الضرورة الاستراتيجية للمصالحة بين المجتمع والدولة في الوطن العربي

الضرورة الاستراتيجية للمصالحة بين المجتمع والدولة في الوطن العربي

عبد المجيد عمر النجار

 

أقامت تعاليم الدين الإسلامي توازنا دقيقا بين المجتمع ممثَّلا في عموم الأمّة وبين الدولة ممثَّلة في السلطان الحاكم، بحيث لا يجور أحدهما على الآخر فيضعف من دوره المناط بعهدته في تحقيق غاية التعمير في الأرض أو يلغيه بما يفضي إمّا إلى شلل مباشر في الأداء، وإمّا إلى صراعات وفتن تنتهي إلى ذات الشلل بخسائر أكبر وأفدح ، وإنّما يتكامل الطرفان بضوابط من الحقوق والواجبات المتبادلة في سبيل تحقيق تلك الغاية، وتفادي كلّ المعوّقات الذاتية والموضوعية التي تحول دونها.

 

وآية ذلك أنّ توجيهات الدين في هذا الشأن بنت العلاقة بين المجتمع والدولة على مبدإ النيابة، فالحاكم إنّما هو نائب عن المجتمع في ممارسة الحكم، والسلطان الذي يحكم به إنّما هو سلطان الأمّة فوّضته إليه بإرادتها لإدارة شؤونها وفق ما اختارته من مشروع التعمير وهو المشروع الديني، وهي أثناء ممارسة الحاكم لذلك السلطان تراقبه وتحاسبه، ولها أن تستردّ منه سلطانها إذا أخلّ بشروط الوكالة.

 

ومع هذا المبدإ في تفويض السلطان الذي يجعل المجتمع هو صاحبَ الأمر فلا يجور الحاكم عليه كما لو كان هو مالكَ الحقّ فإنّ التوجيهات الدينية لم تعف المجتمع من المهامّ التنفيذية للتعمير لتلقي بها كاملة على عاتق الحاكم بمقتضى تفويض السلطان إليه، وإنّما حمّلته قسطا كبيرا من تلك المسؤولية ليقوم هو بها دون انتظار أن ينجزها الحاكم؛ ولذلك فقد جاءت الأوامر التعميرية موجَّهة إلى عموم الأمّة وليست موجّهة إلى الوكيل عنها ممثَّلا في الحاكم، فقد قال تعالى على سبيل المثال:" هو الذي جعلَ لكُم الأرضَ ذلُولاً فامشُوا في مناكِبها وكُلُوا من رزقِه" ( الملك/15)، وقد تواتر في القرآن الكريم الأمر بعمل الصالحات موجَّها لعموم الأمّة، وهي تشمل كلّ أعمال التعمير.

 

وما إخال هذا التوجيه الربّاني في تحميل الأمّة مسؤولية التعمير بصفة مباشرة إلاّ أنّ من بين حِكَمه التحوّطَ من إخلال الحاكم بمسؤولياته التعميرية لو اُُسندت إليه هذه المهمّة على وجه الاقتصار أو ما يشبه الاقتصار، والحال أنّ غواية الحكم كثيرا ما تكون سببا في ذلك كما أثبته التاريخ، فحينما تُحمّل الأمّة مسؤوليتَها في التعمير فإنّها تكون أقرب إلى النهوض بها وأبعد عن التقصير فيها بمقتضى أنّ الأمّة لا تجتمع على الضلال وذلك في حال ما إذا أغوت الحاكمَ شهوةُ السلطان فأخلّ بواجباته في التعمير.

 

ولمّا قامت الدولة الإسلامية مستهدية بهذا التوجيه الديني في علاقة المجتمع بالدولة تحقّقت فيها الحكمة المبتغاة من هذا التشريع، فخلال فترات من تاريخها أصاب أجهزةَ الدولة وعلى رأسها حاكمُها ضروبٌ من الخلل استبدادا وفتنا واضطرابات مختلفة قعدت بها عن أداء مهمّة التعمير على الوجه المطلوب، ولكنّ المجتمع كان يقوم أثناء ذلك بتلك المهمّة بدرجة عالية من الكفاءة: حركة علمية، وإنتاجا اقتصاديا، ومرافق صحّية، وغيرَها من وجوه التعمير، وذلك عبر المؤسّسات الأهلية وخاصّة منها المؤسّسة العظيمة مؤسّسة الأوقاف، ولنا أن نذكر في ذلك أنّ التأسيس الحضاري الإسلامي كان يتمّ خلال الربع الأوّل من القرن الثاني للهجرة حينما كانت الدولة تتعرّض لفتن الحروب بين الأمويين والعباسيين، وأنّ ذلك العمران بلغ أوجه في القرن الرابع والخامس حينما كانت الدولة في مستوى أجهزة الحكم تعاني من الاضطرابات والفتن الداخلية والضعف والوهن الشيء الكثير.

 

وحينما نشأت الدولة العربية الحديثة قبل ما يقارب القرن من الزمن فإنّها بدل أن تنظرَ في التوجيهات الدينية في علاقة المجتمع بالدولة، وتعودَ إلى التجربة التاريخية للدولة الإسلامية لتستلهم من هذا وذاك بناءَها الجديد فإنّها أدبرت عنه إدبارا، ويمّمت صوب الدولة الأوروبية لتستنسخ صورتها، ولكنّه كان استنساخا فرّط في كثير من مظاهر الحسن، وحافظ على بعض مظاهر القبح.

 

أخذت الدولة العربية الحديثة من الدولة الأوروبية شموليةَ الدولة في القيام بمهامّ التعمير، وتلك الشمولية كانت في الدولة الأوروبية شموليةً مفوَّضة من المجتمع بإرادته الحرّة عبر النظام الديموقراطي، ذلك النظام الذي تدير به الدولة ما يرتضيه المجتمع من مشاريع التعمير، فيكون هو صاحبَ المشروع تشريعا، ويكون بالتالي متحمّلا بإخلاص لمباشرة إنجازه بإدارة الدولة بسلطان تمارسه على سبيل النيابة عنه وليس على سبيل الاستقلال به دونه، فاستوت إذن معادلة المجتمع والدولة في تقاسم أدوار التعمير، واستتبّ الأمن بينهما، وحصل بذلك هذا العمران المشهود، وكأنّ هذا المشهد مستَلهم من توجيهات الدين الإسلامي في شأن العلاقة بين المجتمع والدولة كما أشرنا إليه آنفا.

 

ولكنّ الدولة العربية الحديثة حينما استنسخت شمولية الدولة فإنّها جرّدت هذه الشمولية من جوهرها الحيّ الفاعل، وهو احتفاظ المجتمع بإرادة التشريع، وتفويضُه الإدارةَ التنفيذية للدولة، وأصبحت هي المشرّعَ والمنفّذَ في آن واحد، ولم تُبق للمجتمع إلاّ أن يكون مسرحا لتجاربها المريرة، بل مسرحا للتعسّف والاستبداد والتسلّط، مدّعية أنّها هي القادرة دون المجتمع على أن تنهض بكلّ مرافق التعمير، وطفقت تجرّد المجتمع من أدواته الفاعلة، فحلّت مؤسّسة الأوقاف أو شلّتها، وفعلت بسائر المؤسّسات الأهلية الأخرى مثل ذلك: تفكيكا أو تدجينا أو إفراغا من الحقيقة وإبقاء على الهيكل الصوري، وذلك بادّعاء أنّها هي القادرة على القيام بكلّ تلك الأعباء تشريعا وإنجازا.

 

ولمّا مرّت الأيّام انكشف للمجتمع أنّ الدولة كانت كاذبة فيما ادّعته، وأنّها غرّرت به في سلبه مهامَّ التعمير، إذ لم يتحقّق له من تلك المهامّ ما يناسب تلك الوعود، وما يفي بطموحه في العيش الكريم مادّيا ومعنويا، بل لعلّه في بعض مجالات الحياة شهد تخلّفا إلى الوراء من حيث كان ينشد التقدّم إلى الأمام، ولأنّ هذا المجتمع هو سليلُ المجتمع الإسلامي الذي صنع تلك الحضارة المشهودة بجهوده الذاتية، ولأنّه كان يرقب عن كثب التجربة الأوروبية في علاقة المجتمع بالدولة وما أثمرته من ثمار الحضارة، فإنّه بدأ يشاكس الدولة الحانثة بالوعد قصورا أو تقصيرا، وذلك ليستردّ منها إرادة التشريع كما يستردّ سلطان التنفيذ حقّا من حقوقه لا يمنحه للدولة إلاّ على سبيل الوكالة المشفوعة بالمراقبة والمحاسبة.

 

ولأنّ الدولة العربية الحديثة استمرأت عبر عقود من الزمن الانفراد بالسلطان تشريعا وتنفيذا، إذ من طبيعة الملك الانفراد بالمجد كما عبّر عنه ابن خلدون، فإنّها قابلت مشاكسةَ المجتمع في سبيل استرداد حقّه بالصدود والرفض، بل بالمنع والقمع، وترتّب على ذلك أنّ ما من دولة من الدول العربية اليوم إلاّ وهي في خصومة مع مجتمعها قد تشتدّ إلى أن تبلغ الفتنة الدموية، وقد تخفّ إلى حدود المنازعة المدنية، والمشهد في مجمله يصوّر خللا في العلاقة بين المجتمع والدولة تنخرم فيه معادلة الحقوق والواجبات بينهما، وينشأ عن ذلك ضريبة ثقيلة ما تفتأ كلّ يوم تزداد ثقلا، حتى إنّها تجاوزت حدود حصيلةٍ مهينة من التخلّف الحضاري إلى ما يهدّد تهديدا جدّيا وجودَ الأمّة بهويّتها الثقافية واستقلاليتها في القرار والمصير كما تنطق به الأحداث كلّ يوم.

 

إنّ ما تعيشه الأمّة اليوم ليستدعي كواحد من أهمّ الشروط الاستراتيجية لنهضتها إن لم يكن أهمَّها أن تنعقد المصالحة بين المجتمع والدولة، وأن تستويَ معادلة الحقوق والواجبات بينهما على نصابها، وذلك بأن يستعيد المجتمع حقّه في السلطان يفوّضه إلى من يشاء بإرادته الحرّة، مع ما يتبع ذلك من حقّ المراقبة والمحاسبة، وأن يستعيد حقّه في حرّية التشريع لما يرتضيه من برامج وخطط، ينهض هو بشطر كبير منها بصفة مباشرة، وينهض بالشطر الآخر تحت إدارة الدولة، فتتكامل الجهود، ويتمّ التعمير. ومن أهمّ مبرّرات هذه الضرورة الاستراتيجية أعني المصالحة بين المجتمع والدولة مبرّران اثنان:

 

- أوّلهما، ما يثبته المنطق الاجتماعي وصدّقه الواقع من أنّ الخصام بين المجتمع والدولة يفضي لا محالة إلى الخسران في التعمير، إذ تتعارض القوى وتتناقض فيحبط بعضها بعضا، وتتكاثف على الدولة المسؤوليات والمهمّات فلا تقدر على أن تنجز منها شيئا، ويشعر المجتمع بالغبن جرّاء الاستبداد فيستقيل من مهامّه التعميرية، متّكلا على وعود الدولة، أو منتقما منها بإحباط مشاريعها كأسلوب سلبي من أساليب مقاومة استبدادها، وفي كلّ الحالات تكون الحصيلة تخلّفا حضاريا كما هو مشهود اليوم في سائر البلاد العربية.

 

- وثانيهما، ما أصبح يتربّص بالأمّة اليوم من نذر مشهودة لدورة استعمارية جديدة تتداعى فيها قوى عالمية ظالمة للهيمنة عليها، لا لتدمير المقدّرات المادّية لنهضتها أو للاستيلاء عليها، وإنّما أيضا لتدمير المقوّمات الثقافية والروحية والنفسية التي تشكّل شخصيتها، والتي تمثّل مخزونها الاستراتيجي الدائم التي تفزع إليه عند الملمّات لتدافع عن نفسها، ولتنهض من كبواتها، وها نحن نشهد اليوم مشاريع تترى من قِبل تلك القوى تهدف كلّها إلى ذات الهدف هدفِ تدمير الكيان الثقافي للأمّة. إنّ هذه النذر التي أصبح بعضها واقعا، ويوشك أن يصبح الباقي منها كذلك تستثمر بكفاءة عالية تلك الفجوة بين المجتمع والدولة لتدخل منها دخول المفرّق الفتّان الذي مهما ادّعى من أنّه يناصر هذا الطرف أو ذاك فإنّه ينتوي على وجه اليقين أن يأكل الجميع يوم أُكل الثور الأبيض.

 

إنّ المصالحة بين المجتمع والدولة على النحو الذي وصفنا هو الكفيل بأن يجعل المجتمع ناهضا بمهامّه في التعمير تحقيقا لما ارتآه هو من مشاريعَ بإرادته الحرّة على وجه الريادة والابتكار في التشريع، وعلى وجه الصدق والإخلاص في التنفيذ، وهو الكفيل بأن يجعل الدولة ممثّلة في أجهزة الحكم قويّة في الإدارة حازمة فيها بما تستمدّه من تفويض اجتماعي، فيثمر هذا مع ذاك ثمارا من الإنجاز الحضاري المبارك، وهو الكفيل أيضا بأن يسدّ الفجوة بين المجتمع والدولة فيتلاحم الطرفان يسند بعضهما بعضا، ويتقوّى بعضهما ببعض، فلا تجد قوى الهيمنة مدخلا للفرقة المذهبة للريح، وإذا ما قوي العامل الذاتي للفعل الحضاري، وانتفى المعوّق الخارجي الذي يعوقه عن الفعل فإنّ مسيرة النهضة ستنشط وتثمر لا محالة.

 

لقد شهدت علاقة المجتمع بالدولة في بلد الشهداء هذا الجزائر توتّرا كبيرا شأن سائر البلاد العربية، وقد بلغ هذا التوتّر خلال العشرية الماضية مبلغ الاحتراب الدموي المريع، ولكن كما كان من سنّة الجزائر بلادِ الشهداء أن تُوفي بالوعد الصحيح في المفاصل الهامّة من التاريخ، فيبدو أنّها اليوم في هذا المفصل التاريخي العصيب من تاريخ الأمّة تجد نفسها على ذات الوفاء بالموعد الصحيح، وهو ما تمثّل في هذه الأوبة التصالحية بين الدولة والمجتمع فيها بادئة بتضميد الجراح، ومثنّية بضبط الحقوق والواجبات، ليعود كلّ منهما للقيام بدوره في التعمير في كنف التكامل والتعاون والوئام.

 

إنّ ما وقع في هذه البلاد خلال العشرية الماضية من فتن كقطع الليل لو وقع في بلاد غيرها لحفر بين أهلها خندقا لا يمكن معه وصل، ولكنّ الشعوب العظيمة ليست هي التي لا تتعرّض للفتن، بل هي التي تقدر على تجاوز ما يصيبها من البلاء مهما يكن عليه من الشّدّة، وشعب الجزائر أحد تلك الشعوب، إذ ها هي رياح المصالحة تهبّ عليه، فتبدأ مسيرة من المصالحة بادرت بها الدولة، واستجاب لها المجتمع، وقد كان للفقيد المرحوم محفوظ نحناح طيّب الله ثراه الدور المقدّر في ذلك، ندعو الله أن يجزيه به خير الجزاء. وإذا كان الطريق نحو الثمرة النهائيّة لهذه المصالحة طويلا، فالعبرة بالبداية المخلصة، وكلّ من سار على الدرب وصل إذا كان الدرب واضحا والنوايا صادقة.

 

ولكنّ شعوبَ هذا العالم العربي بصفة عامّة، وشعوبَ هذا المغرب منه بصفة خاصّة تشكّل لحمة واحدة لئن انقسمت بها الأنظمة السياسية دولا، فإنّها تظلّ في حقيقتها يتداعى بعضها لبعض فيما يصيبها من سرّاء أو ضرّاء؛ ولذلك فإنّ المصالحة المنشودة بين المجتمع والدولة فيها إذا ما بدت بشائرها في موقع منها فقد لا يكون لها النجاح المأمول والسرعة المطلوبة إذا لم تتداع لها المواقع الأخرى بذات النهج ليعضّد تلك الجهود إذن بعضها بعضا، ولتتفادى عوارض التخذيل بما يمارس المتخلّف منها على المتقدّم من شدّ إلى الوراء، ومن وسوسة شيطانية بمفاسد المصالحة وأخطارها على مكاسب الدولة التي تشبه أن تكون قد استمرأت الاستبداد وتطبّعت به.

 

وفي هذا الصدد كما هبّت على هذا القلب من مغربنا العربي الإسلامي رياحُ المصالحة بين المجتمع والدولة فإنّك لو لوّحت ببصرك إلى الجناح الغربي من هذا الغرب لألفيت تلك الرياح قد هبّت عليه أيضا، ففي تلك الربوع راجعت الدولة منذ بعض السنوات مواقفها من المجتمع، وقدّمت ما يشبه الاعتذار عن تصرّفات قمعية من قِبلها إزاءه حدثت في العشريات الماضية، وأفسحت المجال لانتخابات حرّة أفضت إلى تمثيلية شعبية تعدّدية تعكس إرادة المجتمع بأقساط مقدّرة، وإذا كانت هذه المصالحة ما زالت في بداية المسير فإنّ المستقبل واعد بما هو خير في هذا الشأن، وهكذا ينضمّ الجناح الغربي إلى القلب أو ينضمّ هو إليه في مسيرة المصالحة ليعضّد أحدهما الآخر، وتنقطع بينهما أسباب التخذيل ووساوس الشياطبن.

 

ولكنّك لو رميت ببصرك إلى الجناح الشرقي من هذا المغرب تستجلي أمر المصالحة بين المجتمع والدولة فيه فإنّ البصر سينقلب إليك وهو حسير، فلا تملك إلاّ أن تقول: ألا ليت رياحَ المصالحة بين المجتمع والدولة تهبّ على ربوع الخضراء كما هبّت على أختيها الغربيتين، فيكتمل المشهد، وتستقيم الأجنحة مع قلبها ليبدأ التحليق المتوازن لهذا المغرب في سماء العمران يعضّد بعضه بعضا، ويشدّ بعضه أزر بعض.

 

إنّ الدولة الحديثة في بلاد الخضراء أصابها ما أصاب غيرَها من البلاد العربية من خصومة بين المجتمع والدولة، فقد سطت الدولة فيها على المجتمع، فجرّدته من مؤسّساته المدنية الفاعلة وعلى رأسها مؤسّسة الأوقاف التي وقع حلّها في أوائل أيّام الاستقلال رمزا لتجريده من المؤسّسات الأهليّة الاقتصادية، ومؤسّسة الجامعة الزيتونية رمزا لتجريده من المؤسّسات الثقافية التربوية، وادّعت أنّها هي التي ستتكفّل له وحدها بحركة التعمير كاملة إن هو أسلس لها القياد، وتنازل لها عن حقوقه موفيا بواجباته. ومع أنّ المجتمع لم يصدّق هذه المزاعم فقام ينازع في حقوقه ويكفكف من غلواء الدولة في السطوة عليه فإنّ الخصام بين الطرفين لم يقارب عشر معشار ما بلغه النزاع بين الدولة والمجتمع في أرض الشهداء ولا حتى في أرض الموحّدين.

 

صحيح أنّ الدولة في ربوع الخضراء مارست في بعض الأحيان على شرائح من المجتمع قمعا غليظا ذهب ضحيّتَه بضعةُ آلاف تعذيبا وتسجينا، وبضعُ عشرات لقُوا ربّهم ضحايا لسطوة الدولة، ولكنّ المجتمع في أشدّ أيّام المواجهة مع الدولة لم يصوّب نحوها رصاصة واحدة، وذلك على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز، واكتفى بما سمّاه ذات يوم شيخ الجامعيين محمد الطالبي بمقاومة الخرفان التي تقدّم رقابها للذبح بديلا عن الفتنة المدمّرة، ولم يكن ذلك عن جبن أو خذلان، فمبادلة العنف بالعنف لا علاقة له بالجبن والشجاعة، وإنّما هي الحكمة والتعقّل والصبر التي تفادى بها المجتمع الفتنة التي لو نشبت بينه وبين الدولة لأتت على كلّ شيء، فهل قليل على أرض الزيتونة أن تهبّ عليها رياح المصالحة كما هبّت على أختيها والحال أنّها لا تنقص عنهما أهليّة في هذا الشأن إن لم تكن متفوّقة في بعض العناصر من ذلك؟ أم كان على المجتمع فيها ـ كما يقوله بعض المهتمّين بهذا الأمر حينما يشتدّ بهم الغضب فتطغى العاطفة على الحكمة ـ أن يغلُظ في منازعة الدولة ليردّ عنفها بعنف حتى يظفر بيوم يقرّ فيه الجميع بأنّ المصالحة هي الحلّ المحتوم الذي فيه مصلحة الجميع؟

 

إنّ الدولة لو تقدّمت خطوة في سبيل المصالحة مع المجتمع فستجد عنده من الوعي ومن الشعور بالمسؤولية ما يتقدّم به نحوها خطوات، وإذا كان يراودها هاجس من أنّ المصالحة قد تذهب ببعض هيبتها وتحدّ من بعض قوّتها فإنّ ذلك ما إخاله إلاّ مندرجا ضمن الأوهام، إذ القوّة والهيبة ليستا إلاّ تينك المستمدّتين من التفويض الشعبي، أمّا ما نجم منهما عن الاستبداد فهو برق خُلّب لا يلبث أن ينكشف سوءَ انكشاف كما حصل في أرض الرافدين السنة الماضية، ومع ذلك فإنّ مخاوف الدولة واحترازاتها وشهواتها في الهيبة يمكن كلّها أن تكون بنودا تُطرح للدرس في صحيفة المصالحة، وأن تُرصد لها الضمانات المطلوبة الكفيلة بأن تؤخذ بعين الاعتبار، وذلك كلّه لو تحقّقت الإرادة الصادقة وامتدّ النظر إلى بعيد، ووقع التخلّي عن سياسة النعامة التي تعتمد مواجهة المسؤولية بالتجاهل والتزييف، على أنّه يجدر التنبيه على أنّ المجتمع بشرائحه المختلفة وخاصّة منها تلك التي تمثّل بؤرة التوتّر مع الدولة لا يُعفى من مسؤوليته في هذا الشأن شأن المصالحة بالرغم من أنّه الطرف الأضعف الذي يقع عليه الاستبداد في هذه المعادلة، أمّا البديل عن ذلك استصحابا لواقع الحال الذي تنخرم معادلة المجتمع والدولة باستبدادها عليه فإنّ الزمن لم يعد يحتمله، وسينتهي بعد حين إلى إحدى النهايات المروّعة للدولة المستبدّة كما اطّردت بها سنّة التاريخ قديمه وحديثه.

 

لقد آن الأوان ـ بل لعلّه بدأ في الفوت ـ لأن تبدأ في عالمنا العربي حركة جدّية للمصالحة بين الدولة والمجتمع، وأن تُعاد معادلة الحقوق والواجبات بينهما إلى نصابها الصحيح، فقد بيّن محكّ التجربة طيلة ما يقارب القرن من الزمن أنّ استبداد الدولة وسطوتها على المجتمع لم تثمر من النهضة شيئا، بل هي قد كرّست التخلّف وارتدّت بالأمّة في بعض مجالات الحياة إلى الوراء من حيث تتقدّم شعوب العالم إلى الأمام. كما قد بيّن منطق السنن في الاجتماع البشري قبل ما بيّنته التجربة أنّ الاحتراب بين المجتمع والدولة سواء كان ظاهرا معبَّرا عنه بالفتن، أو خفيّا معبَّرا عنه بالاستقالة واللامبالاة هو مسلك لا يفضي إلى تعمير، بل هو آيل إلى خراب. وها هو الواقع المشهود اليوم يبيّن أنّ الفجوة بين المجتمع والدولة يمكن أن تكون مدخلا لقوى الظلم العالمية لتذهب بالكيان الثقافي للأمّة تمهيدا لاستعمار جديد قد يكون أشدّ وأنكى من الاستعمار القديم، فهل هذه الآيات كلّها لا تكفي ذوي الأحلام لأن يمضوا في طريق المصالحة بجدّية ليضعوا شعوبهم في طريق النهضة الحقيقية؟ إنّ المصالحة قيمة عليا من قيم الاجتماع البشري، فأيّما طرفين أراداها بجدّ وإخلاص أمدّهما الله تعالى بمدد منها، وذلك مقتضى قوله تعالى: " إن يُريدَا إصلاحًا يُوفّق الله بينهما إنّ اللهَ كان عليماً خبيرًا " ( النساء/35). * د. عبد المجيد النجار : مفكر تونسي

 

المصدر: موقع النهضة نت

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك