التجزئة السياسية.. والتجزئة الفكرية

التجزئة السياسية.. والتجزئة الفكرية

نبيل شبيب

- المرحلة الراهنة تفرض بناء الجسور وتجاوز العابثين

- كلّ إسهام في تعزيز الحوار الهادف وتوسيع نطاقه يمثل لبنة من لبنات البناء على طريق طويل

 

* * * * * * *

 

 

"فرّق تَسُـدْ".. شعار يمثل منهجا، لا يكاد يجهله أحد في بلادنا، ولا يكاد يوجد قطر من أقطارنا إلاّ وعانى بصورة أو بأخرى من صور تطبيقه المختلفة، منذ عجز الأعداء الخارجيون عن تحقيق أهدافهم بصورة مباشرة، فلجؤوا إلى هذا المنهج، ووجدوا عل تطبيقه أعوانا من داخل أرضنا. ولكن رغم استيعاب ما أدّى ويؤدّي إليه ما نزال بعيدين عن مواجهته ومواجهة نتائجه كما ينبغي، وما زال في الصفوف من يطرح مواقفه المنحرفة، ورؤاه الشاذّة، بما يستهدف المزيد من التفرقة والتجزئة، وما يمثّل الطعنات من الخلف أثناء "المعركة"!.

 

دروس من الماضي وحصيلته

 

"فرّق تسد".. كان شعارا ومنهجا وتطبيقا هو المدخل المباشر للتأثير الخارجي على أوضاعنا الداخلية، بما يحقّق هدف التجزئة، مرحلة بعد مرحلة، فيفتح باب انتزاع السيادة من الجميع، وكان وما يزال يقابله نهج "التفرقة" داخليا، نتيجة عوامل الضعف الذاتية، الناجمة عن الأطماع والنزاعات لمختلف الدوافع وتحت مختلف الرايات.

 

لا يمكن تحديد البدايات التطبيقية لهذا التدهور المزدوج تحديدا تاريخيا منهجيا، كما لا يمكن تقسيم مجرى التاريخ إلى مراحل ينفصل بعضها عن بعض، فالأحداث تتداخل دوما في النتائج وتتجدّد اعتمادا على ما يتحقّق منها دون انقطاع، ولكن يمكن رؤية المعالم الرئيسية لمجرى التاريخ منذ بدأت حملات الهيمنة والتجزئة على أطراف "العالم الإسلامي" في حقبة عصره "الذهبي" ومع بداية انتشار ظاهرة الاستعمار الأوروبي بحملاته الأسبانية والبرتغالية فالهولندية والفرنسية والبريطانية، حتى إذا آن أوان توجيه الضربة إلى "قلب" العالم الإسلامي في أواخر العهد العثماني أيام "الرجل المريض"، تركّزت حملات "فرّق تَسُد" على الجانب الفكري إلى جانب الحملات العسكرية والسياسية، ولم يكن ذلك –كسائر ما يماثله من جهود عدوانية ليؤثّر داخليا، إلاّ بمقدار ما يجد من نقاط ضعف في "الجسم" المستهدَف.. وكانت نقاط الضعف في الجسم الإسلامي كثيرة، لاسيّما في حقبة شهدت إخفاق "حركات الإصلاح" في تحقيق تغيير إيجابي يستحقّ الذكر، فنشأ ما يسمّيه الإسلاميون موجة "مناهج وأفكار مستوردة"، ممّأ دار حول محور العلمانية حينا، والقومية حينا آخر، والاشتراكية حينا ثالثا، وخليط بينها في غالب الأحوال، ورُفعت له من بعد شعارات وعناوين أخرى عديدة في مختلف الميادين السياسية وغير السياسية، حتى بات من أبرز سمات القرن الميلادي العشرين نشوء ما لا يكاد يُحصى من التيارات والحركات والأحزاب والمنظمات، وطرح ما لا حدود له من التصوّرات والأفكار باسم التجديد، والإصلاح، والثورة، والتصحيح.. ولم ينقطع طرح شعار الوحدة ولكن كان هو كسواه ضحيّة أخطر سمات تلك المرحلة:

 

1- ربط هدف "التجديد" بالانقطاع عن "الثوابت" كشرط لتحقيقه..

 

2- وتحويل التمسّك بالثوابت إلى رفض متعصّب للتجديد بمعظم أشكاله..

