فبين الله تعالى أن كل من شارك أولئك المتقدمين في أفعالهم التي أدت الى هلاكهم فلابد أن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد؛ فالآية تحذر من وخامة الظلم إن الدولة الكافرة قد تكون عادلة بمعنى أن حكامها لا يظلمون الناس والناس أنفسهم لايتظالمون فيما بينهم، فهذه الدولة مع كفرها تبقى ، إذ ليس من سنته تعالى إهلاك الدولة بكفرها فقط، ولكن إذا انضم الى كفرها ظلم حكامها للرعية وتظالم الناس فيما بينهم.

       قال تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } ( هود: آية 117).

       قال الإمام الرازي في تفسيره:(إن المراد من الظلم في هذه الآية الشرك. والمعنى أن الله تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين، إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم يعامل بعضهم بعضاً على الصلاح، وعدم الفساد).

       وفي تفسير القرطبي قوله تعالى: {بظلم} أي : بشرك وكفر {وأهلها مصلحون} أي : فيما بينهم في تعاطي الحقوق، ومعنى الآية: إن الله تعالى لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان وقوم لوط باللواط.

       قال ابن تيمية في هلاك الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة: (وأمور الناس إنما تستقيم مع العدل الذي يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم ، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام.

       وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة).

       لقد قام بعض الباشوات بأفعال قبيحة وسفكوا الدماء واغتصبوا الأموال؛ فهذا إبراهيم باشا المعروف بدالي أحد وزراء السلطان مراد الثالث وكان أمير الأمراء في ديار بكر بأسرها؛ ففتك فيها وظلم أهلها وأظهر من أنواع الظلم أشياء مستكرهة جداً، منها الاعتداء على الأعراض، ونهب الأموال، وفعل الأفاعيل العظيمة ولما وصل الأمر للسلطان وعقد مجلس القضاء وهاب الناس أن يشهد عليه ولم يستطع القاضي أن يدقق في الدعوة لأن أخته كانت عند السلطان مراد مقبولة جداً، وانصرف خصماؤه ، وقرره السلطان في ديار بكر فذهب إليها ناوياً على إهلاك كل من اشتكى عليه، وأهلك منهم خلقاً تحت العذاب ووصل الأمر الى أن ثار عليه أهل البلد وقاموا عليه قومة رجل واحد فتحصن في القلعة وصار يقذف القذائف بالمدافع على أهل المدينة حتى قتل منهم خلقاً كثيراً.

       وما قام به الباشا محمد علي من ظلم أهل مصر وأهل الشام، والحجاز معروف وقد ذكرناه في هذا الكتاب، وقد أشتد ظلم الأتراك للعرب، والأكراد، والألبان مع مجيء الاتحاد والترقي للحكم، بل قامت تلك العصابة بظلم الناس في داخل تركيا وخارجها وقد ذكرنا ما تعرض له السلطان عبدا لحميد الثاني من ظلمهم، وعسفهم، وجورهم؛ فجرت فيهم سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير ولا تجامل، فانتقم من الظالمين وجعل بأسهم فيما بينهم وزالت دولة الخلافة العثمانية من الوجود.

تاسعاً: الترف والانغماس في الشهوات
       قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (سورة هود: آية 116).

       وقوله تعالى: { وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ }116 هود.

        أراد بالذين ظلموا: تاركي النهي عن المنكرات، أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما اهتموا بالتنعم والترف والانغماس في الشهوات والتطلع الى الزعامة والحفاظ عليها والسعي لها وطلب أسباب العيش الهنيء.

       وقد مضت سنة الله في المترفين الذين أبطرتهم النعمة وابتعدوا عن شرع الله تعالى بالهلاك والعذاب.

       قال تعالى:{ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) , الأنبياء.

       ومن سنة الله تعالى جعل هلاك الأمة بفسق مترفيها، قال تعالى:{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } ( الإسراء:آية 16).

       وجاء في تفسيرها: (وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها أي متنعميها وجبّاريها وملوكها ففسقوا فيها، فحق عليها القول فأهلكناها. وإنما خص الله تعالى المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة الى الجميع؛ لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال، وما وقع من سوءهم إنما وقع بأتباعهم وإغوائهم ، فكان توجه الأمر إليهم آكد).

       وحدث في زمن السلطان محمد بن إبراهيم : (زينت دار الخلافة ثلاثة أيام وكان السلطان محمد إذ ذاك ببلدة سلستره بروم ايلي فكتب الى قائم مقام الوزير بالقسطنطينية عبدي باشا النيشاني أنه يريد القدوم الى دار المملكة وأنه لم يتفق له رؤية زينة بها مدّة عمره وأمره بالنداء لتهيئة زينة أخرى إذا قدم فوقع النداء قبل قدوم السلطان بأربعين يوماً وتهيأ الناس للزينة ثم قدم السلطان فشرعوا في التزيين.

       وبذلوا جهدهم في التأنق فيها واتفق أهل العصر على أنه لم يقع مثل هذه الزينة في دَوْر من الأدوار، وكنت الفقير إذ ذاك بقسطنطينية وشاهدتها ولم يبق شيء من دواعي الطرب إلا صرفت إليه الهمم ووجهت إليه البواعث، واستغرقت الناس في اللذة والسرور، واستوعب جميع آلات النشاط والحبور، وفشت المناهي وعلمت العقلاء أن هذا الأمر كان غلطاً وأن ارتكابه كان جرم عظيم، وما أحسب ذلك إلا نهاية السلطنة وخاتمة كتاب السعادة والميمنة، ثم طرأ الانحطاط وشوهد النقصان وتبدل الربح بعدها بالخسران...).

       وفي سنة تسعين وتسعمائة للهجرة احتفل السلطان مراد بن سليم الثاني بختان ولده السلطان محمد وضع لذلك فرحاً لم يقع في زمن أحد من الخلفاء والملوك وامتدت الولائم والفرحة واللهو والطرب مدة خمسة وأربعين يوماً وجلس للفرجة في دار إبراهيم باشا بمحلة آت ميدان وأغدق النعم العظيمة ورأيت في تاريخ الكبريّ أنه جعل صواني صغاراً من ذهب وفضة وملأ الذهب بالفضة والفضة بالذهب وألقى في ذلك لأرباب الملاهي وغيرهم من طالبي الإحسان.

       وهذا انحراف خطير عن المنهج الذي سارت عليه الدولة في زمن قوتها وصولتها وتمكينها وكانت من وصايا محمد الفاتح لولي عهده (واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد)، (ولاتصرف أموال الدولة في ترف أو لهو وأكثر من قدر اللزوم؛ فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك)، فكان من الطبيعي بعد هذا الانحراف الخطير والانغماس في الترف واللهو والشهوات أن تزول الدولة بعد ضياع مقومات بقائها.

عاشراً: الاختلاف والفُرقة
       إن سنة الله تعالى ماضية في الأمم والشعوب لا تتبدل ولا تتغير ولا تجامل ، وجعل الله سبحانه وتعالى من أسباب هلاك الأمم الاختلاف وقال - صلى الله عليه وسلم -: (فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) وفي رواية (فأهلكوا)( انظر: صحيح البخاري بشرح العسقلاني).

{وعند ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود : فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف.
قال ابن حجر العسقلاني: وفي الحديث والذي قبله الحض على الجماعة والألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف.

       وقال ابن تيمية -رحمه الله- : (وأمرنا الله تعالى بالاجتماع والائتلاف ونهانا عن التفرق والاختلاف).

       والاختلاف المهلك للأمة هو الاختلاف المذموم، وهو الذي يؤدي الى تفريقها وتشتتها وانعدام التناصر فيما بين المختلفين كل طرق يعتقد ببطلان ما عند الطرف الآخر، وقد يؤول الأمر الى استباحة قتال بعضهم بعضاً.

       (وإنما كان الاختلاف علة لهلاك الأمة كما جاء في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الاختلاف المذموم الذي ذكرنا بعض أوصافه يجعل الأمة فرقاً شتى مما يضعف الأمة، لأن قوتها وهي مجتمعة أكبر من قوتها وهي متفرقة، وهذا الضعف العام الذي يصيب الأمة بمجموعها يجرّئ العدو عليها فيطمع فيهاجمها، ويحتل أراضيها ويستولي عليها ويستعبدها ويمسخ شخصيتها وفي ذلك انقراضها وهلاكها.

       إن من الدروس المهمة في هذه الدراسة التاريخية أن توقى الهلاك بتوقي الاختلاف المذموم، لأن الاختلاف كان سبباً من الأسباب في ضياع الدولة العثمانية وهلاكها واندثارها. وإن من أخطر مانعاني منه الآن الخلاف في صفوف الإسلاميين القائمين بواجب الدعوة الى الله تعالى، وهذا الخلاف يؤدي الى ضعف الأمة إذا لم تأخذ بسبل الوقاية منه.

       يقول الشيخ عبد الكريم زيدان: (والاختلاف كما يضعف الأمة ويهلكها يضعف الجماعة المسلمة التي تنهض بواجب الدعوة الى الله ثم يهلكها ولهذا كان شر ما تبتلى به الجماعة المسلمة وقوع الاختلاف المذموم فيما بينها بحيث يجعلها فرقاً شتى، بحيث ترى كل فرقة أنها على حق وصواب وأن غيرها على خطأ وضلال، وتعتقد كل فرقة أنها هي التي تعلم لمصلحة الدعوة .

       وهيهات أن تكون الفرقة والتشتت والاختلاف المذموم في مصلحة الدعوة أو أن مصلحة الدعوة تأتي عن طريق التفريق، ولكن الشيطان هو الذي يزين الفرقة والتفريق في أعين المتفرقين المختلفين فيجعلهم يعتقدون أن اختلافهم وتفرقهم في مصلحة الدعوة.

       والاختلاف في الجماعة لا يقف تأثيره عند حد إضعاف الجماعة وإنما يضعف تأثيرها في الناس، وتجعل المعرضين ينفثون باطلهم في الناس ويقولون: جماعة سوء تأمر الناس بأحكام الاسلام، والإسلام يدعو الى الألفة والاجتماع وينهى عن الاختلاف، وهي تخالفه إذ هي متفرقة مختلفة فيما بينها، كل فرقة تغيب الأخرى وتدعي أنها وحدها على الحق. ثم يؤول الأمر الى انحسار تأثير الجماعة في المجتمع ثم اضمحلالها واندثارها وقيام جماعات جديدة مكانها هي فرق المنفصلين عنها، ووقائع التاريخ البعيد والقريب تؤيد ما نقول).

       لقد ابتليت الدولة العثمانية خصوصاً في أواخر عهدها بالاختلاف والتفريق بين الزعماء والسلاطين ، فقد حاول بعض الحكام المحليين الاستقلال الذاتي عن الحكومة المركزية بإطالة فترة حكمهم ومحاولة تأسيس أسر محلية (المماليك في العراق، آل العظم في سوريا، المعنيون والشهابيون في لبنان، ومحمد علي في مصر، ظاهر العمر في فلسطين، أحمد الجزار في عكا، علي بك الكبير في مصر، القرامليون في ليبيا) وهذا الصراع بين الحكام المحليين والدولة العثمانية ساهم في إضعافها ثم زوالها وسقوطها ولقد ذكر بعض المؤرخين أسباب السقوط وحدث لهم تخليط بين الأسباب في السقوط وبين الآثار المترتبة عن الابتعاد عن شرع الله تعالى.

       إن الحديث عن الضعف السياسي والحربي والاقتصادي والعلمي والأخلاقي والاجتماعي وكيفية القضاء على هذا الضعف والحديث عن الاستعمار والغزو الفكر ي والتنصير وكيفية مقاومتها لا يزيد عن محاولة القضاء على تلك الأعراض المزعجة، ولكن لا يمكنه أبداً أن ينهض بالأمة التي أصيبت بالخواء العقدي وما لم يتم محاربة الأسباب الحقيقية والقضاء عليها فإنه لايمكن بحال من الأحوال القضاء على تلك الآثار الخطيرة.

       إن الآثار كانت متشابكة ومتداخلة ، يؤثر كل منها في الآخر تأثيراً عكسياً، فالضعف السياسي مثلاً يؤثر في الضعف الاقتصادي، ويتأثر به ، وهكذا.

       إن كثيراً من المحاولات التي بذلت في العالم الاسلامي من أجل إعادة دولة الاسلام، وعزته وقوته ركزت على الآثار ولم تعالج الأسباب الحقيقية الذي كانت خلف ضياع الدولة العثمانية وضعف الأمة، وانحطاطها.

       إن جهود النصارى، واليهود، والعلمانية ما كانت لتؤثر في الدولة العثمانية إلا بعد أن انحرفت عن شرع الله وفقدت شروط التمكين ، وأهملت أسبابه المادية والمعنوية قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (سورة يوسف: آية 111).

المصدر: كتاب الدولة العثمانية أسباب السقوط والنهوض للصلابى.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك