الاجتهاد واجب ديني و حضاري تمليه حقيقة الإسلام

الاجتهاد واجب ديني و حضاري تمليه حقيقة الإسلام

كمال الدين جعيط

 

تمهيد

ان التغيرات الهائلة ، والتطورات الفائقة ، التي يشهدها عالمنا اليوم ، تفرض علي الأمة الاسلامية سياقا كبيرا من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية ، ليس لها فيها من خيار إلا تأكيد جدارتها و قدرتها علي الفعل والإنجاز و مسابقه الأمم علي المواقع الأمامية . هذا قدرها ، ان أرادت إثبات وجودها ، و ان يكون لها موضع جدير بإمكانياتها العظيمة ، في عالم تكبر فيه التكتلات و التحالفات ، يومئ بعد يوم ، ويسود فيه منطق توسع المصالح علي حساب المحلية الضيقة اقتصاديا وثقافيا .

 

وليس لنا من سبيل إلى إدراك غاياتنا في الوحدة والقوة ، وتجاوز حالة التشتت الراهنة ، الا بتجديد الأوضاع ، وتحديث البني الثقافية والاقتصادية و الاجتماعية . وذلك مشروط بإطلاق الفكر الحر القادر علي الإنتاج والاجتهاد والتوليد ، وبالاستثمار الجيد في قطاعات البحث المعرفي العلمي ، وإزاحة كل ما يثبط جهد الابتكار والإبداع .

 

انه لا يسعنا اُن نتجاهل أننا نعيش علي تخوم حضارات و ثقافات المختلفة المشارب ، مغايرة لنا في المنطلقات ، مفارقة لنا في أهداف والغايات . وان شهودنا الحضاري هو الذي يحدد موقعنا داخل هذه الخارطة العالمية ، أفولا اُو بروزا ، قوة او ضعفا . وليس بإمكان آيه حضارة ما، اُن تنغلق علي نفسها ، أو أن تنفي غيرها ، وإلا فقدت شروط تجددها و حيويتها بفقدان ما يلزمها من اللواقح المخصبة .

 

ويلزم الأمة أن تشق في إمكانياتها وقدراتها ، بتفعيل أدواتها الناجعة لتغيير مواقعها الردة ، واستعادة عافيتها الحضارية ، وذلك بإعادة تأصيل الرؤية التأسيسية للإسلام ، لقضايا الحرية في علاقتها مع القدر ، ولقضايا العقل في محاورته للنص والوحي بغيه تخليص الدين من التأويل الجاهل ، والانتحال الباطل ، والتحريف المغالي وبناء الفكر النافذ القادر علي التحليل والاستقراء والاستنتاج والتقويم والمراجعة ، وتجريد الرؤية الشرعية من حدود الزمان والمكان تحقيقاً لمعني الخلود فيها . ويلزم مع ذلك ، كسب الاستعدادات الضرورية أمل مع المتغيرات العالمية ، بامتلاك ناصية العلوم والتنقيات ، مع القدرة علي الابتكار فيها والمنافسة . اننا مطالبون بأن لا نبقي في غربة عن الزمان والمكان ، وأن لا نركن الي الاجترار ، لكي لانقع في الجمود القائل .

 

وكان لابد أن يفسح الإسلام في داخلة مجالاً للتطور الإنساني ، بعد أن كمل الدين ، بإتاحة مساحات شاسعة للاجتهاد ، من أجل ملاءمة الأوضاع المتغيرة ، والاستجابة للحاجات المتجددة . ومتي تعطلت هذه الالة ، توقف العقل عن دوره في إنتاج الحضارة . وكل دعوى الي إيقاف حركة الاجتهاد ، إنما تصدر من جهل بحقيقة الإسلام ، وهي في بعض الحالات دعوي باطنة مغرضة ، لا تخلو من دسائس و مؤامرات تريد الوقيعة بالمسلمين.

 

مفهوم الاجتهاد و دلالاته

 

الاشتقاق اللغوي : وأصله في اللغة ؛ بذل الجهد واستفراغ الوسع ، في أمر لا يكون إلا بكلفة و مشقة.

 

المفهوم الاصطلاحي : ويراد به عند علماء الأصول ؛ بذل الفقيه جهده العقلي في استنباط حكم شرعي عملي من دليله التفضيلي ، من الكتاب والسنة والإجماع والقياس . ويعرفه العلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ، رحمه الله ، تعريفاً دقيقاً بقوله : هو إعطاء حكم لفعل ، أو حادث حدث الناس ، لا يعرف حكمه ، فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة . ويقول عنه الشاطبي : هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم .

 

ونطاق الاجتهاد يتسع الي آماد فسيحة وآفاق رحبة ، نوجزها كالتالي:

 

1 – الاجتهاد في مدي ثبوت النص الشرعي ، ويشمل السنة دون النص القرآني باعتباره نصاً قطعي الثبوت . أما السنة التي وردت بطريق ظني ، كأحاديث الآحاد ، فان المجتهد لابد له أن يبحث عن سند الحديث و رجاله ، ومدي توافر شروط الصحة فيهم ، لقبوله والاخذ به لعدم رجحان صحة الحديث لديه ، متناً وسنداً.

 

2 – الاجتهاد في مدي دلالة النص الشرعي علي حكمه . ويراد بالنص هنا ، النص الذي يدل علي حكمه دلالة ظنية ، غير قطعية ولا صريحة . ومهمة مجتهد في هذا النوع من الاستدلال ، البحث عن تفسير النص وتأويله ، عن الطريق الاعتماد علي القواعد اللغوية والقواعد الشرعية التي تساعد علي التفسير والتأويل والترجيح .

 

3 – الاجتهاد في مسائل التي لم يرد فيها النص . وهنا تبدو مهمة المجتهد دقيقه غير يسيره، اذ هي مشروطة في تحقيق أغراضها و مقاصدها ، بمدي كفاءه المجتهد ، و توسع قدرته ، وإلمامه بقضايا زمانه ، وضرورات عصره . فهو مطلوب بتوليد الحكم الشرعي و إنزاله علي الوقائع المستجدة ، إنزالا يلائم بين مقصد الشارع الحكيم ، في جلب المصالح ودرء المفاسد ، وبين المقتضيات العصر ومستجدات .

 

وهذا المعني يعد من الأغراض الأساسية المطلوبة شرعاً، لرفع المشتقة والحرج عن المكلف ، وتحقيق الحاجات والمصالح الفردية والاجتماعية ، مع مراعاة سياق الضوابط والشروط المعتبرة نصاً و عقلاً . وبذلك نجنب أنفسنا الوقوع في التعطيل والجمود ، سواء بعقاله العقل عن أداء دوره ، أو إلجام النص أزاحته عن واقع الأحداث .

 

ويلوح لنا ، بعد هذا البيان ، أن المراد بالاجتهاد ، لا أن نلغي تجارب السابقين ، ولا أن نشيح بوجهنا عن جملة الإنجازات والتراكمات التي حدثت بتعاقب السنين ، والتي استفادت من زخمها حضارة العصر ، أوأن نقطع مع الجذور والأصول ونعدم الموروث ، لنعيد البداية ونرجع بحركة التأسيس الي نقطة الصفر ، فنكون بذلك كمن بتر جزءا من بدنه ، أو عطل عضواً من أعضاء حركته . وليس القصد من الاجتهاد كذلك ، أن نهمل مواقعنا و نضرب صفحاً عن مشاكلنا وقضايانا ، فنكون مغيبين عن سياق عصرنا ، ضاربين في متاهات الأزمنة البائدة.

 

وفي تقديرنا، أن الاجتهاد يستوعب فهم الواقع في إطار النص المرجع وفي ضوء القدرات و الاستطاعات المتوفرة وضمن القضايا والإشكاليات التي تطرحها سياقات العصر و تمخضات الاحداث . لتكتمل بذلك عناصر المعادلة ، وهي النص ، والعقل ، والحادثة . ولابد لنا أن توفر المعارف والتخصصات ، والأدوات المساعدة ،التقنية والعلمية ، التي تمكن من التعامل مع حركة الحياة والمجتمع ، من شأنها أن تساعد علي توليد الأفكار و تجديدها ، مجردة عن المشاعر الضيقة والأماني القصيرة المدية .

 

حكم الاجتهاد وحجيته من النص والعقل

 

حكمه :

 

هو فرض عين علي القادر ، إذا توفرت فيه أهلية المعرفة بالشرعيات ، والمعلوم السائدة لها ، لاستجلاء الحكم المناسب في القضايا فعروضه عليه . .هو قول الجمهور من الفقهاء والأصوليين .

 

حجيته:

 

لاشك أن هناك نصوصاً من القرآن والسنة ، تؤكد وجوب الأخذ بالاجتهاد ، و استعمال الرأي الحصيف ، وحث المسلمين علي إمعان النظر في أمرهم والتدبر في قضاياهم وشؤونهم ، مع حسن الفهم والتطبيق . من ذلك قول الله تبارك وتعالي :( فلولا نفر من كل فرقه منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون )، وقوله جلت حكمته :(أفلا يتدبرون القرآن ، أم علي قلوب أقفالها ). ولو استرسلنا في سرد الشواهد من الآيات القرآنية ، لضاق بنا المجال عن حصرها والاتيان علي مجملها . وعلي المهتم أن يرجع الي كتب التفسير والاعجاز ، ليجد بقيته فيها .

 

والحق الذي لا يشوبه شك ، أن القرآن – من خلال ما ورد فيه من معان ورموز ، وأمثال وقصص ، وحكم واحكام – يتضمن دعوه صريحة لاستخدام العقل والفكر ، بالتمعن والتدبر ، والنظر والتبصر ، وفيه من أساليب الحجاج المحكمة ، والمحاورة المقنعة ، وضرب الأمثلة البينة ، المؤيدة والمفحمة ، ما يحفز العقل علي استقصاء دلالات نصوصه ، واستكناه مكنوناتها ومغاليها ، واستنباط معانيها وأحكامها.

 

وفي السنة النبوية المطهرة ، أيضاً ، شواهد عديدة علي وجوب الاجتهاد . منها قول رسول (ص ) لمعاذ بن جبل (رض) ، لما بعثه قاضياً علي اليمن «بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله . قال: فان لم بجد ؟ قال : فبسنه رسول الله قال فان لم تجد ؟ قال : أجهد رأيي ولا آلو . قال معاذ : فضرب رسول الله (ص) علي صدري وقال : الحمد لله الذي هدي رسول الله لما يحب الله و رسوله » . وقال عليه الصلاة والسلام في المشهور من أقواله « من اجتهد وأصاب فله أجران ، ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد»

 

نماذج من أقوال العلماء

 

ومن الآراء الحكيمة السديدة ، الداعية الي الاجتهاد ، ما ذهب إليه أبو الفتح الشهرستاني (ت 548 ه / 1153 م ) في كتابه «الملل والنحل » قائلاً « ان الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات ، هي مما لا يقبل الحصر والعذر . ونعلم قطعاً ، أنه لم يرد في كل حادثه نص، و لا يتصور ذلك أيضاً . والنصوص إذا كانت متناهية ، والوقائع غير متناهية ، ومالا بتناهي ، لا يضبطه ما بتناهي ، علمنا قطعاً ان الاجتهاد واجب الاعتبار ، حتي يكون بصدد كل حادثه اجتهاد .

 

ويعضد هذا الرأي ، كلام أبي اسحاق الشاطبي (ت 790 ه / 1388 م ) في كتابه « الموافقات » و خلاصته « أنه لابد من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً علي حكمها ، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد . عند ذلك لا بد للاجتهاد في كل زمان ، لان الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان ».

 

هذا ، وان توافق هؤلاء الفقها و غيرهم من الأصوليين ، علي تحديد المفاهيم وضبط التعريفات ، ووضع الشروط و التقييدات ، التي لا يكون الاجتهاد الأضمن حدود دائرتها، قد أدي ، في رأينا ، الي نشوء وتشكيل ذهنية الاستحالة والقصور ، في عصور التخلف والانحطاط ، الأمر الذي انحسرت معه عمليه الاجتهاد فهماً و تطبيقاً ، وضاقت بسببها مجالات التجديد و استنباط التشريعات المستجيبة للحاجيات المتولدة والمصالح المرسلة .

 

علي أنه ، لابد لنا أن نراعي في زماننا وعصرنا ، اتساع مجالات البحث والاجتهاد ، وكثافة القضايا المعروضة، وتعقد الإشكاليات المطروحة ، بما لا تتسع له قدره الفرد الواحد ، مهما بلغت احاطته وتنامت إمكانياته ، ولو أفرغ الجهد والصرف العمر . الامر الذي أدي الي ظهور الاختصاصات في شتي المجالات ، بل الي تدقيقها ، حتي آلت الي اختصاصات ضمن الاختصاصات .

 

ولذا ، نري ، ضرورة جمع القدرات ، وانصهارها في جهد جماعي ، ضمن مجامع أو أكاديميات علميه ، لتتيسر بذلك العلمية الاجتهادية في أبعادها المتكاملة : الزمن ، الجهد ، النجاعة ، والدقة .

 

الاجتهاد وأهميه في عصرنا الحديث

 

اننا لا نبالغ ، حين نقول ، ان عصرنا الحالي ، هو عصر الحوادث ، بلا منازع . اذ تتغير فيه و تيرة الاحداث ، علي نحو متكاثف و متسارع ، بغير تقطع ولا تراخ . انه عصر الثورة المعلوماتية ، وعصر الذكاء الاصطناعي ، وعصر الثورة الهائلة في ميدان تكنولوجيات الاتصال عبر الأقمار الاصطناعية و من خلال الشاشات الإلكترونية ، وشبكات المعلومات العالمية كالإنترنت وغيرها . وهذه الثورة المذهلة ، أدت فيما أدت اليه ، الي ثورة في المفاهيم والتصورات ، عن العالم والحضاري والثقافة .

 

وغدا مصير الإنسانية في ضوء تشابك المصالح ، مصيراً واحداً مشتركاً . وليس من باب المبالغة في التقدير العلمي ، ولا من قبيل الإنشاء الأدبي بتوصيفي ، ان نقر بأن العالم ، علي اتساع حدوده وامتداد رقعته ، قد تحول ، في رمزية وجوده ، من حجم الذرة الي صغر نواتها ، مع فارق القياس . أو لنقل عنه ، كما يروق للعلماء ان يصفوه ، هو قرية إلكترونية صغيره .

 

هذه صورة من صور معاينتها للواقع القائم ، بمختلف تجلياته وغزارة أحداثه وتحولاته ، لايمكن ان نقف حياله موقف المكتفي بالمشاهدة عن بُعد ، لا موقف المنبهر وقد أعشت عينيه انعكاسات الضوء المتدفق. بل نحن مطلوبون الي سرعته الانخراط والتفاعل ، و مطالبون بالمشاركة الفاعلة والمساهمة الإيجابية ، حتى لا تفوتنا قاطرة الاحداث ، فنبقي مراوحين مكاننا ، يرفضنا الحاضر ، ويتخطانا المستقبل.

 

وليس لنا من الطريق الي تحقيق الذات إلا بخوض غمار الاحداث ، فعلاً وانفعالاً ، أخذاً وعطاء . وكل ذلك مشروط يالاستجابة الواعية لمتطلبات العصر ، وتمثل خاصباته تصوراً وتطبيقاً ، مع امتلاك أسرار آلياته المتعددة في تحقيق التنمية والتقدم .

 

وهل من سبيل الي ذلك ، الا باعلاء راية الاجتهاد ، وتكريس المبداء التكفير العلمي الحر ، وبتشجيع طاقات البحث والمعرفة . فما العطاء الحظا ري الا صوره لتجلي عالم الأفكار ، من خلال الإمكانات المتاحة ، وامتلاك الخصوبة الكاملة ، والقدرة علي الابتكار والإبداع ، مع فتح نوافذ عريضة للتبادل المعرفي ، والتسلح بالوعي ، والارتقاء الي مستوي المسؤولية الشرعية بكل ما تتطلبه اليوم من الوقوف بحزم في وجه المحاولات المشبوهة لإثارة الصراعات والخلافات وإشعال فتيل النزاعات والحروب . ولا زالت المصالح الاستعمارية تغذي دواعي الشكوك ، وتدعم مشاعر فقدان الثقة . ولم يكن ليتهيأ للاستعمار الأجنبي ما تهيأ له من فرص الانقضاض والتسلل الي أعماق الامه ، الا بما وجده من أسباب الوهن والضعف فيها ، بسبب تخليها عن واجبها الديني والحضاري في أن تكون وحدة قوية في مدافعة قوي الشر والبغي . بل توسع الخرق و تباعدت المساقات علي قربها ، وحلت العداوة محل التآخي ، والدسائس محل التآزر والتنصر والتعاون . ولقد حاول الاستعمار جهده تأييد عوامل الفرقة ، باحياء نوازع عرقية ولغوية قديمة ، من شأنها ، إذا تمكنت من الوجدان العالم أن تلغي ، في زعم هؤلاء ، عوامل الوحدة الجغرافية والتاريخية والثقافية . إنها محاولة خطيرة لاستبدال جغرافيا الوحدة بجغرافيا الشتات ، ولتحريف تاريخ الوحدة وتشويه معالم التجانس الثقافي والحضاري .

 

ولقد سبق زعماء الإصلاح الديني والسياسي منذ بدايات القرن التاسع عشر ، الي تنبيه الغافلين الي هذه الحقائق ، بالكشف عنها ، وتوعية الشعوب الي مخاطرها القريبة والبعيدة.

 

ان الامة تتحمل مسؤولية تاريخية لا يستهان بها في تغيير أوضاعها المتخلفة، بإدخال عوامل الحيوية الثقافية ، وتجديد البني الفكريه، واقتباس ما يلائمها من أشكال النهوض الاقتصادي والاجتماعي ، وابتكار أساليب حديثه من شأنها أن تجدد الروح العامة ، و ينشا من الأجيال المتعاقبة أملاً قوياً دافعاً ، الإنجاز والتعمير وبناء أسباب القوه . قال تعالي ( ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم ).

 

ان انتشار التعليم في كل الأوطان العربية والإسلامية ،هو السبيل الذي لا بديل عنه الي مقاومته الجهل والامية ، من أجل تحرير العقول وتخليصها من رواسب التخلف والانحطاط . ومتي أدركنا هذه الغاية الطموحة ، بوسائل التخليط العلمي السديد ، و استجماع القدرات المادية والمعنوية اللازمة لتحقيقها وانجاحها ، نكون حينئذ قد خطونا شوطاً متقدماً نحو امتلاك الشروط الأساسية لصناعة و إنتاج الكفاءات المقتدرة .

 

ان الرقي لا ينبت في بيئة جدباء كما ان العلم لا يحصل في العقول الهزيلة المظلمة .

 

ولن يجدينا الخوض في مقولات الماضي ، واجترار المسائل القديمة. بعيداً عن هموم مواقعنا ومتطلباته . بل لن تكون للماضي أية قيمة جوهرية حضارية ، ما لم تستخلص منه عصارة جهد الأقدمين وخلاصه تجاربهم بما تكون طاقة حيوية تدفع الحاضر ، ومصدر الهام حقيقي يتفق المواهب ويذكي قيم الإبداع ، ولن ينفع التراث الأجيال المتعاقبة، إذا ما سكنت إليه ونامت علي مقولاته ، واستعاضت بالأمجاد القديمة عن صنع أمجادها الجديدة .

 

وسائل التقريب

 

ان جهد الاجتهاد يجب ان ينصب في بلوره فهم صحيح سوي ، تتشخص فيه سلبيات الماضي وإيجابياته ، وإشكاليات الحاضر وهمومه ، بغرض توفق الي صياغة معاصرة تتوفر فيها ضمانات التقدم والازدهار للأجيال القادمة . ومن أجل ذلك ، نري لزوماً تخطي عقبات الخلاف القديم بمختلف سلبياته العقيمة . البحث عن مساحة جديدة تتجمع فيها كل الطاقات والقدرات متضامنة متراصة ، مع توظيف مجال الاختلاف في الرؤي والتصورات الي عامل ثراء وتنوع و ابداع . وهلمن سبيل الي ذلك إلا بتوحيد ألا رادات والعزائم الصادقة ، التي تريد أن تخدم شعوبها وأوطانها بالاخلاص وتفان .

 

وان الحرص علي إنشاء المجامع العلمية والأكاديميات المتخصصة، في شتي فروع العلم واختصاصاته ، كفيل بأن يمكن للطاقات الخلاقة المبدعة مجالاً للتعبير الحر واستثمار عطاءاتها وتحويلها الي جهد جماعي يختصر الزمن ويحقق الكيف في أعلي درجات جودته وامتيازه .

 

ان مجمعاً كمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمه المؤتمر الإسلامي ، وغيره من المجامع العلمية ، هو إطار مثال لتلاقي العلماء و نبادل الآراء والخبرات ، علي تنوعها و اختلافها ، بتوظيف مجموعها في صياغة اجتهادية جماعية متكاملة ، تصدر ان أراده أعضائها و موافقتهم ، في تدراس حر نقدي ، بالمراعاة فيه الا للمصلحة العامة للمسلمين .

 

وعلي منوال هذه المؤسسات ، يستلزم الأمر قيام نظيراتها في مجالات اخري لا تقل عنها أهمية ، ومنها المجامع الاقتصادية التي يمكن ان تتيح توظيفاً اكبر للطاقات الدول والشعوب ، في مجالات البحث العلمي ، والدراسات الاستراتيجية . وعلي هذه الرؤية الاستشرافية ، تتهيأ الظروف المناسبة لقيام تعاون مثمر في كل مجالات من أجل توظيف الثروات الكبيرة للعرب والمسلمين ، في خدمه أغراض التنمية والتكامل الاقتصادي ، انه لا مناص من مواجهه هذه التحديات الجسيمة ، ومسابقه الزمن ، بقيام التكتل العربي والإسلامي المنشود ، علي قرار ما يقع في العالم من تجمعات كبري.

 

انه بمستطاعنا ، موضوعياً ، أن نستجمع قوانا ، ونلم شتاتنا بأن ننتصر لما هو مشترك بيننا ، جامع لا مفرق. اننا نلتقي حول عقيدة واحدة، تمثل الرابطة الجامعة بين كل المذاهب والطرق، وبين كل المسلمين علي اختلاف أجناسهم وأعراقهم . قال تعالي : ( ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ).وهذه الوحدة تقتضي مسؤولية استحداث الإطار والهياكل الجامعة ، يما يتيح اللقاء والتعارف والتقارب . ولعله من مسؤوليات منظمة المؤتمر الإسلامي ، استحداث هيكل يهتم بالبرامج والتخطيطات بالشكل من التجمعات العلمية والثقافية والاقتصادية، مع توفير الإمكانات اللازمة لتفعيل دوره و تحقيق أهدافه .

 

ان تعدد المذاهب ، وكثرتها ، واختلاف مناهجها ، هي عنوان الحيوية الفكرية واثراء الثقافية . وما أحوج واقعنا اليوم الي مثل هذه الدين حيكيه للبعث الحضاري ! بشرط أن لانقع في مطبات الماضي و تعقيداته ، وأن لا يفضي التعدد الي صراحات ، تتناحر فيها المذاهب ، فتتحول المذهبية الفكرية علي اتساعها ، الي مذهبية ضيقة سياسية أو عرقية ، لا بجني من ورائها المسلمون ألا مزيد التشرد وتفت القوي ، وهذا هو غرض الاستعمار فينا.

 

واننا نري أن الخلافات القديمة قد تأسست علي خلفيات تاريخية وسياسية ومذهبية ، قد ولاها الزمن وعفت عنها الاحداث والأيام ، ولم يعد لها اليوم بيننا مبرر وجود ، الا في بعض الذهنيان الفكرية العاجزة القاصرة . بل ان المذهبية الجديدة ، يجب أن تتشكل ،في تصورنا ، وفق وعي الجماعي الجديد ، وأن تتوجه بكليتها الي التجميع والتوحيد حيال المخاطر التي تتهدد الكل ، من غير التخصيص ولا استثناء . ولن تجدي المصالح الضيقة ، ولا اعتبارات السياسية الحربية ولا انتماءات الثقافية المحلية ، في أن تحمي بعضنا ، أو أن يلتف من قبضتها البعض الآخر.

 

الوحدة شرط الندية في التعامل مع الاخر.

 

اننا لا نتوحد من أجل أن نلغي غيرنا ، أوأن ندخل في مواجهة حضارية أو مصادمة بين الأديان . بل اننا نطمح الي ان يكون لنا موقع حضور كامل و فاعل و مميز بين أمم وشعوب العالم ، تملأنا الثقة الكاملة في عدالة مبادئنا وشرعية قضايانا ، مع الوثوق في قدراتنا الذاتية.

 

وان من الخصائص القوية للإسلام ، أنه نص مفتوح علي الزمن ، متواصل في حواره مع الأجيال المتجددة ، في مرونة تكفل الاستمرارية والدوام . وهو ايضاً مفتوح علي القضايا، الإنسان من غير ميز ولاعنصرية . قال تعالي : (و ما ارسلناك الا كافه للناس بشيراً ونضيراً ، ولكن اكثر الناس لايعلمون ).

 

ونص بهذه المكونات الفريده، لايمكن ان يكون الرسالة سلام ومحبه الإنسانية جمعاء . ولما أعلن الإسلام مبدأ الكرامة الإنسانية ، من غير بفضيلة ولا محاباة ، ولاتحقير ولاتهميش ، الا من فضل العمل الصالح الذي به تكون إفادة الإنسان ، فقد مهد به السبيل لبناء الاخوة الإنسانية، باستنباط مشاعر الآلفة والتقارب والتحابب ، وإزالة كل ما من شأنه ان يحول بين القلوب و يملأها كراهية و كدراً.

 

ان رسالة الإسلام ، باعتبارها اختتاماً للرسالات السماوية ، تعد امتداداً تاريخياً دينياً لكل الرسالات في صورتها المكتملة ، وعلي هذا الاساس المتين ، دعا القرآن الكريم جميع الاديان السماوية الي الالتقاء علي كلمة التوحيد التي هي اصل مشترك بينها ، كمنطلق للحوار وتقريب الشقة والخلاف ، وازالة شوائب الصدام والمواجهة . قال تعالي : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا الي كلمه سواء بيننا وبينكم ألا نعبد الاالله ولانشرك به شيئاً)

 

ولا شك أن علماء الاسلام حريصون علي اقامة هذا الحوار الحضاري والديني ، لتجاوز منقصات الماضي وتخطي العقبات الكأداء . وهو شرط لاغني عنه ، لتدعيم أبنيه السلام الروحي والمادي في الاسلام .

 

الخاتمة

 

ان حركة التاريخ لا تنفك عن حركة الفكر الإنساني . و تولد الحضارات من تولد طاقات الفعل والابداع . وان التجدد والتغير هو ناموس الكون وقانونه الساري ، لا يتخلف عنه ولا يتوقف . ولقد نبه القرآن الي هذه الحقيقة الكبرى ، و رددها في غير ما موضع من السور والآيات ، ومنها قوله الله تبارك تعالي : ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها). وقال سبحانه : ( يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم )

 

ان الأمة الإسلامية ، هي اليوم ، في طور الدقيق من محاولة النهوص بعد أن صدمها وعيها بواقعها المرير المنهزم . وهي تتلمس الخطي الخلاص ، باستجماع قواها لأغراض التنمية والتقدم ، وابتدأت التجارب الولي ،بعد الاستقلال ، باقتباس بعض المناهج والنماذج ، ولاقت كثيراً من العنت في تطبيق هذه النظريات الجاهزة و لم يفلح كثير منها في تحقيق أهدافها . ولعلنا اليوم ، قد بلغنا مرحلة من النضج ،‌يتيح طوراً جديداً من الاعتماد علي الكفاءات الذاتية القادرة علي انتاج التطور ، وكسب بحاديات التقدم .

 

وان لنا من الإمكانات ، والثروات ، والاستعدادات ، والقدرات البشرية ، ما لو انصهرت في جهد جماعي ، عبر تخطيط معمق مدروس ، ومن خلال رؤيا صائبة في تحديد الوسائل والأهداف ، مع حسن تفعيلها في الواقع القائم ، لتحققت آمالتا التي طالما راودتنا في إعلاء مجد الأوطان واسعاد الشعوب .

 

ولكن نحن اليوم في أمس الحاجة الي تجاوز المخلفات السلبية ، بما صراعات مذهبية وسياسية ، وفجوات بين المشاعر ، وتعارض في تقدير المصالح ، وتمسك البعض بجراحات الماضي القريب والبعيد .

 

ان قدر هذه الامة في أن تتوحد ، وهل يسعها غير ذلك ، في عالم لا حضور فيه الا للتجمعات والتكتلات القوية . بل ان تاريخها الواحد المشترك ، ومميزاتها الثقافية المتجانسة، هي عوامل قوة حقيقية مساعدة، تمتاز بها عن غيرها من التكتلات.

 

كمال الدين جعيط : مفتي الديار التونسية * الهوامش :

(1) سوره التوبه، الآيه 22 1

(2) سوره محمد ،الآية 24

(3) سوره الرعد الآية 11

(4) سوره الأنبياء الآية 92

(5) سوره سبأ الآية 28

(6) سوره آل عمران الآية 64

(7) سوره الأنعام الآية 122

(8) سوره الأنفال الآية 24

 

المصدر: مجلة الحج (نقلا عن موقع النهضة)

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك