الأفغاني: قراءة في خطوات المشروع الإصلاحي وتحديد المسؤوليات

الأفغاني: قراءة في خطوات المشروع الإصلاحي وتحديد المسؤوليات

ماجد الغرباوي

سجل لنا التاريخ اكثر من محاولة نهض بها رجال مسلمون بهدف الاصلاح والتجديد، كانت قد سبقت حركة السيد جمال الدين الأسد آبادي (الافغاني)، وكانت لها آثار ايجابية متفاوتة، الا ان ما حدث على يد السيد على هذا الصعيد يبقى نقطة تحول في تاريخ الشرق بشكل عام والمسلمين بشكل خاص، فخطواته كانت في اطار مشروع اصلاحي نهضوي واسع وجاد يستهدف احياء الشخصية الاسلامية واعادة بنائها عبر اصلاح الفكر والمقولات والرؤى التي اصابتها تشوهات كثيرة بفعل عوامل متعددة، أودت بها الى الانحطاط والتبعية، حتى اقصي الفرد المسلم وغادر موقعه الحضاري الفاعل، وتخلى عن مسؤوليته تجاه امته ودينه، وتهمش دوره في صناعة التاريخ، وعجز عن بناء مستقبل طموح يتناسب وحجم المبادئ والقيم التي آمن بها، فجاء السيد جمال الدين ليعيد لتلك الشخصية المستلية والمقموعة في داخلها والمحاصرة من قبل الاستعمار والاستبداد، قدرتها على اتخاذ المواقف المناسبة ومواجهة الاحداث بعزة وارادة عاليتين. وفعلاً استطاع ان ينفخ في الامة روح اليقظة والعزيمة، حتى حطمت ما كُبِلت به من اغلال وانتفضت بشدة بوجه التحديات المحيطة بها.

 

من هنا تتضح اهمية اعادة قراءة تلك المسيرة الخالدة من جديد، واعادة تقييمها من خلال استقراء البصمات التي تركتها على مسار التاريخ، واجراء مقارنات للواقع الذي سبق السيد جمال الدين والذي تلاه وانطلاقاً من ذلك اعدّت مجلة التوحيد ملفاً حول الموضوع شارك فيه مجموعة من الباحثين الاسلاميين. اما كلمة التوحيد فستساهم بقراءة اولية لاستجلاء ملامح المشروع وابعاده، لنتعرّف على ما انجز من خطوات على يد صاحبه ومن سار على خطاه من مريديه، وما تبقى من المشروع ليكون مسؤوليتنا في الاصلاح والتجديد، وهذا يتطلب منا اولاً بيان ملامح المشروع وما واجهه من تحديات ليتسنى لنا بعد ذلك تحديد الخطوات اللاحقة. وبهذا يتضح ان مانقوم به من مراجعة لافكار السيد جمال الدين يدخل في سياق دراستنا للاصلاح كمشروع تتبناه الامة وهي تواجه تحديات خطيرة تستهدف استئصالها واجتثاث جذورها. كما نؤكد ان ذلك لا يعني التبني المطلق لافكار الرجل ورؤاه ومتبنياته، او اننا سننصب انفسنا مدافعين عن جميع ممارساته، بل مايهمنا هو البعد الاصلاحي في مشروعه، والرجل يعد من رواد هذا الطريق.

 

يقوم مشروع السيد جمال الدين الاصلاحي على عدة ركائز، هي:

 

1 ـ محاربة الاستعمار.

2 ـ مناهضة الاستبداد.

3 ـ اشاعة وتركيز الوعي.

4 ـ تنقية الفكر الاسلامي من الشوائب.

5 توحيد المسلمين في اطار الجامعة الاسلامية.

 

اما بخصوص الركيزة الاولى، فان مواقفه ضد الاستعمار، وبالاخص الاستعمار الانجليزي، كانت جريئة، وتختزن التحدي وذات طبيعة عدائية، لذا سببت له متاعب جمة، فالانجليز تشبثوا بكل وسيلة لاقصاء السيد ومشروعه الاصلاحي، ولاحقوه من بلد الى اخر، في مصر والهند وافغانستان، وايران وفرنسا.. لكن رغم ذلك لم يستسلم ولم يتنازل عن موقفه.. بل كان عقبة كأداء امام التمدد الاستعماري الغازي للمنطقة الاسلامية.

 

لقد شخص السيد مبكرا مدى خطورة الاستعمار على المشروع الاسلامي فعبأ نفسه وحرّض المسلمين على محاربته.

 

واذا كان السيد قد تصدى لنمطين من الاستعمار، هما: (الغزو والاحتلال المباشر) و(الحماية والانتداب)، فان مسؤوليتنا تقتضي التصدي للانماط الاخرى منه، وهو التدخل غير المباشر ـ وربما المباشر ـ في شؤون المسلمين وبلدانهم بشكل اخر. فالتدخل العسكري عندما انحسر تحت ضغط الشعوب الاسلامية سارعت الدول المستكبرة الى اعتماد انماط استعمارية اخرى شملت السياسة والاقتصاد والثقافة والحضارة.

 

فعلى الصعيد السياسي مازالت بعض الدول تفتقر الى الاستقلال في اتخاذ القرار، دول متلقية تدور في فلك دول اخرى، قد بددت ارادة الامة وفوتت عليها فرصة التراص اللازم لمواجهة الازمات والاحداث الصعبة، واصبحت وسطاً مستبداً يمارس العنف بشتى انواعه ضد المطالب المشروعة.

 

ويمارس الغرب على الصعيد الاقتصادي سياسة معادية ضد الشعوب الطامحة الى الاستقلال الكامل، وسلاحهم في تلك المعركة غير المتكافئة، التجويع والحصار الاقتصادي. واما استراتيجيتهم، فهي تعميق الحالة الاستهلاكية واستنزاف طاقات الامة ومخزونها من المواد الخام، وحرمانها من التنمية الحقيقية، وفرض انماط اقتصادية تخدم مصالحهم الكبرى وتحطم البنية التحتية لاقتصاد تلك الشعوب.

 

ولعل الغزو الثقافي والحضاري هو الاخطر في تلك المواجهة، حيث جنَّد الغرب طاقات كبيرة وامكانيات تكنولوجية متطورة لهذا الغرض، والغزو الثقافي ليس مثاقفة وانما عدوان

 

يستهدف اجتثاث الاصالة والقضاء على عناصر القوة. وقد مارس الغرب ذلك تحت عناوين شتى، حتى اخذ في الآونة الاخيرة ينظِّر لممارساته العدوانية، فصدرت عدة نظريات لتبرير تلك السياسة، كـ «نهاية التاريخ» و «صدام الحضارات» وغيرهما، وقد قاربنا هذا الموضوع بالذات في كلمة العدد «86» من المجلة.

 

فاذا كان موقف السيد جمال الدين من الاستعمار قد اتسم بالعنف وشحذ الهمم لمواجهته عسكرياً، فان المسؤولية الحالية تتطلب المزيد من المشاريع الناضجة تعمل على تحصين الامة وتطوير قابلياتها ورفع كفاءاتها من جهة، وتتصدى للغزو الثقافي من جهة اخرى. وينبغي ان تستفيد تلك المشاريع من وسائل الاتصال الحديث والتطور العلمي والتقني.

 

مناهضة الاستبداد هي الركيزة الثانية في مشروع السيد جمال الاصلاحي. والاستبداد يعني التفرد في الحكم واقصاء الشعب عن ممارسة دوره فيه. وفي ذلك تجاوز على حقوقه المشروعة، وتحميله نمطاً خاصاً من السياسة لا تعبر عن قناعاته ولا تضمن مصالحه، وتفرض عليه تبعات ثقيلة. فكان السيد يرفض الاستبداد ويؤكد حق الامة المشروع في الحكم وابداء الرأي. كما كان يحذر الحكام من مخاطر الاقصاء المتعمد للامة، ويطالب بتقييد سلطة الحاكم، وسيادة القانون. وهذه المبادئ التي نادى بها السيد جمال يطمح لها كل فرد مسلم، لذلك تملي المسؤولية الاصرار عليها وعدم التنازل عن حق الشعب بالحكم، ورفض السياسات التي تكرّس الاستبداد وتطلق يد السلطان، وتصادر الحريات لصالح فرد او فئة. فكان تأكيد السيد المستمر على ضرورة الالتزام بالشرع والقانون من اجل ان يحفظ حق الامة ويحد من دائرة الممارسات غير المنضبطة. وقد نصح الخديوي المصري والسلطان العثماني والشاه الايراني بضرورة تشكيل مجالس شورى او مجالس نيابية بكل شجاعة وجرأة.

 

وعلى صعيد الوعي توافر السيد جمال الدين على درجة قل نظيرها.فهو الصفة الملازمة لمشروعه في الاصلاح والتجديد، وكان يعمل على اشاعته في صفوف الامة وتركيزه في عقول النخبة. ويسعى الى تحقيق مستوى من الوعي يتناسب وطموحاته في الاصلاح والتجديد، لذلك طال نقده الفكر والعقل والثقافة والسياسة والتعليم والتربية ومناهج التدريس.. يقول احمد امين: «كان يأخذ بيد تلاميذه فيرفعهم الى مستوى يسيطرون فيه على الكتاب، ولا يستعبدهم الكتاب، ويسمون عن قيود الالفاظ والجمل الى معرفة الحقيقة في ذاتها، ولو خالفت الالفاظ والجمل». ويضيف: «يريد ـ اي السيد ـ في درسه النظامي توسيع عقول الطلبة، وتفتيح آفاق جديدة في فهم العالم، وتعليم الحرية في البحث، وايجاد شخصيات من الطلبة تبحث وتنقد وتحكم، خالفت النص او وافقته، خالفت المعروف المألوف او وافقته».

 

ان الوعي عماد التطور وضرورة يقتضيها التجديد، والركيزة الاساس في مشاريع الاصلاح. وما لم تتوافر الامة على القدر المطلوب منه لا تستطيع ان تؤدي رسالتها بأمان، وان تنهض باعباء الخلافة الربانية (اي الاستخلاف). فغياب الوعي كان كارثة الامم المتخلفة، والسبب وراء الجمود الفكري والتراجع الثقافي. فمسؤولية توعية الجيل الجديد من اخطر المهام الملقاة على عاتق الرساليين من ابناء الامة، ولاسيما النخبة المؤمنة التي تمارس الاصلاح والتجديد من العلماء والمثقفين معا، وتعي متطلبات الزمان وتؤمن بضرورة الاجتهاد وترفض التقليد الذي لايخضع للضوابط العلمية وحدوده وموارده. فالظروف التي تمر بها الامة وكثرة التساؤلات المطروحة على الفكر الديني والتي تنتظر اجوبة حاسمة تتطلب مزيداً من الوعي والمراجعة في اطار ثوابت الشريعة ومبادئها ومقاصدها، وعلينا تطوير الوعي وتركيزه واشاعته من اجل ان تحقق المشاريع الاصلاحية مصداقيتها وتجني ثمارها.

 

وفي هذا السياق تأتي اهمية تنقية الفكر الاسلامي من الشوائب التي علقت به من خارج الدين الحنيف، والوقوف بوجه التأويلات غير العلمية التي تنأى عن الفهم المتوازن المدعوم بالعقل والنقل الصحيح، واستئصال المفردات التي تبلورت في فضاء الجمود والحرفية والتي اقصت العقل ولم تسمح بالنقد وان كان على وفق اسس علمية متينة.

 

لقد سعى السيد جمال الدين الى فك اغلال العقل وتحريره من سلطة الاوهام واخراجه من بوتقة العقائد الفاسدة الى رحاب الحضارة الاسلامية النيرة، حتى ينطلق في اطار الشريعة يكتشف الحقائق ويؤسس النظريات، وكان السيد يتابع في ذلك المنهج القرآني ويستشهد بالآيات ذات الدلالة على مطلوبه.

 

وحماية العقل هي احد مظاهر الوعي وعليها تتوقف مشاريع اصلاح الفكر الديني، فالمهمة في الوقت الراهن تتطلب تحصين الذات الاسلامية ورفد بنيتها العقلية (اعتماداً على مصادر التشريع الاسلامي) لتكتسب مناعة كافية، تحافظ من خلالها على توازنها واستقامتها وهي تخوض معترك الافكار وصراع الايديولوجيات.

 

اما عن الركيزة الخامسة في مشروع السيد جمال الدين، اي توحيد المسلمين في اطار الجامعة الاسلامية، فنترك الحديث عنها الى دراستين مستوعبتين من دراسات الملف.

 

لقد واجه المشروع الاصلاحي الذي تزعمه السيد جمال الدين تحديات صعبة تمثلت بالاستعمار والاستبداد، الا ان اشد تلك التحديات التي واجهت المشروع بصرامة، هي تيار المتزمتين من علماء الدين. فقد اتهمه الشيخ عليش وعلماء الازهر في مصر، وكذا كان موقف

 

ابو الهدى الصيادي وعلماء الدين في الاستانة، حتى رموه بالالحاد والعمالة وشككوا في اخلاصه ونواياه.

 

وعداء هؤلاء تارة ينطلق من الجهل بحقيقة الاصلاح، فيرونه خروجاً على المألوف وتحدياً لقناعاتهم ورؤاهم. واخرى بدافع الانانية،لان تلك المشاريع تشكل خطراً على مصالحهم ومواقعهم غير الشرعية.

 

وقد عانى من ازمة التزمت جميع المصلحين، من سبق السيد جمال الدين ومن لحقه، فهذا الامام الخميني يشكو من هذه الطبقة ويقول: «ان رجال الدين العملاء، المتظاهرين بالقداسة والمتجرين منهم، لم يكونوا قلة يوماً ما ولن يكونوا. ففي الحوزات العلمية من ينشط ضد الثورة وضد الاسلام المحمدي الاصيل، وهناك اليوم نفر من هؤلاء يوجّه سهامه تحت ستار القداسة الى اصول الدين والثورة والنظام، وكأن لاهمّ لهم ولا تكليف الا هذا. ان خطر المتحجرين والحمقى المتظاهرين بالقداسة في الحوزات العلمية ليس بقليل، وعلى طلاب العلوم الدينية الاعزة الا يغفلوا لحظة عن هذه الافاعي الخادعة...». ويضيف (رض): «علينا ان نسعى الى تحطيم معاقل الجهل والخرافة لكي نرد الاسلام المحمدي الاصيل نبعا زلالاً كما كان ..».

 

كما عانى السيد الشهيد محمد باقر الصدر من هؤلاء، وعانى منهم الكثير من المصلحين الاسلاميين، فعلينا بمزيد من الصبر والاناة والحيطة والحذر عند مواجهة هذا النمط من التحدي الخطير.

 

ويبقى ان نشير ـ كي لا تختلط الامور ـ الى ان السيد جمال الدين رغم تأكيده المستمر على العقل ونبذ الاوهام وضرورة الانفتاح على الحضارة الغربية للافادة من تجاربها العلمية، الا انه يضع اكثر من ضابطة لذلك، ويحذر من الانجراف في تيار التغريب والتبعية، فمشروعه الاصلاحي قد انطلق من الدين وتحرك في ظل الشريعة لاصلاح العقل واحياء الفكر، فهو يرفض بشدة المنهج الغربي في الاصلاح الذي انتهى الى القطيعة مع الدين واستبعاده كمرجعية معرفية، ورفض اى سلطان على العقل سوى العقل، بل كان السيد يؤكد الدين ويثق بقدرته على تفعيل الحياة وتطويرها، ويعتقد ان الخلل هو في عدم فهمه فهما صحيحاً، والمشكلة هي في استغلاله واساءة توظيفه من قبل بعض المنتفعين. لذلك كان يحمل بقوة على المثقفين المتغربين المقلدين للغرب وثقافته، والذين رفضوا المرجعية الدينية واعتمدوا مرجعيات اخرى لا تمت لهم باية صلة. وعليه فالاصلاح مشروع الامة لاعادة مجدها من خلال اصلاح الفكر الديني واعادة النظر في بعض المقولات والرؤى المتصدعة.

 

المصدر: موقع الجامعة الإسلامية لعلوم أهل البيت

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك