مـن هــنا تــبدأ النــهضة

ـــن هـــنا تــبدأ النــهضة
 

 

سهير علي أومري

كنت قد أشرت في مقالي الذي كتبته بعنوان: “نحو نهضة غير مستوردة” إلى أن حجر الأساس لنهضتنا لا يتمثل في تحسين المستوى المادي والاقتصادي فحسب بل هو نهضة فكرية تتعلق بجملة مفاهيم تخص الكون والحياة والإنسان يتبناها الأفراد عقيدة وسلوكاً… وفي سبيل إتمام الموضوع وتلمس أبعاد هذه النهضة أردت أن أقف هذه الوقفة لأتناول موضوعاً في غاية الأهمية يتعلق بالبنية الفكرية التي نحن عليها والتي تشكل حجر العثرة الأول في وجه أية نهضة نطمح إليها…. ربما لا يكون في هذه الوقفة الترياق والدواء ولكنها إضاءة مهمة لا بد منها لأن تشخيص المرض نصف العلاج…
في هذه الوقفة سأسلط الضوء على العوائق الفكرية التي تمنعنا من النهضة عسانا إن تبيّناها أمام ناظرينا استطاع كل منا أن يحدد من هذه العوائق ما يخصه ليقول في النهاية (وأنا معكم): “من هنا تبدأ النهضة” وهذه العوائق تتمثل فيما يلي:

1- عدم اقتناعنا بحاجتنا لنهضة فكرية تتمثل في: خلق العديد من القيم والمبادئ والأفكار أو تصحيحها أو تمثلها سلوكياً بحيث تنزل من ميدان الفكرة إلى ميدان الحركة… مع أننا ندرك تماماً أن البنية الفكرية التي نحن عليها ليست مؤهلة بالتأكيد لأن تقود أبناءنا إلى مستقبل أفضل… (على الأقل أفضل مما نحن عليه اليوم!)…
2- اعتدادنا بأفكارنا ومعتقداتنا ومبادئنا وتشبثنا بها واقتناعنا التام أنها وحدها الصحيحة في هذه الحياة، وكل ما سواها فكر رديء أو متطرف أو عميل ويجدر بصاحبه أن يذهب إلى الجحيم، فإن لم يتراجع بنفسه عن هذا الفكر ويصير مثلنا علينا أن نحاربه ونطيح به متمثلين قول أباطرة القرن الحادي والعشرين “إن لم تكن معنا فأنت ضدنا”
3- اختلاف أصحاب الفكر الواحد فيما بينهم بسبب افتقادهم أساليب التعبير والتواصل.
4- التوجه نحو الأفكار التي تخالف أفكارنا، أو التي لم نبنِ تجاهها بعد قناعات في هذه الحياة بتشنج بالغ سببه نظرية المؤامرة التي تسيطر على عقولنا… لدرجة أنك ترى أحدهم إن استخدم آية في حديثه مثلاً انهال عيه العلمانيون ليحكموا على كل ما يقول بأنه كلام متشدد من متحدث متطرف، وفي الوقت نفسه يتوجه نحوه الإسلاميون يكيلون له الاتهامات بأنه عميل ومتآمر يدس السم في الدسم!! وبذلك لا تصل فكرته لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء…
5- انقسام الناس تجاه البنية الفكرية الموروثة للأمة إلى تيارين:

أحدهما يدين بالولاء إلى حد التقديس لكل ما وصلنا من تراث فكري دون أن يميز بين غثه وسمينه، ودون أن يفرق بين حسنه وضعيفه…. الأمر الذي جعل الأمة تبقى واقفة في مكانها ترواح، حتى غدا أمر تجديد أو تطور أي مفهوم أو مبدأ فكريّ خطاً أحمر ومساحة ضيقة لا يحل لأحد الاقتراب منها، ولسان حال هذه الفئة يقول: “لم يترك الأولون للآخرين شيئاً”
أما التيار الثاني: فأصحابه على نقيض الأول تماماً تراهم يعلون شعارات عديدة منها: تغير الأحكام بتغير الأزمان، لكل وقت دولة ورجال، الحرية الشخصية مبدأ مقدس…. إلخ، فيرون أن كل ما تقوم عليه هذه الأمة من مبادئ وقيم فكرية قد غدت بالية مهترئة لم تعد تجدي في زمننا هذا لذا علينا أن ننسف هذه المبادئ وندير لها ظهورنا ونفتح الباب لكل جديد، ولو كان هذا الجديد ضيقاً جداً أو فضفاضاً جداً طويلاً جداً أو قصيراً جداً أياً كان شكله ولونه ومقاسه لا يهم سنطوّع أنفسنا لنغدو نحن (لا هو!) ملائمين له، فهو جديد، ويكفي مفهوم الجِدّة لأن يجعله جديراً بالاحترام والخضوع…وكيف إذا كان هذا الجديد قادماً إلينا من أرض الأحلام أو مدينة الضباب أو عاصمة السحر أو بلد العطور!! الأمر سيجعل هذا الجديد يحمل الورقة الرابحة دائماً لأننا نحن الحلقة الأضعف دائماً…
أصحاب هذا التيار ليس بالضرورة أن يكونوا جنوداً أو عملاء يريدون تغريب شرقنا العربي أو أمركته (مع عدم نفي هذا الاحتمال بالتأكيد) ولكن القسم الأكبر من هؤلاء قد أصيبوا بفيروس خطير إنه “فيروس الغرب”، وهذه الإصابة كانت من الدرجة الأولى جعلت بناءهم الفكري والنفسي أفضل مأوى يرتع فيه هذا الفيروس ويتكاثر، ثم ينطلق ليصيب بُنى فكرية أخرى… وإصابة هؤلاء لم تكن وليدة المصادفة أبداً بل كان لها مقدمات بدأت بالمغالاة في قبول الرأي الآخر لدرجة التماهي معه حتى صاروا هم الرأي الآخر نفسه، ثم تدرج الأمر إلى مرحلة جلد الذات واحتقار كل ما نحن عليه والتشكيك به، ثم تدرج الأمر ليصبح عقدة بل عقيدة نقص تجاه كل ما هو غربي أو متأمرك في القيم والأفكار والمعتقدات إلى أن يعلن هؤلاء بالقول والفعل إعدام المنظومة الفكرية والقيمية لهذه الأمة بأكملها والمطالبة أو (المحاربة!) لإقصائها ونبذها واتباع قيم الحضارة الجديدة وبريقها… حتى ولو أصبحت قيمة الاستهلاك هي القيمة الكبرى التي نعيش لأجلها ونعمل لأجلها، وحتى لو أصبح التسوق والشراء هو السياحة الكبرى لأرواحنا والسعادة الكبرى التي تطغى على مشاعرنا وأهدافنا، وحتى لو أصبحت قيمة الإنسان بقدر ما يشتري وبقدر ما ينفق…

وهنا لا بد من الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية وهو أن أصحاب هؤلاء التيار المصابون بفيروس الغرب يغدو خطرهم أقل خطورة فيما لو كانت أعراض المرض تظهر عليهم أما من كان منهم يحمل المرض ولا تظهر عليه الأعراض فأولئك يكون خطرهم أكبر لأنهم قادرون على نقل المرض دون أن يشعر المتلقي بالعدوى، وأولئك يتخذون مظاهر عديدة وأهمها الذين يقومون بأسلمة أو تعريب القيم الغربية واستنساخها ثم يلبسونها زياً عربياً فلكلورياً تدفع الناظر إلى التصفيق والإعجاب، فما معنى أن يكون السوبر ستار واحداً والستار أكاديمي واحداً والرابح الأكبر واحداً والخاسر الأكبر أيضاً واحداً وحتى المجدد الذي سيرتقي بالمجتمع تنموياً سيكون واحداً؟!! هل لهذا معنى غير أننا نتطور وخاصة أن ما نقدمه إعلام عربي أصيل!! صحيح هذا الكلام ولكن ماذا عن قيمة الفردية التي يعززها هذا الإعلام؟!! وما معنى أن تصير الفردية هي القيمة المسيطرة على مبادئنا ومعتقداتنا ليصبح دوماً الفاعل واحداً والمؤثر واحداً والمسيطر واحداً فرداً لا ثاني له!! أهذه القيم تناسنا وكفيلة بنهضتنا؟!!
أعلم أن من القراء من يقول الآن: إنك تناقضين نفسك فأنت تنوهين إلى ضرورة الانفتاح وتقبل الرأي الآخر وعدم التشبث بما نحن عليه من منظومات قيمية وفكرية ثم تنالين من كل محاولة لتقليد الغرب أو السير في ركابهم… هذا صحيح إلا أن في الموضوع معادلة ربما كانت صعبة وربما كان مجاهيلها ثلاثة أو أربعة، ولكنها ممكنة الحل وفي قلبِ وعقلِ كلٍّ منا قيمة لهذه المجاهيل، وأخص القلب قبل العقل لأن النهضة الفكرية التي نطمح إليها لن تنطلق إلا من قلوب مؤمنة بضرورتها كما هي مؤمنة بإمكانيتها… وسيكون لي وقفة أخرى إن شاء الله لتلمس هذه الإمكانية وسبل الوصول إليها…
وفي الختام هذه تحية تقدير واحترام أوجهها لكل من سيقرأ كلامي سواء بدأ بعده بتلمس طريق النهضة معي أو كان له واحد من المواقف التي فصلتها أعلاه….

 

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك