حرية التعبير بين الفهم الإسلامي والجنوح الليبرالي

حرية التعبير بين الفهم الإسلامي والجنوح الليبرالي

رمضان الغنام

 

إنه لمما يؤسف له في هذه الآونة شيوع التدليس ، وتسمية الأشياء بغير مسمياتها، فصار القذف والسب نقدًا، والكذب تجملاً، والنفاق والغش حيلةً وذكاءً، وسار التهجم على المقدسات من أساسيات الفكر والثقافة، حتى أضحت تسمية الأشياء بغير حقيقتها ضرورة حياتية، وحاجة ملحة لأدعياء العلم والثقافة من تجار الكلام، وبائعي الدجل الإعلامي والفني.

ولم يسلم من هذا الداء دهماء الناس مما لا علم لهم ولا فقه، فغدرت ببعضهم سذاجة أفهامهم وبلادة تفكيرهم حتى ساروا كالقشة في مهب الريح، تسيرها عقول من أسموا أنفسهم بـ(النخبة)، فصاروا يحركونهم كيفما شاؤوا، وفي أية ناحية أرادوا.

ومن الأمور التي سميت بغير اسمها واستغلت أسوأ استخدام، ما يعرف بحرية التعبير، أو حرية الرأي، وخلال هذه الصفحات نتحدث عن هذا المصطلح  موقف الإسلام منه، والفرق بين الفهم الإسلامي والليبرالي لمسألة الحرية وحدودها.

أما فيما يخص حرية الرأي في الإسلام، فإن للأمر ضوابط بينها الشرع الحنيف، ووضحها العلماء، وقبل الولوج في هذا الأمر، علينا التفرقة بين أمرين، الأول الموقف من الثوابت والمحكمات من هذه الشريعة، والثاني الموقف من الأمور الاجتهادية التي لا نص قاطع فيها، (وهذا هو فضاء الحرية الذي حده لها الإسلام).

فلا حق لأحد كائنا من كان إبداء رأيه في أمر شهدت له نصوص الشريعة- من قرآن وسنة- بالصحة، أما ما جاء من نصوص في حق حرية (الإيمان والكفر) فلا ينطبق على من ارتضى هذه الشريعة (ابتداء) وتدين بهذه الملة، ثم عاد ونكص على عقبيه، فعلى هذا تدار النصوص، ويردع بما جاء فيها من حدود وتعزيرات، أما من لم يخالط هذه الشريعة ويعترف بها (في الأصل)، فله هنا الاختيار بين البقاء على ماهو عليه من الكفر أو أن يؤمن .

كذلك فإن أمر الاجتهاد ليس على إطلاقة، فللمجتهد في الإسلام شروط وضوابط لابد منها، كأن يكون صحيح الفهم، حسن التقدير، عالما باللغة، وبنصوص الوحيين، مُلِمًا بالقياس، فاهما لمقاصد الشريعة...هذا فيما يخص أمور الدين من عقيدة وفقه وغير ذلك، أما أمور الحياة وما يستجد فيها مما لا علاقة له بأمور الدين، فهو مما ينطبق عليه قول النبي صلي الله عليه وسلم في حديث "التأبير" المشهور:(أنتم أعلم بأمر دنياكم)(1)، فلكل شخص في هذه الحال الحق في إبداء رأيه كيفما شاء.

والحقيقة إن أسوأ عقود الحرية وأظلمها كانت عقود الاستبداد التي صنعها الاستعمار ووكل لها من بعد ثله من دهاقنة العلمانية والليبرالية الذين كبحوا العقول وقيدوا الفكر والإبداع، فحرَّمُوا كل شيء على العباد، سوى الكفر وانتهاك المقدسات، وهدم القيم والمبادئ والأعراف، وإن أزهى عصور الحرية، تلك العصور التي حكمت بهدي الشرع الحنيف، ففيها ازدهرت العلوم والفنون، وارتقى المسلمون في وقت ظلام أوروبا وتخلف أهلها، ويشهد لذلك حال الدول والحضارات التي قامت على امتداد التاريخ الإسلامي منذ قيام الدولة الإسلامية، وحتى قبيل حلول عهد الاستعمار.

فدول الإسلام كانت ولازالت تؤمن بتعددية الآراء وتنوعها وتسمح بذلك، ومن أبرز الأمثلة على ذلك عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وعصور الخلافة الأولى، ثم دولتا بني أمية وبني العباس " فما كان الخلفاء في هذين العصرين ليحاربوا إلا الآراء التي يعتقدون أنها تهدر سلامة الدولة أو تنشر الفتنة بين الناس"(2)، وقبل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إلى آراء الصحابة ويستشيرهم في كثير من الأمور، والسنة المطهرة حافلة بالعديد من النماذج الدالة على ذلك، ثم صار خلفائه وصحابته على ذات الدرب، ولم ينفردوا برأي علموا خطأه، فكانوا يشركون المسلمون في قضايا الدولة ويأخذون بما صح من آرائهم.

وعلى هذا فيرى العديد من علماء الإسلام أن حرية التعبير في الإسلام لازمة على الحاكم والمحكوم معاً، فالحاكم مطالب بتنفيذها عن طريق الشورى، وعن طريق تحقيق العدل والنظام القضائي المستقل، ولنشر التعليم، وتحقيق الاكتفاء الاقتصادي وغيرها من الوسائل التي تجعلها ممكنة؛ بحيث لا تخاف الرعية من ظلم أو فقر أو تهميش إذا مارستها، والمحكوم مطالب بها (فرداً وجماعات) في كل المجالات تجاه الحاكم وتجاه الآخرين، وبدون حرية التعبير وكل ما يؤدي إليها يحدث خلل في المجتمع الإسلامي(3).

أما عن حدود الحرية في الإسلام فتتلخص في قيدين، الأول منهما قيد خاص بالمعاملات يدعو إلى عدم الغيبية والسخرية من الآخرين، أو كشف عيوبهم، أو تكفير المسلم.... والثاني قيد عقائدي وتشريعي يدعو إلى ترك البدعة وعدم المجاهرة بها والابتعاد عن سب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو سب دين المسلمين، أو التعرض لحكم من أحكام الله بالرفض أو السخرية أو الانتقاص أومثاله ...

ولأن الإسلام يحترم الإنسان جاء بالشورى لتكون متنفسا لكل ذي عقل ليعبر عن رأيه، قال تعالى: [ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ](4)، فجعل الحق تبارك وتعالى الصلاة والشورى والحق من علامات الإستجابة له، فأي تكرمة بعد هذه التكرمة؟ وأي حض على التفكير وإعمال العقل بعد هذا؟ بل صار أمر التعبير عن الرأي مطلبا دينيا، يأثم كاتمه، قال تعالي: [ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ](سورة البقرة: آية 283).

والإسلام يقر بتعدد الآراء ويرى أن التنوع بين الناس والاختلاف بينهم حاصل لا محالة، لذا قرر في الوقت ذاته إنهاء هذا النزاع بالرجوع إلى حكم الله ورسوله، قال تعالى:[فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ](5).

ولك أن تتخيل أن أوروبا لم تتطرق إلى هذا المفهوم إلا في عصورها الوسطي ولم يتبلور عندها إلا على مشارف العصر الحديث- رغم هناته وعواره- فبعد قيام الثورة البريطانية بعام أصدر البرلمان البريطاني قانون "حرية الكلام في البرلمان "، وكان ذلك سنة (1689م)،وبعد عقود من الصراع في فرنسا تم إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا عام 1789م عقب الثورة الفرنسية، الذي نص على أن: حرية الرأي والتعبير جزء أساسي من حقوق المواطن، وكانت هناك محاولات في الولايات المتحدة في نفس الفترة الزمنية لجعل حرية الرأي والتعبير حقا أساسيا، لكن الولايات المتحدة لم تفلح في تطبيق ما جاء في دستورها لعامي 1776م و 1778م من حق حرية الرأي والتعبير، حيث حذف هذا البند في عام 1798م ، واعتبرت معارضة الحكومة الفدرالية جريمة يعاقب عليها القانون، ولم تكن هناك مساواة في حقوق حرية التعبير بين السود والبيض(6).

لذا فالواجب عدم الالتفات إلى طنطنة الليبراليين والعلمانيين الزاعمة بمصادرة الإسلام للآراء وكبح التفكير وتقييد الإبداع، فهذا كله هراء من صنع فكرهم المريض الذي يرى القذاة في حكم الإسلام(ولا وجود لها)، وينكر الجذع فكر الغرب وفلسفاته، فهؤلاء الأدعياء إضافة إلى سكوتهم عن مصادرة الغرب لحريات أهله وحقوقهم، سكتوا عن مكائد الغرب وظلم أهله وعنصريتهم البغيضة تجاه كل ما هو إسلامي، وسكتوا عن مصادرته لأي صوت إسلامي يظهر هناك، وسكتوا عن تسلطهم وفرضهم لأرائهم وثقافاتهم على الشعوب الإسلامية، وسكتوا عن انتهازيتهم وسلبهم للعقول والفهوم بله الثروات والخيرات.

وتناسى هؤلاء أن فرنسا وهي بلد النور- في زعمهم- حتى هذه اللحظة يمنع قانونها أي كتابة أو حديث يكذب جرائم الإبادة الجماعية ضد اليهود من قبل النازيين، فأين حرية الرأي هنا؟ وأين صياحهم الذي صدعوا به الرؤوس؟ ماله تبدل أمام فرنسا إلى صمت وخنوع ورضى؟

وفي ألمانيا ينص البند الخامس من قانونها الأساسي على حق حرية الرأي والتعبير، ولكنه يرسم حدوداً مماثلة للقانون الفرنسي تمنع خطابات الكراهية ضد العرق والدين والميول الجنسية إضافة إلى منع استعمال الرموز النازية مثل الصليب المعقوف..فأين الحرية المطلقة التي ينادي بها الليبراليون والعلمانيون؟

وفي بولندا تعتبر الإساءة إلى الكنيسة الكاثوليكية ورئيس الدولة جريمة يعاقب عليها القانون(7)، وكذلك في كل بلد أوربي، يطلقون الشعارات المنادية بحرية التعبير، لكنهم في ذات الوقت يقومون برقابة صارمة على هذا التعبير، وهو أمر منطقي ووجيه، لكنّ الغير منطقي هنا أن يطلب منا علمانيو العرب وليبراليوه الحرية التامة والمطلقة؛ للخوض في كل شيء واللمز في كل مقدس.

ذلك لأن الحرية المطلقة اللامحدودة لا وجود لها، ولا توجد دولة في العالم كله تقبل هذا؛ لأن الأمر سيؤول في نهايته إلى ضياع هذه الدولة، وتبدلها إلى مجتمع فوضوي لا سلطة تحكمه، ولا قانونا يردعه، ولا مقدسا يهابه ويحترمه، وهذه الفوضى في حد ذاتها هي نزعة سلطوية، يسعى إليها أصحاب المغالاة في حرية التعبير رغم معاداتهم للسلطة ولقيودها.

لكن الأخطر في الأمر أن ليبراليي العرب تحولوا من أمر المطالبة بحرية التعبير إلى ممارسة تعبير الحرية، والفرق بين الاثنين كبير، فحرية التعبير في اعتقادهم أمر غير ملزم، فهو مجرد رأي يقال، قد يأخذ به، وقد يرفض من قبل المجتمع، لذا فهم الآن في مرحلة تعبير الحرية، بمعنى فرض حريتهم وما تحويه من إساءات على المجتمع، دون مراعاة لحقوق الغير أو توقير لدين أو عرف أو مبادئ، وفي سبيل ذلك تجنح غاياتهم لترتاد أية وسيلة مشروعة كان أو لم تكن، وهو منحى خطير يشير إلى مكنونات هذا الفكر وما يحمله من هدميات وخروجات.

فباتوا هم المصادرون لكل رأي يخالف رأيهم، وأصبحت صناعة الكذب حرفتهم، فلا يتورعون عن كذب، ولا يبالون من نفاق، وصاروا يزيفون كل شيء حتى صدَّقوا كذبهم وزيفهم، وباتوا كالشيعة يدَّعون المظلومية في كل محفل، ويقيمون اللطميات بكل سرادق، وانحسرت هموم غالبيتهم في الحديث عن الخمر والرقص وحقوق الشواذ، والدعوة للانفكاك من كل قيد ديني، بدعوى حرية التعبير.

 

المصدر: مركز التأصيل للدراسات والبحوث الإسلامية

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك