المسلمون بين ثقافة الوحدة وثقافة التفرقة

المسلمون بين ثقافة الوحدة وثقافة التفرقة

مصطفى ملص

حينما تسمو الطموحات فوق الصغائر والأنانيات إلى فضاءات الإنسانية، الرحبة، وتتعدى الشهوات الدنيوية الغرور التي ما إن تنكشف حتى تصبح عيوباً في حق أصحابها، عندها يصبح الإنسان عظيماً، وتصبح أحلامه وروءاه لا بحدود فئة أو جماعة أو طائفة من البشر، وإنما بحدود الإنسان واتساع الكون وما فيه من مخلوقات اللَّه، فالكون في نظر هذا الإنسان وحدة متكاملة ولوحة متناسقة، وجمال منسجم، بكل ما أبدعه خالقه تبارك وتعالى فيه.

 

هكذا كانت رسل اللَّه، ورسالاته، يدٌ تأخذ بيد الإنسانية من أجل كون أكثر انسجاماً وتفاعلاً في سبيل الخير، ومن أجل مجتمعات يسودها الحب والوئام والعدل والسلام لا عدوان فيها ولا طغيان، مجتمعات تتعاون على البر والتقوى وتأخذ بيد البشرية جمعاء نحو سعادة تستمد بقاءها وديمومتها من طهارة النفوس وطيب الأعمال.

 

لقد حدد الإسلام أهدافه العظيمة من خلال ايات الكتاب العزيز، ومن خلال أحاديث الرسول الأعظم (ص)، فالإسلام رسالة إلهية وهي وإن جاءت بلسان عربي إلا أن مجالها يشمل العالمين، يشمل الناس كافة، قال تعالى: «وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً» وخاطب الخلائق كلها ما ظهر منها وما استتر «يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان». وبين القران الكريم أن الرسالة في شمولها تطال بالخير كل عوالم الخلق على اختلافه وتنوعه، قال تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».

 

من هنا فإن الحديث عن شمولية الإسلام وعدالة الإسلام وسماحته ورحمته وما فيه من خير ونفع للإنسانية كعالم مهيمن ولبقية العوالم المشهود منها بالعين المجردة والمخفي منها عن تلك العين، لا ينبغي أن يكون على ألسنتنا نحن المسلمين كلاماً منمقاً من غير جوهر ولا مضمون، بل الواجب عندما نتكلم به أن يكون مشبعاً بمعانيه العظيمة السامية، وأن تملأ تلك المعاني نفوسنا وعقولنا بحيث ينعكس كل ذلك على وعينا وأفعالنا وتعاملنا مع هذا الكون بناسه وجماده وحيوانه، ولنا في رسول اللَّه في كل ذلك أسوة حسنة.

 

تشكل ثقافة الإنسان العامل الأكبر في رسم حركته في الحياة وفي وعيه للقضايا والمسائل التي يعيشها، وليست الثقافة هي ما يجعله الإنسان من معارف وعلوم فقط وإنما تشمل أيضاً مجموعة القيم والمبادى‏ء والأخلاق التي يؤمن بها والتي قد تكون ظاهرة ... أو تكون خفية ومركوزة في عقله الباطن أو ما يسمى باللاّوعي عند الإنسان بحيث أنها قد تكون غائبة وغير محسوسة أو ملموسة الأثر غالباً لكنها تحضر فجأة عندما تستدعيها الوقائع والأحداث. وعلى هذا يمكن أن نقول أن جزءاً من ثقافة الإنسان يكون مخزوناً في لا وعيه، هذا الجزء لا يظهر في خطابه في الظروف العادية ولكنه يحضر في الميدان العملي ويبدو جلياً عندما تدعو الحاجة، بحيث يشعر المراقب بالتناقض في تلك الشخصية بين ما كانت عليه وما الت إليه. وهذه الشخصية عندما تواجه صاحبها بما ظهر منه وما فيه من تناقض فإنه لا يجد غضاضة في سوق التبريرات التي يرجعها إلى عوامل خارجة عن ذاته استدعت ذلك الانقلاب في المفاهيم، وفي التعامل. وهذه الشخصية غالباً ما تكون «طهورية» أي أنها لا تجد في ذاتها إلا الطهر والسعادة والنقاء فيما العيب والخطأ والالتباس كله في ذوات الاخرين، والشخصية الطهورية هذه، عدوانية، لا تصالحية باعتبار أنها تحمل الخير كله كما تجزم، وأن الاخرين يحملون الشر كله، لذلك ليس هناك سبيل في رؤيتها لتصالح الخير مع الشر، والطاعة مع المعصية، والاصلاح مع الفساد.

 

إن الشخصية الإنسانية القويمة هي التي ترى من منطلق أن المعرفة الإنسانية نسبية قابلية ما يصدر عنها للخطأ أو الصواب، وهذا ما عرف به أئمة الهدى من المسلمين حيث نقل عنهم قولهم: «هذا رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب». وهذا ما جعله القران الكريم قاعدة أساسية للحوار مع الاخرين من المختلفين في الإيمان بقوله تعالى: «وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين». إذ أنه بدون هذه القاعدة لا يمكن إقامة حوار بين مختلفين من أجل التوصل إلى معرفة الحقيقة، لأنك عندما تدخل في حوار فكري أو ثقافي أو علمي مع اخر فإنك تضع بضاعتك تلك على طاولة البحث وتحت المناقشة وبمجرد موافقتك على وضع أفكارك وارائك على طاولة البحث وعرضها للمناقشة فهذا يعني في نظر المحاور الاخر أنك رضيت باتهامها، هذا من الناحية النظرية إذ أن مكانة هذه الأفكار عندك قد تكون أثبت من الجبال، وهذا لا يغير في شي‏ء في الحوار.

 

ثقافة الوحدة وثقافة التفرقة:

 

لقد عمل الإسلام على بناء ثقافة الوحدة عند الإنسان، وذلك عبر الايات والأحاديث التي أشارت إلى ذلك أو صرحت به، مثل قوله تبارك وتعالى:«إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون» وقوله تبارك وتعالى: «وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون». وأكد على مفهوم الوحدة بما فرضه على المسلمين من وحدة العبارة، إذ أن العبادة الواحدة والموحدة تشد من أواصر الوحدة في الأمة المسلمة، فالصلاة موحدة في أشكالها وأذكارها، والقبلة التي يتوجه إليها في الصلاة واحدة، وعبارة الصوم واحدة وموحدة في الوقت والشكل أيضاً، وعبادة الحجج واحدة موحدة شكلاً ومضموناً. إن أثر هذه العبادات التي أشرنا إليها ينبغي أن ينعكس شعوراً بوحدة الانتماء إلى هذا الدين وقد عزر ذلك ما دعا إليه الإسلام من التاخي بين المسلمين: «إنما المؤمنون إخوة» ولقد شرح النبي (ص) مفهوم التاخي أو الأخوَّة في الإسلام بقوله: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرى‏ءٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه». فهناك مسؤولية متبادلة بين المسلمين تجاه بعضهم البعض، تتمثل في وجوب إيفائه حقوقه والدفاع عنه وحمايته ونصرته واحترامه وتقديره، واعتبار أن التقصير في شي‏ء من ذلك لا سيما عدم إبداء الاحترام له هو نهاية الشر التي تكفي لخسارة صاحبها.

 

إن الشعور بهذه المسؤولية كفيل بتقوية أواصر الوحدة والترابط، أضف إلى ذلك أن الإسلام قد جعل أعظم مهمة للمؤمن هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الأمر لا يقتصر من المسلم تجاه المسلم فقط، وإنما هو مسؤولية المسلم تجاه الإنسانية جمعاء، ومن هنا كانت مهمة الدعوة إلى اللَّه لإدخال غير المسلمين في الإسلام، باعتبار أن الكفر وما يأمر به شرٌ ومنكر يجب انقاذ الناس منه، وأن الإسلام خيرٌ وهو من أعظم المعروف التي ينبغي دعوة الناس إليه. إن شعور المسلم تجاه الخلق هو شعور المحبة وإرادة الخير والهدى لهم كبشر، وإنما يكون البغض والكره للأعمال المقيتة والمنكرة التي تعود على صاحبها وعلى الناس بالضرر في الدنيا أو الاخرة.

 

فإذا كان شعور المسلم بالانتماء إلى هذا الدين يحمله مسؤولية عظيمة تجاه إخوانه في الإنسانية فإن ذلك الشعور يجعله تجاه المسلم كنفسه، وذلك ما عبر عنه النبي (ص): «المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً».

 

وقوله (ص): «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسّهر». وهذا مفهوم يعزز كما أشرنا سابقاً الشعور بوحدة الانتماء ويشد الأواصر.

 

وفي خط متوازٍ مع الدعوة إلى الوحدة نجد أن هناك تركيزاً في القران الكريم على نبذ التفرقة فهناك عشرات الايات التي تنهى عن ذلك ومنها قوله تعالى: «ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم». وقوله تعالى: «واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً ولا تَفَرَّقوا» وقوله تعالى: «وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله»، وقوله تعالى: «وأطيعوا اللَّه ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم».

 

إن هذه الايات التي تنهى عن الفرقة والتنازع والاختلاف في الأمة الواحدة تشد المسلم باتجاه مفهوم الوحدة والتعاون، فإذا كان أمر وحدة الأمة على هذا القدر من الأهمية في النصوص الدينية من كتاب وسنة، فلماذا تقدمت ثقافة التفرقة على ثقافة الوحدة في الأمة، ولماذا بقيت الوحدة مجرد شعارات ترفع من قبل كل مسلم دور استثناء، كلٌ بحسب رؤيته ومفهومه ولكن من دون تطبيق أو التزام؟ ولماذا احتلت ثقافة الفرقة والتنازع والاختلاف الساحة العملية والتطبيقية؟

 

إن لسيادة ثقافة التفرقة على ثقافة الوحدة أساب كثيرة، منها ما هو سياسي ومنها ما هو فقهي ومنها ما هو كلامي أي مرجعه إلى علم الكلام الاصطلاحي. أما السياسي فمعروف بذلك النزاع الذي نشب بين المسلمين حول الإمامة والخلافة والأحقية بذلك. ثم ما تبعه من تحرير وتحريف وظلم وجور وقع على أيدي أصحاب السلطة بحق الأمة، وانقسام الناس إلى متضرر ومنتفع، كما هو الحال مع كل سلطة إلى يومنا هذا. وقد استتبع الخلاف السياسي خلافاً كلاميّاً تناول معتقد الناس أو إيمانهم وما ينبغي أن يكون عليه الإيمان وماهية الكفر، ودخل المنطق اليوناني والفلسفة الاغريقية في تحديد كل ذلك، وساهمت عقائد الشعوب والأديان الأخرى في بناء علم الكلام الإسلامي الذي أسماه البعض علم التوحيد، ودار في معظمه حول الخالق عزّ وجلّ وحول النبوة والغيب. وهو بحث لم يكن معروفاً في صدر الإسلام وإنما جاء بعد حركة النقل والترجمة التي ازدهرت في العهد العباسي، إذ أن الإيمان في المفهوم الإسلام الأساسي المستفاد من القران الكريم والسنّة النبوية والأحاديث الشريفة إنما هو إيمان بسيط (أي ضد مركب) لا يتصف بالتعقيد ولا بالاستعصاء على الفهم وينسجم مع الفطرة الإنسانية السليمة.

 

لقد أدخل علم الكلام الأمة في خلافات نظرية كلامية لا طائل من تحتها إلا في أذهان معتنقيها.

 

وأدى الاختلاف إلى نشوء المذاهب الكلامية كالأشعرية والمعتزلة وما تفرع عنهما، وتقاطعت الخلافات، واستفاد السياسي من الكلامي كما استفاد الكلامي من السياسي، واقترن الفقهي بالكلامي، مما نقل روح الاختلاف إلى العوام الذين لا يستسيغون الخلاف الكلامي، ولا يفهمون أبعاده، ولكنهم مضطرون للتعامل مع الفقه لارتباطه بشؤونهم الحياتية اليومية العبادية والمعاملاتية، ومع أن الخلاف الفقهي مقبول في الإسلام ضمن دائرة فهم النصوص التي تستخرج منها الأحكام، ولا يؤدي الخلاف فيها إلى التكفير والخروج من الملة، فإن الخلاف الكلامي بعكس ذلك، فهو يؤدي إلى نفي الإيمان أو الطعن فيه على الأقل وصولاً إلى الزندقة والتفسيق والتكفير، لهذا دخل في أذهان العوام كما في أذهان بعض أدعياء العلم والوعاظ والمتفيهقين، إن بعض المذاهب المختلفة قد خرجت من الدين رغم ادعائها الانتساب إليه ورغم أخذها بالكتاب والحديث، بسبب بعض المعتقدات الكلامية. وقد مر على الناس زمان كان بعضهم يتساءل هل يصح زواج الشافعية من الحنفي، أو السنيّة من الشيعي، وربما وجد يومها من يفتي في ذلك بقوله: «سنو فيهم ستّة أهل الكتاب» للخروج من الاشكال.

 

ولعل من أهم أسباب انتصار ثقافة التفرقة في الأمة هو ذلك الربط بين الإسلام كدين وبين بعض الرموز السياسية في مراحله المتقدمة، وقيام دعوة تدعو إلى ربط الحق بالرجال، وهذه دعوة رد عليها الإمام علي كرم اللَّه وجهه بقوله المعروف: «نحن قوم لا نصرف الحق بالرجال، اعرف الحق، تعرف أهله» وكان الخلفاء الذين سبقوه قد عبروا في أقوالهم عن نفس هذا المعنى كما في قول أبي بكر الصديق رضي اللَّه عندما ولي الخلافة: «ولّيت عليكم ولست بخيّركم، أطيعوني ما أطعت اللَّه فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم».

 

وكذلك في قول عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: «إذا رأيتم في أعوجاجاً فقوموني» وفي قوله أيضاً: «لو قيل كل الناس إلى الجنة إلا واحداً لخشيت أن أكون أنا». ولكن رغم هذه الدعوة الصريحة إلى عدم ربط الحق بالرجال أو اعتبار الرجال حجة على الدين، فقد وجد من عمل على إشاعة هذا المفهوم حتى صار مجرد مناقشة عمل من أعمال الصحابة أو التابعين أو البحث في قول من أقوالهم اعتداءً على الإسلام، وهذا الأمر ليس بالأمر الجديد وإنما عرف منذ عهد التابعين، وعندما احتج البعض على الإمام مالك بفعل أو قول بعض السلف قال جملته الشهيرة في الحرم النبوي الشريف أمام الروضة المطهرة: «كل الناس يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا المقام» وأشار بيده إلى قبر النبي المصطفى (ص)، وعبارة الإمام مالك بن أنس هذه تفيد أن اراء الرجال وأقوالهم قابلة للخطأ والصواب فيمكن أن تأخذ بها، أو أن ترفضها، إلا النبي (ص) فإنه يؤخذ منه ولا يرد عليه لعصمته. إن ربط الإسلام بالرجال وجعل أعمالهم شريعة أو ديناً يُدَان به للَّه تعالى، من أعقد المسائل التي أصيب بها المسلمون والتي عملت على تقوية ثقافة التفرقة في مقابل ثقافة الوحدة، إذ أن الاختلاف حول الأشخاص من الأمور الطبيعية وهي خاضعة للأفهام والعقول والتجارب والخبرات، فإذا صبغتها بصبغة القداسة، فكأنك منعت الاختلاف حولها وهذا خطأ كبير. إن أعمال الافراد مما كانت المكانة التي يتمتعون بها، ينبغي أن تكون خاضعة للكتاب وللسنة وللعقل.

 

أثر ثقافة التفرقة:

 

إن قراءة بسيطة لواقع الدولة الإسلامية اليوم، تظهر بوضوح مدى تأثير ثقافة التفرقة على حاضر الأمة ومستقبلها، كما كان تأثيرها على ماضيها، فعلى الصعيد السياسي أدت ثقافة التفرقة إلى تسليم المسلمين أمام طموحات كل القوى السياسية التي لعبت أدواراً في تفرقة الأمة الواحدة عبر تقسيمها إلى ممالك وسلطنات وإمارات وغير ذلك من الدول التي قامت ضمن الدولة أولاً ثم تمردت عليها بعد ذلك وحاربتها وأضعفت قوتها حتى جعلتها لقمة سهلة للأمم الأخرى التي اجتاحتها أو امتلكت نفوذاً عليها بحيث صارت قادرة على أن تفرض عليها ما تشاء وصولاً إلى العصر الحاضر حيث العالم الإسلامي مفتت إلى دول متنافرة متناحرة متنازعة لا يقوى على ربطها ببعضها رابط ولا يشدها إلى بعضها ميثاق، حتى المنظمات الاقليمية أو العالمية التي فرضت الظروف إقامتها فيما بينها في يوم من الأيام، لم تنجح في توحيد صفها ولا جمع كلمتها، وصار الفشل المتكرر لها في حل مشاكل العالم الإسلامي أو خلافات المسلمين فيما بينهم، حجة يلجأ إليها دعاة التفرقة والاختلاف لبيان عقم دعوات الوحدة أو التقريب أو التعاون في العالم الإسلامي.

 

لذلك تضع الولايات المتحدة الأمريكية اليوم يدها على العالم الإسلامي وتديره سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وتشن حرباً لاهوادة فيها على الإسلام كدين وشريعة وأخلاق وقيم تحت مسمى محاربة الإرهاب، وهو في حقيقته لم يكن إلا صناعة أمريكية استفادت منها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في حروبها ضد خصومها، ولما فرغت منه عملت على تصفيته ناسبة إياه إلى الإسلام وهو أي الإسلام منه براء.

 

ولن يتولى محاربة الإسلام بحسب الخطة الأمريكية إلا أبناؤه، فما بينهم من الاختلاف والفرقة والتنازع كفيل بأن يجعل بأس الأمة بينها إلى أمد بعيد، وكلما طال الأمد كلما زادت عوامل الفرقة والاختلاف، ولا شك بأن حكام العالم الإسلامي يتمتعون بقابلية هائلة للتصدي للإسلام ومحاربته، يساعدهم على تبرير ذلك ما هو قائم بين المسلمين من اختلاف وتنازع.

 

ولا يخفى أن بعض حكام المسلمين قد تبنّى الدعوات المكفرة والمفسقة لبعض الأمة، ومدوها بالمال والدعم المادي والمعنوي اللازم، حتى صار ثقافة الفرقة والتنازع والتكفير تتمتع بأرجحية لدى عوام الناس وبعض أدعياء العلم.

 

فيما رأى بعض الحكام الاخرين أن الحل هو في الخروج على الإسلام ومن الإسلام لأن الإسلام بحسب زعمهم عاد على الأمة بالاختلاف والتنازع مما سبب وقوع الأمة في التخلف على كل الصعد، وهم في زعمهم هذا إنما يهدفون إلى اقصاء الإسلام عن الساحة جملةً، حتى لا يشكل في يوم من الأيام تهديداً لسلطانهم.

 

إن منهج التكفير الرائج اليوم بين المسلمين من أعظم الأخطار التي تحيق بالإسلام والمسلمين، وهو الكفيل بإسقاط الأمة أمام عدوّها والكائدين لها، ذلك أن هذا المنهج يجعل بأس الأمة بينها، لما يسود من مفاهيم عند هؤلاء المكفرين ومنها أن الكفر والخروج من الدين يبيح الدماء والأموال، وهو ما شاهدنا عيّنة منه في ما جرى في الجزائر حيث استعرَّ القتل تحت هذه الحجة فذهبت ضحيته الاف الأبرياء من النساء والأطفال والرجال.

 

الحالة الباكستانية:

 

يعرف العالم الإسلامي مختلف أنواع الصراعات، فهناك الصراع على الحدود وغالباً ما يقع بين الدول التي أحدثها الاستعمار كما هو حاصل بين إمارات الخليج أو بين الهند وباكستان حول ولاية كشمير، هذه الولاية التي احتفظت بها الهند بعد انشطارها إلى قسمين على أساس ديني، حيث أنشئت دولة باكستان لتكون دولة للمسلمين الهنود، فاحتفظت الهند بكشمير التي قامت فيها حركة تطالب بضمها إلى شطرها الاخر الذي تسيطر عليه باكستان والمعروف بكشمير الحرة. وهنا أحب أن أشير إألى أن تجربة الانشقاق الهندي على الأساس الديني، تجربة سيعمل على تكرارها في مناطق أخرى كثيرة، ولعل المسلمين أدركوا اليوم أو لم يدركوا بعد أن تقسيم شبه القارة الهندية على أساس ديني كان خطأً تاريخياً بحق المسلمين أنفسهم، ربما وقعوا فيه بإرادتهم أو دفعوا إليه مرغمين، ولكنها تجربةً خدمت بالتأكيد أعداء الأمة ووضعت الشعب الواحد في موقع العداء، وليس هذا مما يتوافق مع رسالة الإسلام وأهدافه ودعوته. ثم بعد ذلك فشلت باكستان في الاحتفاظ بوحدتها وانقسمت إلى باكستان الشرقية التي أطلق عليها اسم بنغلادش وباكستان الغربية التي احتفظت باسمها الأساسي، وذلك بعد حرب ساهمت فيها الهند وذهب ضحيتها عشرات الالاف من المسلمين نتيجة القتال بين الجيش الباكستاني والبنغاليين بزعامة حبيب الرحمن رئيس حزب رابطة عوامي.

 

تتشكل باكستان من أكثرية سنيّة وأقلية شيعيّة بحسب المصطلح الإعلامي الغربي، وهناك طائفة مسيحية صغيرة. ودولة باكستان واحدة من الدول المصنفة في خانة العالم الثالث. وتعاني من مشاكل الدول النامية (المتخلفة) وقد استطاعت تحت سيطرة وحكم الجيش الباكستاني أن تنتج الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، ثم نجحت في اجراء تجارب نوويّة، وادعت أنها صنّعت قنبلة نوويّة.

 

نجحت الأحزاب الإسلامية الباكستانية في إثبات وجودها السياسي وحققت في الانتخابات نتائج جيدة بالتحالف مع الجيش المتمثل بالرئيس الباكستاني برويز مشرف. وتجدر الإشارة إلى أن الجيش الباكستاني دائم التدخل في الحياة السياسية عن طريق الانقلابات العسكرية التي غالباً وما كانت تضع حدّاً للتجارب الديمقراطية كما في الانقلاب الذي حدث عام 1977 بقيادة الجنرال ضيا الحق ضد نظام ذو الفقار علي بوتو والانقلاب المنفذ من قبل الجنرال مشرف ضد نواز شريف.

 

إذن تعتبر باكستان بلداً مضطرباً بشكل عام على الصعيد السياسي، وجاءت الخلافات المذهبية بين المسلمين المتطرفين من السنة والشيعة لتزيد في الوضع الاجتماعي والسياسي اضطراباً وتفككاً، إذ نشأت جماعات تتصف بالتعصب المذهبي وضيق الأفق، وأقامت من ذاتها وأنصارها قضاةً على عقائد الناس، ومنحت لنفسها الحق في تصفية المخالفين في المعتقد أو المذهب، وصل بها الحد إلى درجة تنفيذ عمليات قتل اجرامية بحق المصلين في المساجد وفي أوقات الازدحام كصلاة الجمعة والجماعات، وقد تبادلت هذه الجماعات السنيّة والشيعية المتعصبة مثل هذه الهجمات كما حصل في مدينة كويتا حيث فجر ثلاثة أشخاص أنفسهم في المصلين مما أدى إلى قتل وجرح ما يزيد على مائة شخص من المصلين.

 

إن لعملية كويتا الإجرامية دلالات خطيرة، فلو أن القتل قد تم بواسطة اطلاق النار والاشتباك المسلح أو إلقاء القنابل أو غير ذلك من الوسائل لكان يمكن حمل الأمر على أنه تنفيس عن حقد، أو انتقام أو غير ذلك. ولكن أن يقوم الأشخاص الثلاثة بتفجير أنفسهم لقتل خصومهم، فهذا يعني أن هؤلاء الفاعلين بحسب مفهومهم يتقربون إلى اللَّه تعالى بعملهم هذا أو يطلبون الجنة بذلك، فماذا يعني الوصول إلى هذه القناعة لدى هذه الجماعات وأمثالها. لا بد أن هؤلاء قد تعرضوا لعملية حقن وتحريض وتعبئة على أيدي قادتهم أو مرشديهم جعلتهم يوقنون أن المصلين الذين يصلون في مسجد كويتا وأمثالهم هم أعداء اللَّه وأعداء الإسلام وأنّ قتلهم أو ابادتهم هي من القربات التي يتقرب بها إلى اللَّه تعالى، لذلك قاموا بعمليتهم الانتحارية الاجرامية، ولا بد من التساؤل عن نوعية وخلفية هؤلاء المحرضين على مثل هذا العمل وما هي درجتهم العلمية، وإلى ما استندوا في فتواهم التي أباحت دماء المسلمين المصلين في المساجد؟

 

إن أمثال هؤلاء الذين نجد لهم انتشاراً في العديد من دول العالم الإسلامي وغير الإسلامي كما في مصر والجزائر والسعودية وأفغانستان وباكستان والشيشان وغيرها من البلدان.

 

وهم ينشطون في بث ارائهم ووجهات نظرهم غير عابئين بما تواجهه الأمة من أخطار وتحديات تطال الوجود بكل تجلياته الإيمانية والأخلاقية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية. إن هؤلاء المشبَّعون بثقافة التفرقة، وبالعدوانية، قد أحدثوا في بنيان الأمة المعاصر شرخاً سيكون عليها بذل الكثير من التضحيات للتخلص منه ومن اثاره السيئة. إنهم يعيشون في كهوف التاريخ المعتمة، وفي أجوائها العابقة بالفتن والمكائد، فهل يصلح هذا التاريخ منطلقاً لبناء أمة كما يطمح هؤلاء؟ وما هي هذه الأمة؟

 

الفهم الخاطى‏ء للسيرة والتاريخ:

 

يظن المتعصبون أصحاب الأفق الضيق أو المنغلق أن الانفصال عن المجتمع وتأسيس الجماعة المؤمنة هو السبيل والبداية لتأسيس دولة إسلامية بحسب مفهوفهم، ويعتقدون أن النبي (ص) قد عزل الجماعة المؤمنة في بداية عهد الدعوة عن بيئتها والناس المعاصرين لها، وهذا توهم وفهم خاطى‏ء لأحداث سيرة النبي المصطفى (ص).

 

لقد استمر النبي (ص) في مكة على اتصال بمجتمعها على اختلاف طبقاته يتوجه إليهم بالدعوة رغم ما كانوا عليه من صد وإعراض وتجاوز ذلك إلى الحاق الأذى بالمسلمين الضعفاء من الموالي والطارئين على مكة.

 

ولما انتقل إلى المدينة المنورة، عقد الأحلاف مع أهلها، والجماعات القوية فيها وتعتبر الوثيقة الشهيرة التي أبرمت بين المسلمين وغيرهم من أهل المدينة أهم وثيقة تاريخية تظهر مدى انفتاح النبي (ص) على المختلفين معه وقبوله بهم. ومن المعروف أنه (ص) لم ينقض في حياته كلها عهداً عاهده، إلا أن ينقضه الطرف الاخر.

 

لقد كانت هذه سيرته (ص) مع غير المسلمين، فكيف يجوِّز أصحاب الفكر التكفيري التعامل مع المسلمين الذين يشهدون أنه لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه بهذا النهج التكفيري.

 

من المعروف أن المنافقين وجدوا في مجتمع المدينة المنورة، وكانت أفعال البعض منهم تشير إلى ما تخفيه صدورهم من نفاق، حتى طلب بعض المسلمين من النبي (ص) اعطاؤهم الإذن بقتلهم فرفض ذلك وقال مقالته الشهيرة: «لا يقال أن محمداً يقتّل أصحابه» فإذا كان هذا هو موقفه من منافق معلوم النفاق. مما هو مبرر المتعصبين في نهجهم التكفيري تجاه المسلمين؟

 

وفي سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، في تعامله مع الخوارج الذين شقوا عليه عصا الطاعة وهو الخليفة المبايع من قبل جماعة المؤمنين، لقد تعامل معهم كبغاة، فلم يكن ليشن عليهم الهجوم أو يقاتلهم حتى يقاتلوه، وكان لا يلاحق من يفر منهم، ولا يجهز على جرحاهم، ولا يسلب قتلاهم، وكان يرفض وصفهم بأي وصف من أوصاف الكفر أو النفاق أو الشرك، وقد سئل عن حكمهم: هل هم مشركون أو كفار أو منافقون، فنفى كل ذلك عنهم، فقيل له: ما هم إذاً فقال: «إخواننا بغوا علينا».

 

إن هذا هو الفهم النابع من ثقافة الوحدة، هو الفهم المطلوب لكل اختلاف بين المسلمين، فلم يكن أمير المؤمنين ليتصور أن الأمة منقسمة أو مشتتة، وقد أخذ على نفسه عهداً بالحفاظ على تماسك المسلمين ما سلمت أمورهم.

 

إن ما حصل في باكستان في مسجد كويتا وأخذ طابعاً مذهبياً وما حصل قبل ذلك في الجزائر وأفغانستان ومصر والسعودية والمغرب ولم يكن له ذلك الطابع ينبغي أن يكون ناقوس الخطر الذي دق دقاً عالياً ونبه الجميع إلى خطورة هذا الفكر المنتج لهذا النهج، نهج الصدام بين المسلمين، وجعل بأسهم بينهم. ولعل القوى التي وقفت لفترة طويلة وراء هذا الفكر التكفيري أو التنسيقي، أصبحت تدرك مدى خطورتها، إننا نعيش في عصر لا مكان فيه للضعفاء ولا للمهمشين ولا للمختلفين فيما بينهم بل إن هؤلاء يستخدمون عادة كوقود في الة الأقوياء التي تدير مصالحهم وإذا كنا نريد فعلاً أن نؤسس لمستقبل زاهر لأمتنا فلا بد من تغيير كثيرٍ من المفاهيم الخاطئة، أو السلبية، المفرقة للصفوف، والمشتتة للقوى، لا بد من نبذ ثقافة التفرقة والانعزال ورفض الاخر المختلف، ولا بد من تقوية وتعميق ثقافة الوحدة والتعاون والحوار وقبول الاخر، والخروج من تلك الطهورية التي لا ترى في الذات إلا القداسة ولا ترى في الاخرين إلا الفساد. إنه تحدي العصر وتحدي المستقبل، مستقبل الإسلام الذي يبقى المسؤولية الأعظم والأهم في حياة المؤمنين جماعات وأفراد.

 

المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية العدد 21 أغسطس 2003

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك