تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة وإسقاط الفوارق

تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة وإسقاط الفوارق

الشيخ/ صفوان بن أحمد مرشد

تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة وإسقاط الفوارق العنصرية والطبقية والطائفية وتوحيد هوية الأمة المحمدية على ميزان التفاضل الإيماني (التقوى)

حيث قال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد إلا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى أبلغت قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أي يوم هذا قالوا يوم حرام ثم قال أي شهر هذا قالوا شهر حرام قال ثم قال أي بلد هذا قالوا بلد حرام قال فإن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم قال ولا أدري قال أو أعراضكم أم لا كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا أبلغت قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليبلغ الشاهد الغائب» ⁽¹⁾ .

وفي رواية الطبراني عن العداء بن عمرو بن عامر قال:«قعدت تحت منبره يوم حجة الوداع فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله عز وجل يقول { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] فليس لعربي على عجمي فضل ولا لعجمي على عربي فضل ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى يا معشر قريش لا تجيئوني بالدنيا تحملونها على أعناقكم ويجيء الناس بالآخرة فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً» ⁽²⁾.

وتُجَسِّدُ هذه التعاليم النبوية واقعه صلى الله عليه وسلم وسيرتُه العطرة بعبقها الفواح، ونغمها الصدّاح، فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه، الصحابي الجليل، الحبشي السلالة العبدُ في الجاهلية، السيدُ في الإسلام، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الأنام، حرّر مسألة التوحيد الأعظم بالصبر والكفاح على تلك البطاح، كلما زاد لهيب الصحراء على ظهره، وسياط الجبابرة على صدره، ذلك إيماناً وحباً لله، وتصّبراً على الأذى في ذاته سبحانه، فيعتلي صوته ويرتفع بأحد أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

هذا الصحابي الجليل يأتي باكياً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم المربي الأول، والرسول الأجل ليبث شكواه بحرقة لامست شفتيه، وظهر أثرها في عينيه، (يا رسول الله، الغفاري أبو ذر يقول لي: اذهب يا ابن السوداء)، فيستدعي النبي أبا ذر للمثول أمامه في مجلس التقاضي، ويقول له بعد استماع الدفوع «يا أبا ذر إنك امرئ فيك جاهلية» ⁽³⁾.

كم من مواقف السيرة العطرة ترسخ العدالة الاجتماعية والمساواة الحقيقية بين الراعي والرعية وكافة أفراد الأمة المحمدية ـ فأين نحن اليوم من تلك التعاليم الإسلامية:

في عالم تمزقه النزاعات العنصرية والحروبُ الطائفية، والنعراتُ الجاهلية والوطنياتُ الزائفة، كلها عوامل تكرس الفرقة في الأمة وتزيدها ضعفاً إلى ضعفها، وشتاتاً فوق شتاتها.

فهل من عاقل لبيب، وهل من مسلم أريب، يدرك أن الخير كل الخير في هذا الدين، فيعض عليه بالنواجذ، وليكن ذلك القابض. فالقابض على دينه اليوم «كالقابض على الجمر» ⁽⁴⁾.

تحقيق الأمن والسلام:

تسعى اليوم كل الدول بلا استثناء إلى تحقيق السلام والأمن في ربوع بلدانها، وتستخدم كافة إمكانياتها المالية لتحقيق ذلك، وليس من المبالغة إن قلنا إن أكبر قضايا المجتمع الدولي اليوم هي السعي لتحقيق الأمن، وها نحن نرى البرامج الإعلامية، والخطط الإستراتيجية، والمنظمات المدنية والمؤسسات العسكرية، ومراكز الدراسات الأمنية تحقق إخفاقات مهولة في هذا الباب، والسبب في ذلك هو الظلم الذي يحرق قلوب المظلومين، فلا يجدون لهم نصيراً ولا معيناً إلا تصدير الخوف إلى من ورّده إليهم ولسان حالهم ما نبغي هذه بضاعتكم رُدّت إليكم, وما دام الظلم قائماً ستظل الفوضى قائمة، حتى يستقيم الأمر من أصله وجذوره فتستقيم سيقانُه وفروعُه.

فالأمن المنشود والسلام المطلوب تحققه العدالة التي أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعدها وأصَّل أسسها وشيّد بناءها في مجتمع جاهلي يقتل استهانة بالدم ويحترف الجريمة وتثور فيه حميّة الثأر الأعمى الذي لا يفرق بين صغير ولا كبير ولا امرأة وطفل. فيأتي نبي الرحمة لينشر السلام بدين الإسلام، ينشر الأمن مع الإيمان: شخّص الداء ثم وصف الدواء بإرشاد سماوي وتعليم إلهي من رب الأرض والسماء ويُعلن النبي صلى الله عليه وسلم دستور حفظ الدماء في الحقوق والأعراض والأنفس يوم مشهود، يوم حرام، وفي بلد آمن، وفي شهر حرام.

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] .

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين} [التوبة:36] .

وفي خطبة وداعه بأبي هو وأمي يقول: «وقال إن دماؤكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات» ⁽⁵⁾, هذا الجزء من خطبته صلى الله عليه وسلم بيّن فيه الحبيبُ المصطفى صلى الله عليه وسلم السياج الذي يحمي الفرد في عرضه وماله ودمه فجعل للمسلم حرمة كحرمة أعظم الأيام يوم عرفة، وكحرمة أعظم البقاع الطاهرة مكة المكرمة، البلد الآمن، في أعظم شهور الله عز وجل وهي الأشهر الحرم.

فليتق الله عز وجل كل مسلم لا يرعي حرمة المسلمين، وليتق الله كلُّ مسلم يطلق العنان للسانه بالغمز واللمز والتحقير والتصغير لإخوانه المسلمين، وليتق الله كل مسلم لم يحفظ حرمة أخيه في غيبته فإذا به يستطيل في عرضه غيبة أو نميمة أو تجسساً، فإن الخطب عظيمٌ, عظيمٌ.

فمن تعدى على مسلم بيده أو لسانه فقد هتك أستار الله وهدم حرماته وتعدى حدوده.

ومن تجرأ على أخيه المسلم في دمه أو ماله أو عرضه، فقد جعل نفسه عرضة تسخط الله.

بوّب الإمام النووي في رياض الصالحين: باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقةُ عليهم ورحمتُهم. ثم ساق أحاديث تنخلع لها قلوب المؤمنين، منها قوله صلى الله عليه وسلم:«المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكْذبُه ولا يخذُلُه، كل المسلم على المسلم حرامٌ عرضُه ومالُه ودمُه، التقوى ههنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» ⁽⁶⁾.

ـ وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فيدركه فيكبه في نار جهنم» ⁽⁷⁾.

وقال صلى الله عليه وسلم: «والمسلمُ من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده» ⁽⁸⁾.

فالمجتمع المسلم مجتمع سلام وأمن واستقرار، ولكن قيمَ الجاهلية الماضية لها حضور قوي في نفوس كثير من الناس اليوم بل وبالأمس ومن تلك القيم الجاهلية التي تهدد السلام وتهدد الأمن الثارات والعصبيات الجاهلية، فأردف عليه الصلاة والسلام في بيانه حُرُمات المسلمين إسقاطاً لكل مآثر الجاهلية الجهلاء التي تورث من تشبع بها وتشبث بأذيالها العفنِة جرأة على انتهاك حرمات الله وحرمات المسلمين، وكان صلى الله عليه وسلم معلماً ومريباً حكيماً، ومن حكمته البالغة أن جعل من نفسه قدوة علمية في طمس الجاهلية فبدأ بنفسه وعشيرته قائلاً: ودماء الجاهلية موضوعة «وإن أول دم أضعه من دمائنا: دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه من ربانا: ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله» ⁽⁹⁾.

والأمة الإسلامية اليوم تحتاج إلى قدرات عملية تتحرك بأفعالها، واعلموا رحمكم الله أن العدلُ أساس الأمن فلا أمن بلا عدل ولا عدل بلا إيمان, العدل في الأقوال والعدل في الأفعال والعدل في كل حال, { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم منه بالذكر الحكيم ورحمنا به وشفعه فينا، آمين آمين.

قلت ما سمعتم فاستغفروا الله لي ولكم ولجميع المسلمين.

الخطبة الثانية:

فعلى كل أمير وسلطان أن يحرس مملكته بالعدل لأن الدولة العادلة تبقى ولو كانت كافرة والدولة الظالمة تزول ولو كانت مسلمة.

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة" ⁽¹⁰⁾.

على كل أمير وسلطان أن يحمي سلطانه من أعدى أعدائه الذي يعمل على زوال ملكه وذهاب سلطانه، وانهدام أركان حكمه، وهو الظلمُ والجور والمحاباة والغفلة أو التغافل عن أنين المساكين وآهات المساجين، وصيحات المظلومين، التي قد تتحول مطية للغادرين والغزاة المستعمرين، وتكون وقوداً مستعراً لهيبه تتأجج ناره ليحرق الأقربين والأبعدين في فتنة تذهب بالدنيا وتعصف بالدين.

فتنة الولاء للكافرين والعمالة لهم طلباً لتغيير حكم الظالمين كالمستجير من الرمضاء بالنار.

وليتق الله كل مسلم وليعدل في قوله وفعله وليصبر على أذى أميره وسلطانه، ولينصح له ويقف محتسباً أمام ظلمه، وليسمع وليطع بالمعروف.

ألا فليتق الله كل حاكم ولي من أمر المسلمين شيئاً وليعدل في رعيته، وليجتهد معهم في نصيحتهم وليسارع في فكاك رقبته من أغلال الجور.

عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله عز وجل مغلولاً يوم القيامة، يُدُه إلى عنقه، فكّه برُّه، أو أوبقه إثمه أوّلُها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزيٌ يوم القيامة» ⁽¹¹⁾.

________________

(1) ـ أخرجه أحمد في المسند 5/411، حديث رقم: 23536، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.

(2) ـ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 18/ 12، حديث رقم: 16، ولم أقف على من حكم عليه بالتصحيح أو التضعيف, ويشهد له الحديث السابق.

(3) ـ جاء في البخاري 5/ 2248، حديث رقم: 5703، ومسلم، 3/1282، حديث رقم: 1661، ولم يسميا بلالاً، وسماه البيهقي في شعب الإيمان وذكر أنه بلالاً، أنظر: شعب الإيمان للبيهقي، 4/288، حديث رقم: 5135 .

(4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند 2/390, برقم: 9063, والترمذي في السنن 4/526, برقم: 2260, وصححه الألباني في الصحيحة 2/645, برقم: 957, ولفظ الحديث: «يأتي على أمتي زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر«, وورد بلفظ: «يأتي على الناس زمان المتمسك فيه بسنتي عند اختلاف أمتي كالقابض على الجمر«.

(5) ـ أخرجه مسلم 2/ 886، حديث رقم: 1218.

(6) ـ أخرجه مسلم 4/1986, برقم: 2564, وأبو داود في السنن 2/686, برقم: 4882, والترمذي في السنن 4/325، حديث رقم: 1927.

(7) ـ أخرجه مسلم 1/ 454، حديث رقم: 657.

(8) ـ أخرجه البخاري 1/13، حديث رقم:10، ومسلم 1/65، حديث رقم: 40.

(9) ـ سبق تخريجه ص3.

(10) ـ الاستقامة لشيخ الإسلام بن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، 2/247، الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود ـ المدينة المنورة ـ الطبعة الأولى: 1403هـ .

(11) ـ أخرجه أحمد في المسند 5/267، حديث رقم: 22354، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح لغيره.

المصدر: http://olamaa-yemen.net/main/articles.aspx?article_no=3602