 

لم يغب عن المجدّدين في عصر التنوير الأوروبي ربط ما نقلوه من أفكار في حقبة التماسّ مع مراكز الحضارة الإسلامية آنذاك، بثوابت استخلصوها من تاريخهم الإغريقي والروماني والجرماني والمسيحي واليهودي، ولكن غاب عن المجدّدين في بلادنا في حمأة التجزئة الفكرية والسياسية أنّ من أضاع ثوابته الحضارية والتاريخية جعل طريقه إلى التجديد ضياعا، كما غاب عن المتمسّكين بالثوابت التي رسّختها الحقبة الحضارية الإسلامية المزدهرة أنّ من يرفض التجديد يعني على أرض الواقع الإسهام في "وأد ثوابته" فكل مالا يتحرّك مواكبا للتطوّرات السريعة في التاريخ البشري، لا بدّ أن يموت موتا بطيئا أو سريعا.

 

شروط حاسمة للخروج من التجزئة

 

لقد وصلت تلك المرحلة إلى غايتها، وشهدنا ونشهد ما خلّفته من كوارث متتابعة متلاحقة، ليس فيما نعطيه عناوين قضية فلسطين أو قضية العراق فحسب، بل ما نعطيه أيضا على الامتداد الجغرافي عناوين كوارث الجزائر والسودان والصومال ولبنان وكشمير وأفغانستان وغيرها.. ونعطيه أيضا عناوين التخلّف والجهل والمرض والانهيار الأمني والاجتماعي في مختلف الميادين.

 

مع ذلك فإنّ قضية فلسطين وقضية العراق التي أضيفت إليها، تمثّلان مفاصل تاريخية حاسمة، فكما كانت الغزوة الصهيونية لفلسطين موجّهة إلى "قلب المقدّسات"، بما يشمل الإسلامية والمسيحية معا على أرض الواقع، ويشمل التعايش بين الأديان في المنطقة في قرون سابقة باستثناءات محدودة، تأتي الغزوة الأمريكية-البريطانية للعراق لتكون ضربة موجّهة إلى "القلب الحضاري" للأمة، ففي بغداد بالذات بلغت مسيرتها الحضارية الذروة على كلّ صعيد، علمي مع عهد المنصور والمأمون، وأمني واقتصادي وسياسي في عهد الرشيد، وكان من بعدها فقط الانحدار الذي أوصل أخيرا إلى عصر النكبات الراهن.

 

إنّ الخروج من هذا المنحدر مجدّدا يشترط أوّل ما يشترط العودة عن فكر التجزئة والتفرقة إلى فكر التوحيد والتعايش، وكل توحيد وتعايش يعني التعددية الفكرية ابتداء، ولكنه يفرض في الوقت نفسه أرضية مشتركة لا غنى عنها، كما أنّه لا غنى عن البداية الفكرية في كلّ تحوّل جذري في حياة أمّة من الأمم، وما نعايشه في الوقت الحاضر يمثّل "مخاضا عسيرا" للتحوّل المرجو، ولكنّه مخاض حضاري نجد فيه مشاعل تنير الطريق، ونجد فيه أيضا "فحيحا" يردّد ما أكل عليه الدهر وشرب خلال القرن الميلادي العشرين.. ولم يبق منه سوى آثاره المدمّرة.

 

إنّ الأصوات التي تنادي مثلا فلسطين للفلسطينيين، والعراق للعراقيين، وسورية للسوريين، ومصر للمصريين، ولا علاقة للعرب بالمسلمين، أصوات لا ينظر أصحابها في التاريخ ليعتبروا، ولا في الواقع الحاضر ليزدجروا.

 

أمريكا تبحث عن حلفاء..

 

أوروبا تتجاوز حروب قرون متطاولة ليكون لها مكان ما في خارطة المستقبل..

 

روسيا لم تعد تتحرّك على انفراد في أمر من أمورها..

 

الصين خرجت من عزلتها إلى الساحة الدولية كي تبقى..

 

وهؤلاء يريدون إقناع الأمّة العربية والإسلامية أنّ في الإمكان بقاءها على المسرح الدولي في القرن الميلادي الحادي والعشرين مع ترسيخ التجزئة والتفرقة ومضاعفتها، حتى وإن اقترن ذلك بمواقف وإجراءات تهبط إلى مستوى الخيانة الفكرية والسياسية للأمّة!..

 

وربما توهّموا أنّه يمكنهم بدعواتهم "القطرية" وما دون القطرية و"المذهبية" وما هو أسوأ من المذهبية، أن يجدوا لأنفسهم التأييد على المستوى الشعبي، فقد سبق أن وجد أسلافهم على الطريق نفسه تأييدا، أسفر عمّا نعاني منه من أوبئة على مختلف المستويات، ولكنّ الفارق كبير بين عصرنا هذا وما كنّا عليه قبل قرن أو أكثر من الزمن. آنذاك كانت الأمراض متفشية في جسد الأمة وهي تحافظ على قدر ما من وحدتها التاريخية، وكان البحث جاريا عن علاج، فكان يسهل إغراء من يعانون من تلك الأمراض بدعوات منحرفة، ولكن الآن وبعد أن سبّبت الكوارث وقضت على البقية الباقية من تلك الوحدة التاريخية، ورسّخت الضعف مع التجزئة، والتخلّف في كلّ ميدان ومكان.. لا يستمرّ على ذلك إلا من يصرّ على تعاطي السموم بدعوى طلب الشفاء.

 

لا يردع من يسير على هذا السبيل محاولات يجمعها عنوان "الحوار".. فلكلّ حوار بين طرفين مختلفين أرضية مشتركة، إذا ضاعت صار الحوار نفسه -كما يقال- من قبيل "حوار الطرشان".. ولا خطر حقيقيا يصدر عن هؤلاء إلا بمقدار الانشغال بهم عن أداء المهمة الجليلة الملقاة على عاتق الجميع من المشاركين الجادّين في حوار هادف، رغم اختلاف المنطلقات ووجهات النظر الفرعية والتفصيلية.

 

الحوار المطلوب

 

إنّنا في حاجة إلى تيّار الحوار الهادف البنّاء الذي يمنع أن تكون الثوابت عوائق في طريق التجديد والإصلاح والتلاقي على أهداف قويمة مشتركة، والذي يمنع أيضا استغلال الحاجة إلى التجديد لتوظيفه –كما كان- وسيلة للقضاء على الثوابت، وكذلك القضاء على أرضية مشتركة بين اصحاب المنطلقات المختلفة، فالنتائج ماثلة للعيان في فلسطين والعراق وسواهما، وفي واقعنا الأمني والاقتصادي والسياسي والفكري على السواء.

 

نحتاج إلى تيّار حوار يجمع ولا يفرّق، ويقرّب ولا يباعد، ويوجد أسباب الثقة المتبادلة ولا يقضي عليها، ويتجاوز الأحقاد ولا يعزّزها، فمن سلك سبيلا آخر يضع نفسه خارج الإطار، ومن انزلق إلى محاولة وضعه إلى الطريق "غصبا عنه" يساهم من حيث لا يقصد في الانحراف عن هدف الحوار، وفي ترسيخ أسباب التجزئة والتفرقة.

 

نحتاج إلى حوار يتلمّس "جراحاتنا" جميعا، وجميعها مشترك، فلا يميّز بين قطر وقطر، ولا قضية وقضية، ولا تيار وتيار، ولا شعب وشعب، ويبحث عن الدواء الذي يضمّد تلك الجراحات المشتركة دون أن ينكأ المزيد، ودون إهمال لأحدها بدعوى الاهتمام بالآخر وهو يسكب بذلك الزيت على النار، ويفتح من خلال الرؤية المشتركة في الحوار آفاق المستقبل فلا ينبش الماضي وجحور من يعيش فيه.

 

نحتاج إلى ثورة فكرية شاملة للجميع، معبّئة لطاقات الجميع، موجّهة لأبصار الجميع نحو هدف مشترك، لا يمكن الوصول إليه –ولا إلى أهداف فرعية جانبية- دون تجميع القوى من أجله، وليكن لكل فريق من وراء ذلك غاية أبعد، أخروية أو دنيوية، فالمهمّ هو إيجاد قواعد للتعامل النزيه على الطريق الموصلة إلى الهدف المشترك، وللتعامل النزيه والاحتكام في ذلك إلى إرادة الشعوب بعد بلوغ الهدف المشترك والحدّ من ضراوة الأخطار الخارجية، ومن دون ذلك يحمل الجميع المسؤولية عن وقوع مزيد من الكوارث والنكبات، بتأثير داخلي وتأثير خارجي على السواء.

 

إنّ كلّ انشغال بمن يشذّ عن مسيرة الحوار الهادف ويشوّش عليها يمثّل معولا من معاول الهدم..

 

وإنّ كلّ إسهام في تعزيز الحوار الهادف وتوسيع نطاقه يمثل لبنة من لبنات البناء على طريق طويل..

 

فليضع كل فرد نفسه حيث يريد، ومن يتحرّك صادقا مخلصا يساهم في أن تكون حصيلة المخاض الذي نمرّ به على النحو الذي يحقّق للأمّة ما تصبو إليه من عزّة وكرامة ووحدة وتحرّر وتقدّم ورقي وأمن وسلام.. وسائر الاهداف الجليلة التي تردّدها ألسنتنا وأقلامنا كثيرا، ولا تعزّزها إلا المواقف الصلبة والإنجازات المرئية على أرض الواقع، والإنجازات هي التي تجمع بصورة عملية واقعية الجهود المخلصة على السبيل الموصلة إلى الهدف.

 

المصدر: موقع مداد القلم

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك