نظرات في مفهومي «الإفساد» و«الإصلاح»

نظرات في مفهومي «الإفساد» و«الإصلاح»

أحمد عبدالجواد زايدة

 

الناظر في كتاب الله وآياته يجد أن مفهوم الفساد والإفساد وكذلك ضده مفهوم الصلاح والإصلاح يتجليان في صورٍ متعددة تتخطى الأفكار والأفراد إلى الأفعال والجماعات والأُمم! وتتجاوز الإنسان لتصل إلى «الإفساد الاقتصادي» و«الاستبداد السياسي» في ظاهرة «قارون» و«فرعون» وبطانته المتمثلة في «هامان وملئه»!

حين تحدث القُرآن عن «الإصلاح» لم يقصد به الإصلاح بالمفهوم الغربى «التدريجي» الذي تُقابله «الثورة»، لأن مُصطلح الإصلاح في القرآن لا يُقابله مُصطلح «الثورة»، بل يُقابله مُصطلح «الإفساد»، فالإصلاح بالنظرة القُرآنية إنما هو «إصلاح جذري»،

وانظر كخير مثالٍ إلى الإصلاح الذي أحدثته الرسالة حين نزلت في مُجتمع مكة وما صنعته «لا إله إلا الله» حين نزلت على أهل مكة في بادئ الأمر! فكان هذا المفهوم ثورة تحرير للعقول والقلوب والأبدان! ثورة على الفساد والإفساد بكل مُستوياته العقائدية والمُعاملاتية والخُلقية.

مستويات الفساد

حين تحدث القُرآن عن الفساد تحدث عنه عبر مستويات عدة، فهناك فساد الأفكار المتضمن لفساد العقائد وفساد المفاهيم وفساد منهج التفكير والتدبر، وفساد منهج المُحاججة والمُجادلة، وهُناك فساد القلوب حيث الأهواء والأحقاد والكبر، وهُناك فساد الأعمال الناتج إما من فساد الأفكار والعقائد وإما من فساد القلوب حيث تضعف سلطة الفكرة أمام سلطة الهوى!

أو فساد العمل الناتج عن فساد الفكرة والقلب معًا! لذا فهي ثلاثية مُطردة في أغلب الأحوال «الأفكار- التصورات- التصرفات»!

وانظر إلى دعوة الأنبياء لأقوامهم، فقد كانت كلها في بدايتها تبدأ بالدعوة إلى التوحيد وعدم الشرك بالله! وإصلاح العقائد والتصورات! وكانت كلها مرتبطة بإصلاح عملي ومواجهة إفساد عملي واقع!

فكان الأمر بالتوحيد مُرتبطًا بالأمر بإصلاح الفساد ومواجهته! وكأنها نتيجة مبنية على مقدمة! بل هي كذلك! فجاء سيدنا لوط داعيًا قومه إلى التوحيد ومُحاربة الفواحش! فأصر قومه على غلق عقولهم، فكان فسادًا وإفسادًا بل وتجاوز الأمر ذلك فأفسدوا المفهوم ذاته والفطرة ذاتها، وأمروا بإخراجه وأتباعه من القرية «لأنهم أُناس يتطهرون»!

وجاء سيدنا شعيب داعيًا قومه إلى الله وإلى الوفاء بالكيل والميزان وأمرهم بالقسط وألا يعثوا في الأرض مُفسدين، فكان جوابهم {إنما أنت من المُسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظُنك لمن الكاذبين} (184-186: الشُعراء)، وفى آية أُخرى: {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء...}، فلم يستطيعوا تصور أن هذه الدعوة وتلك الرسالة سوف تتجاوز تغيير عقائدهم وأفكارهم إلى تغيير جذري في مُعاملاتهم الفاسدة التي تظلم المجتمع وتخل بتوازناته وتجعله مُضطربًا مما يضر بمصالحهم وأهوائهم الشخصية الذاتية!

ولما جاء سيدنا صالح إلى قومه داعيًا إياهم كذلك {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}، مُذكرًا إياهم بنعم الله وآلائه {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوَّأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتًا}! فكان جوابهم {إنا بالذي آمنتم به كافرون فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم}.

بل وتعدى الأمر إلى فساد منهج التفكير ومنهج المُحاججة، فبدلًا من أن يُفكروا ويُمحصوا الكلام في عقولهم كانت ردودهم ناضحةً بالاستكبار وسد سُبل التفكير وجعل الموروث القديم حجة على الدعوة والحُجة! {قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كُنت من الصادقين}، {إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مقتدون} {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون}.

أما فساد القلوب والأهواء فقد يؤدي إلى فساد الأفكار وكذلك فساد الأعمال أو إلى كليهما، فإبليس لعنه الله رفض أن يسجد لآدم عليه السلام لكِبرِه! {أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين}، فآثر كِبره وهواه ومرض قلبه على أفكاره ومِن ثَم أفعاله!

وحين يَفسدُ القلب ويضل تفسد البصيرة وتبور الفطرة {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج: 46)، {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}، (الأعراف: 179)

وهناك علاقة وتلازم بين التدبر وإصلاح القلوب وبين الفساد والإفساد، قال تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض في الأرض وتُقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصرهم أفلا يتدبرون القُرآن أم على قلوبٍ أقفالها}، (22-24: مُحمد).

وحين تفسد القلوب والعقول يحدث فساد الذوق والشعور والجمال والأفكار! فيظهر الفساد والشر والقُبح! وقد أشار الدكتور فريد الأنصارى- رحمه الله- إلى أثر جمالية العقيدة في جمالية الحضارة! وأجادَ- رحمه الله- أيما إجادة حيث أشار إلى أن المسيحية حين تأثرت بفكرة «التجسيد» ظهر هذا في حضارتها!

فاهتموا بنحت التماثيل ورسمها، وظهر هذا في حياتهم! في حين أن الناظر في الحضارة الإسلامية يلمح جيدًا أثر التوحيد وتجلياته في الحضارة الملموسة، حيث تجد كثيرًا من التُراث المعماري، والفن يميل إلى التجريد والرسم بالزخرفة الممتلئة بعبق الروح، بعيدًا عن التجسيد!

وللمفكر المغربي المقرئ الإدريسي أبي زيد عبارة جميلة ألقاها في محاضرة له بعنوان «صناعة الحضارة» عن العلاقة بين العقيدة والعمارة! فقال «فقر العقيدة يؤدي إلى فقر العمارة»!

كذلك فإن فساد الأفكار والقلوب يؤدي إلى فساد الواقع والمُجتمع وتهارجه واختلال التناسب والتوازن في نسبه ولو تراءى للناظر غير ذلك.

وهناك الفساد المُتمثل في تزوير المفاهيم وإفسادها والخروج بها من تطبيقاتها السليمة لخدمة مصالح شخصية أو ذاتية، فتم تحويل مفهوم «السمع والطاعة» من كونه مفهومًا للتعاون والالتزام في المعروف إلى إطلاقه في الصلاح والفساد وفي طاعة الله ومعصيته تحت تبريرات عدة وإسكات الناس تحت مظلته!

وبدلًا من أن يتحدث الناس عن مفهوم «الحق» والسعي إلى تحقيقه وتطبيق العدل ودفع ثمن ذلك والصبر على الأذى في سبيل ذلك والخوف من الله حين يتم السكوت عن الظلم وانتهاك الحقوق! انتشرت مفاهيم مُزيفة حول الصبر على الظُلم وانتهاك الحقوق وغياب العدل! وكأن الصبر ما أتى إلا ليكون تُربةً خصبة تُفرخ للاستبداد وتُطيل في عمره!

وخدمةً لذلك قام نفرٌ بترويج نصوص تخدم هذا الجانب بدون منهجية أصولية صادقة في التعامل مع النصوص وفى كيفية الجمع بنيها، فكثر الترويج لأحاديث من قبيل «لو جلد ظهرك وأخذ مالك»، وغيبوا أحاديث «إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت الظالم فقد تودع منها»،

«إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بالعقاب»، «سيد الشُهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»، وهكذا... فلم يتم التعامل بمنهج أصولي فقهي منضبط حتى تستقيم الأمور وتوضع في نصابها الصحيح.

وهُناك الفساد في تعريف الفساد!

وليس المثال هُنا هو مثال قوم لوط! فهؤلاء يتبجحون بفسادهم! بل المثال هُنا هو مثال فرعون حين قال لقومه عن نبي الله موسى عليه السلام {ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يُبدل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد}، وكقوله تعالى:{وإذا قيل لهم لا تُفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مُصلحون ألا إنهم هُم المُفسدون ولكن لا يشعرون}.

وفي سورة القصص نماذج للفساد الاقتصادي والسياسي! وذكر لعواقبهما! فقارون كنز المال وقال {أوتيته على علمٍ عندي}، فكان عاقبته {فخسفنا به وبداره الأرض}، وفرعون لما قال: {أليس لي مُلك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي}، {واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون} (القصص- 39)، فكان جزاؤه {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمِّ فانظر كيف كان عقبة الظالمين} (القصص-40)، {فاليوم نُنجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية}!

وإذا زاد الفساد في أمةٍ ففسدت أخلاقها وضاعت قيمها وغابت مقاصدها العالية عن الترسخ في جذورها وفشلت في مأسسة هذه القيم والمقاصد وبلورتها في أنظمتها كانت هذه هي بداية نهايتها، ولذا يقول تعالى: {وإذا أردنا أن نُهلك قرية أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا}.

مواجهة الإفساد بالإصلاح

وقد عمل الإسلام على مقاومة الفساد والإفساد بتقديم البدائل من حيث الإصلاح الذي يدافع الإفساد ويُقلله ويُحجمه! فعمل الإسلام على بناء الإنسان (الجنان- الوجدان- البنيان)، فأمره بالتدبر والتفكر والسير والنظر (إصلاح منهج التفكير وطاقاته وقدراته)، كذلك بإحكام المفاهيم والتصورات عن طريق القصص والعبر والأمثال! والوجدان بالتزكية (تزكية النفوس وترقيتها) والبنيان (بالعمل والإنتاج وصناعة النهضة والحضارة)،

وللعلامة الشيخ الطاهر بن عاشور كتاب بديع سماه «النظام الاجتماعي في الإسلام»، وتحدث فيه عن أربعة محاور (أصول إصلاح الأفراد- الإصلاح الاجتماعي- مكارم الأخلاق- ما على ولاة الأُمور)، فتحدث في الفرع الأول عن إصلاح الاعتقاد- إصلاح التفكير- إصلاح العمل- إيجاد الوازع النفساني- آثار الوازع النفساني في الإصلاح الفردي والاجتماعي، وفي الإصلاح الاجتماعي: «إيجاد الجامعة الإسلامية- تكوين جامعة المسلمين- الأخوة الإسلامية- أصول نظام سياسة الأمة القائمة على أخلاق ومقاصد وضوابط»!

http://almisk.net/ar/article.php?id=5633

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك