الزواج بين أبناء المذاهب المختلفة يسدّ باباً من أبواب العصبية

الزواج بين أبناء المذاهب المختلفة يسدّ باباً من أبواب العصبية

محسن عطوي

 

قد يؤدي تشابك العلاقات الاجتماعية إلى أن يتزوج الرجل أو المرأة ممن يخالفه في الدين أو المذهب، وهذه المساحة من النشاط الإنساني غنية بالدلالات وعامرة بالمفارقات وجديرة بوقفة متأنية نحاول أن نطل خلالها على بعض جوانبها رغم حاجة سائر الجوانب لبحوث مستفيضة.

 

إن شدة التماسّ الواقع بين الزوجين، لكثرة الأمور التي تعنيهما ولطول بقائهما معاً، تستلزم درجة أعلى من التوافق في الآراء لتحقيق درجة أعلى من الانسجام، فيما يستدعي العكس مجالاً أوسع للاختلاف واستمرار التوتر، وحين يختار أحد الزوجين شريكاً مخالفاً له في المذهب، فإنه أراد ذلك أم لم يرده قد اختار إطاراً أصغر من الانسجام ومجالاً أضيق من التوافق، ووضع نفسه في مواجهة مع الآخر.

 

إن هذا التعميم لا ينطبق فقط على ما لو ارتكز في المذهب على الاختلاف في (العقيدة)، كما هو الحال بين السنّة والشيعة، بل يشمل ما عدا ذلك من الحالات التي يدور فيها الاختلاف حول الأمور الفقهية والرؤى العملية، كما هو الحال بين مذاهب السنّة بعضها ببعض، وبين فرقاء الشيعة المتأتي من اختلاف مجتهديهم بالفتاوى. غير أنه وكما لا يخفى فإن الأمر في غير الحالة الأولى أهون، نظراً لدخول عوامل أخرى غير الخلافات العقائدية والفقهية بين السنّة والشيعة، هي فيض الحساسية المتراكم في الوجدان الشعبي لدى الفريقين وانعكاسه على بعض التقاليد وعلى أدبيات الخطاب، وهو الأمر الذي يقل وجوده بين فرقاء المذهب الواحد وتياراته.

 

إن رغبة الرجل والمرأة في تزوج الموافق له في المذهب أو غيره، تنطلق من حرصه على أن يتمتع مع شريكه بحظ وافر من الاستقرار، لا من عصبيته ورفضه للآخر المخالف له في الموطن والقومية، أو في المستوى الاجتماعي والثقافي، أو في الانتماء الديني، والمذهبي، أو أحياناً في التيار العملي. وهو الأمر الذي يساعد عليه بعض الفتاوى الفقهية التي لا تشجع على التزوج من المخالف، من حيث اقتصارها على النظر إلى حاجات الفرد المنفصلة عن تداخلها مع عناوين أخرى قد تكون ملزمة ومهمة في بعض الظروف. إنه حين يختار من يوافقه في المذهب يختار كفرد أن لا يغامر في علاقة قلقة تجعل صبره في مختبر صعب، وتجعله مستنفراً لمواجهة ضغوط شتى من جانب التقاليد المختلفة، والعواطف الثائرة، ومداراة هذا وذاك، وتجرع الغصص من هنا وهناك، وذلك يشتد عليه كلما (علا) مستوى المجتمع المخالف في الجهل والعصبية، بل إننا ومن خلال ما عايشناه من تجارب قد رأينا أن تدين كلٍ من الزوجين المتخالفين في المذهب وتشدّدَه في الالتزام بمذهبه يُقوّيان فرصَ التصادم بينهما في المسائل الخلافية التي لا يمكن التنازل عنها، ويزيدان في الحرج الواقع عليهما وعلى من حولهما، وبخاصة على الأولاد الذين سوف تتقاذفهم انتماءاتُ الأبوين وحرصُ كل منهما على جعل الأولاد على مذهبه وطريقته.

 

إن الذي يحدث غالباً، هو أن قوة الضغوط التي يواجهها هذان الزوجان سوف تُودِي بمذهب أضعفهما، وهو المرأة غالباً، فإننا نراها تضطر للتنازل عن أفكارها ومعتقداتها تباعاً، إما لأنها لا تستطيع فعل ما تعتقده حقاً بداعي الخوف أو الحرج، أو لأنها قد صارت ترى الحق في مذهب زوجها فتلتزمه دون الذي كانت عليه. كذلك فإن هذا الزواج سوف يُودِي بمذهب الأبناء إذا سكن والدهم في بلد زوجته المخالفة له في المذهب، فإننا قد رأينا أن الأجيال التالية من الأبناء سوف تعتنق مذهب البلد الذي يعيشون فيه.

 

هذا هو الواقع، وهذه هي تداعياته، فما هو موقفنا يا ترى من موقعنا كحريصين على الوحدة الإسلامية؟!

 

إنه ورغم ذهاب بعض الفقهاء إلى كراهة زواج المخالف لا يسعنا إلا أن نرحب به، بل ونحث عليه، منطلقين في ذلك من موقع ما هو مصلحة الجماعة، وناظرين إليه من حيث الإيجابيات التي يعمر بها، ذلك أنه يأتي في سياق تعزيز التضامن الاجتماعي الذي يجهد العقلاء والأخلاقيون في ابتداع الوسائل الكفيلة بتعزيزه ودرء ما من شأنه تعكير صفوه والإطاحة به، فما بالك بالمؤمنين الذين يجتمعون على معظم الحقيقة الإلهية العامرة بالفضيلة والنبل والسلام، بحيث لا ينبغي أن يضيرهم الاختلاف على بعضها، إنهم أجدر أن يسعوا إلى أن يتعايشوا مع الآخر من غير مذهبهم ويقبلوا عليه من حيث هو أخ لهم وصنو وشريك وحبيب، وهو هدف على درجة من السمو بحيث يجب تجشم بعض العناء في سبيله والعمل لتدارك بعض سلبياته.

 

وهذا التضامن الاجتماعي كما هو مطلوب من حيث أثره في التعايش الآمن بين مجتمعات المذاهب المختلفة، فتتلافى به الأمة سبباً من أسباب الفتنة، وتسدّ به باباً من أبواب العصبية المؤدية للتباغض والفرقة، فإنه مطلوب أيضاً من حيث أثره في معرفة مذهب الآخر وعقيدته، فتجعل الآخر يقبل ما عنده أو يرفضه عن بصيرة ووعي، لا عن عصبية وجهل، وفي ذلك من الخير ما فيه لمستقبل وحدة الأمة التي هي واجب إلهي يفترض به أن يتحقق على ركيزة الفكر والوجدان قبل ميول المشاعر والأهواء. وهو التضامن الذي يتحقق بقوة من خلال الزواج لجهة الصّلات الوطيدة التي تتوثق به والمعرفة الجازمة التي تترتب عليه. ونظراً للفوائد الجمة الآنفة الذكر فإن السلف الصالح من أبناء هذه الأمة قد أقبلوا على التزوج من مخالفيهم دون أن يعيقهم ذلك الاختلاف عن مصاهرتهم، ولم يُنقل لنا أنهم كانوا يتحرجون منه ويترفعون عنه. ورغم أننا في لبنان أقل تحرجاً في الزواج من المخالف من غيرنا من أبناء البلدان الإسلامية الأخرى، فإننا وغيرنا معنيون بإظهار الترحيب بذلك والحث عليه، وبخاصة في بعض البلدان الإسلامية التي تعاني من الفرقة والتباغض الناتجين عن الجهل والإصغاء إلى أهل الفتنة ممن لا يريد الخير بهذه الأمة.

 

أما كيف نتدارك ما قد يترتب عليه من سلبيات، فإننا يمكن الإجابة عنه كما يلي:

 

أولاً: إن حسن المعاشرة حقٌ لازم للزوج على شريكه، وهي تتقوم بركنيها الأخلاقي والشرعي، فإذا أدى كل واحد للآخر ما له عليه من حق واجب، واقترن ذلك بالمودة والاحترام والصبر والتضحية، من حيث هي أركان المعاشرة الأخلاقية الحسنة، فإنهما سوف يعيشان حياة رغيدة مهما كانت حالتهما في الجاه والمال واللون والوطن والمذهب. وهما إن اختلفا وحالهما هذه من حسن المعاشرة فإن اختلافهما سوف يكون نبيلاً وراقياً.. ومحدود الأثر والألم.

 

ثانياً: إن على الزوجين أن يتفكرا حين الاختيار في المصاعب التي قد يعانيان منها من جهة الاختلاف في المذهب، مثلما يتفكران حينه في غير الاختلاف في المذهب من أسباب المصاعب التي يقدران على الاطلاع عليها. وعليهما أو على وليهما أن لا يقدما على مثل هذا الزواج حيث يخشيان من عدم القدرة على النهوض بتبعاته والعجز عن مواجهة تحدياته. وبخاصة لجهة التقاول على أمور معينة يتوافقان عليها مسبقاً كأساس لعلاقة واضحة ومتينة وسعيدة.

 

ثالثاً: إن على كل من الزوجين أن يوطن نفسه على قبول اختلاف الآخر عنه، وعلى احترامه لرأيه وموقفه، وترك التشنيع عليه والضغط عليه لتغيير ما يخالفه فيه من عقيدة أو شريعة أو عادة. كما إن على المخالف أن يوطن نفسه على سماع ما قد يزعجه من محيط شريكه من أهله وأصدقائه وذوي قرابته، كضريبة لعلاقته بهم يدفعها من نفسه في مثل هذا الظرف ولهذا السبب، مثلما يدفعها لغيره من أسباب عدم الانسجام الكثيرة التي تعرض للإنسان حين علاقته بمحيطه.

 

رابعاً: أما الأولاد الذين سوف يعيشون بين والدين متغايرين في بعض أفكارهما وأعمالهما، فإن على الوالدين الذين يعيشان علاقة مستقرة أن يبينا لأولادهما أسباب ذلك الاختلاف ليقبلوه كحالة طبيعية هي عيّنة من مجتمع المسلمين الكبير. وإن على الأم أن تعتبر أن والدهم أولى بهم، فإن اشتد في أخذهم بمذهبه وطريقته، فإن عليها أن تخلّي بينه وبينهم وتقبل ذلك منه وتترك التخريب عليه، وإن تسامح معها في مذهبها وأفسح المجال لها لتأخذهم بمذهبها، فلا ضير عليها حينئذ. ولا ريب في أن نجاح الوالدين في علاقتهما ببعضهما سوف ينعكس إيجاباً على أبنائهما، فينشأون على بصيرة بأسباب الاختلاف ووعي لآفاقه وتقبل له وانسجام معه.

 

المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية (لبنان)

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك