منطق القطيعة ومنطق التواصل

منطق القطيعة ومنطق التواصل

زكي الميلاد

 

كيف تتحول القطيعة إلى منطق ويتحول التواصل إلى منطق ؟

القطيعة تتحول إلى منطق حينما تتحول إلى ذهنية في النظر والتفكير والتفسير، وتكون هي الأساس في بناء الأحكام، وتكوين التصورات، وتقدير المواقف. وبهذه الكيفية أيضا يتحول التواصل إلى منطق. فأمام القضية الواحدة قد تتعدد وتتباين وتتصادم أحياناً المواقف والأحكام والتفسيرات بحسب منطق القطيعة ومنطق التواصل. لان القطيعة لها طبيعة فكرية ونفسية, ومن طبيعتها أن تولد الحساسيات والهواجس وحتى المخاوف والشكوك، وغالباً ما تشكل أرضيات الاختلاف والتعارض والانقسام، وتساهم في تكوين تصورات ومواقف عادة ما تفتقد إلى العلمية والموضوعية وحتى الأخلاقية. هذه الوضعيات والتصورات والأحكام قد تتغير كلياً أو بنسبة كبيرة، وتختلف صورتها تماماً في حالات التواصل، حيث تتغلب وتتقدم حقائق وشرائط وحتى أخلاقيات أخرى، قد لا تنشأ أو تظهر أو تتقدم في حالات القطيعة. لذلك يحدث كثيراً أن تتبدل وتتغير المواقف والأحكام في حالات الانتقال والعبور من القطيعة إلى التواصل.

 

وعادة ما يصرحون الناس في مثل هذه الحالات عن مفاجئتهم وتخطئة أحكامهم واستدلالاتهم السابقة وكيف أنها كانت تفتقد التبين والصواب. والعبور من القطيعة إلى التواصل هو عبور بين منطقين تفصل بينهما مسافات طويلة بحسب المقاييس الفكرية، الأمر الذي يفسر صعوبة هذا العبور وقلة العابرين إليه. لأن القطيعة هي محصلة تراكمات من الاستدلالات, وإعمال التفكير، وبناء التصورات، وتكوين الأحكام، والارتباط بنظام من المصالح, وذلك يحدث خلال زمن قد يكون طويلاً. ويكرس هذه الصعوبة ويعرقلها ما قد يصاحبها من ضغوط نفسية ومناخات اجتماعية ضاغطة، من الممكن أن تضيع أو تلتبس معها مقاييس الصواب والخطأ، الحق والباطل. وينشأ من هذه الحالة ما يصفه المفكر الألماني المعاصر يورغن هابرماس بتقابل المصلحة والمعرفة، لكن بتفسير غير التفسير الذي يتحدث عنه هابرماس. فالمصلحة قد تفرض هيمنتها وقوتها بالشكل الذي تتغلب فيه على المعرفة، وهذا التغلب إما في صورة توجيه المعرفة والسيطرة عليها، أو تقويضها والانتقام منها.

 

والقطيعة مجالها الفكر وتتحدد به في دلالاتها ومكوناتها وشرائطها، وهي تختلف عن المقاطعة التي مجالها العمل والسلوك العملي. كما هو الحال في التفريق بين المحنة والكارثة, فالمحنة مجالها عالم الأفكار والعقائد لذلك يقال محنة خلق القرآن، أو محنة ابن رشد مثلا, والكارثة مجالها عالم الأشياء والحوادث الخارجية التي يترتب عليها مخاطر وأضرار فادحة كالعواصف والزلازل والأعاصير. وهكذا التواصل مجاله الفكر ويتحدد به في دلالاته ومكوناته وشرائطه, وهو يختلف عن الاتصال الذي مجاله النشاط الخارجي والسلوك العملي. وهذا يعني أن القطيعة لها طبيعة فكرية من حيث مسبباتها ونتائجها واستمراريتها، وحتى في الانتقال والعبور منها، وهكذا هو الحال مع التواصل.

 

في مقاييس التحضر والتخلف فان القطيعة هي اقرب لروح المجتمعات المتخلفة أو الأقل تحضراً من جهة الاستعداد و القابلية في نشوء هذا المنطق, وهذه الظاهرة، وفي اتساعها وامتدادها وبقائها وتجذرها، وفي صعوبة الاقتلاع والانتقال منها. في حين أن التواصل هو أقرب لروح المجتمعات المتحضرة من جهة جميع تلك الملامح والأبعاد المذكورة. لأن من أبرز تجليات التحضر أو التخلف هو ما يظهر على نظام العلاقات بين الناس، وفي مختلف أنماط هذه العلاقات، وبالذات ما يتصل بعالم الأفكار.

 

وفي مقاييس القوة والضعف بالمعنى العام والشامل لهما فان القطيعة هي أقرب إلى منطق الضعف، والتواصل أقرب إلى منطق القوة. لأن القطيعة قد تستند على مخاوف وشكوك وظنون تصاحبها وتتأسس عليها، وتتلون بها, وتفتقد إلى شجاعة المواجهة والمكاشفة، بينما تتغير هذه الملامح والأبعاد في حالة التواصل, الذي ينطلق بدافع الثقة والايجابية, والاستعداد على التعاون والمشاركة. والانغلاق هو موقف الضعيف, والانفتاح هو موقف القوي عادة.

 

وفي مقاييس العلم والجهل فان القطيعة هي أقرب إلى الإصابة بالجهل، والتواصل هو أقرب إلى الإصابة بالعلم. لان القطيعة قد تتحول إلى حالة من الانسداد في الوصول إلى العلم واكتساب المعرفة، وتكوين المعرفة بالآخر, الانسداد الذي قد يرتفع في حالة التواصل، ويصبح بالامكان الوصول إلى الأحكام والتفسيرات الأقرب إلى إصابة العلم, وتكوين المعرفة بالآخر. فالآخر بوصفه معرفة أو ذاتا أو وجودا لا يمكن تكوين المعرفة به عن طريق منطق القطيعة, والمعرفة التي تأتي عن طريق هذا المنطق من الصعب الثقة بها, والاطمئنان لها. كما تخبرنا بذلك الوقائع والتجارب والخبرات.

 

والتواصل هو من روح وجوهر منطق الإسلام في عالم الأفكار وعالم الأشخاص، المنطق الذي يحرض عليه الإسلام ويعمل على تأكيده وترسيخه وتعميمه عن طريق منظومة متكاملة من التشريعات الأخلاقية، والقواعد العلمية، والضوابط المنهجية. ومن الآيات الدالة بوضوح كبير على قيمة التواصل قوله تعالى ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ) ـ سورة الزمر:18ـ والمقصود بالقول في هذه الآية على بعض التفاسير هو مطلق القول بدون وصف أو تحديد. والتواصل هو الذي يتيح الاستماع إلى القول من مختلف مصادره لمعرفة الأحسن وإتباعه، وهذا هو سلوك العقلاء وهم ألوا الألباب. ومنهج الاستماع إلى القول المتعدد والمتنوع هو الذي يوصل إلى إتباع أحسن هذه الأقوال. إلى جانب آيات كثيرة. ومن الأحاديث الشريفة الشديدة القرب من المفهوم التواصل الحديث المعروف ( أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله ), و( أعلم الناس من جمع علوم الناس إلى علمه ), والتواصل هو الوصول إلى عقول الناس وعلومهم وخبراتهم وأفكارهم. وهذه هي فلسفة التواصل لان حكمة الله اقتضت أن يتقاسم الناس العقل فيما بينهم لكي يدركوا الحاجة والمنفعة والضرورة فيما بينهم, وهذا الذي يعقلن ويؤسس لهم مفهوم الاجتماع.

 

والعلوم المعاصرة لها خبرتها ومعارفها في هذا المجال أيضاً, فالمفكر الفرنسي غاستون باشلار عرف بمفهوم القطيعة الذي حدد مفهوماً له عرف به, ويعني به التجاوز و الانقطاع عن البنى الفكرية السابقة كشرط معرفي في إنجاز عمليات التجديد والتحديث والإبداع. كما عرف المفكر الالماني يورعن هابرماس بمفهوم التواصل الذي أشتهر به, وارتبطت وتداخلت معه فلسفته ورؤيته للحداثة, الفلسفة التي شرحها بشكل واسع ومستفيض في كتابه الشهير ( القول الفلسفي للحداثة ), حيث اعتبر أن الحداثة مشروع لم ينجز, وهذا وجه العلاقة بين الحداثة والتواصل , لأن الحداثة حسب رؤيته لا تكتمل إلا بالتواصل, والتواصل مشروع لا ينتهي. * الأستاذ زكي الميلاد : مفكر إسلامي سعودي

 

نقلا عن جريدة عكاظ ـ 7 و14 ابريل 2004م

 

المصدر: موقع زكي الميلاد نقلا عن جريدة عكاظ - العدد 13738 و 13745

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك