برنارد لويس.. من النابليونية إلى المذهبية

برنارد لويس.. من النابليونية إلى المذهبية

سمير مرقص

في نهاية شهر يناير الماضي، عقد معهد السياسة والإستراتيجية الإسرائيلي مؤتمرا تحت عنوان "الخطر الإسلامي على إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية"، في هرتزيليا، فيما بات يعرف باسم "مؤتمر هرتزيليا"، الذي يعقد بشكل سنوي. ويعد هذا المؤتمر من أخطر المؤتمرات التي عقدت في المنطقة، لاعتبارين، هما:

 

الأول: هو طبيعة الموضوع الذي يتم اختياره وكيفية معالجته بصور وأشكال تأخذ منحى إستراتيجيا وإجرائيا في ضوء المعلومات الغزيرة التي يتم توفيرها والأفكار التي يتم طرحها.

 

الثاني: هو نوعية الحاضرين، حيث يشارك فيه رموز عسكرية، واستخباراتية، وأكاديمية، واقتصادية، وسياسية، وتكنوقراطية، من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، من المتعاطفين مع إسرائيل. * مؤتمر يحدد مستقبل المنطقة:

 

حول "الخطر الإسلامي"، انعقد مؤتمر هذا العام، في الفترة من 21 إلى 24 يناير الماضي، بحضور حشد غير مسبوق من المشاركين، بلغ 165 مشاركا من القيادات الإسرائيلية في شتى المجالات مثل: شيمون بيريز، وأولمرت، ونتنياهو، ووزراء سابقين وحالين في الحكومة الإسرائيلية، وقيادات حالية وسابقة للموساد، وقيادات سابقة وحالية في الجيش الإسرائيلي، وقيادات عشرات من منظمات الضغط الإسرائيلية العاملة في أمريكا مثل "إيباك" وغيرها، ورموز المحافظين الجدد والجمهوريين مثل ريتشارد بيرل، ونيوت جينجريتش، هذا بالإضافة لممثلي عدد من هيئات التمويل الأوروبية، ونخبة من الأكاديميين يأتي على رأسهم "برنارد لويس".

 

ولمن لا يعرف برنارد لويس الذي تجاوز التسعين من عمره، فإنه الملقب بـ "إمام المستشرقين المعاصرين". وقد ألقى كلمته في الجلسة الأولى من اليوم الثاني من أعمال المؤتمر التي انعقدت تحت عنوان مزدوج: "فلتعرفوا عدوكم"Knowing Thy Enemy، في ظلال إيران والحرب ضد حزب الله، حيث جاء في كلمته التي يمكن اعتبارها "مفتاحية" للمؤتمر من جهة، ولمستقبل المنطقة من جهة أخرى.. كيف؟ هذا ما سوف نتطرق إليه بعد أن نستعرض مضمون كلمة برنارد لويس. * برنارد لويس: وحقبة الصدام المذهبي:

 

في كلمته أكد لويس أن ما أسماه "الحقبة النابوليونية" نسبة لقدوم نابليون بونابرت إلى المنطقة –والتي أطلقت الدولة الوطنية- قد انتهت بنهاية الحرب الباردة حيث القوى الدولية قد فتر اهتمامها بالشرق الأوسط، الأمر الذي يعني العودة إلى طبيعتها الأولى التي سوف تتسم بأمرين هما:

 

أولا: الرجوع إلى الهوية الدينية بديلا عن الهوية الوطنية التي سادت مع حركات الاستقلال وتفرغ المنطقة للصراع مع الآخر غير المسلم، حيث العودة للمعركة التاريخية بين الإسلام والمسيحية والتي احتدمت أكثر من مرة قبل قدوم نابوليون إلى المنطقة، مرة في القرن السابع الميلادي، ومرة أخرى مع الإمبراطورية العثمانية. كانت المرحلة النابوليونية مرحلة ذات طابع وطني استقلالي وحداثي في آن، ولكن بانهيار الاتحاد السوفيتي عادت المواجهة الدينية مرة أخرى، المواجهة التي عرفت دوما "بمواجهة المسلمين ضد الآخرين It is always Muslim against the Rest."

 

إنها المحاولة الثالثة التاريخية كما تؤكدها كتابات المسلمين أنفسهم، والمهمة هي إحضار الإسلام إلى الإنسانية. وقد انطلق فيما قاله إن "الهوية الأولية للشرق الأوسط دينية بالأساس وليست وطنية أو إثنيةThe primary identity of the Middle East countries is religious, not national or ethnic.

 

ثانيا: يتم الصراع مع الآخر في ظل تنافس بين التيار السني الوهابي ويمثله بن لادن، والتيار الشيعي الذي مر بمرحلتين ثوريتين: الثورة الإيرانية الخومينية الأولى، والثورة الإيرانية الثانية الحالية.

 

والمحصلة المنطقية لما سبق (الصراع مع الآخر الديني، والتنافس على هذا الصراع بين السنة والشيعة) لا بد أن تتم عبر الصراع الداخلي في المنطقة بين المتنافسين، أي بين السنة والشيعة، تماما مثل الصراع التاريخي الكاثوليكي البروتستانتي الذي جرى في أوروبا، ويشير في هذا المقام لصدى الثورة الإيرانية وبريقها لدى أهل المنطقة على اختلاف مذاهبها.

 

هذه هي خلاصة الكلمة التي ألقاها برنارد لويس في إسرائيل، والتي تحتاج إلى تعليق، ولكن قبل ذلك ربما يكون من المفيد إلقاء الضوء على المنهجية التي يكتب بها برنارد لويس في إطار الفكر الاستشراقي، وقد قمنا بدراستها عند ترجمتنا لدراسته الغرب والشرق الأوسط التي نشرت في مجلة فورين آفيرز العام 1997 وتعد مشروع كتابه الذي نشر لاحقا بعنوان "أين الخطأ؟". * منهجية الاستشراق القديم - الجديد(*)

 

بداية، ينطلق الاستشراق من قاعدتين هما: التباين المطلق بين الشرق والغرب، والسجالية التاريخية بين الشرق والغرب.

 

بالنسبة للقاعدة الأولى، ينطلق الاستشراق -وحسب تعبير سمير أمين- من قاعدة "التباين المطلق" بين الشرق والغرب. فالغرب غرب والشرق شرق، ولن يتقابلا حسب الشاعر كيبلنج. فدعاة الفكر الغربي يتعاملون مع الفكر الغربي، كونه موحدا وله خصوصية ثابتة منذ البدء، حيث ضمنت احتمال التقدم وهو احتمال غائب عن الشعوب الأخرى، فلا مستقبل لهذه الشعوب إلا إذا تخلوا بالجملة عن هويتهم وخضعوا لتغريب شامل. إن الفكر الغربي العنصري يدعي أن تفوق الغرب قد تواجد ضمنيا منذ الأصل.

 

أما بالنسبة للقاعدة الثانية، "السجالية التاريخية"، فإنه في إطار تكريس الإطار المعرفي لعلاقة الغرب بالشرق، أعطى الغرب الحق أن يكون باحثا، والشرق هو موضوع هذا البحث. وتتحول نتائج هذا البحث لتكون سجالا بينهما، والسجال هنا -بحسب عزيز العظمة- "ليس خطابا حول النواقص، بل هو خطاب جوهري يواجه عدمه، أي نواقصه المطلقة...".

 

وتتفق الكتابات الاستشراقية(**)، في حصر المجتمع العربي في وضعه الراهن، على تمييز وجودي ومعرفي بين الشرق والغرب، الأمر الذي هو بداية لسلسلة محكمة الصياغة من النظريات والأعمال الإبداعية، ساهمت في التعامل مع الشرق بإصدار تقارير حوله وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وذلك كأسلوب غربي للسيطرة على الشرق واستبنائه وامتلاك السيادة عليه. ولا يعني هذا –بحسب إدوارد سعيد– أن الاستشراق، بمفرده، يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق، وإنما يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها في كل مناسبة. * برنارد لويس.. منهج مركب وموجه:

 

أما عن منهج برنارد لويس، فإن لويس يكتب "بمنهجية مركبة"، تنطلق من الأكاديمية الصارمة التي تضفي على الكتابة أهمية وقدرا لا يمكن التقليل منه، إلا أن ما يهمنا هنا هو المنهجية التي تحمل من الخطر الكثير. وتتجلى هذه المنهجية في أربعة عناصر أساسية وذلك كما يلي:

 

1 ـ رسم صورة تبدو دقيقة للواقع زاخرة بالتفاصيل وعامرة بالمعلومات.

 

2 ـ بناء بنية من التقابلات بين الشرق والغرب في ضوء التفاصيل والمعلومات التي تنتقى بعناية، وتصاغ بمهارة وتحمل قدرة على الإقناع، خاصة عندما تقدم في إطار الواقع الذي دائما متردٍ ومتخلف في الشرق ومتقدم في الغرب، من دون أي إشارة عن الأسباب أو الجذور التي أدت إلى هذه النتائج.

 

3 ـ تمرير مجموعة من الأفكار المعدة سلفا والتي تصب في توجهات أو إستراتيجيات محددة.

 

4 ـ الخروج بعدد من الصياغات العلمية المكتوبة برصانة وحسم.

 

إن القارئ والمتابع لبرنارد لويس، يمكنه أن يلحظ بسهولة ويسر -وبحسب إدوارد سعيد- أن جهد لويس هو "جزء من البيئة السياسية أكثر من البيئة الفكرية الصرفة". من هذا المنطلق تأتي أهمية كلمة برنارد لويس التي ألقاها في محفل يضع إستراتيجيات من أجل المستقبل، فهو لا يتقدم بأفكار ذات طابع إشكالي فكري وإنما بأفكار تصب في الإطار "الجيوسياسي"، فهو لا يتوقف كثيرا عن توضيح ماذا يعني بدقة بالحقبة النابوليونية؟ وما هي الدوافع التي أدت إلى قدوم الحملة الفرنسية إلى المنطقة؟.

 

لا شك أن الحملة الفرنسية كانت –تاريخيا– تعكس لحظة إشكالية مركبة بين المنطقة والغرب.. لحظة لقاء/مواجهة - تحديث /استعمار.. لم تزل تداعياتها فاعلة إلى الآن. ولكن لا يمكن اختزال بناء الدولة الوطنية في منطقتنا أنه تأسس بحسب الغرب وحده دون أي عوامل أخرى، وعليه إعلان نهاية الحقبة النابوليونية بسبب فشل بناء الدولة الوطنية ومن ثم ضرورة الدخول إلى مرحلة الانقسام المذهبي –وأيضا– بحسب النموذج الغربي. أي أنه في الحالتين وبرغم تناقضهما، فإنه لا مفر من سلوك المسار الغربي، وكأن التطور التاريخي هو –محض– ميكانيكي، وكأن المراحل التاريخية تبدأ وتنتهي بقرارات إستراتيجية، حيث لا يؤخذ في الحسبان الجهود الذاتية الوطنية من أجل التقدم مهما كانت ضعيفة أو كثيرة الانتكاسات من جهة، والإرادة الذاتية من جهة أخرى.

 

إن هذا المنهج يستقيم مع محاولات هندسة المنطقة في صيغ سابقة التجهيز، وهو ما يتبناه لويس في كتاباته منذ وقت مبكر في الترويج للنموذجين التركي والإسرائيلي، ويتلقفه البعض الآن حول استعارة النموذج التركي، بل يستعيدون مقولات بايندر وناداف صفران... إلخ، على حساب التراكم التاريخي.

 

وفي هذا السياق كنا قد أشرنا مرة إلى الوثيقة الرئاسية التي قدمت للرئيس بوش الابن في يناير 2001 بعنوان "الإبحار في مياه مضطربة"، حيث تضمنت كثيرا من الخطط حول المنطقة تحقق أغلبها، ومن ضمن ما تضمنته أن الجدير بقيادة المنطقة إيران وإسرائيل وتركيا باعتبارهم دولا لديها مشروع قومي، إنها النماذج التي يجب أن تتبع.

 

لكن يبدو لي أنها الأفكار -أو إن شئنا الدقة إعلان للتصورات- التي ينبغي أن تكون عليها المنطقة، وهو ما يحتاج منا إلى درجة عالية من التماسك الداخلي واستكمال مشروع النهوض الذاتي من خلال حركة جامعة لكل المواطنين بغير تمييز، انطلاقا من أن التهديد لا يفرق بين أحد. وقطعا الانقسام المذهبي لن يكون قاصرا على الإسلام فقط بل سيمتد إلى المسيحية الشرقية، والتي ظهرت ملامحه جلية مع موجات التبشير التي وفدت إلى المنطقة تحت مظلة قانون الحرية الدينية حول العالم الذي صدر عن الكونجرس الأمريكي والذي درسناه تفصيلا في الكتاب الوحيد حول هذا الموضوع باللغة العربية: (الحماية والعقاب.. الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط)، ولطالما حذرنا من تداعياته.

 

لا شك أن هناك مهمة مزدوجة مطلوب إنجازها في جانب فتح حوار داخلي واسع يعنى بالاتفاق على بلورة رؤية ذاتية حول المستقبل تأخذ في الاعتبار لحظات نهوضنا الوطني والبناء عليها، ومن جانب آخر التمسك بالعروة الوثقى بين مكونات الجماعة الوطنية. وقد طرحنا مفهوم المواطنة الثقافية Cultural Citizenship مرة، ونقصد به المساواة الثقافية للهويات والخصوصيات المتنوعة في المركب الثقافي العام من خلال تمثيلها وإدراجها ضمن التاريخ العام والذاكرة القومية، مع ضمان حرية التعبير الكاملة لكل الهويات والخصوصيات بمنظوماتها الرمزية.

 

إن قدرا من المسئولية نحتاجه ولا شك لمواجهة الاختلالات الداخلية التي تتزايد بسبب الاختناق السياسي في دول المنطقة من جهة، وبسبب الخريطة الإقليمية والدولية الآخذة في التشكل والتي يتحرك فيها الجميع من أجل مصالحه في غيبة كاملة لدولنا من جهة أخرى. كذلك مع استمرار حالة الاستتباع الكاملة وعدم تنويع أنماط تحالفاتنا خاصة مع القوى الصاعدة الجديدة.. إنها لحظة وجودية فارقة إما أن نكون أو لا نكون!! * سمير مرقص: الأمين العام لمؤسسة المصري للمواطنة والحوار، عضو الهيئة الاستشارية لبرنامج حوار الحضارات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.

 

الهوامش: (*) استخدمنا من وقت مبكر تعبير الاستشراق القديم - الجديد، والاستشراق المعدل، حيث هناك من استخدم هذه التعبيرات من دون إشارة، لذا لزم التنويه.(راجع دراستنا الأبعاد السياسية لحوار الحضارات، في كتابنا الآخر.. الحوار.. المواطنة، الشروق الدولية، 2005، ومكتبة الأسرة، 2006.)

(**) قراءات مختارة:

1)In Crisis, Diogenes ,no. 44, 1963. Anwar Abd El-Malek, Orientalism

2) إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، 1984.

3) تعقيبات على الاستشراق، ترجمة وتحرير صبحي الحديدي، دار الفارس، 1996.

4) سمير أمين، نحو نظرية للثقافة، نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس، سلسلة دراسات الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، 1989.

5) سمير مرقس، الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط، الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة، قيد الطبع، مكتبة الشروق الدولية.

6) الغرب والشرق الأوسط: سجال وتباين، نص لبرنارد لويس منشور في فورين آفيرز مجلد 76، يناير/فبراير 1997، (ترجمة وتعليق)، ميريت للنشر، 1999.

(أتاحت لنا ترجمة هذا النص قراءة غالبية مؤلفات برنارد لويس ومن ثم فهم المنهجية التي يكتب بها ومدى تأثيره على نفر غير قليل من عناصر الجماعة الأكاديمية الأمريكية والوثيقة الصلة بصناعة القرار).

المصدر: إسلام أون لاين

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك