الأمة الإسلامية والعمل على تقريب المذاهب

الأمة الإسلامية والعمل على تقريب المذاهب

كتب أحمد عبد الرحيم السائح

قال تعالى : }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ{([1]). وقال تعالى : }وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{([2]).

 

وقال تعالى : }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{([3]).

وقد يكون واضحا أن من المسلّم به: أن الأمة الإسلامية أمة واحدة، وإن اختلفت شعوبا وقبائل وتباينت لسانا وألوانا، لأن الإسلام الحنيف ربط بين المسلمين برباط الأخوة الدينية التي تزول معها جميع الفوارق. دعوة الرسول(ص) إلى الأخوة الدينية جعلت المجتمع الإسلامي وحدة مؤتلفة.

ولقد كان من فضل الله سبحانه وتعالى على الأمة الإسلامية أن يسّر لها طريق الوحدة الكاملة، والرابطة القوية، والتجمع الهائل. بما أرسل لها من رسول رحيم، وبما أعطاها من كتاب كريم فكانت أخوة المسلمين فوق كل الحواجز الجنسية، والعرقية، والقومية, والحزبية، والسياسية.

هذه الأخوة ربطت بين المسلمين، ووحدت صفوفهم، وجعلتهم أمة واحدة، لأنهم يملكون:

وحدة الأصل الإنساني.

وحدة العقيدة.

وحدة مصدر التشريع.

وحدة العبادات والقيم.

وحدة المبادئ والأخلاق.

وحدة الأهداف، والغايات، والمصير، والرسالة، والأعراف.

ويوم أن كانت الأمة الإسلامية تدرك هذه القيم كان لها شأنها واعتبارها.

إلا أن الأمة عاشت ألوانا من الصراع حال دون وحدتها بصورة فاعلة، مما كان سببا في أن تعدو عليها أمم تتربص بها. تريد الهيمنة عليها، ومنعها من أن تكون قوة تعلي كلمة الله في دنيا الناس.

وتمثلت بعض ألوان الصراع في التعصب المذهبي الأعمى الذي فرق المسلمين طوائف، على الرغم من وحدة الأصول بين المذاهب الكلامية والفقهية. وأن الاختلاف بينها اختلاف في مسائل فرعية، وقضايا جزئية.

وهو اختلاف لا ينبغي أن تتمخض عنه خصومات وصراعات. لأنه في جوهره مظهر من مظاهر الحرية الفكرية في الإسلام، وآية من آيات صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.

وفي العصر الحاضر دعا كثير من العلماء الغيورين على مصالح الأمة الإسلامية، إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية، كلامية وفقهية، وغيرهما..

حتى ندرأ عن الأمة تلك الأخطار المحدقة بها من كل جانب، والتي تحارب المسلمين في تكالب مسعور.

وقد كان من آثار دعوة العلماء إلى التقريب:

أن تأسست جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة سنة 1949، وكان أعضاؤها كبار العلماء.

صدر أول عدد من مجلة رسالة الإسلام الناطقة بلسان التقريب في 30 ربيع الأول سنة 1368هـ.

واستمر صدور رسالة الإسلام من القاهرة. وكان لها أثر طيب في مجتمعات المسلمين.

وأوشك صدورها الثاني على الظهور في ظلال دار التقريب في القاهرة.

قامت أول ندوة في الأزهر بكلية الشريعة تحت عنوان "التقريب بين المذاهب الإسلامية" في رمضان 1384هـ الموافق 1965م.

صدر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية كتاب دعوة التقريب سنة 1964م.

تأسس في طهران "مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية" انطلاقا من العمل المخلص لوحدة الأمة الإسلامية.

أقامت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "ايسيسكو" بالمغرب ندوة حول التقريب بين المذاهب الإسلامية في 9-11 ربيع الأول 1412هـ الموافق 16-18 سبتمبر 1991م.

في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ، وفي نهاية الستينات اتفق علماء المذاهب الإسلامية على إصدار موسوعة جمال عبد الناصر في الفقه الإسلامي.

وصدر منها حتى الآن 28 مجلدا تشمل مذاهب الأباضية والزيدية والإمامية والظاهرية بجانب مذاهب أهل السنة وصار اسمها: موسوعة الفقه الإسلامي، ومن نعم الله على الكاتب أن كان مصححا ومراجعا لهذه الموسوعة فاستفاد منها كثيرا.

أصدر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة كتابا تحت عنوان "دعوة التقريب تاريخ ووثائق" سنة 1412هـ/1991م.

وعلى طريق التقريب أقامت الندوة العلمية بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر في عهد الدكتور عبد الحميد الأنصاري عميد كلية الشريعة في 22 جمادى الثانية 1412هـ الموافق 17/12/1992 ندوة عن الشيعة والسنة وكان الكاتب قدم بحثا وشارك في هذه الندوة.

وعلى طريق "التقريب بين المذاهب الإسلامية في بيروت" أصدرت دار التقريب إصدارها الأول تحت عنوان "مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية" وكان ذلك في أول عام 1415هـ.

إذن الأمة الإسلامية قطعت مسافة لا بأس بها في ثقافة التقريب بين المذاهب الإسلامية.

ويحسن أن أشير: إلى أنه ليس من الكياسة أن نفهم من التقريب بين المذاهب الإسلامية الكلامية التوافق بين هذه المذاهب.

وليس من الكياسة كذلك أن نفهم من التقريب أن يتحول المعتزلي إلى أشعري والإمامي إلى معتزلي، أو يتسنن شيعي أو يتشيع سني.

لأن كل ذلك ليس واردا، إنما المراد من التقريب: استثمار ما وصلت إليه المذاهب الإسلامية الكلامية والفقهية، للوصول إلى انطلاقة الفكر الإسلامي، وبيان سعة أفقه، وقدرة هذا الفكر على التصدي والمواجهة لكل التيارات المناوئة للإسلام.

إذن التقريب أن يتحد أهل الإسلام على أصول الإسلام التي لا يكون المسلم مسلما إلا بها، وأن ينظر الجميع فيها وراء ذلك نظرة من لا يبتغي الغلب، ولكن يبتغي الحق، والمعرفة الصحيحة...

"فنحن جميعا نؤمن بالله ربا، وبمحمد (ص) نبيا ورسولا، وبالقرآن كتابا، وبالكعبة قبلة وبيتا محجوجاً.

وبأن الإسلام مبني على القرآن الكريم والسنة النبوية، وبأنه ليس بعده دين، ولا بعد رسوله نبي ولا رسول، وبأن كل ما جاء به محمد (ص) حق. فالساعة حق، والبعث حق، والجزاء في الدار الآخرة حق، والجنة حق، والنار حق.

وما اختلفت فيه المذاهب فحكمه إلى الله ورسوله، أي الأمة الإسلامية متفقة على أسلوب الخلاف".

إذن الأمة الإسلامية – وإن اختلفت فيها المدارس الفكرية – تملك أسسا مشتركة تستطيع بها أن تجمع شتاتها، وتوحد كلماتها، وتواجه تحديات الأعداء.

فهي أمة واحدة، ذات دين واحد، وكتاب واحد، ورسول واحد. هذه الأصول الثابتة التي تشترك فيها الأمة الإسلامية.

فإذا أدركتها جيدا، والتزمت بمقتضياتها، فإن ذلك يجعل منها أمة واحدة، تلتقي على:

وحدة الغاية.

ووحدة المنهج.

ووحدة القيادة.

ووحدة العقيدة.

ووحدة الأعراف.

وهذه الحقيقة يجب أن تتضح في أذهان المسلمين، إذ بقدر وضوحها والتزامهم بها، بقدر ما يتيسر للأمة الاجتماع والالتقاء حول تصحيح المفاهيم.

والعقيدة هي الأساس الذي يرتفع عليه بناء الدين. فإذا قوي الأساس سهل على الأمة تصحيح أوضاعها، وأمكن لها الاجتماع واللقاء.

وحين تكون العقيدة واضحة في الأذهان، مشرقة في القلوب، تزول الحواجز والمعوقات التي قامت بين الأمة.

فالحق كل الحق: أنه لا ضرر على المسلمين في أن يختلفوا، فإن الاختلاف سنة من سنن الاجتماع، وضرورة حياتية.

ولكن الضرر في أن يفضي بهم الخلاف إلى القطيعة والخروج على مقتضى الأخوة التي أثبتها الله في كتابه العزيز. لا على أنها شيء يؤمر به المؤمنون. لكن على أنها حقيقة واقعة رضي الناس أم أبوا: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{.

فالخلاف فيما يتعلق بالعقائد، لم يتجاوز الحد النظري، ولا الاتجاه الفكري. فإن العلماء الذين تصدوا لهذا. لم يجر بينهم خلاف أدى إلى امتشاق الحسام وطبيعة حياتهم العلمية، لا تسمح لهم بأن ينقلوا الخلاف من ميدان القول إلى ميدان العمل.

ولم يكن الاختلاف النظري، ليصل في حدته إلى أن يجعلوه عمليا. ولم تظهر الحدة إلا في أن يحكم كل واحد على الآخرين بالخطأ والابتداع.

ومهما يكن مقدار الخلاف النظري في العلوم الاعتقادية، فإنه لم يمس لب الإسلام، ولم يكن الاختلاف فيما علم من الدين بطريق قطعي، ولا شك فيه، أو في أصل من أصوله التي لا مجال لإنكارها، والتي تعد من أركان الإسلام التي يقوم عليها بناؤه.

فالخلاف حول أوائل المقالات أو المعارف الكلامية، يجري حول معارف إسلامية، تبلور كثيرا من الحقائق، وتصقل العقول والأفهام، وتحدث باحتكاكها وميضا، يكشف سبل البحث، وطرائق الاستدلال.

تلك هي خلافات المذاهب الإسلامية الكلامية، وهي في باطنها تشير إلى الوحدة لا إلى الفرقة، وتنبئ عن الإجماع، لا عن التشتت.

فلم يكن الاختلاف في وحدانية الله تعالى وشهادة أن محمدا رسول الله (ص)، ولا في أن القرآن نزل من عند الله العلي القدير، وإنه معجزة النبي الكبرى ولا في أنه يُروى بطريق متواتر نقلته الأجيال الإسلامية، كلها جيلا بعد جيل، ولا في أصول الفرائض كالصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم، ولا في طريق أداء هذه التطبيقات.

وبعبارة أخرى: لم يكن الخلاف في ركن من أركان الإسلام، ولا في أمر علم من الدين بالضرورة، كتحريم الخمر، والخنزير، وأكل الميتة، والقواعد العامة للميراث، وإنما الاختلاف في أمور لا تمس الأركان، ولا الأصول العامة.

إن هذه الخلافات في جوهرها تنبئ عن معنى الوفاق، فهي ترتبط بأصل واحد، وهو الكتاب والسنة.

ومدارس الفكر المختلفة داخل الإسلام شيء طبيعي، مرغوب فيه، ليس منه بد، ما دام الإسلام دينا حيا لا حياء لكي يزدادوا حياة.

والإسلام نفسه شحنة هائلة من النشاط العقلي، تأبى أن يتحول المسلمون إلى مجرد نسخ متطابقة، تتكرر باستمرار، وبلا اختلاف، من عقل واحد، أيا كان هذا العقل، حتى لا يهلك المسلمون من الإجداب، والرتابة، والركود، والشعور بالقدم.

وليس يرضي الإسلام أن تلك الأمهات المسلمات إمعات مكررة معتمة، وإنما يرضيه ويعليه إنجاب العقول اليقظة النشطة.

وبكل تأكيد ستظل المذاهب الكلامية، ومدارس الفكر في الإسلام، توجد ما بقي للمسلمين حاجة إلى التعبير عن تراثهم العقلي، والروحي، وإلى استدامة الصلة بين أصول دينهم، وبين واقع الحياة.

وليس من مصلحة الإسلام والمسلمين كبت النشاط العقلي والروحي داخل الإسلام. لأن من أجل ما يقدمه المسلم لدينه أن يفكر فيه ويشعر به.

والإسلام يضعف ويصبح تراثا جامدا محنطا إذا لم يُفكّر فيه، ويشعر به إلا الحمقى والجهلاء والعملاء.

والمنهج العقلي كتيار فكري، كان لابد من ظهوره، وذلك لمجابهة التحديات الفكرية التي لاقاها الإسلام عندما امتد سلطانه، وعندما اشتد الصراع الفكري بينه وبين أصحاب الأديان الأخرى.

لقد فتح الإسلام كقوة سياسية أرض الديانات القديمة، وأثبت كيانه فيها، إلا أن الإسلام كتصور روحي خاص استمر يناضل فكريا أهل الأديان، والعقائد المختلفة.

لمدة طويلة اشتبك خلالها المخلصون – أصحاب العقليات – في حرب ضروس مع أصحاب الأهواء، والبدع، والزنادقة، والدهرية، والمشبهة، والحلولية والغنوصية – مثلوا فيها معارضة فكرية قوية.

صانوا فيها البناء الروحي والفكري للإسلام من خطر تلك الآراء التي أرادت أن تشوه صفاء العقيدة الإسلامية.

والأمة الإسلامية في عقليتها التي انطلقت من دعوة القرآن لم ترفض الوحي ولم تتنكر للنص المأثور، وأيضا فهي لم تقف لتتعبد بالنص المأثور دون وعي، وإنما أخذت بالنقل والعقل، فليس من مصلحة المسلم ترك الضحالة، والمحاكاة، والرتابة، والآلية، تطمر أعماقه، وتأكل إرادته.

ومن سبل الوعي: أن ندرك أن الخلاف، والاختلاف ضروري، لأن ورود المتشابه في القرآن كما في قوله تعالى: }هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ{([4])، كان سببا في اختلاف العلماء.

فالعلماء لم يختلفوا على تنزيل القرآن، وإنما اختلفوا على تفسيره أي أنهم – كما يقول الزمخشري – متفقون على نصه، ولكنهم مختلفون في تفسيره.

فالقرآن الكريم فيه محكم ومتشابه، ولو كان القرآن كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجونه فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولارتكنوا على طريقة التقليد.

إن وجود متشابه الآيات، أدعى إلى أن يشحذ الناس الفكر للاستنباط، ويكدوا في معرفة الحق خواطرهم، وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه.

وما في رد الآيات المتشابهة إلى المحكم من الفوائد الجليلة، والعلوم ونيل الدرجات عند الله.

ويعلق بعض العلماء على ما ذكره الزمخشري فيقول: وهكذا ألمح الزمخشري إلى عامل من أهم عوامل ازدهار الحضارة الإسلامية عقب قيام الإسلام إذ ألزم القرآن المسلمين بما غمض من معاني آياته وبمحكمه ومتشابهه: البحث، والنظر والتفكير، والاستنباط.

ولو كان سهل المأخذ، يسير الفهم لكانت السطحية التي تغري بالتقليد والجمود، فالاختلاف قرين حرية الرأي والتفكير.

وإذا كان الاختلاف يخترق جميع الأمم والملل والمعرفة، فإن للاختلاف الذي وقع بين المذاهب بنيته الأصلية المستمدة من خصوصية النص القرآني، والحديث البياني. ونعني بالخصوصية هنا: ما منح النص القرآني إعجازه، وما امتاز به على سائر النصوص.

فالخطاب القرآني كلام تتسع معانيه وتتعدد وجوه الدلالة فيه.

إنه كلام لا يمكن استقصاء معانيه أو حصر دلالاته، يقول الزركشي: معاني القرآن لا تستقصى ولا نهاية لفهم كلام الله، ولا يمكن لأحد أن يقبض عليه، أو يفوز بحقيقته.

من هنا تباينت التفاسير، واختلفت الطرق والمذاهب، والفرق، والمقالات.

إذن نحن: إنما نحتاج أول ما نحتاج إليه إلى الإعلان عن حق الاختلاف الذي هو حق من حقوق الإنسان، إن لم يكن أبرزها.

حتى يكون اختلاف الآخر عن الأنا أمر لا جدال فيه، أي حتى يتم قبول كل فريق بالفريق الآخر، كما هو معتقده ومذهبه.

وما دمنا لم نصل إلى الوحدة لعدم اعترافنا بحق غيرنا. فالأولى أن نعترف بذلك، فإن وحدة تحاول أن تستتبع الآخر، أو تلحقه، أو تقهره، وتستبد به، وتكفره، لن تعمر طويلا، وسرعان ما يتصدع بناؤها.

كذلك فإن الخطاب الذي لا يزيد عن تكرار أجوف لهوية فاقدة لمقوماتها، لن يصنع وحدة قط، هكذا ينبغي للجميع أن يقروا بأن الاختلاف ضرورة معترفين ببعضهم بأن الواحد هو شطر الآخر.

وبأن العقائد والمذاهب هي وجوه لحقيقة واحدة، والاعتراف بحق الآخر، وبأن له حقيقته وقسطه من الوجود يتطلب ذهنا مفتوحا وعقلا نيرا.

ولا يخفى: أن المسلمين إذا نجحوا في الإقرار بالاختلاف، وأنه ضرورة من ضرورات الحياة، استطاعوا أن يبدأوا السير في الطريق الصحيح.

وحسب الأمة أن تستثمر اللقاء على أصول الإسلام التي لا يكون المسلم مسلما إلا بها، ثم تعي بعد ذلك دور العقل الإسلامي وانطلاقاته.

وندرك في وضوح أن الخلاف والاختلاف ضرورة حياتية وحضارية، والأمة الإسلامية كانت وما زالت تملك رصيدا ضخما من الأصول والقواعد يمكنّ الأمة من تنمية فلسفتها الخاصة بها، ومن أن تجمع شملها، وتوحد صفوفها.

وقد أتم الله على الأمة وحدة الأصل الإنساني، ووحدة العقيدة، ووحدة المصدر، ووحدة الشعور، ووحدة الصف، ووحدة العبادات.

نعم اختلاف العلماء المجتهدين رحمة بالأمة الإسلامية سواء في العقائد أو في الفقه.

ولا يخفى أن أهل القبلة جميعا يؤمنون بقول الله تعالى: }وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{([5]). فلا خصومة أبدا بين المسلمين وبين أي طائفة من طوائف
(لا إله إلا الله) سواء كانوا حنفية، أو مالكية، أو شافعية، أو حنابلة، أو زيدية، أو إمامية، أو ظاهرية، أو إباضية، أو غيرهم.

فإن الاختلاف في الفروع ضرورة طبيعية، ويستحيل استحالة مادية جمع الناس على مذهب واحد، أو رأي واحد، في مسائل ظنية هي موضع نظر واجتهاد إلى يوم القيامة. }وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً{([6]).

وما دام مرجع الجميع كتاب الله وسنة رسوله، والخلاف في الفرعيات ناتج عن الفهم والتوجيه، والترجيح وطلب الحق، فلا خصومة قط، وإنما هو التناصح على بساط الحب في الله، والاقتراب مما هو أهدى وأجدى إيمانا واحتسابا.

وقد اختلف الصحابة والنبي(ص) معهم والوحي ينزل.

الهوامش:

 


[1]- آل عمران/ 110.

[2] - آل عمران/ 104.

[3] - التوبة/ 71.

[4] - آل عمران/ 7.

[5] - المؤمنون/ 52.

[6] - هود/ 118.

المصدر: http://www.taqrib.info/arabic/index.php?option=com_content&view=article&...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك