وحدة القانون والعبادات

وحدة القانون والعبادات

وهبة الزحيلي

وحدة القانون:

إن أهم ما يحقق ويتفاعل مع عالمية الإسلام وخاتميته وخلوده هو: وحدة النظام أو القانون، أي وحدة أحكام الشريعة الإسلامية المنزلة من عند الله تعالى رب الكون كله، وهذا كفيل ببقاء مقومات العالمية أو الخاتمية والخلود،

لأنه إذا تعددت الأنظمة أو القوانين الوضعية المتأثرة باليسار أو اليمين، أو الاشتراكية والرأسمالية، أو الملكية والديمقراطية أو الإقطاعية والجماهيرية، فإنه يصعب في العادة توحيد المحكومين بهذه الأنظـمة، لتأثرها بالأهواء والشهوات، والمصالح الذاتية، والعقول المتفاوتة.

أما شريعة الله تعالى فهي موضوعية محددة، تلتزم معايير الحق والعدل المطلق، ورعاية المصالح العامة للناس جميعًا على اختلاف أحوالهم وفئاتهم وأعراقهم وتوجهاتهم، وتأخذ بهم إلى غد مشرق، ومستقبل زاه، ووضع أفضل، لأنها من لدن رب العالمين، الذي يعلم من خلق، ويعلم مصالحهم، وهو الحَكَم العدل، وهو العليم الخبير، فلا يقصر حكمه لصالح فرد أوفئة معينة دون أخرى، ولاينحاز لجانب على حساب آخر

لذا وجب تطبيق أحكام هذه الشريعة، ولاسيما ثوابتها، في كل زمان ومكان، أما تطبيق غير شرع الله فهو عودة لحكم الطاغوت والشيطان، والجاهلية الوثنية، قال الله تعالى:

)أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون( ، وإذا كان الناس يحرصون على تقدمهم وسعادتهم، فعليهم رفض أي بديل عن شرع الله، قال الله سبحانه:

)أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض، طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون(.

هذا الإيجاب الدائم الثابت في تطبيق الشريعة يؤدي لوحدة التشريع المطبّق في الأمة، من غير أي عناء أو تعثّر، أو تجاف مع الواقع، أو تباين مع التعددية العرقية، أو تباعد الديار، واختلاف الطبائع.

ومن المعلوم أن وحدة التشريع: هو ما تسعى إليه الدول الحديثة، ولو مع اختلاف القوميات والأجناس والأعراف المتباينة.

وإذا انقسم المسلمون إلى دول إقليمية وحكومات متعددة، بسبب بعد المسافة بين البلاد، أو لصعوبة حكم تلك البلاد بسلطة واحدة، أو لنفور بعض الحكام من حكام آخرين، فإن هذا كله لا يسوغ العدول عن تطبيق أحكام الشريعة الإلهية، أو الأخذ ببعض أحكامها دون بعض، أو هجرها برمتها لأيديولوجيات وفلسفات أخرى، لأن شريعة الله واجبة التطبيق في كل حال ومكان وزمان، لقوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول(.

ووحدة الحكم الإلهي تستتبع وحدة الدولة، ووحدة الأمة، ووحدة النظام، وقد حذر القرآن الكريم من تنازع الأمة في القضايا الأساسية العامة، حتى لا تضعف أو تتخاذل أو تذل وتهان أمام أعدائها، فقال الله تعالى: )وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، واصبروا إن الله مع الصابرين(.

وقال سبحانه: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا(.

وأسباب الدعوة إلى وحدة النظام التشريعي أو القانوني بين المسلمين كثيرة، أهمها ما يلي:

1 -المسلمون أمة واحدة: لقد حقق المسلمون عزة لا تطال، وهيمنة وتفوقًا عظيمًا بالغ الشأن، حينما أدركوا أنهم أمة واحدة، وإخوة في العقيدة الواحدة، وصف واحد متضامن أمام الأعداء، متكافلون فيما بينهم في السراء والضراء، متعاونون على البر والتقوى.

إن وحدتهم في الداخل والخارج جعلتهم خير الأمم، وبوأتهم ليكونوا كذلك، عملاً بقول الله تعالى: )كنتم خير أمة أخرجت، للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله(. وذلك لأنهم أيضًا الأمة الوسط الخيار العدول بين الأمم، كما وجههم القرآن الكريم في قوله سبحانه: )وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدًا(.

ومنشأ هذه الوحدة: هي أخوة الإيمان والعقيدة التي هي أقوى وأخلد وأدوم من أخوة النسب، ثم تآزر الأخوة وتعاونهم، كما قال النبي (ص): «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا».

وقال أيضًا : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

2-وحـدة العقـيدة : المسلمون أمة ذات عقيدة واحدة، وإيمانهم واحد معروف، فهم يؤمنون بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيره وشره. والإيمان بالكتب كلها وبخاتمتها القرآن الكريم، يستدعي الالتزام بمضمون القرآن، ويوجب تطبيق شرعه وأحكامه وحرامه وأخلاقه وآدابه وكل ما جاء فيه. ووحدة هذا الكتاب الإلهي من أقوى الأسباب المؤدية إلى وحدة المسلمين، وكونهم صفًا واحدًا فيما بينهم وفي مواجهة أعدائهم.

3-وحـدة العبـادة : العبادة تصدر عن حب وإيمان، ووحدة العبادة الإسلامية من أهم عوامل الوحدة في الأنظمة والمعاملات، فإذا ما اتحد المسلمون في المسجد أو في الصوم أو في الحج أو في الزكاة، اتحدوا في المجتمع والسوق والإدارة والشركة وكل أنماط السلوك والحياة الاجتماعية، لأن المسلم الداعي والمخلص هو: الذي لا يصدر عنه ما يناقض عقيدته أو عبادته، وتكون ممارساته لشؤون المعاملات والتصرفات منسجمة مع مقتضيات العقيدة والعبادة، وإلا لم يكن مسلمًا في ميزان أحد صادق الاعتقاد والتعبد والاتجاه نحو رب واحد.

4-وحدة اللغة : إن عبادة المسلم لا تصح إلا بلغة القرآن العربية، فكل مسلم يعرف اللغة العربية، ويأنس بمدلولاتها، ويتذوق أساليبها، واللغة عامل قوي في توحيد الشعوب والأمم، ويتقوى هذا العامل ويتنامى مفعوله إذا ارتبط بالدين والاعتقاد والتشريع، فالعقيدة أساس، واللغة العربية تعبير عن مكنون العقيدة، فتتوحد الطباع، ويتحد الكلام، وتتفق العواطف والمشاعر، وتكون اللغة العربية هي لغة الخطاب والكتابة، ويسهل حينئذ توحيد العمل، وتدوين الأسرار، وبعث المراسلات، وعقد المعاهدات بين المسلمين وغيرهم، ويتجه المسلمون حينئذ إلى توحيد جهودهم وطاقاتهم، وتحقيق وحدتهم السياسية والاجتماعية، والاجتهاد في ضوء مفاهيم لغة العرب، واستنباط الأحكام المناسبة، كما نبّه إليه القرآن الكريم في قوله

سبحانه وتعالى : )إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون(. )كتاب فُصلت آياته قرآنًا عربيًا لقوم يعلمون(.

5-وحـدة الثقافـة: الثقافة : هي المقومات المتصلة بالسلوك الإنساني، وهي تشمل من الناحية النظرية: العقيدة والنفس والاجتماع، والأخلاق، والتربية، والآداب والفن، والتاريخ، وفلسفة الاقتصاد والمال. وهي من الوجهة العملية: ممارسة وسلوك، وهي غاية، والعلم وسيلة.

وبما أن الثقافة الإسلامية هي التي يمكن وصفها بأنها إنسانية، لشمولها وتوازنها، ومجيئها موافقة للفطرة أو الطبيعة الذاتية، وتجاوزها كل عيوب العنصرية القومية الضيقة والتعصب الديني، فهي من أقوى دواعي توحيد الفكر والسلوك، وصهر الأمة في ممارسة واحدة، والسعي لغايات واحدة، والعيش في ظل

تشريع واحد.

إن وحدة الثقافة تدفع المثقفين بها إلى الانضمام تحت لواء راية واحدة، هي راية التشريع الذي يحدد معالم الثقافة الإسلامية الفردية في منزعها وغايتها، وغير المسلمين الذين يتعايشون مع المسلمين في ظل دولة واحدة، يلتقون مع المسلمين في أصول الإيمان بالله واليوم الآخر والكتاب الإلهي، وينضمون إليهم في دائرة الإنتماء التاريخي والثقافي، فتتوحد الأمة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاد يًا وتشريعيًا.

6-وحدة المصالح والتاريخ والمصير: إن المسلمين مع من يعيش في بلادهم لهم مصالح متحدة وآمال وآلام واحدة ومصير مشترك، وتاريخ واحد، وهذا يوجب تكوينهم وحدة دولية وقانونية، وما الدولة والقانون إلا للأكثرية، ولكن في إطار الحق والعدل والمساواة التي نظمها وفرضها القرآن الكريم، وإذا اتحدت الأمة عزّ جانبها، وهابها أعداؤها، وتقدمت في مختلف وسائل الحياة، ولا سيما إيجاد نهضة صناعية قوية.

7 -وحدة المصدر التشريعي: تتعدد القوانين الوضعية وتتغاير أحكامها، بتعدد وتغاير عقول واضعيها، وبمقدار تأثرهم بفلسفة معينة، ونظرية محددة. أما التشريع الإسلامي فمصدره واحد، وهو الله تعالى، بما أنزل من أوامر ونواه، والاجتهاد كاشف مظهر لحكم الله تعالى، لا منشئ ولا مبدع للأحكام الشرعية.

 

ووحدة المصدر التشريعي الإسلامي تجعل التشريع واحدًا بالنسبة لجميع المسلمين في العالم. وغير المسلمين المقيمين في دار الإسلام ملزمون بأحكام هذا التشريع، بحكم سيادة الشريعة في دار الإسلام، وبمقتضى المعاهدة التي تمّت بين المسلمين وغيرهم للإقامة في دار الإسلام على الدوام، ومن بنود هذه المعاهدة الالتزام بأحكام الشريعة.

وإذا تعددت الاجتهادات الفرعية التي مجالها في الفروع لا في الأصول، فإن القانون الموحد الذي يختار بعض الاجتهادات، يؤدي إلى وحدة تشريعية أيضًا، لأن الاختيار لرأي ما نابع من مراعاة المصلحة العامة، والتجاوب مع مقتضيات العصر والزمان.

والمطلوب من رعايا الدولة الإسلامية الواحدة، مهما تناءت بهم الديار أن يكون ديدنهم الإخلاص لرب العالمين، ولإمام المسلمين الذي لا يأمر إلا بالحق والخير والمعروف، فيسهل تقبّلهم نظام الوحدة أو الاتحاد، من أجل الحفاظ على وجودهم واستقلالهم، والتخلّص من أي تبعية لدولة أخرى شرقية أو غربية، لا تبغي من تدخلها في شؤون المسلمين إلا استنزاف خيراتهم، وإبعادهم عن شريعة ربهم، وإبقاءهم أذلّة تابعين مهانين، يسيرون في فلك مصالح المستعمرين ومخططاتهم الرهيبة، وينطبق عليهم حنيئذ المثل العربي: (إنك لا تجني من الشوك العنب).

والخلاصــة : إن الإسلام يصرّ على أتباعه بوجود النظام أو القانون الموحد، واختصر عليهم الخوض في تجارب متعددة، ونلاحظ الآن أن العالم يتجه عبر النظام القانوني الوضعي إلى تحقيق مطمح وحدة القانون التي تؤدي إلى وحدة الشعوب وتقاربها وتفاعلها، وممارسة معاملاتها على منهج واحد، وقاعدة واحدة، ويكون الخير بذلك الاتحاد للجميع.

وحـدة العبادات :

لا تقتصر العبادات على الفروض الأربعة المفروضة وهي الصلاة والصيام والحج والعمرة والزكاة، وإنما تشمل مقدماتها وهي الطهارة من النجاسات والقاذورات، فإنها واجبة حفاظًا على صحة الإنسان، وإبعاده عن كل ما يلوث البدن والثياب والمكان، وذلك بالماء المطهر ووسائل التنظيف الأخرى. وتشمل العبادة أيضا كل ما فيه تعظيم الله تعالى من أمور الحظر والإباحة والإيمان والنذور والكفارات، والأضاحي والعقيقة والذبائح والصيد ونحوها.

وبما أن هذه العبادات والشعائر كصلاة الجمعة والجماعة والأذان مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالله عز وجل، ويقصد بها الإخلاص لوجه الله تعالى، وذكر الله وطاعته وإرضاؤه، فإنها واحدة في حقيقتها ومظهرها، ومبناها ومقاصدها، وجعلها وسيلة لتهذيب النفس الإنسانية، ونقاء المجتمع، والتعويد على فعل الخير وترك الشر والفواحش والمنكرات، وإطلاق حرية العبادة لا لأتباع الإسلام وحدهم، وإنما لأصحاب الديانات المختلفة، لتظهر مزية الإسلام، وقد أذن الإسلام لأتباعه أن يدافعوا عن هذا الحق للجميع، ومن أجل ضمان حرية العبادة لجميع المتدينين، فيتحقق بهذا نظام عالمي حر، يستطيع الكل أن يعيشوا في ظله آمنين، متمتعين بحريتهم الدينية على قدم المساواة مع المسلمين .

ويدرك كل إنسان هذه الوحدة الإسلامية الكبرى، أنّى اتّجه في المشارق والمغارب، فالمسلم يعرف المسلم بمناسك العبادة، وبمظهر العبادة ووسائلها أو مقدماتها من طهارة وأذان وإقامة، وكيفية الأداء، والذكر والاستغفار والدعاء باللغة العربية في كل مكان.

إن الصلاة سواء أأديت منفردة أم بجماعة تعبير حي واقعي ناطق عن وحدة المسلمين، أيًّا كان مذهب المصلي من مذاهب أهل السنة أو الشيعة والإباضية أو غيرهم. وتنظيم صفوف الصلاة كالملائكة دليل على مساواة المصلين.

والصوم في غضون شهر كامل مظهر ميداني رائع لوحدة المسلمين في كل مكان، سواء أفي النهار أم الليل، تعلوهم البهجة ويغمرهم الفرح، ويشعرهم بالأخوة الإيمانية تملأ قلوبهم، وتفيض مشاعرهم حمدًا لله وشكرًا على نعمة الإسلام.

والحج سبيل التعارف الإسلامي، وذلك المؤتمر الأكبر الذي يلتقي فيه المسلمون على صعيد واحد، ويطوفون حول بيت الله الحرام، ويصلون لرب البيت، وتكون الكعبة المشرفة رمز وحدتهم في صلاتهم وحجهم وأذكارهم، لا أنهم يعظمون الحجارة أو الجدران، وإنما يقاومون مختلف أشكال الوثنية، فهل بعد هذا يأتي تفكير سطحي لبعض الأعداء، يتهمون فيه الإسلام بالوثنية؟ حيث ينظرون إلى الظاهر، ويتعامون عن الحقيقة والإيمان العميق في نفس كل مسلم، ولو كان أميًا عاميًا بأنه يتجه بطوافه وصلاته نحو رب البيت، وإنما البيت الحرام رمز لوحدة الصف، وجمع المسلمين، كما يجتمع المتحدثون حول مركز معين أو نقطة معينة، أو طاولة مستديرة أو مستطيلة أو مربعة مثلأ، فهل هؤلاء الجالسون المتفاوضون يقدسون تلك الطاولة أو يعبدونها؟؟

 

والزكاة سبيل التكافل الاجتماعي، وإن تعلّقت بعباد الله لإغنائهم، ولتطهير مالهم من شوائب الشبهات والحرام، بل ولتحقيق التقريب بين الأغنياء والفقراء أو توحيدهم في سبل المعاش.

المصدر: http://www.taqrib.info/arabic/index.php?option=com_content&view=article&id=218:1388-09-25-07-15-34&catid=76:1389-05-25-06-22-37&Itemid=240

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك