كيف نبنى شخصية الداعية ؟

كيف نبنى شخصية الداعية ؟

 

د/ فتحى يكن

 

 

لا أعني أنهم في خطر من عدوهم، ومن مكائد خصومهم، ومن مؤامرات الحاقدين عليهم وعلى الإسلام .. فهذه أخطار قد تهون ـ على ضراوتها وشدتها ـ أمام أخطار النفس وانحرافاتها .. فالداعية بخير ما برئ من عيوب نفسه وأمراضها، بالغ ما بلغت قوة الأعداء والخصوم.

 

ومن هنا نفهم وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمسلمين حيث يقول:'كونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله . واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله، فلا تعملوا بمساخط الله وأنتم في سبيل الله'.

 

أقول هذا لأنني أدرك أن درب الدعاة في هذا العصر درب محفوفة بالإغواء والإغراء .. لقد هدمت جاهلية القرن العشرين كل معنى من معاني الفضيلة والخير والكرامة .. وأسفرت عن وجه كالح شاحب ترسم فيه وتتوافر أسباب الغواية والفتنة والشذوذ .. وأزكمت مادية هذا العصر الأنوف حتى أصبح الإنسان لا يفكر إلا بها، ولا يعيش إلا بها، ولا يحكم على الأشياء إلا من خلالها.. أعمت بصره وبصيرته، وأماتت حسه وشعوره:} فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا...(176){ [سورة الأعراف].

 

هذه التركة المثقلة بالأعباء والمهمات كان على دعاة الإسلام أن يواجهوا مسئولية حملها بالعدة الكاملة من إيمانهم وأخلاقهم وأفكارهم، وبل ما يملكون من أسباب القوة والمنعة العقيدية والخلقية .

 

حصنوا جبهات المقاومة:

 

لذلك كان أخطر ما يواجه الدعاة  في هذا الزمن، تصدع جبهات المقاومة في نفوسهم، وتسليمهم أحيانًا بما يسمى: (بالأمر الواقع) والرضى بالترقيع في إسلامهم، والقبول بأنصاف الحلول من مبادئهم وأهدافهم .. وكثيرًا ما كانت سياسة التراخي والتساهل هذه تستدرج البعض إلى مخالفة المسلمات الأساسية، والخروج عن دائرة التصور والتفكير والسلوك الإسلامي.

 

وإذا سلمنا بضخامة الأعباء، وكبر المسئوليات التي تنتظر الدعاة في حاضرهم ومستقبلهم .. وما هم معرضون له من محن وفتن، وأصبح من أهم ما ينبغي أن يحرصوا عليه، ويبادروا إليه هو توفير عوامل (الصيانة) لنفوسهم وعقولهم؛ ليقووا على مغالبة ما يعترض سبيلهم من عقبات.

 

 الشخصية الإسلامية:

 

إن الاهتمام بتكوين الشخصية الإسلامية يجب أن يسبق أي عمل آخر؛ فالشخصية الإسلامية حجر الزاوية في بناء الحركة الإسلامية .. وكما أن الحركة الإسلامية لا يمكن أن تنهض بدورها الكبير في قيادة الأمة بغير الدعاة والعاملين، كذلك فإن هؤلاء الدعاة لا يمكن أن يقوموا بالدور الخطير ما لم تكتمل شخصيتهم الإسلامية اكتمالاً طبيعيًا سليمًا..

 

العناصر التي تتكون منها الشخصية الإسلامية:

 

العقلية الإسلامية : إن العقلية الإسلامية إحدى مقومات الشخصية الإسلامية.. وهي بالتالي ملكة التفكير والتصور الإسلامي الصحيح للكون والإنسان والحياة، فالأفكار والأحكام والمحسوسيات والمغيبات يجب أن تخضع كلها لتقييم إسلامي صحيح. وبهذا تكون العقلية الإسلامية قاعدة فكرية تعكس مفاهيم الإسلام وأحكامه في كل شأن من الشئون.

 

فالعقلية الإسلامية هي (العقلية) التي تنظر إلى الأشياء ـ كلّ الأشياء ـ من خلال الإسلام .. وتحكم على الأمور ـ كلّ الأمور ـ بمنظار الإسلام، فيكون الإسلام بالنسبة إليها مقياس كلّ قضية، وحلّ كل مشكلة، وزمام كلّ أمر .. ولعل أهم الأسباب التي تؤدي بالدعاة إلى الانحراف ـ أحيانًا ـ اضطراب فهمهم وتصورهم للإسلام، وللعمل الإسلامي.

 

ولتكوين العقلية الإسلامية لابد من توفر العوامل التالية :

 

 أولاً: الفهم الصحيح للكتاب والسنة: الذي من شأنه أن يقيم في ذهن الداعية الخطوط الأساسية للحياة الإنسانية كما يريدها الإسلام .

 

 ثانيًا: الإدراك الكامل لأهداف الفكر الإسلامي: من حيث هو ضابط مسلكي وأخلاقي، دافع للعمل، جاعل سلوك الإنسان متقيدًا ومتكيفًا بحسبه في الحياة الدنيا ونحو الآخرة. وأنه ليس مجرد نظريات ومثاليات مجردة .. وهذا ما يجعل المفهوم الإسلامي واقعيًا وإيجابيًا، وذا مفعول عميق وقوي في بناء الشخصية الإسلامية .

 

ثالثًا: الاستيعاب الكامل والكافي لجوانب التصور الإسلامي: دونما انحصار في جانب من الجوانب . فكثيرًا ما يؤدي التفريط الجانبي إلى ظواهر وانحرافات خطيرة. فالعقل ينمو نموًا طبيعيًا ما دام يتناول من الأبحاث والثقافات ما يكفل له غذاءً وفيرًا ومتنوعًا .. ويقف عن النمو والإنتاج، بل قد يتأخر ويكف عن التفكير إذا أهمل، أو قدم له الضحل الخفيف من القراءات والمطالعات ..

 

يقول الدكتور صبري القباني في كتابه الأول من سلسلة (طبيبك معك): إن الدماغ يستطيب تنوع الأبحاث. فينسجم ويستعيد استساغة الفكر.. والتفكير ذو النمط الواحد يكده ويجهده .. مثله في ذلك مثل الأذن تمج النغم الواحد المتواتر .. ومثل عضلات القدم التي يرهقها هبوط المنحدر السحيق، كما يضنيها صعود المرتقى الطويل..لذلك يجب أن نقدم لأدمغتنا دراسات منوعة لتحتفظ بجدتها ونشاطها.

 

من هنا نلاحظ أن الذين ينصرفون إلى المطالعات (الروحية أو الأدبية) فحسب يصابون بالانعزالية والانطوائية .. كذلك الذين يعكفون على البحوث العلمية المجردة ولا يقدمون للعقل أغذيته الأخرى الضرورية قد يقعون فريسة عوارض عصبية ونفسية جامحة .

 

وحتى يتحقق للعقل اتزانه وعمقه يجب أن ينفتح على كل ما في الحياة من معرفة وعلم وثقافة، يأخذ منها بقدر.. ويدع منها بقدر، وفي حدود ما يستسيغه التصور الإسلامي السليم .. والعقلية الإسلامية لا يمكن أن تكون إسلامية صافية ما لم تطل على العالم من نافذة الإسلام.. تفكر وتقدر، تستحسن وتستقبح، توازن وتقارن، كل ذلك على ضوء الإسلام، ووفق أصوله وقواعده.

 

النفسية الإسلامية: والنفسية الإسلامية ثاني مقومات (الشخصية الإسلامية) بل هي الانعكاس الحسي لتفاعل الفكرة الإسلامية وأثرها في حياة الفرد .. فميول الإنسان وغرائزه مربوطة ارتباطً وثيقًا بمفاهيمه وتصوراته الفكرية .. ومن هنا كانت النفسية الإسلامية هي الكيفية التي يمارس الداعية على ضوئها غرائزه وميوله وحاجاته العضوية.

 

وقد يكون من أهم ما تجب العناية به، ووضع المناهج له؛ تحويل المفاهيم والأفكار الإسلامية إلى سلوك وخلق أي إلى نفسية إسلامية . وهذا ما يفرض إحكام الربط بين العقلية والنفسية أي بين التفكير والتطبيق .. لقد ندد الإسلام بانفصال (جزئي الشخصية) عن بعضهما البعض فقال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2){ [سورة الصف].

 

وحتى تستقيم النفس على قواعد الإسلام التوجيهية والتشريعية، فلا يطغيها ترخص، أو يشقيها تكلف، ينبغي أن يراعي في ترويضها العوامل التالية:

 

لا تفريط ولا إفراط: حرص الإسلام من أول يوم على رد النفس البشرية إلى فطرتها .. وفق منهج دقيق متناسق يحفظ للروح والعقل والبدن حقوقهم من غير تفريط ولا إفراط .. وعلى هذا الأساس ينبغي أن تروض النفس .. فتنشأ نشأة طبيعية، وتنمو نموًا فطريًا لا إسراف فيه ولا إسفاف .. ومثل الذين يسرفون في حقوق أرواحهم كمثل الذين يسرفون في حقوق أبدانهم سواء بسواء، أولئك لا يمكن أن تستقيم شخصيتهم وتتزن وفق مقاييس الإسلام وأصوله.

 

فالداعية الموفق هو الذي يتابع قلبه بما يصلحه ويزكيه وينقيه، ولا يغفل عن مراقبة نفسه، ولا يقصر في محاسبتها .. عملاً بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم:[الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ] رواه الترمذي وابن ماجه.  وإلى ذلك أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله:'حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيأوا للعرض الأكبر'.

 

وهو إلى جانب ذلك لا يبخل على بدنه بما أحل له من طيبات المأكل والمشرب والملبس، حسبه في ذلك قول الله تعالى:} قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ...(32){ [سورة الأعراف].. }قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ...(33){ [سورة الأعراف] .

 

صحيح أن النفس أمارة بالسوء .. وأنها بحاجة إلى ترويض وإحجام حتى يسلس قيادها .. ولكن كما أن لنا عليها واجبات، فإن لها علينا حقوقًا .. ومن طالبها بواجباتها سألته حقوقها، ومن حرمها حقها جمحت به وأردته .. وهذا ما ينطق به مدلول الآية الكريمة:} لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...(286){ [سورة البقرة]. ويقول الأستاذ سيد قطب في تفسير هذه الآية: (هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنسانًا، لا حيوانًا، ولا ملكًا، ولا شيطانًا .. تعترف به كما هو بكل ما فيه من ضعف، وكل ما فيه من قوة .. وتأخذه وحدة مؤلفة من جسد ذي نوازع، وعقل ذي تقدير، وروح ذي أشواق.. وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق. وتراعي في التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات).

 

هذا وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من كل تفريط ونهي عن كل إفراط، فَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ:[ مَنْ هَذِهِ] قَالَتْ: فُلَانَةُ تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا قَالَ:[ مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا]رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد. و[ مَهْ]: كلمة نهي وزجر .. ومعنى [لَا يَمَلُّ اللَّهُ]:لا يقطع ثوابه عنكم حتى تملوا فتتركوا، فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه؛ ليدوم ثوابه وفضله عليكم.

 

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:[ إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ] رواه البخاري ومسلم والنسائي  وأحمد . ويقول الإمام النووي في تفسير هذا الحديث: (وهذه استعارة وتمثيل، ومعناه: استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون، وتبلغون مقصودكم، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابته في غيرها فيصل المقصود بغير تعب، والله أعلم).

 

 والنفس يشق عليها تقمص طبيعية ليست فيها، وممارسة خصال ليست منها .. وهي إن صبرت على هذا التكلف باديء الأمر؛ فستمله في النهاية. والعاقل من سما بنفسه دونما ملل منها .. وسعى مع الأيام على تعويدها حمل المزيد من التكاليف والأعباء من غير إعياء لها .. وبذلك يبلغ بها ما يريده منها .

 

حقيقة التجرد : ونفس الداعية لا يمكن أن تستكمل خصالها الإسلامية، وخصائصها الربانية ما لم تتجرد لله، وتتحرر من كل ما يستبد بها أو يطغيها .. فإن كان المال فلتزهد فيه .. وإن كانت الشهوة فلتتحرر منها.. ليكن الغنى بالنفس لا بالفلس .. ولتكن العزة بالله لا بالجاه .. لتكن المرأة وسيلة إحصان وطاعة لا عامل انحلال وميوعة .

 

هذه بعض الملامح الخاطفة لمعالم الشخصية الإسلامية: خصائصها وصفاتها، قد تحتاج إلى مزيد من التفصيل والتبسيط . وحسبي أن يكون فيها ما يحقق بعض الرجاء .. والله ولي التوفيق.

  المصدر: http://almisk.net/ar/article.php?id=4374

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك